السِّياق ودورُه في تفسير القرآن

السِّياق ودورُه في تفسير القرآن

بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف الخلق والمرسلين محمَّدٍ وآله الطيبين الطاهرين المعصومين.

المقدمة:

 لا شكَّ في أنَّ علم تفسير القرآن الكريم وفهم كلام المولى الجليل هو من أعظم العلوم وأعلاها مرتبة، ويكفيه شرفاً أنَّه يتّخذ من آيات الذكر الحكيم -التي هي تجلٍّ لعلم الله تعالى ومظهر قدرته وإعجازه وإحكامه- منطلَقاً ومنهَلاً لنشر الخير والهداية بين الموجودات أجمعين.

ولهذا العلم مجموعة من الأسس والقواعد، واحدة منها قاعدة السياق أو المناسبة في التوصّل إلى مرادات الخطاب، وهي وإنْ لم تختص وتقتصر على هذا العلم بالذات ولكنَّها تعدُّ من أعمدته التي لا غنى عنها إطلاقاً، ولذا احتلَّت حيّزاً مرموقاً بين المواضيع القرآنيّة، وحظيت باهتمام المفسِّرين قديماً وحديثاً حتى وإن لم يصرِّحوا بعنوانها أو يتعرَّضوا إلى حدودها وتفصيلاتها في الغالب بل أرسلوها إرسال المسلمّات.

وهذا ما يبرّر طرحها ولملمة بعض جوانبها المتناثرة هنا وهناك، ومحاولة التعرّف على أهم شرائطها وكيفيّة تطبيقها أثناء مزاولة عمليّة التفسير وكشف اللثام عن معاني ومداليل التنزيل.

وبذلك نشأت فكرة هذا البحث المقتضب، والمأمول منه أنْ يتعرَّض أولاً إلى مفهوم السياق وأبرز فروعه بنحوٍ عام، ومن ثمّ التطرّق إلى علاقته ودوره بتفسير الآيات الكريمة فإلى ذلك.

المبحث الأوّل: مفهوم السياق وغرضه وتقسيماته

أولاً: معنى السياق لغةً واصطلاحاً

السياق في اللغة مأخوذة من مادة (سوق)، وتعني حدو الشَّيء[1]، أي: زجره وحثّه على السير من الخلف[2] تجاه الأمام كما يحصل لدى حداء وبعث الإبل، سواء كان سوقاً ظاهرياً كما في قوله تعالى: {وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ}[3]، أم غير ذلك كما لو كان معنويّاً مثل قوله تعالى: {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ}[4]، أو مجازيّاً كقولهم: "يَسُوقُ الحديثَ أحسنَ سياقاً"[5].

ومن هذا المعنى سمّي نزاع الموت سياقاً لأنَّ الروح تُساق لتخرج من البدن[6]، وكذلك عبَّر عن الصَّداق للمرأة لأنَّ زوجها يسوق مهرها إليها، وسميّ محلّ التبضّع سُوْقاً لما يُساق إليه من كلّ الأجناس[7].

أمّا من حيث الاصطلاح فقد يتراءى وجود أكثر من تعريف نتيجة السعة والضيق في حدوده، ولكن يبقى الأصل والجوهر في مفهومه واحداً، ولعلّ أنسب ما ذكر في المقام هو أنَّه: "كلّ ما يكتنف اللفظ الذي نريد فهمه من دوالّ أخرى، سواء كانت لفظية كالكلمات التي تشكّل مع اللفظ الذي نريد فهمه كلاماً واحداً مترابطاً، أو حالية كالظروف والملابسات التي تحيط بالكلام وتكون ذات دلالة في الموضوع"[8].

ويُستوحى منه أنَّ السياق عبارة عمَّا يحيط باللفظ من قرائن ودلالات تصرف الذهن عن المعنى القريب المأنوس والمتبادر من اللفظ إلى معنى آخر يكون هو المقصود والمراد للمتكلِّم، وأنَّ هذه الدلالات تكون تارة لفظيّةً فتضم مع اللفظ الأوّل وينظر إلى مجموعها معاً، وتارة أخرى حاليّةً ومقاميّةً تقتنص من الظروف المصاحبة مع اللفظ ولا يفسّر بمعزلٍ عنها.

كما أنَّ هذه القرائن قد تفيد أحياناً معنىً زائداً على المعنى المتحصّل من الكلمات أو الهيئات مجرّدة من دون أن تلغيه أو تبدّله[9]، فلو وردت عبارة (اكتب اكتب ما تسمع) مثلاً يمكننا أن نستوحي منها معنى التوكيد والإلحاح على الكتابة وليس مفهوم الكتابة المجرّدة فقط.

وعندما نقول السياق القرآني نريد منه ما يعين على اكتشاف مراد اللهd من الآيات الشريفة من قرائن أو ترتيب أو مناسبة أو هيئة تركيبية وغير ذلك ممّا شأنُه التأثير على المضمون.

ثانياً: الفرق بينه وبين الظهور

قد يطرأ في المقام ثمّة تساؤل أوّلي حول مدى الفرق والمائز بين السياق وبين الظهور، فهل هما حقيقة واحدة متحدة أم بينهما تغاير؟ ويترتّب على ذلك استفهامٌ آخر مفاده: أنّه في حال دلالة ظهور الكلام على معنى والسياق يرشد إلى معنى مغاير له فأيّهما المقدّم الظهور أم السياق؟

ولكن سرعان ما يزول هذا التساؤل بالتأمّل في تعريف السياق، فهو لا يشترك مع الظهور في حقيقة واحدة وليس في واقعه ظهوراً آخر حتى يتنافى مع ظهور الكلام ويصطدم معه في حال التغاير، وإنّما السياق هو أحد الأدوات والدلالات التي تعين على اكتشاف الظهور، وحينئذٍ لا يتصوَّر أصلاً وقوع تنافٍ بينهما حتى نسأل عن المقدّم منهما عند ذلك، فالظهور لا ينعقد إلا بعد ملاحظة السياق، ويكون أحدهما مؤثراً في نتيجة الثاني ومتقدّماً على حصوله.

ثالثاً: الغرض من السياق

من خلال التعريف بات واضحاً ما هو دور ومحورية السياق في فهم مداليل الكلام، ولكن لإلقاء المزيد من الضوء حول هذا الإطار نقول: إنّ الغرض الأساس من السياق يكمن في النقاط التالية:

١- الوصول إلى المراد الحقيقي المقصود من الكلام، وذلك لأنَّ المتكلِّم عندما يُبرزُ القرائن في حديثه فهو يلقي نوعاً من الإشارة والعلامة إلى ما يقصد، فتحسب على أنَّها جزءٌ متمِّم لكلامه، وأشبه بلغة وقناة تفهيمية خاصة يستعان بها عرفاً في التوضيح، وكأنَّ أجزاء الكلام -بمعيّة الدوالّ المحيطة به- وترابطها وتناسقها تعضد بعضها بعضاً في إحكام المعنى تماماً كما تُسهم اللَّبِن المتراصة في تشييد البناء المحكم.

٢- اقتناص الكثير من محاسن الكلام ودقائقه ولطائفه التي تختبئ وراء الارتباطات المصاغة بطريقة متناسبة ومقصودة، فمثلاً إذا عرفنا أنَّ المتكلِّم حكيم وقاصد ولا يوقع فصلاً وراء آخر في الكلام إلا بميزان وهدف -كما هو الحال في القرآن- فمن الطبيعي أنّ تدقيقنا في نسق حديثه وترتيب أجزائه واختيار صيغه وهيئاته يكسبنا الكثير من النكات والمعاني.

٣- عدم الوقوع في مطبَّات ومحذورات خطيرة نتيجة الفهم المبتور للكلام، فعلى سبيل المثال فهم البعض من هذه الآية الكريمة: {وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}[10] أنَّ اللهَ سبحانه خالقٌ لأعمالنا كما هو خالق لنا؛ فذهبوا إلى فكرة الجبر ونفي الاختيار، وأحد الأسباب وراء هذا الفهم المنحرف أنّهم بتروا الآية عن سياقها واتصالها بما قبلها.

رابعاً: تقسيمات السياق

ذكر الأعلام للسياق بعض التقسيمات تقدّمت الإشارة إلى أحدها ـ وهو انقسام القرينة السياقية إلى لفظية وغير لفظية كالقرينة الحاليّة- ونذكر تقسيمين آخرين من دون ادّعاء الانحصار في هذه التقسيمات الثلاثة:

أ- انقسام السياق إلى معنوي ولفظي:

والمراد من المعنوي: التماثل والتشابه في أسلوب المتكلّم ومقاصده عند عرضه للكلام الواحد[11]، وحينئذٍ لو شككنا في مفاد أحد أجزاء وفصول كلامه يمكننا الاستعانة بأسلوبه ومقصده في الأجزاء والفصول الأخرى المتصلة لبيان معناه.

مثلاً: لو وردت رواية تحتوي على أربع فقرات، وثلاثة منها دلالتها بيِّنة على الوجوب وتردّدنا وشككنا في الرابعة هل تدل على الوجوب أم الاستحباب، فقد يقال بالبناء على إرادة الوجوب منها أيضاً إعمالاً لوحدة السياق وتماثل الأسلوب.

وأمّا اللفظي فيراد منه التناسق العرفي والذوقي اللغوي، بحيث لو كان هناك أيّ إخلال لهذا التناسق -من زيادة أو نقصان- لكان آيةً وعلامةً على عدم صدوره من قبل المتكلّم[12]، وكتطبيق عملي على ذلك في البسملة مثلاً: {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} لو أضفنا لها واواً قبل {الرحمن} وقبل {الرحيم} للمسنا وجود خللٍ في سياقها.

ب ـ انقسام السياق إلى متّصل ومنفصل:

قد تأتي القرينة السياقية بنحوٍ متصل بالكلام وقد تأتي بنحوٍ منفصل عنه، ونعني من القرينة المتصلة: "كلّ ما يتصل بكلمة أخرى، فيبطل ظهورها ويوجه المعنى العام للسياق الوجهة التي تنسجم معه"[13]، وأمّا المنفصلة فهي ما تصدر في ظرف وزمن آخر ولكن يفهم العرف ارتباطها بالكلمة الأولى فتعمل معها مثل القرينة المتصلة.

فمثلاً كلمة (كلّ) تدل على العموم ولكنَّها في عبارة: (أكرم كلّ الجيران إلا الأغنياء منهم) اتصل بها ما يتنافى مع عمومها فيخصّص به، وقد يأتي المنافي في جملة منفصلة مستقلّة.

المبحث الثاني: دور السياق في تفسير القرآن

المسألة الأولى: أهميّة السياق في فهم معاني القرآن

ذكرنا الغرض من السياق بنحو عام وعرفنا أهميّته ولكن ما نودّ التركيز عليه هنا هو وجود الخصوصيّة في القرآن الكريم التي تجعل من التعامل معه يكون بنحوٍ بالغ الدقّة والحذر فتتضاعف أهميّته، وذلك لأنَّ:

١- القرآن كلام الله تعالى شأنه، وهو من أبرز تجليّات علمه المطلق العظيم، وفيه انعكاس لقدرته وحكمته، وبالتالي كلّ شيء فيه بحساب وميزان، وكلّ كلمة وآية لا يستعاض عنها بغيرها حتى بشبيهتها، وهو كلام معصوم عن الزلل والتأثّر بالظروف المتغيّرة القهريّة، فمن الطبيعي أن يكون بسياقه علم جمّ وينبئ عن حكمة.

٢- القرآن هو معجزة خالدة وفوق الزمان والمكان، يقول تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}[14], ولا ينحصر إعجازه بالفصاحة وقوّة البيان فقط بل يشمل العديد من الجهات ومنها السياق نفسه، فهو آية ومعجزة أيضاً، فلا يزال القرآن عبر سياقه يجيب عن استفهامات الناس ويغذّيهم بالجديد ويريهم من الآيات والعجائب ما يبهر العقول ويحيّر الألباب، فقد روى الكلينيO عن علي بن إبراهيم عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبداللهg، عن آبائهi قال: >قال رسول اللَّه:| ... فَإِذَا الْتَبَسَتْ عَلَيْكُمُ الْفِتَنُ كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ فَعَلَيْكُمْ بِالْقُرْآنِ ... وَهُوَ الدَّلِيلُ يَدُلُّ عَلَى خَيْرِ سَبِيلٍ وَهُوَ كِتَابٌ فِيهِ تَفْصِيلٌ وَبَيَانٌ وَتَحْصِيلٌ وَهُوَ الْفَصْلُ لَيْسَ بِالْهَزْلِ وَلَهُ ظَهْرٌ وَبَطْنٌ فَظَاهِرُهُ حُكْمٌ وَبَاطِنُهُ عِلْمٌ ظَاهِرُهُ أَنِيقٌ وَبَاطِنُهُ عَمِيقٌ لَهُ نُجُومٌ وَعَلَى نُجُومِهِ نُجُومٌ لَا تُحْصَى عَجَائِبُهُ وَلَا تُبْلَى غَرَائِبُهُ فِيهِ مَصَابِيحُ الْهُدَى وَمَنَارُ الْحِكْمَةِ وَدَلِيلٌ عَلَى الْمَعْرِفَةِ لِمَنْ عَرَفَ الصِّفَةَ...<‏[15].

٣- القرآن تنقسم آياته إلى محكمة بيّنة وإلى متشابهة لها محتملات وتفتقر إلى إرجاعها إلى المحكمات في تفسيرها وإلا يعدّ التمسّك بظاهرها تمسّكاً بالغيّ وابتغاءً للفتنة: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ...}[16]، وهذا يعزّز من دور ووظيفة السياق لا محالة.

المسألة الثانية: السياق قاعدة من قواعد التفسير

من شأن القاعدة أن تكون مطّردة وقابلة للانطباق على مواردها من دون اختصاصها بموردٍ دون آخر وإلا اختصت به لا غير، ولو رجعنا إلى السياق لوجدنا له الصلاحيّة الشاملة للانطباق على سائر الآيات الشريفة بدون استثناء، وحينئذٍ يحقّ لنا أن نعدّه من القواعد التفسيريّة التي تستعمل وتوظّف في تفسير كلّ القرآن بدون اعتراض.

المسألة الثالثة: أنواع السياق القرآني

توجد أربعة أنواع للسياق القرآني:

الأوّل: السياق بين كلمات وألفاظ القرآن الكريم

وهو تفسير المقطع المراد من القرآن الكريم بلحاظ سياق الألفاظ أو القرائن المحيطة به ولو كانت في نفس الآية الكريمة، وهو شائعٌ كثيراً وتزخر به تفاسير الأعلام.

الثاني: السياق بين الآيات بعضها ببعض

وهو تفسير آية معيّنة نتيجة ملاحظة ما يسبقها أو يلحقها أو ما يتناسب معها من الآيات ولو كانت في موضعٍ آخر، فيلحظ الجميع بمنظار وسياق واحد، وهذا النوع ذائع ومنتشر أيضاً، ويمكن أن يكون منه ما لو تمّ اكتشاف سياق سورة بأكملها كمحور عام فينظر إلى جميع آياتها من خلال هذا المحور[17].

الثالث: السياق بين سورةٍ وأخرى

وهو تفسير سورة من السور بملاحظة بعض الجوانب والسياقات المشتركة بينها وبين بعض السور الأخرى، كما لو انطبعت السور المكيّة بخصائص مشتركة -مثلاً- لا تتوفّر عليها السور المدنيّة فيكون تفسيرها مطعّماً ومشرّباً بلون هذه الخصائص وتلحظ بعين الاعتبار.

أو تلحظ العلاقات والمناسبات بين السور بحسب ترتيبها في المصحف الشريف، إذ قيل: إنّ بينها تمام التلاؤم والانسجام وإنّ هناك ارتباطاً بين خاتمة كلّ سورة وبين افتتاح السورة التي تليها أو توافق بين مضمون السابقة وبين اللاحقة في تتميم الأغراض القرآنية[18].

نعم هذا يتم على القول بتوقيفيّة ترتيب السور من قبل الله تعالى، أمّا على القول بعدم ذلك وأنّ الترتيب الموجود حصل بعد رحيل الرسول الأعظم| باجتهادٍ من البعض فلا محصّل للتعويل عليه، نعم هناك من ذهب إلى إمكان ملاحظة سياق ترتيب السور إذا ثبت بالدليل ترتّب واحدة على أخرى بحسب النزول لا بما هو مثبت في المصحف المتداول من ترتيب[19].

الرابع: سياق القرآن بأكمله

وهو تفسير جميع الآيات والسور ضمن سياق الهدف العام الذي نزل القرآن من أجله وهو الهداية، فحتى الآيات العلميّة التي تتحدّث عن بعض أسرار الكون والسماء والأرض وغير ذلك لا تخرج عن إطار التربية والهداية وبناء الذات الصالحة والنّفس الكاملة، وهذا السياق مهم للمفسّر كثيراً حتى يحافظ على الصورة الإجمالية للقرآن ورسالته ومراميه.

المسألة الرابعة: شروط التمسّك بالسياق في التفسير

لا ريب في أنَّ هناك ضوابطَ وشروطَ عامّة تقنّن وتنظّم الاستفادة من السياق بشكل صحيح، ويكون في مراعاتها اجتناب الوقوع في الشبهات والانحرافات، لوضوح أنَّ أيَّ زللٍ وخروج عن معاني القرآن وتعاليمه القويمة يعني الابتعاد عن الدين وأحكامه وأصوله، ومن أبرز هذه الشروط:

١- العلم أو الاطمئنان بوجود القرينة ووحدة سياق الكلام[20]، فمع احتمال التعدُّد لا يتسنَّى لنا التمسّك بالسياق.

٢- الموضوعيّة والنَصَف في التعامل مع سياق النصوص، فلا نقبله في مورد ونغض الطرف عنه في آخر.

٣- ألا نحمّل السياق خلفيّاتنا السابقة ونلزمه بها، بل المطلوب منّا أن نلتزم بمؤدّاه وإنْ كان على خلاف ما نهوى ونميل، فهو الحجّة علينا وليس العكس، كما يجب ألا نحمّله فوق ما يحتمل أو نستنقص من دلالته شيئاً.

٤- أنْ نتّبع في فهمه الطريقة العرفيّة العامة في المحاورة، ونتجنّب الذوق الشخصي الشاذ والتبرّعي الذي لا ينهض عليه شاهدٌ أو دليل.

٥- وأخيراً لا بدَّ لمن يستعمل السياق من أنْ يكون مؤهّلاً وصاحب صنعة وخبرة في هذا الفن، وإلا فالمدّعون والمتطفّلون كُثُر، كلّ ذلك مع الاستضاءة بمعادن الحكمة وأوعية العلم -ممّن نهلوا من معين القرآن وارتشفوا زلاله وكانوا ترجمانه بحق- محمد وآله الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين.

المسألة الخامسة: نموذج تطبيقي للقاعدة

استكمالاً للعرض المتقدِّم وتتميماً للفائدة نورد أحد النماذج التطبيقية للقاعدة لنرى كيفَ يتأثَّر التفسيرُ بها سلباً أو إيجاباً -على أنَّ كتب التفاسير القديمة والحديثة تزخر بالأمثلة الكثيرة المتنوّعة التي يستفاد فيها من السياق-:

في قوله تعالى شأنه: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ...}[21] ذكر الزمخشري أنَّ هناك من فسَّر العباد في قوله تعالى {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} بالمعصومين خاصّة ولم يرد مطلق العباد[22] وذلك لأنَّه أراد عباده الذين عناهم في قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ}[23].

ولكن لو رجعنا إلى مطلع الآية {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ} فهي خطاب عام شامل لكلّ المكلَّفين، وكذلك الحال في قولهa: {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} فإذا بنينا على تفسير العباد بفئة المعصومين فقط فسيكون مجموع معنى الآية: إن تكفروا جميعاً فالله سبحانه لا يحتاج إلى إيمانكم ولكن لا يرضى أن يكون عباده المعصومين فقط كفاراً وأمّا لو شكرتم النّعمة جميعكم فهو سبحانه يرضه لكم، أي توسَّط خطاب إلى الخواص وسط خطابين إلى عامة العباد.

ويرد عليه: إنَّ هذا خلاف السياق العام للآية الكريمة ويترتّب عليه تالٍ فاسد، وهو أنَّ الله سبحانه يرضى الكفر لمن كفر من الناس ولم يشكر النّعمة، وذلك باعتبار أنَّ عدم رضاه بالكفر اختصَّ بالمعصومين فقط، وأمَّا غيرهم من سائر الناس فلا، وهو معنىً لا يستقيم وفيه ركّة وضعف.

والأوفق لوحدة السياق أن يكون الخطاب في المقاطع الثلاثة لعامة العباد ويكون معنى الآية الشريفة: أيّها الناس إن كفرتم بنعمة الله تعالى فهو لا يحتاج إلى إيمان أحدٍ منكم لحكم غناه وكونه واجباً للوجود لا يفتقر إلى شيء، ولكن لكونكم عباده فلا يقبل أن تكونوا كفاراً ويود أنْ تصبحوا جميعاً من الشاكرين، أمّا لو شكرتم النعمة فهو يرضى عملكم ويباركه[24].

وهذا التفسير والمضمون في غاية القوّة والانسجام ولا يلزم منه توالي فاسدة، والبركة في انتخابه ترجع إلى ملاحظة السياق والنظر إلى مجموع الآية كحلقة واحدة منتظمة.

الخاتمة

بحث السياق شيِّق ومفيد ويستحقُّ منَّا زيادة التعمُّق والتبصُّر في مطالبه، وقد اقتنصنا منه العديد من الثمرات والنتائج، من أبرزها:

أ- دور السياق دائماً هو توجيه الكلام الوجهة الصحيحة التي يرومها المتكلِّم.

ب- السياق لا يتعارض مع الظهور إطلاقاً؛ لأنَّ أصل الظهور لا ينعقد إلا بعد ملاحظة السياق.

ج- وجود الخصوصيَّة للقرآن الكريم -من حيث كونه كلاماً معصوماً ومعجزاً- يجعل عمليَّة التعامل مع سياقه في غاية الدقَّة والخطورة.

د- أكثر أنواع السياق ذيوعاً وانتشاراً هو سياق الكلمات مع بعضها البعض في الآية الواحدة، وسياق الارتباط بين الآيات.

ﻫ- عدم مراعاة شروط التمسُّك بالسياق له عواقب وخيمة، وغالباً ما تقود إلى فهمٍ خاطئٍ ومشوَّه للدين وابتعاد عن أصوله وأحكامه.

و- استعمال السياق في التفسير يفتقر إلى خبرة وتأهيل خاص، ويحتاج إلى استضاءات مستمرَّة بروايات أهل العصمة والطهارةi طول الطريق.

والحمد لله أولاً وآخراً وصلّى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] معجم مقاييس اللغة، أحمد بن فارس، ج3، ص117.

[2] التحقيق في كلمات القرآن الكريم، الشيخ حسن المصطفوي، ج5، ص271.

[3] سورة فاطر: 9.

[4] سورة القيامة: 30.

[5] تاج العروس من جواهر القاموس، الزبيدي، ج13، ص232.

[6] كتاب العين، خليل بن أحمد الفراهيدي، ج5، ص190؛ النهاية في غريب الحديث والأثر، ابن الأثير، ج2، ص424.

[7] معجم مقاييس اللغة، أحمد بن فارس، ج3، ص117.

[8] دروس في علم الأصول، السيد الشهيد محمد باقر الصدر، الحلقة الأولى، ص103.

[9] بحوث في علم الأصول، تقريرات السيد الشهيد محمد باقر الصدرS بقلم تلميذه السيد محمود الهاشمي الشاهرودي=، ج7، ص175.

[10] سورة الصافات: 96.

[11] منّة المنّان في الدفاع عن القرآن، السيد محمد محمد الصدر، ص28.

[12] المصدر نفسه، ص28.

[13] دروس في علم الأصول، السيد الشهيد محمد باقر الصدر، الحلقة الأولى، ص106.

[14] سورة الإسراء: 88.

[15] الكافي، محمد بن يعقوب الكليني، ج2، ص598- 599.

[16] سورة آل عمران: 7.

[17] نقد منهج التفسير والمفسّرين، سالم الصفّار، ص355.

[18] انظر مثلاً: البرهان في علوم القرآن، الزركشي، ج1، ص134؛ نفحات الرحمن في تفسير القرآن، الشيخ النهاوندي، ج1، ص56.

[19] دروس تمهيدية في القواعد التفسيريّة، الشيخ علي أكبر السيفي المازندراني، ج1، ص191.

[20] الأصول العامة للفقه المقارن، السيد محمد تقي الحكيم، ص152.

[21] سورة الزمر: 7.

[22] الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، الزمخشري، ج‏4، ص115.

[23] سورة الحجر: 42.

[24] راجع: الميزان في تفسير القرآن، السيد محمد حسين الطباطبائي، ج17، ص239- 240.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا