الحمد لله والصلاة على رسول الله محمد وعلى آله الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم إلى يوم الدين.
تعتبر البحوث القرآنية والتفسيرية من أوضح مصاديق التأمل والتدارس في كتاب الله، فهي تحقق أكثر من مكسب للإنسان في آن واحد فبها تحقق استحباب التأمل والتدبر في كلام الله المجيد، وبها تستذوق بعضاً من بلاغة لغتنا العربية، وبها تتعرف على جملة من المعارف الإلهية التي بها قوام حياة الأفراد والمجتمعات.
كما أنّ القرآن الكريم باعتباره كتاب هداية للبشرية كلّ البشرية فإنّ الاغتراف من مائه الأصفى لا ينقص منه شيئاً بل كلّما تحلّت النفس الإنسانية بكمالاته توسعت القابلية للمزيد منها، وهذا من أسرار هذا الكتاب المعجزة، ومن هنا ندرك ما ورد في حقه من الكتاب الناطق وهم أهل بيت العصمة والطهارةi من أنّ للقرآن بطناً وللبطن بطن وللبطن بطون!
هذا المقال معقود للوقوف على تحليل صورة من صور القرآن الكريم لنستلهم منها بعضاً من دروسها وعبرها لتقوّم حياتنا ونظرتنا للأمور، والصورة هي مثال الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة والكلمة الخبيثة بالشجرة الخبيثة في سورة إبراهيمg.
الصورة الأولى: مثال الكلمة الطيبة:
{أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وفَرْعُها فِي السَّماءِ * تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}[1].
تحليل الصورة:
شبّه اللهُ سبحانه الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة في كونها تتميز بالاستقرار الثبات والرسوخ ودوام الفوائد منها.
وهنا أركان التشبيه كالتالي:
المشبّه: كلمة طيبة.
المشبّه به: الشجرة الطيبة.
وجه الشبه: أصلها صابت وفرعها في السماء وتؤتي أكلها كل حين.
أداة التشبيه: الكاف. فهذا التشبيه من التشبيه التام المستجمع لجميع الأركان الأربعة.
المعنى المحصَّل: إنّ مَثَل الكلمة الطيبة كالشجرة الطيبة والتي تمتاز بعدة خصائص:
1- كونها طيبة: والطيب هو نوع من أنواع المسك والروائح التي يتعطّر بها أهل النظافة والحُسن، فهي ليست من الأشجار غير الطيبة التي وإن كانت مفيدة إلا أنّ بها ما لا يجذب إليها وهو سوء ريحها.
كونها طيبة، وذلك يحتمل أموراً:
أحدها: كونها طيبة المنظر والصورة والشكل.
ثانيها: كونها طيّبة الرائحة.
ثالثها: كونها طيبة الثمرة؛ أي أنّ حصادها من الفواكه يكون لذيذاً مستطاباً.
رابعها: كونها طيبة بحسب المنفعة أي أنّها كما يُستلذّ بأكلها فكذلك يعظم الانتفاع بها، ويجب حمل قوله: شجرة طيبة، على مجموع هذه الوجوه "لأن باجتماعها يحصل كمال الطيب"[2].
2- أصلها ثابت: أي أنّ هذه الشجرة تمتاز بكون جذورها ضاربة في الأرض وممتدة فيها، ما يعني شدّة رسوخها وثباتها في الأرض ولا يمكن أن تؤثر عليها العوامل الطبيعية مثل الرياح والسيول في اقتلاعها بسهولة.
3- فرعها في السماء: وهذا يعني علو تسامي هذه الشجرة بحيث تكون فروعها وغصونها منطلقة في السماء فهي عالية الفروع، وهذا يعني فيما يعنيه نموها السريع والطبيعي كما أنّ استفادتها من مصدر غذائها وهو الشمس يكون بشكل أكبر وأوسع وأسرع، وهذا ما يؤثر في عملية البناء الضوئي في النباتات.
أي أنّ أثرها واسع وشامل يصل إلى أقاصي الأرض.
4- تؤتي أكلها كلّ حين: فهذه الشجرة الطيبة تمتاز بكونها كريمة على أصحابها فتعطيهم الثمرات بشكل دائم ومستمر.
وقفات تحليلية في جمالية الأسلوب:
1- أوّل ما يواجهنا في الآية الكريمة وفي هذا التشبيه هو استخدام {ألم ترَ} والذي يتضمّن شدّاً للانتباه وتشويقاً إلى معرفة شيء قد مضى وتحققاً ببركة الفعل الماضي.
2- كما أنّ استخدام فعل الرؤية في الخطاب {ترى} باعتبار أنّ النفس الإنسانية أكثر تفاعلاً مع ما تراه بالعين الباصرة فضلاً عمّا تراه بالرؤية القلبية والذي يكون اعتقاداً لدى النفس ما يعني نَحَوَ رسوخ لهذا المعنى.
3- نجد أنّ اللهd قد نسب ضرب المثل إلى ذاته المقدسة {ضرب اللهُ مثلاً} ونسبة المثل إلى ساحة قدس الله يعطيه مزيد اهتمام للتأمّل فيه وفي مراداته وغاياته؛ إذ النسبة إلى الله تعالى تضفي على المنسوب مهابةً وحسناً وجمالاً وجلالاً من جمال وجلال الله تبارك وتعالى.
4- ضرب المثل لكلمة التوحيد بالشجرة الطيبة على جهة التشبيه المقلوب فالمشبّه به هنا أدنى من المشبّه لأنّ الشجرة مهما كانت من أحسن الشجر وأجمله وأنظره ومن أعناه وأثمره إلا أنّه لا يمكن بأيّ حال أنْ يكون مثل كلمة التوحيد التي تمثّل رأس المعارف الدينية، بل "شرف الكلمة الطيبة على الشجرة الطيبة هو شرف عالم المعقول على عالم المادة"[3].
5- إنّ الاستفادة من أداة التشبيه (الكاف) تعني الاشتراك والشباهة في بعض الأمور لا مطلقاً، فهنا يريد الإشارةَ إلى كون العلاقة بين الكلمة الطيبة والشجرة الطيبة مشتركة من بعض الحيثيات فقط من قبيل رسوخ الأصل وعلو الفروع وطيب ما يجتنى منهما، وليس في مقام تنزيل الكلمة الطيبة منزلة الشجرة الطيبة من كلّ الوجوه إذ أين الشجرة الطيبة -مهما علا شأنها- من حقيقة الكلمة الطيبة سواء حملناها على كلمة التوحيد والإيمان أم على المؤمن.
6- لماذا عبّر القرآن هنا بـ {فرعها} ولم يعبّر بفروعها مع أنّ الشجرة عادة ما تكون مكوّنة من فروع وليس من فرع واحد؟ قد يقال باحتمال أنّ التعبير بالفرع بدل الفروع للدلالة على كون كلّ فروع هذه الشجرة على شكل واحد وطول واحد ونسق واحد؛ بحيث يُخيّل للناظر إليها كون كلّ فروعها كفرع واحد متكرر ولهذا عُبّر عنها بالفرع بدل الفروع، وفي ذلك مزيد جمالية في هذه الشجرة وكمال في شكلها ومنظرها بحيث إنّها لا تتواجد في الخارج عادة بهذه الدقّة الهندسية الخلاّقة.
7- لماذا عبّرت الآية بفعل الإتيان {تؤتي} ولم تقل تعطي؟ وما الفرق بين الإتيان والإعطاء؟
8- الحين في اللغة قطعة من الزمان قال الشاعر:
تناذرها الراقون من سوء سمّها تطلقـه حيناً وحيناً تـراجع
إلا أنّ للمفسرين كلام طويل فذهب بعض إلى كون الحين مدة سنة، وبعض قال هو ستة أشهر وقيل ثمانية أشهر وقيل شهران، و"قال الزجّاج: جميع من شاهدنا من أهل اللغة يذهبون إلى أنّ الحين اسم كالوقت يصلح لجميع الأزمان كلّها طالت أم قصرت، والمراد من قوله:{تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ} أنّه ينتفع بها في كلّ وقت وفي كلّ ساعة ليلاً أو نهاراً أو شتاءً أو صيفاً"[4].
9- قوله: {بإذن ربها} هنا تركيز مقصود على المبدأ الأول وعلّة العلل لجميع العوالم المادّية وغيرها، وهو واجب الوجود جلّ جلاله، فلا يصل أيّ مخلوق إلى كماله إلا بإذنه سبحانه، وفي ذلك دعوة صريحة من الحق تبارك وتعالى إلى التسليم إليه والخضوع بين يديه إذ لا يمكن فعل صغيرة ولا كبيرة إلا بإذنه.
10- كما أنّ المفسرين اختلفوا فيما هو المقصود من الكلمة الطيبة، فتعددت أقوالهم وعدّد العلامة الطباطبائي في ميزانه ثمانية أقوال في تحديد المراد من الكلمة الطيبة وهي: هي شهادة أن لا إله إلا الله، وقيل: الإيمان، وقيل: القرآن، وقيل: مطلق التسبيح والتنزيه، وقيل: الثناء على الله مطلقاً، وقيل: كلّ كلمة حسنة، وقيل: جميع الطاعات، وقيل: المؤمن.
والحق أنّه يمكن الجمع بينها بالقول: إنّ المراد بالكلمة الطيبة هو الاعتقاد الحق بالله وتوحيده جلّ وعلا ومنه تتفرّع كلّ الكمالات والخيرات والحسنات، وما يرجّح هذا القول هو الاستعانة في تحديد المراد من الكلمة الطيبة بقوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}[5] حيث يذكر المفسّرون إنّ المقصود من الكلم الطيب هو عقيدة التوحيد، وهذا هو عين ما استقربه صاحب الميزان أعلى الله مقامه[6].
التأويل والتطبيقات:
ورد في تفسير علي بن إبراهيم القمي: حدثني أبي عن الحسن بن محبوب عن أبي جعفر الأحول عن سلام بن المستنير عن أبي جعفر× قال سألته عن قول الله {مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً} الآية، قال:>الشجرة رسول الله| أصلها نسبه ثابت في بني هاشم وفرع الشجرة علي بن أبي طالب× وغصن الشجرة فاطمة÷ وثمرتها الأئمة من ولد علي وفاطمة‘ وشيعتهم ورقها وإنّ المؤمن من شيعتنا ليموت فتسقط من الشجرة ورقة وإنّ المؤمن ليولد فتورق الشجرة ورقة. قلت أرأيت قوله: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} قال:>يعني بذلك ما يفتون به الأئمة شيعتهم في كلّ حج وعمرة من الحلال والحرام، ثم ضرب الله لأعداء محمد مثلاً فقال ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار<.
جاء في تفسير الصافي أنّه ورد في تفسير العيّاشيّ عن الصادقg: هذا مثل ضربه اللَّه لأهل بيت نبيّهe ولمن عاداهم. وفي الكافي عنهg:
أنّه سئل عن الشجرة في هذه الآية فقال: >رسول اللَّهe أصلها وأمير المؤمنينg فرعها والأئمّة ذريّتهما أغصانها وعِلم الأئمّة ثمرتها وشيعتهم المؤمنون ورقها، قال: والله إنّ المؤمن ليولد فتورّق ورقة فيها وأنّ المؤمن ليموت فتسقط ورقة منها<. وفي الإِكمال: >والحسن والحسين ثمرها والتسعة من ولد الحسينg أغصانها. وزاد: {تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ} ما يخرج من علم الإمام إليكم في كل سنة من كلّ فجّ عميق<[7].
عن محمد بن الحسن الصفار في بصائر الدرجات عن يعقوب بن يزيد، عن الحسن بن محبوب، عن الأحول، عن سلام بن المستنير، قال: سألت أبا جعفرg عن قول الله تبارك وتعالى: {كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ* تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها}، فقال: >الشجرة رسول الله|، نسبه ثابت في بني هاشم، وفرع الشجرة عليg، وعنصر الشجرة فاطمةj وأغصانها الأئمة، وورقها الشيعة، وإنّ الرجل منهم ليموت فتسقط منها ورقة، وإنّ المولود منهم ليولد فتورق ورقة<.
قال: قلت له: جعلت فداك، قوله تعالى: {تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها}؟ قال: >هو ما يخرج من الإمام من الحلال والحرام في كلّ سنة إلى شيعته<[8].
جاء في وصية الرسول الأكرم لأبي ذر: >يا أبا ذر إنّ اللهa عند لسان كلّ قائل فليتق الله امرؤ وليعلم ما يقول، ...يا أبا ذر الكلمة الطيبة صدقة<[9].
فنجد أنّ الرسول نزّل الكلمة الطيبة منزلة الصدقات.
ذكر المولى المازندراني في شرحه على الكافي لكلمة (لا إله إلا اللّه الكبير المتعال) أيّ العظيم لا بالكمّ والمقدار، بل بالرتبة والرّفعة، لأنّ ذاته المقدّسة مبدأ كلّ موجود، ومنتهى كلّ مقصود، المتعال عن التشابه بالخلق.
"هذه الكلمة الطيّبة أشرف كلمة وحَّدَ بها الخالق عزّ اسمه وهي منطبقة على جميع مراتب التوحيد، وقد سمّيت فاتحة الإسلام"[10].
وحضر الأمير ذات يوم جماعة من الشيعة فوعظهم وحذّرهم وهم ساهون لاهون فأغاظه ذلك فأطرق ملياً ثمّ رفع رأسه إليهم فقال >إنّ كلامي لو وقع طرف منه في قلب أحدكم لصار ميتاً ألا يا أشباحاً بلا أرواح وذباباً بلا مصباح كأنّكم خُشب مسنّدة وأصنام مريدة ألا تأخذون الذهب من الحجر ألا تقتبسون الضياء من النور الأزهر ألا تأخذون اللؤلؤ من البحر خذوا الكلمة الطيبة ممّن قالها وإن لم يعمل بها فإنّ الله يقول: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ}<[11].
تعليق: هذه الروايات وغيرها تُبيّن لنا حقيقةً جليّة مفادها أنّ الكلمة الطيّبة مبدأها واحد وهو التوحيد ويظهر ويتجلّى في كثير من أعمال الخير والبر والصلاح.
الصورة الثانية: مثال للكلمة الخبيثة
المثال الثاني: قال تعالى: {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ}[12].
تحليل الصورة:
هذا التمثيل يمثّل الصورة المخالفة تماماً للصورة المتقدمة، فالكلمة الخبيثة كالشجرة الخبيثة عكس الكلمة الطيبة التي هي كالشجرة الطيبة فالصورة مركّبة من صورتين في هذا التمثيل صورة مقابل صورة.
فهنا أركان التشبيه كالتالي:
المشبّه: الكلمة الخبيثة.
المشبّه به: الشجرة الخبيثة.
أداة التشبيه: الكاف.
وجه الشبه: اجتثت من فوق الأرض وما لها من قرار (عدم الثبات والرسوخ).
ضرب القرآن مثلاً للكلمة الخبيثة بالشجرة الخبيثة التي لا فائدة ترجى منها:
1- كونها خبيثة: فهي غير زاكية.
2- اجتثت من فوق الأرض: بمعنى استؤصلت وحقيقة الاجتثاث أخذ الجثة كلّها، و"تجتث أي تقلع، يقال: اجتثه اجتثاثاً وجثّه جثاً، ومنه الجُثّة، والاجتثاث الاستئصال للشيء واقتلاعه من أصله، وقال انس بن مالك ومجاهد: الشجرة الممثّل بها هي شجرة الحنظل"[13]. إذ ليس فيها حلاوة ولا منفعة ولا رائحة طيّبة، بل تضرّ من تناولها.
3- مالها من قرار: أي لا استقرار لها وكأنّ هذه الصفة مكمّلة لسابقتها؛ فتقتلعها الرياح والسيول والأمطار بكلّ سهولة إذ لا أصل ولا أساس قوي لها بعكس الشجرة الطيّبة التي أصلها ثابت وقوي.
وهذه الكلمة الخبيثة هي "كلمة الكفر والشرك، عن ابن عباس وغيره، وقيل: هو كلّ كلام في معصية الله تعالى، عن أبي علي"[14]. فتكون الصورة أنّ الكفر والشرك وما لا يرضاه الله يمثّل الخبث والسوء ويمتاز بعدم الاستقرار والزوال كحال الشجرة الخبيثة التي تقتلع من مكانها اقتلاعاً.
وقفات تحليلية في جمالية الأسلوب:
1- التعبير عن الشجرة والكلمة بالخبيثة فيه دلالة على العموم ببركة تنكيرها فهي شاملة فهي خبيثة المعدن والجوهر وخبيثة الشكل والمنظر وخبيثة الثمر والنتاج، وفي هذا كمال التنفير عنها وضرورة اجتنابها لبشاعتها وقبحها.
2- قوله {اجتثت} تعبير يحمل معنى عميق حيث إنّ الاجتثاث للشيء بمعنى عدم إبقاء شيء منه بل زواله بتمامه فكذلك الكفر والشرك والباطل فمآله إلى التلاشي والاجتثاث الكامل، وفي هذا بعثٌ للأمل في نفوس أهل الإيمان بأنّهم منتصرون على الباطل مهما كُثر ضجيجه ورعيده.
3- التعبير عن الشجرة الخبيثة أنّها اجتثت {من فوق الأرض} ولم يقل اجتثت من الأرض وفي هذه دلالة على عدم الرسوخ التام بحيث لم تضرب لها أصول أصلاً وإنّما هي مرميّة على ظاهر الأرض وهذا أدعى في الزوال وعدم الثبوت والاستقرار، فكذلك الباطل ليس فيه قابلية الاستمرار والبقاء، وخاصة إذا أخذ أهل الحق بأسباب قوّتهم كما أمرهم الله تعالى في كتابه وعلى لسان أوليائهi.
4- نلاحظ أنّ هذه الشجرة لم يتطرّق فيها إلى الفروع كما قال في الشجرة الطيبة {فرعها في السماء} ولعلّ النكتة وراء ذلك أنّ الكفر لا يصعد منه شيء إلى السماء فكلّ عمله لهذه الحياة الدنيا ولا يرى أُفُقاً وراءها.
5- كما أنّنا نلاحظ أنّ الصورة لم تتعرض إلى بيان أُكلها بعكس الشجرة الطيبة التي تؤتي أكلها كلّ حين بإذن ربها، ولم يقل إنّ ثمرها مرّ مثلا "بل ترك الذهن يستنتج ذلك، لهذا كان تقديم ضرب المثل الأول الذي يذكر فيه الفرع والأُكُل أفضل في بيان ما بعده في المثل الثاني عن طريق الصورة العكسية، فما ذكر في الأول يفهم في الثاني ولو كان محذوفاً؛ لكونه مكشوفاً بالمقابلة"[15].
6- تعبيره بالفعل الماضي من الاجتثاث {اجتُثت} ولم يقل (تجتث) بصيغة المضارع، والإتيان بصيغة الماضي فيه دلالة على حسم الفعل وانتهائه وبسرعة مواجهة الباطل واقتلاعه، كما أنّ مجيء الفعل مبنياً للمجهول يشي بضعف الشجرة الخبيثة ومثلها الكفر والشرك والباطل إذ لا أهمية لفاعل الاجتثاث وكأنّ الفاعل ليس مهمّاً فبمجرّد حصول المواجهة له يزول سواء من أهل الحق أو من غيرهم، وهذا ما يدلّ على شّدة ضعف الباطل وخوائه.
7- لقد اختلف المفسّرون كذلك في المقصود من الكلمة الخبيثة ما هي؟ إلا أنّه بالتأمل في الصورة الأولى والنتيجة المتحصّلة من معنى الكلمة الطيبة ندرك أنّ الكلمة الخبيثة هي ما تقابلها، فيكون معنى الكلمة الخبيثة هو ما يقابل كلمة التوحيد وهو الكفر والشرك والذي يتفرّع عنه كلّ خِصْلة سيئة مذمومة، وهذا أوفق كذلك إلى سياق آيات السورة التي تتحدّث كما قلنا عن حركة المصلحين والدعاة إلى الله على امتداد التاريخ حيث إنّ عنصر التوحيد والبراءة من الكفر والشرك عامل مشترك بين جميع الأنبياء والدعاة إلى الله سبحانه.
التأويل والتطبيق:
قال الطبرسي في تفسيره: روى أبو الجارود، عن أبي جعفرg: >أنّ هذا مثل بني أمية<[16].
عن عبد الرحمن بن سالم الأشل، عن أبيه، عن أبي عبد اللهg {ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ} الآيتان، قال: >هذا مثل ضربه الله لأهل بيت نبيه، ولمن عاداهم هو مثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار<[17].
تعليق: هذا النحو من الروايات جاءت لتسلط الضوء على أبرز المصاديق التي توجب على الأمّة التنفّر عنها واجتنابها، فيتضح أنّها ليست محصورة في تلك المصاديق بل تشمل مصاديق اليوم ممن يشترك معها في الخصائص.
الوقفات المفاهيمية:
1- إنّنا نقف من هذا التشبيه على حقيقة أوليّة بارزة يقصها علينا الحكيم الخبير، ألا وهي أنّ موكب الإيمان منذ فجر التاريخ الإنساني موكب واحد موصول، يقوده رسل اللّه الكرام، داعين بحقيقة واحدة، مجاهرين بدعوة واحدة، سائرين على منهج واحد، كلّهم يدعو إلى ألوهية واحدة، وربوبية واحدة، وكلّهم لا يدعو مع اللّه أحداً، ولا يتوكّل على أحد غيره، ولا يلجأ إلى ملجأ سواه، ولا يعرف له سنداً إلا إياه[18].
2- {وَيَضْرِبُ اللهَ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} في هذه الآية إعلان صريح عن الغرض من وراء ضرب هذا المثل في القرآن ألا وهو التذكير للناس. وهنا رُبَّ سائل يسأل: تذكير للناس بماذا؟
أقول في مقام الجواب: هو تذكير للناس بالمعنى الأساسي الذي من أجله تسلسلت آيات سورة إبراهيم لبيانه وتوضيحه، وضربت المثال لترسيخه، وهو أنّ طريق سعادة البشر يكمن في التحقّق بكلمة التوحيد والتنعّم بكلّ بركاتها ولوازمها الطيبة، كما أنّ منشأ تعاسة البشرية وانحرافها عن الأهداف المرتكزة في فطرتها يتمثّل بالابتعاد عن التوحيد والكفر بالله والشرك به، فتعالوا أيّها الناس وتذكّروا هذه الحقيقة الثابتة والتي تُنسى في زحمة انشغالات الناس بعالمهم المادي وتلبية حاجاتهم الجسدية، فهذا هو طريق هدايتكم وفلاحكم وصلاحكم وحسن خاتمتكم والفوز العظيم والنّجاة من العذاب الأليم.
3- ينبغي للناس أن يواجهوا الكلمات في مداليلها الفكرية والشعورية والعملية، وفي تأثيرها على وعي الشخصية الإنسانية للفكر، وعلى حركة الساحة في الواقع، وعلى عمق النتائج في الحياة، فلا يتوقفوا أمام الأجواء الخيالية أو الضبابيّة أو السحرية التي تستهوي مشاعرهم بشكل سريع، ولكنّها تذوب في دخان الغرائز والشهوات، لأنّ قيمة الكلمة هي في عمقها وامتدادها وفعاليتها في خط الخير[19].
الفرق بين التفسير والتأويل والجري والانطباق
سؤال مهم يطرح نفسه في المقام حاصله هو كيف نتعاطى مع الروايات التفسيرية التطبيقية والتي تؤول الآيات القرآنية كالتي مرّت معنا في تفسير الآيات محل البحث؟
للجواب على هذا السؤال المحوري في طبيعة الدراسات القرآنية لا بد من أن نقف على تحديد كلّ مصطلح، وهنا عندنا ثلاثة عناوين (التفسير، التأويل، الجري والانطباق) فماذا تعني؟ وما هي العلاقة بين هذه العناوين؟ وما هو الرابط بينها؟
التفسير:
هو كشف مراد الله تبارك وتعالى من ألفاظ كتابه العزيز[20]. فهو تبيان للمعنى الاستعمالي والمراد الجدي لألفاظ القرآن، معتمداً على قواعد اللغة العربية ونمط المحاورات العقلائية، فهو إذاً علم يتعامل مع الظاهر وليس الباطن والخفايا، فهو يتناول القرآن بوصفه كلاماً لله سبحانه فيخرج مثل علم التجويد الذي يتناول القرآن بوصفه مقروءاً، ويخرج علم الرسم القرآني لتناوله القرآن كذلك لكن بوصفه حروفاً تُكتب.
كما أنّ لهذا العلم -وهو التفسير- مناهج متعددة، واحد منها محظور ويحرم التعامل معه وبه وهو التفسير بالرأي؛ حيث ورد النهي الصريح عنه من قبل المعصومينi والوعيد بنار جهنم، ويُقصد بالتفسير بالرأي هو "قيام المفسِّر بالتفسير من دون مراعاة القرائن العقلية والنقلية، أو تحميل المفسّر رأيه الشخصي على القرآن، أو عدم توفر الشرائط اللازمة لدى المفسر"[21]. بينما تجوز باقي المناهج التفسيرية وهي: تفسير القرآن بالقرآن، تفسير القرآن بالروايات، التفسير العقلي، التفسير العلمي، التفسير الإشاري، وأفضل المناهج هو المنهج الكامل والجامع لكلّ هذه المناهج في عمل تفسيري واحد.
ويفرّق محمد علي الرضائي الأصفهاني بين المنهج التفسيري والذي عبّر عنه: "هو الاستفادة من الوسائل والمصادر الخاصة في تفسير القرآن" والاتجاه التفسيري والذي يعني "تأثير الاعتقادات الدينية، الكلامية"[22]، وبعبارة أخرى أنّ الاتجاه هو ذهنية المفسّر ومتبنّياته، فنرى الاتجاهات متعددة كذلك فمن المفسرين ذو اهتمام أدبي وبعض كلامي فلسفي وبعض أخلاقي وهكذا.
التأويل:
أمّا التأويل فقد عرّفه الشهيد السيد محمد باقر الصدر بقوله: "تفسير معنى اللفظ والبحث عن استيعاب ما يؤول إليه المفهوم العام، ويتجسد به من صورة ومصداق"[23].
الجري والانطباق:
هو إسقاط وتطبيق مفاد آيةٍ من الآيات القرآنية نزلت في شأن ما على شأن آخر لم يقع في عصر النص إلا أنّه واجدٌ للخصوصيات التي اقتضت نزول الآية في ذلك الشأن.
ويجري الكلام عينه في إسراء الآيات النازلة على أمّةٍ من الأمم على أمّة أخرى إذا كانت واجدةً للخصوصيات التي نزل لأجلها ما نزل على الأمم السابقة[24].
فالرابط بين هذه المفاهيم الثلاثة هو التكامل في بيان مرادات القرآن باعتباره كتاب هداية للبشر كلّهم، فأولاً نفهم الألفاظ ثم ندرك المعاني ونتعرف على المصاديق ومن ثم نتعمق في فهم خصوصيات كلّ مسألة والتي من أجلها نزل القرآن ونجريها في زماننا فيصلح بذلك حالنا وحاضرنا، ونكون ممن اهتدى بالقرآن قولاً وفعلاً لا قولاً فقط، ومن هنا نجد مثل الإمام الخميني في الآداب المعنوية للصلاة يَعقد فصلاً في التطبيق، ويعتبره من أهمّ الآداب المهمة لقراءة القرآن، ويشرح كيفية التطبيق بقوله: "وكيفيته أنّه حينما يتفكّر في كلّ آية من الآيات الشريفة يطبّق مفادها على حاله ويرفع نقصانه بواسطة هذا التطبيق ويشفي أمراضه به"[25].
وهنا تجد الإشارة إلى المصحح للجري والتطبيق للآيات القرآنية ألا وهو نفس كون القرآن كتاب هداية، وكما تقدم معنا في أول السورة {الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} فهدف القرآن هو هداية الناس وتبصيرهم وإخراجهم من الظلمات إلى النور في كلّ عصر وفي كلّ مكان، وهذا ما يقتضي بنفسه ضرورة الجري والانطباق، ومن هنا أكّد أهل بيت العصمة والطهارةi على هذه الحقيقة، فمثلاً ما ورد في تفسير العياشي بإسناده عن أبي جعفرg أنّه قال:
>القرآن نزل أثلاثاً: ثلث فينا وفي أحبائنا وثلث في أعدائنا وعدو من كان قبلنا وثلث سُنّة ولو أنّ الآية إذا نزلت في قوم ثمّ مات أولئك القوم ماتت الآية لما بقي من القرآن شيء ولكنّ القرآن يجري أوله على آخره ما دامت السماوات والأرض ولكلّ قوم آية يتلونها هم منها من خير أو شر<[26].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] سورة إبراهيم: 24، 25.
[2] الفخر الرازي، محمد، (ت:604) التفسير الكبير (مفاتيح الغيب)، ج7، ص101، الطبعة الأولى دار الفكرـ بيروت.
[3] من بحث للماجستير بعنوان "جماليات المثل في القرآن الكريم... دراسة أسلوبية" للطالب عيسات قدور سعد من جامعة وهران بالجزائر والمناقشة عام 2015، ص306. (بتصرّف)
[4] الفخر الرازي، محمد، (ت:604) التفسير الكبير (مفاتيح الغيب)، ج7، ص105، ط. الأولى دار الفكر ـ بيروت.
[5] سورة فاطر: 10
[6] الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، ج12، ص46، ط. الأولى 2010، الأميرة للطباعة والنشر والتوزيع ـ بيروت.
[7] الفيض الكاشاني، محمد بن شاه مرتضى، تفسير الصافي، ج5، مكتبة الصدر-إيران-طهران، ط: 2، 1415 ﻫ ق.
[8] البحراني، سيد هاشم، البرهان في تفسير القرآن، ج4، ص319، ط. الثانية لمؤسسة الأعلمي-بيروت 2006.
[9] الطبرسي، حسن بن فضل، مكارم الأخلاق-قم، ط: 4، 1412 ق / 1370 ش.
[10] شرح الكافي، الأصول والروضة (للمولى صالح المازندراني)، ج1، ص14.
[11] ابن شعبه الحرّاني، حسن بن علي، تحف العقول-قم، ط: 2، 1404 / 1363ق.
[12] سورة إبراهيم: 26.
[13] الطوسي، محمد بن حسن، التبيان في تفسير القرآن، ج6، ص293 دار إحياء التراث العربي - لبنان - بيروت، ط: 1.
[14] الطبرسي، فضل بن حسن، مجمع البيان في تفسير القرآن، ج6، ص75، ط. الثانية 2005 من مؤسسة الأعلمي للمطبوعات.
[15] جماليات المثل في القرآن الكريم، ص317- 318.
[16] مجمع البيان، ج6، ص75.
[17] البرهان في تفسير القرآن، ج4، ص321.
[18] سيد قطب، في ظلال القرآن، ج4، ص2100، الطبعة العاشرة 1981م ـ دار الشروق - القاهرة.
[19] فضل الله، محمد حسين، من وحي القرآن، ج13، ص107، دار الملاك-لبنان-بيروت، ط: 1، 1419 ﻫ ق.
[20] اللنكراني، محمد الفاضل، مدخل التفسير، الناشر مركز النشر التابع لمكتب الإعلام الإسلامي، ط. الثالثة 1418ﻫ.
[21] الرضائي الأصفهاني، محمد علي، دروس في المنهاج والاتجاهات التفسيرية للقرآن، الناشر مركز المصطفى العالمي للنشر والترجمة، ط. الثانية 1431ﻫ. ص247.
[22] الرضائي الأصفهاني، محمد علي، دروس في المنهاج والاتجاهات التفسيرية للقرآن، الناشر مركز المصطفى العالمي للنشر والترجمة، ط. الثانية 1431ﻫ. ص18- 19.
[23] الحكيم، محمد باقر، علوم القرآن، الناشر مجمع الفكر الإسلامي، ط. التاسعة 1433هـ، ص 231. هذا البحث كتبه الشهيد الصدر ونقله تلميذه الشهيد الحكيم _ في كتابه.
[24] صنقور، محمد، شؤون قرآنية، ج1، ص11- 12، الناشر منشورات رشيد، الطبعة الأولى 1431 هجرية. (بتصرف).
[25] الخميني، روح الله الموسوي، الآداب المعنوية للصلاة، ص353، الناشر مؤسسة دار الكتاب الإسلامي، الطبعة الثالثة 1428ﻫ.
[26] الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي (ط-الإسلامية) -طهران، ط: 4، 1407ق.
0 التعليق
ارسال التعليق