الإمام الحسن المجتبى (ع) من الولادة إلـى الطفولة (عرض وتحليل)

الإمام الحسن المجتبى (ع) من الولادة إلـى الطفولة (عرض وتحليل)

بسم الله الرحمن الرحيم، اللهمَّ صلِّ على محمَّد وآل محمَّد.

المقدمة

قليلةٌ هي البحوث التي كتبت في تحليل سيرة الأئمةi، بل حتى سيرة النبيe والتي هي أعظم سيرة عرفتها البشرية، وربما أكثر السير تحليلاً هي سيرة إمامنا الحسينg، أو سيرة أمير المؤمنينg، ومع ذلك فالتحليل في سيرتيهماh خاص ببعض المقاطع الزمنية كواقعة كربلاء وما يرتبط بها من أحداث، أو حادثة السقيفة وامتناع الأميرg عن البيعة، ولا يعمُّ كلَّ حياتهما.

وأما بالنسبة لإمامنا الحسن المجتبىg، فالتحليل اختصَّ بمسألة الصُلح غالباً، وقد يُعزى ذلك إلى قلة ما نقل عن حياتهمi التفصيلية أو إلى أنَّ التحليل إنما نحتاج إليه في المقاطع المهمة من حياتهمi.

ولكن في النظر القاصر أنَّه حتى مع وجود الشيء القليل مما نقل عن سيرهم فإننا نحتاج إلى مزيد من التحليل والدراسة في سير هؤلاء العظماء الذين هم قدوة البشرية جمعاء، وسنحاول -رغم قصر الباع في هذا المجال- التعرُّض بشكل مجمل وبما يتناسب مع هذه المقالة المختصرة إلى سيرة الإمام المجتبىg (من الولادة إلى فترة الطفولة) وتحليلها قدر الإمكان، وهو مجرد محاولة مقتضبة تمهيداً لدراسة أعمق وأشمل، ولذا فإنَّ ما سنذكره هو انتخاب لبعض ما ورد في سيرتهg، ولم نستقص كلَّ ما ورد روماً للاختصار.

وقبل الدخول في صلب البحث لا بدَّ من الإشارة إلى أننا سنلاحظ أنَّ هناك مشروعاً إلهياً لتأهيل هذا الإمامg للاستمرار في الدعوة المحمدية، والتي محورها التوحيد، وسبيلها الإمامة الإلهية، وكذلك فإنَّ البحث يشمل في كثير من حيثياته سيرة الإمام الحسينg بسبب الحياة المشتركة والمنزلة المتساوية بين هذين الإمامين العظيمين.

والبحث ضمن المراحل التالية للإمامg:

أولاً: الولادة المباركة

تعتبر ولادة الإمام الحسن المجتبىg في حدِّ نفسها منعطفاً مهمَّاً في تاريخ الدعوة المحمدية، لكونه أوَّل سبطٍ لرسول اللهe، وهو يأتي ضمن الوعد الإلهي للنبي: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ}[1]، حيث كان يُعيَّر بانقطاع نسله وذريته.

وقد قال النبيe لخديجةj حينما سمعها تتحدَّث مع الزهراءj وقد كانت جنيناً في بطنها: >يا خديجة، هذا جبرئيل يبشرني بأنَّها أنثى، وأنَّها النَّسمة الطاهرة الميمونة، وأنَّ الله تعالى سيجعل نسلي منها، وسيجعل من نسلها أئمةً في الأمَّة، ويجعلهم خلفاء في أرضه بعد انقضاء وحيه<[2].

إذن هذا المولود هو اختيارٌ إلهيٌ لاستمرار الخلافة الإلهية في الأرض، وهو شبيه بعيسىg من ناحية أنَّ الله تعالى وعد أمَّ مريم بابن فتبيَّن أنَّها أُنثى، وكانَ من هذه الأنثى العظيمة نبيٌ عظيم، وهكذا كان من الزهراء العظيمة ابنٌ عظيم، ولكن كما يقول الشاعر:

أفهلْ لمريمَ والدٌ كمحمدٍ                       أم هَلْ لمريمَ مثلُ فاطم أشـبلُ

ومما يؤكد الاختيار الإلهي وخصوصية هذا المولود ما ورد عن النبيe وهو يخاطب أمير المؤمنينg: >يا علي، أنت زوج سيدة النساء فاطمة ابنتي، وأبو سبطي الحسن والحسين، يا علي، إنَّ الله تبارك وتعالى جعل ذرية كلَّ نبي من صلبه، وجعل ذريتي من صلبك<[3].

وجعل ذرية النبيe من صلب رجل آخر عن طريق ابنته الزهراءi-مع كونه يصحُّ لغة وعرفاً كما كان عيسىg من ذرية إبراهيمg عن طريق أمه- يدلُّ على أنَّ المسألة أعمق من المسألة النسبية البحتة، بل لها جانب إلهي وتعبدي إن صحَّ التعبير، وقد يكون هذا شبيهاً بمصطلح أهل البيت الذي يتجاوز المصطلح اللغوي والعرفي حيث المقصود بهم مجموعة خاصة، وليس كل من ينتسب إلى النبيe.

ثانياً: التسمية

كلُّ الحوادث المرتبطة بإمامنا الحسنg تشير إلى ارتباط بالسماء، وأنَّها ليست جزافية، ومنها تسميته بالحسن، فإنَّ الأبوين إذا أرادا تسمية ولدهما يضعان له اسماً مؤملين أنْ يكون المسمَّى موافقا للاسم، وقد يسمَّى الولدُ صالحاً ويكونُ طالحاً، أو يسمَّى عبدُ الله ويكون عبداً للشيطان وهكذا. ولكن لننظر من سمَّى الإمام بهذا الاسم؟ ولماذا سُمي به؟

نقرأ هذا النص عن الإمام زين العابدينg عندما ولد الإمام الحسنg قال النبيe: >لعليg: هل سمَّيتَه؟ فقال: ما كنتُ لأسبقك باسمه؟ فقالe: وما كنت لأسبق باسمه ربيa، فأوحى الله تبارك وتعالى إلى جبرئيل أنَّه قد وُلد لمحمَّد ابنٌ فاهبط واقرئه السلام وهنئه، وقل له: إنَّ علياً منك بمنزلة هارون من موسى، فسمِّه باسم ابن هارون، فهبط جبرئيلg فهنَّأه من اللهa، ثمَّ قال: إنَّ اللهa يأمرك أنْ تسمِّيه باسم ابن هارون، قال: وما كان اسمه؟ قال: شُبَّر، قال: لساني عربي، قال: سمِّه الحسن، فسمَّاه الحسن..<[4].

والحديث يعلِّلُ سبب التسمية باسم ابني هارون بأنَّ علي من النبي كهارون من موسى، وأولاد علي كأولاد هارون؛ وقد روى الكليني عن الإمام الصادقg قال: >أوصى موسىg إلى يوشع ابن نون، وأوصى يوشع بن نون إلى ولد هارون، ولم يوصَ إلى ولده ولا إلى ولد موسى، إنَّ الله تعالى له الخيرة، يختار من يشاء ممن يشاء<[5].

وعن هشام بن سالم قال: "قلت للصادق جعفر بن محمدh: الحسن أفضل أم الحسين؟ فقال: >الحسن أفضل من الحسين[قال] قلت: فكيف صارت الإمامة من بعد الحسين في عقبه دون ولد الحسن؟ فقال: إنَّ الله تبارك وتعالى أحبَّ أن يجعل سنةَ موسى وهارون جارية في الحسن والحسينg، ألا ترى أنَّهما كانا شريكين في النبوة كما كان الحسن والحسين شريكين في الإمامة، وإنَّ اللهa جعل النبوة في ولد هارون ولم يجعلها في ولد موسى، وإنْ كان موسى أفضل من هارونh<[6].

فهي إذاً إشارة إلى مسألة الوصية والخلافة، وعن النبيe: >يا فاطمة، اسم الحسن والحسين في ابني هارون شبَّر وشبير لكرامتهما على اللهa<[7]، وهذا الاسم هدية إلهية كما عن إمامنا الباقرg قال: >أهدى جبرئيلُ إلى رسول اللهe اسم الحسن بن عليg<[8].

فتسمية الإمام من قبل ربِّ العزَّة يدلُّ على أنَّه من {الْمُخْلَصِين}[9]، وأنَّ هذا المولود ضمن المشروع الإلهي الذي جاء به النبيe.

وقد ذُكرَ أنَّ اسم الحسن والحسين لم يكونا موجودين في الجاهلية عند العرب، وأنَّهما من أسماء الجنَّة، وأنَّ اللهَّ حجبهما عن النَّاس قبل الحسن والحسين‘، نعم كان الموجود حسْن بسكون السين، وحَسِين بفتح الحاء وكسر السين[10].

بل ورد عن النبيe ما هو أوضحُ دلالةً في كون التسمية مرتبطة بالله تعالى حيث يقول: >سُمِّيَ الحسنُ حسناً لأنَّ بإحسان الله قامت السماوات والأرضون، واشتقَّ الحسينُ من الإحسان، وعليٌّ والحسن اسمان من أسماء الله تعالى<[11].

إذن لهذا المولود شأنٌ عظيمٌ في مستقبل الدَّعوةِ المحمَّدية، بل هو أحدُ أركانها الموعودين وأنَّ هذه التسمية لم تكن اعتباطاً.

ثالثاً: في كنف النبيe

لم يعش الإمام الحسنg في كنف جده| إلا سبع سنين تقريباً، ولكن حينما نقرأ الأحاديث في حقِّه نتصوَّر أنَّه عاش حياة طويلة معه، لكثرة الأحاديث وأهمِّية مضامينها؛ وبما أنَّ الرسولe {مَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى}[12] ولا يتحدَّث من باب العاطفة والقربى والنسب مع أحد ولا في صالح أحد؛ فيجب إذاً ملاحظة كلماته| بدقَّة والتأمُّل فيها، وما تحمل مع أهداف وغايات ترتبط بالدعوة.

فلنأتِ إذاً لبعض ما ورد من كلمات وما صدر من أفعال تجاه السبط المجتبىg ونحاول تحليلها وفهم غاياتها ضمن العناوين التالية:

1ـ الاهتمام الخاص والتعريف به:

أوَّل ما يلاحظه المتأمِّلُ في أفعال وأقوال النبي| في حقِّ الحسنg هو الاهتمام الخاص الذي لا يتعلَّق بمجرَّد كونه ابناً، فنراه يقول عنه وعن أخيه >هما ريحانتاي من الدنيا<[13]، وكان يقول لفاطمة: >ادعي لي ابني<، فيشمهما ويضمهما إليه[14]، وعن عائشة أنَّ النبيe "كان يأخذ حسناً فيضمُّه إليه فيقول: >اللهم إنَّ هذا ابني فأحبَّه وأحبَّ من يحبُّه<[15]، ويقول أسامة بن زيد: "طرقت النبيe ذات ليلة في بعض الحاجة فخرج النبيe وهو مشتملٌ على شيءٍ لا أدري ما هو، فلمَّا فرغت من حاجتي قلت: ما هذا الذي أنت مشتمل عليه، فكشفه فإذا حسن وحسين على وركيه، فقال: >هذان ابناي وابنا ابنتي، اللهمَّ إني أحبُّهما فأحبّهما وأحبَّ من يحبهما<"[16].

وهذا الاهتمام ليس خاصاً بداخل بيت النبي وفاطمة‘، بل يظهر أنَّ النبيe كان يتعمَّد إلفات نظر المسلمين لهذه العناية الخاصة بهذا الغلام، ويدلُّ على ذلك كثرة الناقلين واختلاف أحوالهم ممَّا يدلُّ على تعدُّد الوقائع.

فعن البراء بن عازب، قال: "رأيت رسول اللهe حاملاً الحسن (على عاتقه) وهو يقول: >اللهمَّ إني أحبُّه فأحبَّه<"[17].

وعن أبي هريرة قال: "خرج علينا رسول اللهeومعه الحسن والحسين، هذا على عاتقه وهذا على عاتقه، وهو يلثم هذا مرة وهذا مرة حتى انتهى إلينا، فقال له رجل: يا رسول الله إنَّك تحبَّهما، فقال: >نعم، من أحبَّهما فقد أحبني ومن أبغضهما فقد أبغضني<[18]، ثمَّ إنَّ حمل الحسنين على عاتقه أيضاً له دلالة خاصة، وكان| يقول: >من سرَّه أنْ ينظر إلى سيِّد شباب أهل الجنة فلينظر إلى الحسن<[19]، وهذا أمر بالتعامل مع الإمام الحسنg على أنه سيدهم؛ لأنَّهم كلُّهم يتمنى أن يكون من أهل الجنَّة.

وقال ابن شهر آشوب: "جاء في أكثر التفاسير أنَّ النبي كان يعوذهما بالمعوذتين، ولهذا سميت المعوذتين"[20].

الأساس هو الدين وليس النسب

والظاهر من تعامل النبيe مع الحسنg أنَّه ليس على أساس النسب، وإلا فإنَّ إبراهيمg ابن مارية القبطية هو أقرب إلى النبيe نسباً لأنَّه ابنه المباشر ولم ينقل اختصاصه بتعامل يفضل به على الحسنg، مع أنَّ إبراهيمg ليس ابنا عاديا حيث ورد عن النبي| في حقِّه حين وفاته: >وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون، ولو عاش إبراهيم لكان نبيا<[21].

ونلاحظ أيضاً: أنَّ هذه المعاملة الخاصة تقترنُ دائماً بذكر مقام الإمام >اللهمَّ إني أحبُّه فأحبَّه<، و>من أحبَّهما فقد أحبني<، فلو لم تكن هذه المحبة راجعة إلى منزلة هذين العظيمين عند الله تعالى لما كان مجرَّد النسب موجباً لمحبة الله تعالى.

ومما يدلُّ عليه ما روي عن ابن عباس أنَّ النبيe كان يعوِّذ حسناً وحسيناً فيقول: >أعيذكما بكلمات الله التامة من كلِّ شيطان وهامة، ومن كلِّ عين لامَّة، وكان إبراهيم يعوِّذ بها إسماعيل وإسحاق<[22]، فالمسألة ترتبط بالنبوة والإمامة.

وقد وصل الاهتمام به إلى درجة استغراب الصحابة كما يذكر ابن حبان في صحيحه: "قالوا: يا رسول الله، إنَّك تصنع بهذا الغلام شيئاً ما رأيناك تصنعه بأحد! فقال: >إنَّه ريحانتي<"[23].

ومما يدلُّ على ذلك أيضاً رواية طويلة مهمَّة نختم بها هذه النقطة، وهي ما رواه الأصبغ بن نباتة قال: دخلت على أمير المؤمنينe والحسن والحسينh عنده، وهو ينظر إليهما نظراً شديداً، فقلت له: بارك اللهُ لك فيهما، وبلغهما آمالهما في أنفسهما، والله إنِّي لأراك تنظر إليهما نظراً شديداً فتطيل النظر إليهما، فقال: >نعم يا أصبغ، ذكرت لهما حديثاً<، فقلت: حدثني به جعلت فداك: فقال: >كنتُ في ضيعة لي، فأقبلتُ نصف النهار في شدَّة الحرِّ وأنا جايع، فقلت لابنة محمدe: أعندكِ شيء تطعمينيه؟ فقامت لتهيئ لي شيئاً حتى إذا انفلتُّ من الصلاة قد أحضرت، أقبل الحسن والحسينh حتى جلسا في حجرها، فقالت لهما: ما حبسكما وأبطأكما عني؟ قالا: حبسنا رسول اللهe وجبرئيل، فقال الحسن: أنا كنتُ في حجر رسول اللهe والحسينg في حجر جبرئيلg، فكنت أنا أثبُ من حجر رسول اللهe إلى حجر جبرئيلg، وكان الحسينg يثب من حجر جبرئيل إلى حجر رسول اللهe، حتى إذا زالت الشمس قال جبرئيلg: قم فصلِّ إنَّ الشمس قد زالت، فعرج جبرئيلg إلى السماء وقام رسول اللهe فجئنا<، فقلت: يا أمير المؤمنين، في أيِّ صورة نظر إليه الحسن والحسين‘؟ فقال: >في الصورة التي كان ينزل فيها على رسول اللهe، فلمَّا حضرتْ الصلاة خرجتُ فصليت مع رسول اللهe فلمَّا انصرفَ من صلاته، قلت: يا رسول الله، (وقصَّ عليه قصتهما) فقال رسول اللهe: >صدق ابناي، ما زلتُ أنا وجبرئيلg نزهو بهما منذ أصبحنا إلى أن زالت الشمس، قلت: يا رسول الله بأيِّ صورة كانا يريان جبرئيلg؟ فقال: بالصورة التي كان ينزل فيها علي<"[24].

2ـ الفضائل النوعية:

كثيرٌ من الناس لهم فضائل، ومنهم مجموعةٌ من الصحابة كسلمان وأبي ذر مثلاً، ولكن فضائل أهل البيتi تترقَّى إلى مستوى الدلالة على الإمامة والولاية والأفضلية على الخلق، والمطلِّع على أحاديث الفضائل في كتب الفريقين لن يجد ما ورد في حقِّ صغيرين كما ورد في حقِّ الحسنينh، بل لم يرد حتى في الكبار سوى ما ورد في حقِّ أبيهما علي وأمهما فاطمةi، وليس للعمر مدخلية في منزلة الشخص وعظمته في نظر الدين والإسلام.

ولنكتفي بذكر حديثين من باب الاختصار:

الحديث الأول: وهو الحديث الصحيح المشهور: >الحسن والحسين سيَّدا شباب أهل الجنة<[25]، فهل هذا مجرَّدُ مدحٍ وتشريف؟ وما معنى أنْ يكونَ الحسنانِ سيِّدا شباب أهل الجنة؟ فمن هم أهل الجنة؟ وهل فيهم غير المؤمنين، وغير الصالحين، وغير الأولياء والأنبياء والصديقين؟! مع العلم أنه يرجع جميع الناس شباباً في الجنة.

وقد ورد عن الحسن بن زياد العطار، قال: قلت لأبي عبد اللهg: قول رسول الله: >فاطمة سيدة نساء أهل الجنة<، أسيدة نساء عالمها؟ قال: >ذاك مريم، وفاطمة سيِّدة نساء أهل الجنة من الأولين والآخرين<، فقلت: فقول رسول اللهe: >الحسن والحسين سيِّدا شباب أهل الجنة؟< قال: >هما والله سيِّدا شباب أهل الجنَّة من الأوَّلين والآخرين<[26].

وإذا جعلَ اللهُ شخصاً ما سيِّداً على أهل الجنَّة، ألا يكون قد جعله سيداً في الدنيا على أهلها؟! ثمَّ إنَّ معنى السيادة الثابتة للحسنينh لا بدَّ أن يكون مرتبطاً بالمنصب والمنزلة الإلهية، وليست منصباً مادياً كما هو واضح، ومن يكون الحسنُ سيّدَه في الآخرة لا يمكن أن يتقدَّم عليه في الدنيا، فالنبي| بقوله هذا قد أثبت سيادة الحسنين على جميع الصحابة لمن كان منصفاً.

ومما يدلُّ ويؤكِّد على ذلك موارد وظروف هذا الحديث وهي كثيرة، فمنها ما أخرجه أحمد في مسنده عن حذيفة قال: "سألتني أمي منذ متى عهدك بالنبي(e) قال: فقلت لها: منذ كذا وكذا، قال: فنالت مني وسبتني، قال: فقلت لها: دعيني فإنِّي آتي النبي(e) فأصلِّي معه المغرب ثمَّ لا أدعه حتى يستغفر لي ولك، قال: فأتيتُ النبي(e) فصلَّيتُ معه المغرب، فصلَّى النبي(e) العشاء ثمَّ انفتل فتبعته، فعرض له عارضٌ فناجاه، ثمَّ ذهب فاتبعته فسمع صوتي، فقال: من هذا؟ فقلت: حذيفة، قال: ما لك؟ فحدثته بالأمر، فقال: >غفر اللهُ لك ولأمِّك<، ثمَّ قال: >أما رأيتَ العارض الذي عرض لي قبيل؟< قال: قلت: بلى، قال: >فهو ملكٌ من الملائكة لم يهبط الأرض قبل هذه الليلة، فاستأذن ربَّه أنْ يسلِّم عليَّ ويبشُّرني أنَّ الحسن والحسين سيَّدا شباب أهل الجنة، وأنَّ فاطمة سيَّدة نساء أهل الجنة<"[27].

الحديث الثاني: قول رسول اللهe: >الحسنُ والحسينُ إمامان قاما أو قعدا<[28]، وهذا الحديث صريح في الإمامة لا يقبل التأويل، ولا معنى لتخصيص الحديث بالإمامة الدنيوية (الخلافة الظاهرية)، خصوصا أنَّهماh لم يحصلا عليها، نعم حصل عليها الحسنg بضعة أشهر، وحتى لو كان المقصود بالإمامة هي الخلافة والحكم فيثبت على رأي العامة تقدُّم الحسنين على غيرهما بهذا الحديث.

ولا يسعُ المسلمُ إلا قبول إمامة الحسنينh، ومقتضاه رفض إمامة المخالف لهما، كمعاوية ويزيد، بل ما فوقهما؛ حيث لم يرد في حقِّهم دليلٌ على الإمامة.

والدليل على كون كلام النبيe يتعلَّق بالإمامة الإلهية قوله لأبي ذر: >يا أبا ذر إنَّها (أي الزهراءj) بضعة مني، فمن آذاها فقد آذاني، ألا إنَّها سيِّدةُ نساءِ العالمين، وبعلها سيد الوصيين، وابنيها الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وإنهما إمامان إن قاما أو قعدا، وأبوهما خير منهما، وسوف يخرج من صلب الحسين تسعة من الأئمة معصومون قوَّامون بالقسط، ومنَّا مهديُّ هذه الأمَّة، قال: قلت: يا رسول الله فكم الأئمة بعدك؟ قال: عدد نقباء بني إسرائيل<[29].

3ـ التهيئة لقبول قيادته عند الاختلاف:

يعلم النبيe بما سيصدر من الأمَّة من بعده، ومنها ما سيجري على الإمام الحسنg، ويشير إلى ذلك ما روي عنهe في حقِّ الحسنg، عن أبي بكرة قال: "صعد رسول اللهe المنبر فقال: >إنَّ ابني هذا سيِّدٌ يُصلِح اللهُ على يديه بين فئتين<، قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"[30]، وفي لفظ آخر في مسند أحمد والبخاري عن أبي بكرة: "رأيت رسول اللهe على المنبر وحسنg معه وهو يقبل على الناس مرة وعليه مرة ويقول: >إنَّ ابني هذا سيِّد، ولعلَّ اللهَ تبارك وتعالى أنْ يصلح به بين فئتين من المسلمين<"[31].

فمبادرة النبيe لإخبار الناس بما سيقع بعده بزمن بعيد من الاختلاف وأنَّ الإصلاح سيقع على يد هذا الغلام يدلُّ على أهمية الموضوع أولاً، وعلى عظمة هذا الغلام ثانياً، وعلى وجوب اتباعه حيث أنَّه المصلح بين المسلمين ثالثاً، خصوصاً أنَّهe عبر عنه أنه >سيِّد<.

فكلام النبيe هنا يعتبر حجة على كلِّ المسلمين، وعلى كل من خالف الإمام الحسنg، فضلاً عمن حاربه كمعاوية وأتباعه، بل كلامهe يدل على بطلان خلافة معاوية لمن تأمل.

4ـ زراعة محبته في قلوب المسلمين:

ضمن تهيئة الإمام الحسنg للإمامة الإلهية حاول الرسولe في أكثر من مناسبة زرع محبته في القلوب، وبعض ما تقدَّم يدخل في هذا الإطار.

وروى الترمذي في سننه عن البراء: "أنَّ رسولَ اللهe أبصر حسنا وحسينا فقال: >اللهمَّ إنِّي أحبُّهما فأحبهما<"، وعن ابن عباس قال: "كان رسولُ اللهe حاملٌ الحسن بن علي على عاتقه، فقال رجلٌ: نعم المركب ركبت يا غلام، فقال النبيe: >ونعم الراكب هو<. وعن أبي هريرة، قال: "قال رسول اللهe: >من أحب الحسن والحسين فقد أحبني، ومن أبغضهما فقد أبغضني<[32]، وفي آخر أنهe قال للحسن: >اللهم إني أحبه فأحبه وأحبب من يحبه<[33].

وروى النسائي: عن أنس قال: "لقد رأيت رسول اللهe يخطبُ والحسنُ على فخذه فيتكلَّم ما بدا له، ثمَّ يُقبلُ عليه فيقبَّلهُ فيقول: >اللهمَّ إنِّي أُحبُّه فأحبه، قال: ويقول: >إني لأرجو أنْ يُصلِح به بين فئتين من أمتي<[34].

فهذا التأكيد لا يمكن أن يكون مجرَّد عاطفة منهe، بل لا يصحُّ ذلك لو لم يكن الحسنg أهلاً لهذه المحبة الخاصة، خصوصاً أنَّ النبيe ربط بين محبته ومحبة الله تعالى، وهذا لا يكون إلا في الرجال الإلهيين كما تقدم.

رابعاً: بعد رحيل المصطفىe

بعدما أدَّى الرسولe ما يجبُ عليه من بيان مكانة الإمام الحسنg، وبعدما رأى المسلمون سيرة النبي معه، فحينئذ أيُّ فعلٍ يصدر من الإمامg يكون له أثرٌ خاص على رغم صغر سنِّه، والناس لم يعتادوا من قبل أن يكون للصغار رأيٌ أو مكانة، ولكن ببركات سيرة النبيe وتأكيداته ومواقفه المتقدِّمة وغيرها عرفَ الناسُ أنَّ للإمام الحسنg مكانةً خاصة، وسواء عمل الناس بما عرفوا أم جحدوا فإنَّ ذلك لا ينقصُ من مكانةِ الإمامg، ولا يجعل فعل النبيe عبثياً، بل يكون ذلك حجَّة على المسلمين إلى يوم القيامة.

وورد في سيرة الإمامg بعض المواقف المهمَّة بعد رحيل جده|، وهي مواقف نابعة عن علم الإمام بما يفعل وبما يجب عليه القيام به، وليس كما يصدر من الصغار تجاه الأحداث التي تمسُّ حياتهم الشخصية.

انزل عن منبر أبي:

من أهمِّ المواقف في شأن الخلافة وبطريقته الخاصة وبما يتناسب مع الظروف اعتراضه على أبي بكر وهو يخطب في الناس، فعن الشعبي قال: "قام الحسن بن عليh إلى أبي بكر وهو يخطب على المنبر، فقال له: >انزل عن منبر أبي<".

وهذا موقف عظيم ومهم ومحرج بالنسبة إلى الخليفة، ومعنى كلام الإمامg أنَّ هذا المنصب لا يليق بك بل هو منصب >أبي<، وسواء كان مراد الإمامg من أبيه هو رسول الله أم أمير المؤمنينg فإنه يشير به إلى أحقيته بالخلافة، فبماذا أجاب الخليفة على ذلك؟ لقد أقرَّ بالأمر وقال: "صدقت، والله إنَّه لمنبر أبيك لا منبر أبي"، فبعث عليٌّ إلى أبي بكر، >إنَّه غلام حدث، وإنّا لم نأمره<، فقال أبو بكر: "صدقت إنّا لم نتهمك"[35].

وإقرار الخليفة لكلام الإمامg لعدم إمكان معارضته، ولكن من ناحية عملية لم يفعل الخليفة شيئاً ولم يسلم الأمر إلى صاحبه بمقتضى اعترافه بالأمر!

ويبدو أنَّ هذا الموقف بقي في قلب الخليفة، وإن كانت الرواية المتقدمة تذكر بأنه لم يتهم الإمام عليg بتحريض ابنه الحسنg، ولكن قد ورد في حادثة دفن الزهراءg أنّ الأول والثاني جاءا معترضين على أمير المؤمنينg لعدم إخبارهما بذلك وقالا: "والله ما تركت شيئاً من غوايلنا ومساءتنا، وما هذا إلا من شيء في صدرك علينا، هل هذا إلا كما غسلت رسول اللهe دوننا ولم تدخلنا معك، وكما علَّمتَ ابنك أن يصيحَ بأبي بكر أن >انزل عن منبر أبي<.."، وضمن ما قاله الإمام عليg في جوابهما:

 >وأما الحسن ابني فقد تعلمان ويعلمُ أهلُ المدينة أنَّه يتخطَّى الصفوف حتى يأتي النبيe وهو ساجد فيركب ظهره، فيقوم النبيe ويده على ظهر الحسن والأخرى على ركبته حتى يتمَّ الصلاة<، قالا: نعم، قد علمنا ذلك، ثمَّ قال: >تعلمان ويعلم أهلُ المدينة أنَّ الحسنَ كان يسعى إلى النبي ويركب على رقبته ويدلي الحسن رجليه على صدر النبيe حتى يرى بريق خلخاليه من أقصى المسجد والنبي| يخطب ولا يزال على رقبته حتى يفرغ النبي| من خطبته والحسن على رقبته، فلمَّا رأى الصبيُّ على منبر أبيه غيرَه شقَّ عليه ذلك، واللهِ ما أمرتُه بذلك ولا فعله عن أمري<[36].

وقد وردت هذه الحادثة عن الإمام الحسينg مع عمر أيضاً وبروايات متعددة منها:

عن الإمام الحسينg قال: >رأيت عمر بن الخطاب على منبر رسول اللهe فقلت [له]: انزل عن منبر أبي إلى منبر أبيك!! فقال: إني لم يكن لأبي منبر؟ قال: >فأجلسني في حجره فلما نزل انطلق بي إلى منزله فقال: من علمك هذا؟ فقلت: لم يعلمنيه أحد. [ف‍] قال: لا تدع أن تعاهدنا. قال: فأتيته يوما وإذا ابن عمر على الباب لم يؤذن له فانصرف وانصرفت معه فلقيني عمر بعد ذلك فقال لم أرك [تعاهدنا؟] فقلت إني قد جئتك فرأيت عبد الله بن عمر على الباب لم يؤذن له فانصرف فانصرفت معه. فقال: أنت أحق بالإذن والدخول علي من عبد الله إنما أنبتَ اللهُ هذا -وأشار بيده إلى رأسه- ثم أنتم!!!<[37].

وفي حديث آخر أنّ الحسين بن عليh أتى عمر بن الخطاب وهو على المنبر يوم الجمعة، فقال له: >انزل عن منبر أبي<، فبكى عمر، ثم قال: صدقت يا بني، منبر أبيك لا منبر أبي. فقال عليg: >ما هو والله عن رأيي<. قال: صدقت والله ما اتهمتك يا أبا الحسن، ثمَّ نزل عن المنبر، فأخذه فأجلسه إلى جانبه على المنبر، فخطب الناس وهو جالس معه على المنبر، ثم قال: أيها الناس، سمعت نبيكمe يقول: >احفظوني في عترتي وذريتي، فمن حفظني فيهم حفظه الله، ألا لعنة الله على من آذاني فيهم! ثلاثاً<[38].

وينبغي الإشارة إلى أنَّ قول الإمام عليg بعدم تحريضه لابنه لا يدل على عدم قبوله، بل ظرف التقية تقتضي ذلك، بل هذا الموقف يبين أنَّ كلام الحسنينg لهما معنى عميق جداً يرتبط بالإمامة والخلافة، فتأمل.

تقديم علي للحسنg وهو غلام:

في واقعة أخرى زمن الخليفة الأول تدل على ارتباط الإمامg بالمشروع الإلهي نذكرها -على طولها- لأهميتها وارتباطها بجانب من جوانب الإمامة والخلافة:

عن أبي عبد اللهg: أنَّ أعرابياً بدوياً خرج من قومه حاجاً محرماً، فورد على أدحى نعام فيه بيض فأخذه واشتواه، وأكل منه، وذكر أن الصيد حرام في الإحرام. فورد المدينة فقال الأعرابي: أين خليفة رسول اللهe؟ فقد جنيت جناية عظيمة، فأرشد إلى أبي بكر، فورد عليه الأعرابي وعنده ملأ من قريش فيهم عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وطلحة، والزبير، وسعد، وسعيد، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة بن الجراح، وخالد بن الوليد، والمغيرة بن شعبة، فسلم الأعرابي عليهم، فقال: يا قوم أين خليفة رسول اللهe؟ فقالوا: هذا خليفة رسول اللهe فقال: أفتني؟ فقال له أبو بكر: قل يا أعرابي، فقال: إني خرجت من قومي حاجاً، فأتيت على أدحى فيه بيض نعام فأخذته فاشتويته، وأكلته، فماذا لي من الحج، وما عليَّ فيه، أحلالاً ما حرم علي من الصيد أم حراماً؟ فأقبل أبو بكر على من حوله فقال: حواري رسول اللهe وأصحابه، أجيبوا الأعرابي، قال له الزبير من بين الجماعة: أنت خليفة رسول اللهe فأنت أحقُّ بإجابته، فقال أبو بكر: يا زبير، حبُّ بني هاشم في صدرك! قال: وكيف لا! وأمي صفية بنت عبد المطلب، عمة رسول اللهe فقال الأعرابي: إنا لله ذهبت فتياي، فتنازع القوم فيما لا جواب فيه، فقال: يا أصحاب رسول اللهe، استرجع بعد محمدe دينه فنرجع عنه، فسكت القوم، فقال الزبير: يا أعرابي ما في القوم إلا من يجهل ما جهلت، قال الأعرابي: ما أصنع؟ قال له الزبير: لم يبق في المدينة من تسأله بعد من ضمَّه هذا المجلس، إلا صاحب الحق الذي هو أولى بهذا المجلس منهم، قال الأعرابي: فترشدني إليه؟ قال له الزبير: إنَّ إخباري يُسرُّ قوماً، ويسخطُ قوماً آخرين، قال الأعرابي: وقد ذهب الحقُّ وصرتم تكرهونه! فقال عمر: إلى كم تطيل الخطاب يا ابن العوام؟ قوموا بنا والأعرابي إلى عليg، فلا تسمع جواب هذه المسألة إلا منه، فقاموا بأجمعهم والأعرابي معهم، حتى صاروا إلى منزل أمير المؤمنينg فاستخرجوه من بيته، وقالوا: يا إعرابي أقصص قصتك على أبي الحسنg، فقال الأعرابي: فلم أرشدتموني إلى غير خليفة رسول اللهe؟ فقالوا: يا أعرابي خليفة رسول اللهe أبو بكر، وهذا وصيُّه في أهل بيته، وخليفته عليهم، وقاضي دينه، ومنجز عداته، ووارث علمه، قال: ويحكم يا أصحاب رسول الله، والذي أشرتم إليه بالخلافة ليس فيه من هذه الخلال خلّة! فقالوا: يا أعرابي سل عمَّا بدا لك، ودع ما ليس من شأنك قال الأعرابي: يا أبا الحسن، يا خليفة رسول الله، إني خرجت من قومي محرماً، فقال له أمير المؤمنينg: >تريد الحج، فوردت على أدحى وفيه بيض نعام، فأخذته واشتويته وأكلته<، فقال الأعرابي: نعم يا مولاي. فقال له: >وأتيت تسأل عن خليفة رسول الله|، فأرشدت إلى مجلس أبي بكر وعمر، فأبديت بمسألتك فاختصم القوم ولم يكن فيهم من يجيبك على مسألتك<، فقال: نعم، يا مولاي. فقال له: >يا أعرابي الصبي الذي بين يديّ مؤدِّبه صاحب الذؤاب، فإنه ابني الحسنg، فسله فإنه يفتيك<، قال الأعرابي: إنا لله وإنا إليه راجعون، مات دين محمدe بعد موته، وتنازع القوم وارتدوا، فقال أمير المؤمنينg: >حاش لله يا أعرابي، ما مات دين محمدe، ولن يموت<، قال الأعرابي: أفمن الحقّ أن أسأل خليفة رسول اللهe وحواريه وأصحابه، فلا يفتوني، ويحيلوني عليك فلا تجيبني، وتأمرني أن أسأل صبياً بين يدي المعلِّم، ولعلّه لا يفصل بين الخير والشر، فقال له أمير المؤمنينg: >يا أعرابي لا تقف ما ليس لك به علم، فاسأل الصبي فإنَّه ينبئك<. فمال الأعرابي إلى الحسنg وقلمه في يده، ويخطُّ في صحيفته خطاً، ويقول مؤدبه: أحسنت أحسنت، أحسن الله إليك، فقال الأعرابي: يا مؤدب الحسن الصبي فتعجب من إحسانه، وما أسمعك تقول له شيئاً حتى كأنه مؤدبك، فضحك القوم من الأعرابي وصاحوا به: ويحك يا أعرابي سل وأوجز. قال الأعرابي: فديتك يا حسن، إني خرجت حاجاً محرماً فوردت على أدحى فيه بيض نعام، فشويته وأكلته عامداً وناسياً. قال الحسنg: >زدت في القول يا أعرابي قولك عامداً، لم يكن هذا من مسألتك، هذا عبث<، قال الأعرابي: صدقت ما كنت إلا ناسياً، فقال له الحسنg، وهو يخطُّ في صحيفته: >يا أعرابي خذ بعدد البيض نوقاً فاحمل عليها فنيقاً (وهو الفحل من الإبل)، فما نتجت من قابل فاجعله هدياً بالغ الكعبة، فإنه كفارة فعلك<. فقال الأعرابي: فديتك يا حسن إنَّ من النيق ما يزلقن، فقال الحسنg: >يا أعرابي، إنَّ من البيض ما يمرقن<[39]، فقال الأعرابي: أنت صبي محدق محرر في علم الله مغرق، ولو جاز أن يكون ما أقوله قلته إنك خليفة رسول اللهe، فقال له الحسنg: >يا أعرابي أنا الخلف من رسول اللهe، وأبي أمير المؤمنينg الخليفة<، فقال الأعرابي: وأبو بكر ماذا؟ قال الحسنg: >سلهم يا أعرابي<، فكبر القوم، وعجبوا مما سمعوا من الحسنg، فقال أمير المؤمنينg: >الحمد لله الذي جعل فيّ وفي ابني هذا، ما جعله في داود وسليمان، إذ يقول الله عز من قائل: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ}<[40].

وفي هذه الحادثة معاني جليلة لا يسع المقام لذكرها، ولكن فيما يرتبط بالإمام المجتبىg نلاحظ:

المقام العلمي للإمامg وهو على أكثر التقادير لم يتجاوز العاشرة حينها، ودلالة هذا المقام على الخلافة، واهتمام الإمامg بالكتابة وتعامله مع القلم تعامل العظماء، ثمَّ تعمّد أمير المؤمنينg لإبراز ابنه الإمام الحسنg أمام النَّاس في هذه الحادثة المثيرة، وربطُ الأمرِ بإرادة الله تعالى، وذكر الشبه بينه وبين الأنبياءi بقوله: >الحمد لله الذي جعل فيَّ وفي ابني هذا، ما جعله في داود وسليمان<.

الخاتمة

هذا موجزٌ مختصر لبعض ما ورد في سيرة السبط الأكبرg، ولاحظنا الاهتمام الإلهي والنبوي الخاص بهذا الإمام العظيمg، وأنَّه كان يعمل على إعداده لمواصلة مسيرة جده وأبيه، وإعلاء كلمة الله في الأرض.

وإذا وفقنا في فرصة أخرى أن نكمل البحث فسوف نرى ثمرة هذه التربية وهذا الإعداد الإلهي. وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] سورة الكوثر: 1.

[2] دلائل الإمامة، ابن جرير الطبري الشيعي، ص77، ومناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب، ج3، ص119.

[3] الأمالي، الشيخ الصدوق، ص450.

[4] الأمالي، الشيخ الصدوق، ص197-198، وعلل الشرائع، ج1، ص137.

[5] الكافي، الكليني، ج1، ص293، وقريب منه في بصائر الدرجات، الصفار، ص489.

[6] كمال الدين وتمام النعمة، الصدوق، ص416.

[7] علل الشرائع، الصدوق، ص138.

[8] علل الشرائع، الصدوق، ص139.

[9] سورة الحجر: 40.

[10] مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب، ج3، ص166، شرح الأخبار، القاضي النعمان، ج3، ص89.

[11] مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب، ج3، ص166.

[12] النجم: 3.

[13] صحيح البخاري، ج4، ص217، وسنن الترمذي، ج5، ص322.

[14] سنن الترمذي، ج5، ص323.

[15] المعجم الكبير، الطبراني، ج3، ص32، وعنه في مجمع الزوائد، الهيثمي، ج9، ص176.

[16] سنن الترمذي، 5، ص322.

[17] الأمالي، الطوسي، ص249. وصحيح البخاري، ج4، ص217، وصحيح مسلم، ج7، ص130.

[18] مستدرك الصحيحين، الحاكم النيسابوري، ج3، ص166، وقال عنه: "هذا حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه".

[19] تاريخ مدينة دمشق، ابن عساكر، ج13، ص209، والجامع الصغير، جلال الدين السيوطي، ج2، ص607.

[20] مناقب آل أبي طالب، ج3، ص155.

[21] تفسير فرات الكوفي، ص586، وعنه في البحار، ج22، ص458.

[22] مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب، ج3، ص155.

[23] صحيح ابن حبان، ج15، ص419.

[24] مختصر بصائر الدرجات، حسن بن سليمان الحلي، ص69.

[25] مسند أحمد بن حنبل، ج3، ص3و62، وترجمة الإمام الحسن×، طبقات ابن سعد، ص48، وقال عنه الترمذي في سننه، ج5، ص321: "هذا حديث صحيح حسن".

[26] الأمالي، الصدوق، ص187.

[27] مسند أحمد بن حنبل، ج5، ص392، وسنن الترمذي، ج5، ص226.

[28] روضة الواعظين، الفتال النيسابوري، ص157.

[29] كفاية الأثر، الخزاز القمي، ص38.

[30] سنن الترمذي، 5، ص323.

[31] مسند أحمد بن حنبل، ج5، ص38، وص44، وصحيح البخاري، ج3، ص170.

[32] سنن ابن ماجه، ج1، ص51.

[33] صحيح مسلم، ج7، ص129.

[34] فضائل الصحابة، النسائي، ص19-20.

[35] السقيفة وفدك، الجوهري، ص69، وشرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ص6، ص42.

[36] علل الشرائع، الصدوق، ج1، ص188.

[37] مناقب الإمام عليg، محمد بن سليمان الكوفي، ج2، ص256.

[38] الأمالي، الطوسي، ص703.

[39] أزلقت الإبل: ألقت ولدها قبل تمامه، ومرقت البيضة: فسدت فصارت ماء.

[40] مستدرك الوسائل، النوري، ج9، ص266-270.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا