يوم الغدير هو يوم عيد الله الأكبر، وهو يوم العهد المعهود، والميثاق المأخوذ. ولهذا اليوم فضل عظيم عند الله تبارك وتعالى، إذ ما من نبيّ ولا وصيّ نبيّ إلّا وتعيّد في هذا اليوم ([1])، أي اتخذه عيداً ويوم فرح وسرور وذكر الله تعالى.
وما من وصيّ لنبيّ من الأنبياء إلّا وكان تنصيبه في هذا اليوم المبارك. ومن فضل هذا اليوم أنّ الله تبارك وتعالى يعتق فيه ضعف ما كان يعتق في شهر رمضان، وفي ليلة القدر، وفي ليلة العيد. وتضاعف في يوم الغدير الأعمال، بل حتى الدراهم التي تبذل في طاعة الله، فإنّ الدرهم في يوم الغدير بمائة ألف ضعف، من حيث الثواب. ومن يصوم في يوم الغدير فله صيام ستين سنة، وفي بعض الأخبار فإنّه يعدل صيام الدهر كلّه. ومن يفطّر فيه الصائمين ويطعم المؤمنين فيه فله ما له من الثواب العظيم، فقد ورد في الخبر عن النبيّ| أنّه قال: (من فطّر فيه [يوم الغدير] مؤمناً كان كمن أطعم فئاماً وفئاماً، فلم يزل يعدّ إلى أن عقد بيده عشراً، ثم قال: وتدري كم الفئام؟ قلت [الراوي]: لا، قال: مائة ألف كلّ فئام، وكان له ثواب من أطعم بعددها من النبيّين والصدّيقين والشهداء في حرم الله!..)([2]).
فهذا العيد له ميزة قد لا تجدها لغيره من الأيام المباركة، وهي أنّ الله تعالى جعل لمن يعرف حقّ وشأن عيد الغدير مقاماً عنده، فقد ورد في الخبر عن الإمام الرضاg: (.. والله لو عرف النّاس فضل هذا اليوم [يوم الغدير] بحقيقته لصافحتهم الملائكة([3]) في كلّ يوم عشر مرّات، ولولا أنّي أكره التطويل لذكرت من فضل هذا اليوم وما أعطى الله من عرفه ما لا يحصى بعدد)([4]).
فبعد هذا الفضل كلّه الذي لا يقاس، لنا أن نسأل عن الذي جرى في يوم عيد الغدير حتى يكون بهذا الفضل.
وللإجابة على ذلك نرجع إلى رسول اللهe لنسأل عمّا جرى في هذا اليوم العظيم، يقول النبيّe: (يوم غدير خمّ أفضل أعياد أمتي، وهو اليوم الذي أمرني الله تبارك وتعالى ذكره فيه بنصب أخي عليّ بن أبي طالب علماً لأمتي يهتدون به من بعدي، وهو اليوم الذي أكمل الله فيه الدين، وأتمّ فيه النّعمة، ورضي لهم الإسلام ديناً)([5]).
فهذا يوم لم يتحقّق فيه شي واحد فقط وهو تنصيب عليّ بن أبي طالب أميراً للمؤمنينg! بل هناك ما هو أكبر من ذلك، فهو يوم في صورته وظاهره تنصيب أمير المؤمنين عليّاً خليفة للرسولe، وإن كان في واقعه فعل ما هو أعظم من ذلك.
ففي الخبر الأخير يشير النبيّe إلى أمرين قد وقعا في هذا اليوم العظيم:
أوّلهما: تنصيب أمير المؤمنينg تنصيباً رسمياً([6]) واحتفاء به في هذا اليوم المبارك حيث قال|: (أمرني الله تبارك وتعالى ذكره فيه بنصب أخي عليّ بن أبي طالب علماً لأمتي يهتدون به من بعدي).
وثانيهما: هذا اليوم هو يوم إكمال الدّين وإتمام النّعمة للأمّة، فقد ورد في شأنه نحو من الغموض؛ لأنّ مسألة إتمام الدّين ليس إتماماً ظاهرياً من تتميم بعض الأحكام والمعلومات في هذا الدين العظيم، بل هناك أمر أعظم من تتميم بعض الأحكام الفقهيّة، وهو ما يشير إليه الإمام الصادقg: (إنّا نحن نتوارث الكمال والتّمام الذين أنزلهما الله على نبيه في قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} والأرض لا تخلو ممّن يكمل هذه الأمور التي يقصر عنها غيرنا)([7]) فهناك كمال أنزله الله تعالى على قلب النبيّ| وهو كمال مختّص بالمعصوم ومتمثّل بالنبيّ والأئمّة، ينتقل الكمال من معصوم إلى آخر حتى القائم-صلوات الله عليهم أجمعين-.
مضافاً إلى ما تقدّم نقول: إنّ ما جرى في يوم الغدير ليس هو تنصيبٌ لعليّ بن أبي طالبg فحسب، بل إنّ ما جرى هو تنصيب الإمام المعصوم، وأمّا عليّ بن أبي طالبg فهو المصداق في ذلك اليوم بلحاظ المؤهلات التي يحملها، فقد أهّلته لأن يكون الأوحد والأصلح لهذا المنصب، فهو أوّل الأئمة المعصومينi.
وقد ذكر النبيّe ذلك صراحة في أكثر من ثمانية مواضع من خطبته في يوم الغدير وأنّه ينصّب الإمام المعصوم ويثبّت مبدأ الإمامة الذي يبدأ بعليّ بن أبي طالبg ويُختتم بالإمام القائمl؛ وهذه بعض العبارات من خطبة الغدير شاهدة على ذلك -هذا مع لحاظ طول الخطبة المباركة([8])- منها:
قولهe: (معاشر الناس: إنّما أكمل الله! دينكم بإمامته، فمن لم يأتمّ به وبمن يقوم مقامه من وُلدي من صلبه إلى يوم القيامة والعرض على الله!، فأولئك الذين حبطت أعمالهم وفي النّار هم خالدون، لا يخفف الله عنهم العذاب ولا هم ينظرون..).
وقولهe: (معاشر الناس: أنا صراط الله المستقيم الذي أمركم باتّباعه، ثمّ عليٌّ من بعدي، ثم وِلدي من صلبه، أئمّةً يهدون بالحقّ وبه يعدلون..).
وقولهe: (.. وقد أمرني الله! أن آخذ من ألسنتكم الإقرار بما عقدت لعليّ من إمرة المؤمنين، ومن جاء بعده من الأئمّة منّي ومنه على ما أعلمتكم: أنّ ذرّيتي من صلبه، فقولوا بأجمعكم: إنّا مطيعون راضون...).
وقولهe: (معاشر الناس: فاتقوا الله وبايعوا عليّاً أمير المؤمنين والحسن والحسين والأئمّة كلمة طيّبة باقية، يهلك الله من غدر، ويرحم الله من وفى {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} الآية..).
وقولهe: (معاشر الناس: من يطع الله ورسوله وعليّاً والأئمّة الذين ذكرتهم فقد فاز فوزاً عظيماً).
وغيرها من الشواهد الدّالة على تنصيب الإمام المعصوم الذي كان متمثّلاً في الإمام عليّ بن أبي طالبg.
وصايا ثلاث:
ولذا فنحن أمام عيد الغدير مسؤولون بالتعامل معه تعاملاً لائقاً بعظمته، ومن هنا فأذكّر بوصايا ثلاث:
الوصية الأولى:
الاهتمام بخطبة الغدير التي ألقاها النبيّeوقراءتها بتمامها وبتمعّن -كما هو الحال من الاهتمام الموجود عند المؤمنين بخطبة النبيّe في آخر جمعة من شهر شعبان-، لما فيها من مضامين مهمّة وعالية.. ولمزيد من التحفيز للاهتمام بهذه الخطبة المباركة المهمة أشير إلى مقدار الاهتمام من النبيّe بعدد من المطالب المهمّة في هذه الخطبة حتى أصرّ على تثبيتها بين المؤمنين آنذاك وكلّ ما جاء بعدهم ممن تنقل إليهم هذه الخطبة، وأذكر هنا بعض الأرقام تشويقاً لذلك:
فقد ذكر النبيe في ثمانية موارد صراحة أنّه ينصّب الإمام المعصوم ولا ينصّب عليّ بن أبي طالبg إماماً وحسب.
وهناك ثلاثة موارد يذكر النبيe صراحة أنّ آية الإكمال إنّما نزلت في شأن عليّ بن أبي طالب gوفي يوم الغدير ولا يخفى ما يشكّل إثبات هذا من الردّ على كثير من الشبهات([9]).
وذكر النبيe مائة وثمانية وتسعون مورداً فيه فضيلة من فضائل أمير المؤمنينg.
استشهد بما يزيد عن الستين آيةً من آي القرآن الكريم على كلّ ما ذكره في خطبته، ولا يخفى أنّ هذا يكشف عن خطر ما يذكره ولكيلا يبقى عذر لمعتذر.. ولذا لم يعترض أحدٌ ممن سمع الخطبة وإن عملوا على تحريفها وتحريف ما جرى فيما بعد.
كرّر النبيّe اسم (عليّg) صراحة في واحد وأربعين مورداً، غير الضمائر التي ترجع إليه لتصل إلى السبعين تقريباً.
في عشرة موارد استخدم النبيe كلمة أمير المؤمنين ووليّ الله ليسندهما إلى عليّg، وفي خمسة عبّر عنه بأنّه وصيّ رسول اللهe.
في ثمانية عشر مورداً ذكر النبيe شأن الإمام المهديl.
الوصية الثانية:
علينا أن نركّز اهتمامنا بعيد الغدير كيوم عاشوراء الذي ببركة هذا الاهتمام -مضافاً إلى الجانب الغيبي- قد أصبح حقيقةً لا يمكن لأحد إنكارها.
فلا بدّ من أن يكون اهتماماً لائقاً به على المستويات المختلفة؛ سواء جانب التحقيق والتأليف، أم في الجانب الإعلاميّ بإبرازه في مختلف الجهات، أم ما يتعلّق بالفعاليات وغيرها، ومنها موائد الإطعام في هذا اليوم؛ كي يشتغل الجميع بعيد الغدير ويحصدوا ما فيه من بركات وخيرات.
الوصية الثالثة:
لزوم تبليغ يوم الغدير إلى الأجيال القادمة، وهذه وصيّة أوصى بها النبيّe في موردين من خطبته المباركة، المورد الأوّل يقولe فيه: (وقد بلّغت ما أُمرت بتبليغه حجّة على كلّ حاضر وغائب، وعلى كلّ أحدٍ ممّن شهد أو لم يشهد، وُلِدَ أو لم يولد، فليبلّغ الحاضر الغائب، والوالد الولد إلى يوم القيامة..). والمورد الآخر([10]) كان عند أخذه إقرار الناس: (قولوا ... نحن نؤدّي ذلك عنك الداني والقاصي من أولادنا وأهلينا، أشهدنا الله وكفى بالله شهيداً..).
وأخيراً أقول:
لا تستكثر أيّ شيء تقدّمة أو تفعله في عيد الغدير، فكلّ ما يقدّمه الواحد منّا فهو قليل إذا ما قايسنا ما نقدّمه بما قدّمه أصحاب الأئمة المعصومينi، مع ما تكبّدوا من عناء تثبيت الإمامة واتّباع الأئمة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وطاعتهم مع طاعة الله تعالى.
اللهم اجعلنا من المتمسّكين بولاية أمير المؤمنين.
([1]) وسائل الشيعة، العاملي، ج8، ص89، باب 3 من أبواب بقية الصلوات المندوبة، ح1.
([2]) نفس المصدر.
([3]) أي: أنّ الملائكة تتردّد عليه غادية رائحة تحفظه من كيد الشيطان الرجيم وأعوانه.
([4]) وسائل الشيعة، العاملي، ج14، ص389، باب 28 من أبواب المزار وما يناسبها، ح1.
([5]) الأمالي، الصدوق، ص188، المجلس السادس والعشرون، ح8.
([6]) ذكرت أنّه كان تنصيباً رسمياً وذلك لأنّ تنصيب عليّ بن أبي طالب إماماً بعد النبيّ وخليفة له كان منذ اليوم الأول الذي بلّغ الرسولe أهل بيته بالدين عندما نزل قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}.. فرفض الجميع تقديم العون للنبيّe في تبليغ الرسالة على أن يكون وزيراً وخليفة، فلم يقم أحد سوى أمير المؤمنينg فنصّبه عليهم، وبعد ذلك توالى التنصيب صراحة أو تلويحاً في مواطن عديدة من حياة النبيّe لست في صدد إحصائها هنا.
([7]) دلائل الإمامة، الطبريّ (الشيعيّ)، ص235. بحار الأنوار، المجلسيّ، ج46، ص307.
([8]) لأنّه بلحاظ ما وردنا من نصّ للخطبة كما في كتاب الاحتجاج [الاحتجاج، الطبرسيّ، ج1، ص138] قد خطب ثمّ أجرى مراسم التنصيب ثم خطب مرة أخرى يصل ذلك إلى ما يقرب من الساعة، وبعدها بدأت المبايعة والمصافقة منذ الظهر إلى ما بعد صلاة العشائين.
([9]) وفيه تكذيب لأيّ تحريف قد يرد لتاريخ ومكان نزولها كما ورد في البخاري "قد عرفْنا ذلك اليوم، والمكان الَّذي نزلت فيه على النَّبيّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - وهو قائمٌ بعرفة يوم جمعة". انظر: صحيح البخاري، ج1، كتاب الإيمان، ص 16.
([10]) على نسخة البحار، ج37، ص216.
0 التعليق
ارسال التعليق