الغنــاءُ من وجهة نظر فقه أهل البيت (عليهم السلام)

الغنــاءُ من وجهة نظر فقه أهل البيت (عليهم السلام)

المقدّمة

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين محمّد وآلِه الطيّبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وبعدُ...

الغِناءُ من المسائل المناسب الكتابةَ فيها، وأن يُبيّن فحوَى هذه المسألة، فهي جديرة بالبحث؛ لأنّها مبهمةٌ عند كثيرٍ من الشباب المُسلِم، وكذلك هي من المسائل الخلافيّة عند المذاهب الإسلامية، والأهمّ من هذا كلّه هو أننا نعيش في عصر انتشر فيه الغِناء بصورة ملفتةٍ للنظر بحيث أصبح بالنسبة إلى شريحة من المجتمعات جزءاً مهماً من حياتهم؛ بل لعلّه عند البعض يشكّل كلّ حياتهم، ونرى أغلبَ الناس قد اشرأبّت قلوبهم ولهاً به، وحبّاً له.

واليوم أصبح التلفازُ والفضائيات والشبكة العنكبوتية (الإنترنيت) الوسيلةَ الأكثرَ شيوعاً في جذب الشباب المسلم ولا يخلو بيت من هذه الوسيلة؛ لأنّها النافذة المفتوحة على العالم، ومن خلالها نرى الغناء والموسيقى تصدح صباحاً ومساءً، بل نجد القنوات الفضائية المخصصة لهذا الغرض، وبشكل فاضح قد تجاوزت فيها حدود الأدب والعفّة والذوق الإنساني الرفيع، ولعلّ الإنسان غير المسلم تجد مشاعره تمجّ وتنبذ هذه الأمور التي تعكس عدم الخلق والانحلال غير المسؤول وغير المنضبط، مع أنّ الفطرة السليمة السويّة تتناغم مع كمال الإنسان من خلال توازنه وخلقه وأدبه.

وأيضاً نجد أنّ الغناء أصبح مهنةً تمتهن، ووسيلة لكسب العيش من خلال البيع والشراء له.

لذا كان من الواجب بيان ماهيّة هذه المفردة (الغناء)، وإلقاء الضوء عليها؛ لكشف جوانبها المختلفة، فقد اختلف العلماء في هذه المسألة على نحوين:

منهم: من قال بالتحريم مطلقاً، سواء اشتمل على المحرّم أم لا، فهو بنفسه وذاته حرام.

ومنهم: من قال بالتفصيل؛ فإن اشتمل على أفعال محرّمة حرم، وإن لم يتضمّن شيئاً من ذلك جاز.

فقالوا: إنّ الغناء من الظواهر الإنسانية التي تشترك فيها كلّ الأمم، فكلّ أُمَّة من الأمم لها غناء يناسبها شعورياً ووطنياً، وهذا من خصائص الطبائع البشريّة. فالإنسان له حواسّ كثيرة، كلّ حاسّة لها ما تفرغ فيه، فالعين تستملح المناظر الخلابة التي تدل على الخالق، والأذن تستلذّ بالأصوات الطيّبة، وتكره وتنفر من الأصوات القبيحة.

فإذا استمع المرء إلى صوتٍ يَذكر حقّاً من الحقوق، وأدباً من الآداب، وكان خالياً من كلّ ما حُرّم على المسلم، فزاد المسلم في إيمانه، وزاد وقاره، وبهاء عقله، فما من شكٍ في حلّ ذلك.

أما إذا استمع إلى صوتٍ يَذكر ما لا ينبغي للمؤمن أن يذكره أو يستمع إليه، أو صاحَب استماعه لهذا الصوت استعمال ما نهى عنه الرسول| كاستعمال المعازف، جرَّ هذا الصوت على المؤمن استحسان ما كان يستقبحه، ونقص عقله في البهاء، وذهب حياؤه، وقلّت مروءته، فلا شك في حرمة سماع هذا الصوت.

والحاصل من كلماتهم: أنّ استماع الغناء المشتمل على ذكر الأخلاق السامية، والمُثل الرائعة في الإسلام والخالي من أدوات العزف، السالم من فحش الحديث، لا حرج فيه.

أمّا سماع الغناء المصحوب بآلات المعازف، المشحون بكلّ ذكر لما يُغضِبُ الله من حديثٍ عن حبّ النساء، وجمالهنّ، وعشقهنّ، فما من شكٍ في حرمته.

ومن ثم رتّبوا النتيجة على هذا القول مدّعين أنّ الأصل في الأشياء الإباحة؛ لقوله تعالى: {هو الذي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الأَرضِ جَمِيعاً}[1] ولا تحريم إلا بنصّ صحيح صريح من كتاب الله تعالى، أو سنّة نبويّة طاهرة، فإذا لم يرد نصّ، ولا إجماع، أو ورد نصّ صريح غير صحيح، أو صحيح غير صريح بتحريم شيء من الأشياء، لم يؤثّر ذلك في حلّيّته، وبقي في دائرة العفو الواسعة.

قال تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا ما اضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ}[2].

ولأهمية هذا الموضوع، وما قيل فيه لا بدّ من أن نطرحَ تلك الأقوال على بساط البحث، ونناقشَها بموضوعيّة وعلميّة؛ لنَرى حكم الشريعة التي لم تخل واقعةٌ عندها من حكم.

المبحث الأول: تعريف الغناء لغة واصطلاحاً

تعريف الغناء في اللغة:

اختلفت عبارات اللغويين على وجوه كثيرة نذكر منها ما يلي:

1- الجوهري، إسماعيل بن حماد (ت/ 393هـ)، قال: "والغناء بالكسر من السماع، وقد فسر السماع بالغناء -قال:- وكل ما التذته الأذان من صوت حسن سماع، تقول: باتو في لهو وسماع"[3].

2- أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا (ت/ 395هـ)، قال: "الغناء من الصوت، والأغنية اللون من الغناء"[4].

3- ابن منظور، محمد بن مكرم (ت/711هـ)، قال: "كلّ من رَفع صوته ووالاه فصوته عند العرب غناء، والغناء بالكسر من السماع، قال ابن الأعرابي: كانت العرب تتغنّي بالركباني"[5].

والظاهر أنّ الموالاة هي بمعنى الاستمرار، لا بمعنى الترجيع المبتني على نحوٍ من تقطيع النفس.

4- الفيومي، أحمد بن محمد (ت/770هـ )، قال: "إنّه مطلق الصوت"[6].

5- الفيروزآبادي، محمد بن يعقوب (ت/817هـ) قال: "الغناء ككساء من الصوت ما طُرّب به"[7]. ومثله في مجمع البحرين.

هذه تقريباً كلمات أهل اللغة وهي وإن اختلفت في عباراتها إلا أّنّها تتّفق على معنى واحد وهو أنّ الغناء صوت مُكيّف بكيفية معيّنة سمّها ما شئت من طرب أو ترجيع أو لحن أو غيره.

تعريف الغناء في الاصطلاح:

لقد عرّفه الفقهاء بتعاريف متعددة منهم:

1- محمد بن إدريس الشافعي (ت/204هـ)، قال: "إنّه تحسين الصوت وتزيينه، وفي حديث >من لم يتغنَّ بالقرآن< معناه: تحسين القراءة وترقيقها"[8].

2- محمد بن محمد الغزالي (ت/505هـ) قال: "إنّه الصوت الطيّب المحرك للقلب"[9].

3- المقدس الأردبيلي،(ت/993هـ)، قال: "إنّه يطلق على مدّ الصوت من غير طرب"[10].

وهذا التعريف واضح البطلان؛ لأنّ صفة الطرب قد تلازم مفهوم الغناء وقد لا تلازمه، وهذا بديهي.

4- الفيض الكاشاني، (ت/1091هـ)، قال: "هو الصوت المشتمل على لهو الكلام والمقترن بالملاهي"[11].

وأيضاً هذا التعريف يمكن مناقشته، فإنّنا نسأل: ما هو المقصود من الملاهي؟ فإن كانت هي الآلات الموسيقية، فيردّه أنّ الغناء يطلق على الصوت المطرب وإن لم ترافقه تلك الآلات.

5- الشيخ مرتضى الأنصاري (ت/1281هـ)، قال: "وهو من مقولة الكيفية للأصوات، إن كان مساوياً للصوت اللهوي والباطل كما هو الأقوى فهو، وإن كان أعمّ وجب تقييده بما كان من هذا العنوان، كما أنّه لو كان أخصّ وجب التعدّي عنه إلى مطلق الصوت الخارج على وجه اللهو. وبالجملة، فالمحرّم هو ما كان من لحون أهل الفسوق والمعاصي التي ورد النهي عن قراءة القرآن بها، سواء كان مساوياً للغناء أو أعم أو أخص"[12].

6- حبيب الله الشريف الكاشاني (ت/1340هـ)، قال: "إنّ الغناء حقيقة عرفية في الصوت اللهوي بالمعنى الأعم، أي ما يتلهى به من الصوت، سواء كان بنفسه مجرداً عن الاقتران بالآلات المحرّمة، أو بسبب اقترانه بشيء منها"[13].

7- السيد الإمام الخميني (ت/1409هـ)، قال: "إنّه صوت الإنسان الذي له رِقّة وحسن ذاتيّ ولو في الجملة، وله شأنية الإطراب بتناسبه لمتعارف الناس"[14].

8- مكارم الشيرازي، قال: "والذي يمكن استفادته من مجموع كلمات فقهاء وأقوال أهل السنة في هذا المجال، أنّ الغناء هو كلّ لحن وصوت يطرب، ويشتمل على اللهو والباطل. وبعبارة أوضح: الغناء هو الأصوات والألحان التي تناسب مجالس أهل الفسق والفجور، وأهل المعصية والفساد. وبتعبير آخر: الغناء يقال للصوت الذي يحرّك القوى الشهوانية في الإنسان بحيث يشعر الإنسان في تلك الحالة بأنّه لو كان إلى جانب هذا الصوت خمر ومسكر وإباحة وفساد جنسي، لكان ذلك مناسباً جداً"[15].

مناقشة تعريف الشيخ الأنصاري:

بعدما تقدّم من تعريف الشيخ الأنصاري للغناء حيث قيّده باللهو، ثم ذكر لهذا اللهو أيضاً قيوداً، قال: "ثم إنّ اللهو يتحقق بأمرين: أحدهما: قصد التلهّي وإن لم يكن لهواً، والثاني: كونه لهواً في نفسه عند المستمعين، وإن لم يقصد به التلهّي"[16].

وهذا غريب، فالشيخ الأنصاري نفسه عرّف الغناء بأنّه "الصوت الملهّي"، فإذا لم يكن يقصده مع كونه ملتفتاً، فكيف يتحقّق خارجاً؟ سواءً كان لهواً أو غيره.

ثمّ إنّ النسبة بين كون الصوت لهواً في نفسه وبين كونه لهواً عند المستمعين، عموم من وجه، فلا يصلح الثاني لأن يكون تفسيراً للأول لأنّ بينهما مباينة جزئيّة، ولو أراد اعتبارهما معاً وإناطة الحكم بمادّة الاجتماع، لوجب العطف بالواو الدال عليه، كما أنّه لو أراد إناطة الحكم بأحدهما وجب العطف بـ"أو" ولكن على هذا تصير الأمور ثلاثة.

فقوله: إنّ اللهو يتحقق بأمرين قرينة على عدمه، كما أنّ كفاية كونه لهواً في نفسه عنده في الحرمة، قرينة على عدم الأوّل، ومع ذلك كلّه فلعلّه سهو من قلم الناسخ؛ لأنّ مثله من مثله بعيد، كما لا يخفى على من له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد[17].

السيد الخوئي يطابق مقالة الشيخ الأنصاري:

ثمّ إنّ السيّد الخوئي ذكر في مصباح الفقاهة كلاماً قد لا يبتعد كثيراً عن مقالة الشيخ الأنصاري، حيث قال: "فكلّ صوت كان صوتاً لهوياً ومعدوداً في الخارج من ألحان أهل الفسوق والمعاصي، فهو غناء محرّم، ومن أظهر مصاديقه الأغاني الشائعة بين الناس في الراديوات ونحوها، وما لم يدخل في المعيار المذكور، فلا دليل على كونه غناءً فضلاً عن حرمته. والضابطة لحرمته إنّما تتحقق بأحد أمرين على سبيل مانعة الخلو.

الأول: أن تكون الأصوات المتّصفة بصفة الغناء مقترنة بكلام لا يعدّ عند العقلاء إلا باطلاً؛ لعدم اشتماله على المعاني الصحيحة بحيث يكون لكلّ واحد من اللحن وبطلان المادّة مدخل في تحقّق معنى السماع والغناء، ومثاله الألفاظ المصوغة على هيئة خاصّة المشتملة على الأوزان والسجع والقافية، والمعاني المهيّجة للشهوة الباطلة والعشق الحيواني من دون أن تشتمل على غرض عقلائي، بل قد لا تكون كلماتها متناسبة، كما تداول ذلك كثيراً بين شبّان العصر وشابّاته.

والثاني: يقترن بالتصفيق، وضرب الأوتار، وشرب الخمور، وهتك الناس، وغيرها من الأمور المحرّمة"[18].

المعيار في تعريف الغناء:

بعدما تقدّم ينبغي أن يكون المناط والملاك في تعريف الغناء هو أن يتحقق بكيفّية معيّنة ككونه ملحّناً أو مرجّعاً، ويكون فيه أمور ملازمة له، ككونه مطرباً، أو لهوياً أو كونه مناسباً لأهل الفسوق والعصيان.

وأمّا الطرب الذي قد يصاحب الغناء، فقد عرّفه السيّد المرتضى، بقوله: "الطرب ما يستخف الإنسان من فرح أو حزن، قال الشاعر: 

وأدلوا طرباً في أمرهم                      طرب الواله أو كالمختبل

والوله هو الحزن، وقيل: هو ذهاب العقل والتحيّر من شدّة الوجد أو الحزن من شدّة الوجد أو الحزن أو الخوف"[19]. فالطرب صفة عامةً للفرح، وكذلك الحزن والخوف والوجد؛ إذاً عنوان الغناء دائرته ليست ضيّقة، بل واسعة يدخل فيها الرثاء والأناشيد والمدائح وغيرها، وقد تكون بصفه مطربة ووالهة وحزينة. أمّا كيف يمكن معرفته وتشخيصه؟

نعتقد أنّ العرف هو الميزان في تشخيص موضوعه، قال صاحب الجواهر: "فيعلم كون المراد كيفيّة خاصّة منها موكولة إلى العرف، كما هي العادة في بيان أمثال ذلك"[20].

المبحث الثاني: تعريف المعازف وبيان حكمها

تعريف المعازف في اللغة:

كلمة (المعازف) استخدمت في اللغة قديماً وقد استحدث هذا المصطلح حديثاً، فيطلق عليها لفظ (الموسيقى) وهما شيء واحد.

قال إسماعيل بن عباد الطالقاني (ت/ 385هـ) في المحيط في اللغة:

"عزف كُلُّ لَعِب: عَزْفٌ، والمَعَازِفُ: الملاهي، الواحِدُ عَزْفٌ ومَعْزِفَة. والمِعْزِفُ: اسْمٌ خاصّ لِضَرْبٍ من الطنَابيرِ تتّخذُه أهْلُ اليَمَن"[21].

وقال ابن فارس (ت/ 395هـ) في مقاييس اللغة: "عَزَفَ -بفتح العين والزاء والفاء-: والعزف أصلانِ صحيحان، أحدهما يدلُّ على الانصراف عن الشيء، والآخر على صوت من الأصوات. فالأوَّل قول العرب: عَزَفت عن الشيء: إذا انصرفتَ عنه. والعَزُوف: الذي لا يكاد يثبُت على خُلّة خليل.. والأصل الثاني: العَزيف: أصوات الجِنّ. ويقال: إنّ الأصل في ذلك عَزْف الرِّياح، وهو صوتُها ودَوِيُّها.. واشتقّ من هذا العزف في اللعب والملاهي"[22].

وابن فارس هنا عرّف العزف الذي يستخدم من خلال آلات الموسيقى التي يصدر عنها الأصوات، والتي تأخذ ألحاناً معينة. لذا قال: "واشتقّ من هذه العزف اللعب والملاهي".

وقال محمّد عبدالقادر (ت/ 721هـ) في مختار الصحاح:

والمعازف: "الملاهي. والعازف: اللاعب بها والمغنّي، وقد عزف من باب ضرب"[23].

تعريف المعازف والموسيقى في الاصطلاح:

قال ابن حجر العسقلاني: "المعازف جمع معزفة، وهي آلات الملاهي، وفي حواشي الدمياطي، المعازف: الدفوف وغيرها ممّا يضرب به ويطلق على الغناء عزف"[24].

والموسيقى: "لفظ يطلق على فنون العزف على آلات الطرب" وقد تطلق على الصوت الذي يخرج من هذه الآلات الموسيقيّة.

وعلم الموسيقى: "هو معرفة نسب الأصوات والنغم بعضها من بعض، وتقديرها بالعدد، وثمرته معرفة تلاحين الغناء".

إذاً معنى المعازف والموسيقى لا يبتعد كثيراً عن المعنى اللغوي، فالمعازف أو الموسيقى أدوات وآلات تستخدم للعزف، وتصدر أصواتاً بألوان وألحان معيّنة وبمجموعها تسمّى موسيقى.

مفهوم الغناء مغاير لمعنى الموسيقى:

ولكن لا بدّ من التنويه والالتفات إلى أنّ بعض الفقهاء المتقدّمين دمج بين مفهومي الغناء والمعازف أو الموسيقى بمعنى واحد، ولم يفكك بينهما.

جاء في رسائل إخوان الصفا: "إنّ الموسيقى هي الغناء، والموسيقار هو المغنّي، والموسيقات هي آلات الغناء، والغناء هو ألحان مؤتلفة، واللحن هو نغمات متوازنة، والنغمات هي أصوات مطربة موزونة، والصوت هو قرع يحدث في الهواء من تصادم الأجسام بعضها لبعض"[25].

لكن كما تقدّم أنّ المعنى اللغوي والاصطلاحي ينصرف إلى أنّهما آلات وأدوات تستخدم لفنون العزف.

جاء في المعجم الوسيط: أنّ الموسيقى: "لفظ يوناني يطلق على فنون العزف على آلات الطرب. وعلم الموسيقى علم يبحث فيه عن أصول النغم من حيث تأتلف أو تتنافر، وأحوال الأزمنة المتخلّلة بينهما؛ ليعلم كيف يؤلف اللحن، والموسيقار من حرفته الموسيقى"[26].

فهما معنيان مختلفان وليسا متّحدين؛ اللهمّ إلا أن نقول: إنّ مقصودهم اشتراكهما في الكيفيّة أي اللحن، فكلّ من الغناء والمعازف أو الموسيقى لهما ألحان معينة، ولكن هذا بعيد.

والفارق بين مصطلح القدماء والمحدّثين في ذلك، أنّ القدامى كانوا يرون التساوي بين الغناء والموسيقى في المفهوم والمصداق، وأما في العصر الحاضر، فيستعملون لفظ الموسيقى في العزف على آلات الطرب؛ لتكون أخص من لفظ الغناء.

حكم آلات المعازف والموسيقى في الفقه الشيعي:

أما حكم هذه الآلات وما يصدر عنها من ألحان، فهذا يدور مدار مطابقتها لمجالس اللهو والطرب بحيث يصدق عليها اللهو المفضي إلى الميوعة والفساد. وأما إذا لم تكن كذلك، فلا تحرم.

رأي السيد علي الخامنئي:

وللسيّد الخامنئي رأي في هذه المسألة، قال: "فإنّ أنغام الآلات الموسيقيّة الوتريّة ليست محرّمة على الإطلاق، وكذلك الأغاني المنشَدة، أي لا إشكال في التي تشتمل على محتوى سليم وتُنشَد بأنغام مناسبة، أمّا إذا كانت الأنغام قبيحة غير مناسبة والمضمون غير سليم، فكلّ منهما سبب للحرمة.

وبالطبع ينبغي أن أشير إلى أن الأنغام عموماً تُخرج الإنسان بمقدار عن حالة الجدّ، وهذا طبع الموسيقى، فلا ينبغي إنكار الواقع، اللهمّ إلا إذا كان محتواها من القوّة بحيث لا يسمع بحدوث ذلك، كما حال القرآن، فاللحن القرآني له هذه الخاصّيّة، فهو يبعث الروح في المقروء ويبرزه أمام الإنسان، ويدخله ذهنه كلمة كلمة، ويجري في الروح جريان الماء، وبذلك يزيل تلك الحالة السلبيّة (الإخراج عن حالة الجدّ) الناتجة من صوت جميل"[27].

رأي السيّد عليّ السيستاني:

قال: "الموسيقى فنّ من الفنون الإنسانية كثر انتشارها هذه الأيام، بعض أنواع هذا الفن محلّل، وبعض أنواعه محرم، فالمحلَّل منه يجوز الاستماع له، والمحرم منه لا يجوز الاستماع له"[28]. الموسيقى المحلّلة هي الموسيقى غير المناسبة لمجالس اللهو واللعب. والموسيقى المحرّمة هي الموسيقى المناسبة لمجالس اللهو واللعب. ليس المقصود من عبارة "مناسبة الموسيقى أو الغناء لمجالس اللهو واللعب" هو كون الموسيقى أو اللحن الغنائيّ موجباً لترويح النفس، أو تغيير الجو النفسي، فإنَّ ذلك جيّد، ولكن المقصود بها أنّ السامع للموسيقى أو للحن الغنائيّ -خصوصاً إذا كان خبيراً بهذه الأمور- يميِّز أنّ هذا اللحن مستعمل في مجالس اللهو واللعب، أو أنّه مشابه للألحان المستعملة فيها.

ويجوز ارتياد الأماكن التي تعزف فيها الموسيقى المحلّلة، ويجوز الإصغاء المتعمّد لها ما دامت محلّلة.

رأي السيد كاظم الحائري:

قال: "إنّ حرمة الموسيقى مشروطة بكونها مطربة ولو بمعونة ما تقترن به أو مقترنة بالغناء المطرب، أي أنّ الحرام إنّما هو الموسيقى بالنحو المرسوم عند أهل اللهو.

أمّا لو لم تكن كذلك، فلا دليل على حرمتها؛ لعدم صدق الغناء بلا إطراب؛ ولعدم ثبوت حرمة ما يكون لهواً على الإطلاق"[29].

إذاً من خلال ما تقدّم، فالموسيقى والمعازف في النظرة الفقهيّة الشيعيّة حلّيّتها وحرمتها ليست مطلقة، بل بلحاظ ما يقترن بها من لهو أو فسق أو معصية، وبعبارة أخرى: الأمور الخارجيّة التي أشار إليها المحقّق الفيض الكاشاني كما تقدّم حكم آلات المعازف والموسيقى في الفقه السنّي وكذلك الحال فإنّ الفقه السنّي يتواءم ويتوافق مع نظرة الفقه الشيعي على حدّ سواء.

رأي الشيخ شلتوت:

قال: "صوت سماع الآلات ذات النغمات أو الأصوات الجميلة لا يمكن أن تحرم باعتبار صوت آلة، أو صوت إنسان، أو صوت حيوان.. وإنّما يحرم إذا استعين على محرّم. أو اتّخذ وسيلة إلى محرّم، أو ألهى عن واجب"[30].

ثمّ نقل رأي الشيخ النابلسي الحنفي في كتابه إيضاح الدلالات في سماع الآلات، قال: "إنّ الأحاديث التي استدلّ بها القائلون بالتحريم -على فرض صحّتها- مقيّدة بذكر الملاهي، وبذكر الخمر، والقينات، والفسوق، والفجور".

ثمّ يستنتج الشيخ شلتوت من كلام النابلسي: "وعليه كان الحكم عنده في سماع الأصوات الآلات المطربة إذا اقترن بشيء من المحرّمات، أو وقع في المحرّمات كان حراماً، وإن سلُم من كلّ ذلك كان مباحاً".

المبحث الثالث: معنى اللهو وحكمه

تمهيد:

إنّ هناك ارتباطاً وثيقاً بين الغناء واللهو، فهناك من قال: إنّ الغناء حرمته ناشئة من كونه لهواً في نفسه، وهناك من قيده بقيود أخرى، فلا بد من توضيح معناه وحكمه؛ لارتباطه بتعريف الغناء وماهيته وموضوعه.

فنقول: نسب إلى المشهور حرمة اللهو بقول مطلق، ولكن هناك من الفقهاء من ذكر أنّ المستفاد من الروايات هو الغناء اللهوي الذي يشهد به العرف، والذي يخرج الإنسان عن حالته الطبيعية ويفقده توازنه، فهناك من اللهو لا يشمله هذا الإطلاق، كما سيأتي.

وكيف كان، فكلامنا هو في الغناء اللهوي، الذي يصد عن ذكر الله سبحانه وتعالى، والتي أشارت إليه الروايات والآيات الشريفة، إذاً يقع الكلام في ثلاث جهات:

الجهة الأولى: تعريف اللهو لغة واصطلاحاً

أما في اللغة، فقد ذكر صاحب مقاييس اللغة أنّ: "اللهو كلّ شيء شغلك عن شيء، فقد ألهاك، ولهوت من اللهو"[31].

وفي تاج العروس، قال: "واللهو ما شغل من هوى وطرب وإن لم يقصد به ذلك، وقيل: أصل اللهو: الترويح عن النفس بما لا تقتضيه الحكمة، وقال الطرطوسي: اللهو الشيء الذي يلتذ به الإنسان ثم ينقضي. وقيل: ما يشغل الإنسان عما يهمه"[32].

وفي صحاح اللغة، قال: إنّه "مطلق اللعب"[33].

أما في الاصطلاح، فقد عرف أنّه: "ما يشغلك من هوى وطرب يريد من عشق وخفّة من فرح أو حزن، فإنّ ذلك مما يشغل، قال الله تعالى: {لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ}[34]، والظاهر أنّ هذا هو المراد باللهو"[35].

إذاً الطرب داخل في اللهو، فإن صدق أن الغناء طرب، فالحرمة تكون شاملة له.

معنى اللهو عند الفقهاء:

قال السيد البروجردي: "اللهو ما يشغل الإنسان عما يعنيه ويهمه، ... وبالجملة: المحرم منه [اللهو] ما يوجب خروج الإنسان من المتانة والوقار قهراً، ويوجد له سكراً روحياً يزول معه حكومة العقل بالكلية"[36].

ونستنتج من كلام السيد البروجردي التالي:

1- أنّ القول بحرمة كلّ لعب ولهو يشغل عن ذكر الله تعالى، مما لا يمكن الالتزام به، ولا يلتزم به أحد.

2- التفصيل بين أنحاء اللهو، وتشخيص المحرّم منها عن غيره.

3- حرمة بعض أقسام اللهو وإن كانت قطعية، لكن لا يمكن الالتزام بجميع أقسامه.

4- المحرم من اللهو هو ما أوجب خروج الإنسان من حالته الطبيعية، بحيث يوجد له حالة سكر لا يبقى معها للعقل حكومة ولا سلطنة.

المعيار والملاك في اللهو المحرّم:

مما تقدم يتضح أنّ المعيار والمناط في اللهو المحرّم هو خروج الإنسان من الوقار والرزانة، بحيث نجد إنّ حكومة العقل على تصرفاته تكاد تكون معدومة، ولعل هذا ما نجده واضحاً جلياً في هذه الأيام عند أهل الفن في هذا المجال.

الجهة الثانية: أقسام اللهو

قسموا اللهو حسب ما أفادته الأخبار إلى ثلاثة أقسام:

الأول: اللعب بالآلات المعدّة له، كالمزمار والبربيط وغيرها. ويدخل فيه الغناء؛ لأنّ هناك من عرّفه باللعب. أضف إلى ذلك اقترانه بهذه الآلات.

الثاني: اللعب بغير الآلات المعدّة للهو، وكان صادّاً عن ذكر الله، وشاغلا عن العبادة.

الثالث: اللعب بالأشياء المباحة التي لا تصدّ عن ذكر الله، ولم يكن فيها داع عقلائي، كاللعب بالسبحة أو غيرها.

الجهة الثالثة: حكم اللهو

ذكر الفقهاء ثلاثة أنواع للهو نذكرها بإيجاز:

النوع الأول: الآلات للعب كالمزمار والمعازف

الروايات الناهية عن اللهو:

وهذا النوع قد نهت عنه الروايات الشريفة ونذكر بعضاً منها:

1- عن أمير المؤمنين× قال: >نهى رسول الله| عن اللعب بالنرد والشطرنج والكوبة والعرطبة يعني الطبل والطنبور والعود<[37].

2- عن أبي عبدالله× قال: >قال رسول الله|: إنّ الله بعثني رحمة للعالمين، ولأمحق المعازف والمزامير، وأمور الجاهلية وأوثانها وأزلامها<[38].

3- عن أمير المؤمنين× عندما سئل عن السحت، قال: >السحت هو بين الحلال والحرام، وهو أن يؤاجر الرجل نفسه على حمل المسكر، ولحم الخنزير، واتخاذ الملاهي، فإجارته نفسه حلال، ومن جهة ما يحمل ويعمل هو سحت<[39].

هذه بعض الأخبار التي تشكّل بمجموعها حرمة هذا الفعل، ولكن هناك استثناءات لهذه الحرمة، فهذه الأدوات قد تستعمل في موارد أخرى مباحة، فترتفع الحرمة، والعرف هو الحاكم في تشخيص هذا الأمر، وقد تقدم تفصيل هذا الأمر في بحث المعازف والموسيقى.

النوع الثاني: اللعب بغير آلات اللهو ولكنّها تصدّ عن ذكر الله

نهت الروايات عن اللعب بغير آلات اللهو أيضاً.

فقد روى الأعمش عن الإمام الصادق× قال: >والكبائر محرمة، وهي الشرك بالله، وقتل النفس التي حرم الله، وعقوق الوالدين ... والملاهي التي تصدّ عن ذكر الله§، كالغناء، وضرب الأوتار<[40].

والصدّ عن ذكر الله بمعنى أن يأتي بعمل منهي عنه، فبهذا اللحاظ يحرم هذا الفعل.

فكلام الإمام× مطلق يشمل آلات اللهو وغيرها، فالملاك في الحرمة هو الصدّ عن ذكر الله§.

النوع الثالث: اللعب بالأشياء المباحة

أما اللعب بالأشياء المباحة والتي لا تصدّ عن ذكر الله ولم يكن لها داع عقلائي، فقد يقال بالحرمة؛ لإطلاق قوله×: >كلما لهى عن ذكر الله فهو من الميسر<[41].

والميسر حرام، فاللعب بالأشياء المباحة أيضاً حرام.

ولكن الصحيح أن يقال: إنّ السيرة قائمة على خلافه، وهناك روايات صرّحت بالحلية كقول رسول الله|: >نِعمَ اللهو المغزَل للمرأة الصالحة<[42].

إذاً لا يمكن الالتزام بحرمة كلّ لهو، وإلا لزم حرمة أغلب الأفعال المباحة، مضافاً إلى المنع من صدق اللهو على كلّ تشبيب، فإنّ الشعر الذي ينشأ أو ينشد في ذلك المقام ربما يشتمل على ما يخرجه عن ذلك.

النتيجة النهائية:

نستفيد من مجموع ما تقدم من الأخبار والروايات، وكذلك ما ورد من تعريف اللهو أنّ الغناء اللهوي حرام، ولكن لا مطلق اللهو، بل اللهو الذي يخرج هذا الإنسان عن حالته الطبيعية، ويفقد توازنه ويخرجه عن الوقار بحيث يفقد السيطرة على عقله.

وهذا ما صرح به أيضاً المحقق النراقي، قال: "إنّ مدلول سائر الأخبار المعتبرة أنّ الغناء هو فرد من لهو الحديث، وأنّه بعض ما قال الله سبحانه، فيشعر بأنّ المراد من لهو الحديث معناه اللغوي والعرفي الذي فرد منه الغناء، وهو لا يصدق إلا على الأقوال الباطلة والملهية لا مطلقا"[43].

المبحث الرابع: هل الغناء من مقولة الكلام أو الكيف؟

مقولة الصوت:

ظاهر جمع من علمائنا @ وهو كيفية صوتية، حيث عبروا عنه بأنّه الترجيع، أو المد، أو التحسين، أو نحوها.

وقال العلامة الحلي (ت/726هـ): "هو مدّ الصوت المشتمل على الترجيع المطرب"[44].

قال الشيخ محمد حسن النجفي (ت/1266هـ): "اتفاق الجميع على أنّه من مقولة الأصوات أو كيفياتها من غير مدخلية لأمر آخر"[45].

وقال الشيخ مرتضى الأنصاري 1281هـ: "فالغناء وهو من مقولة الكيفية للأصوات"[46].

وقال السيد الخوانساري (ت/1405هـ): "إنّ موضوعه هو الصوت المطرب المرجع الذي يسمى في العرف الصحيح بالغناء"[47].

وهذا واضح في أنّ الغناء من مقولة الصوت، فالذي يسمع المغني بغير لغته ولا يعرف تلك اللغة، فلا شك في أنّه يميّز الغناء عن غيره ويتأثر به عادة، فيطلق عليه عنوان الغناء وإن لم يفهم السامع مادة الغناء.

أضف إلى ذلك: الغالب عند أهل اللغة هو صوت، فمنهم من فسّره بمد الصوت. ومنهم من قال: من رفع صوته ووالاه فهو غناء، ولعلّ الإطراب والترجيع مجتمعان غالباً معه.

مقولة الكلام:

رأي السيد الخوئي:

إنّ تعليل الخوئي بأنّ الغناء من مقولة الكلام غير مستقيم في نفسه، لا يفي بالغرض، وليس دليلا على أنّه ليس من صفات الصوت، بل هذا هو عين المدعى، وهو أشبه بالمصادرة.

أضف إلى ذلك: أنّه خلاف ما توافقت وأطبقت عليه آراء الفقهاء واللغويين جميعاً، كما تقدم، فالغناء كيفية صوتية قائمة بذاتها، إما مجرّدة، أو مصحوبة بالعزف على آلات الموسيقى المعهودة، ولم يعهد اعتبار المادة في صدق هذا المفهوم.

ولعل السيد الخوئي اعتمد على بعض الروايات التي عبرت عنه بالزور ولهو الحديث، كما في مرسلة الفقيه عن الإمام علي بن الحسين في الجارية التي لها صوت: "لا بأس لو اشتريتها فذكرتك الجنّة"[48]، يعني بقراءة القرآن والزهد والفضائل التي ليست بغناء. فإنّه يدل على كونه من مقولة الكلام.

ولكن هذا التفسير مردود؛ لأنّه لو فسرنا الزور أو اللهو بالغناء، فالمستفاد من كلمات الفقهاء أنّ الغناء هو الكيفية الحاصلة للأصوات، الموجبة لكونها غناء، والعرف واللغة يؤيدان ذلك.

الفصل الثاني: مباحث ختامية في الغناء

المبحث الأول: مستثنيات الغناء

هناك بعض المستثنيات ذكرها الفقهاء عمن قال بحرمة الغناء مطلقاً، نذكر منها ما يلي:

الأول: الغناء في مراثي أهل البيت^

استدلوا على جوازه بسيرة العلماء وسيرة المتشرعة، فإنّهم يحضرون المجالس المنعقدة لمأتم النبي| والعترة الطاهرة من أهل البيت^، ولا ينكرون عليهم.

قال السيد الخوئي نقلاً عن المحقق الأردبيلي: "قال المحقق الأردبيلي في محكي شرح الإرشاد: وقد استثني مراثي الحسين× أيضاً؛ لعدم الدليل على حرمة الغناء مطلقاً، ثم قال: ويؤيده أنّ البكاء والتفجع عليه× مطلوب ومرغوب وفيه ثواب عظيم، والغناء معين على ذلك، وأنّه متعارف دائماً في بلاد المسلمين في زمن المشائخ إلى زماننا هذا من غير نكير، وهو يدل على الجواز غالباً، ثم أيد رأيه هذا بما دل على جواز النياحة في الشريعة المقدسة، وبأنّ التحريم إنّما هو للطرب وليس في المراثي طرب، بل ليس فيها إلا الحزن"[49].

الثاني: الغناء في الأعراس

واستدلوا عليه بصحيحة أبي بصير عن الإمام الصادق×: >أجر المغنية التي تزف العرائس ليس به بأس، وليست بالتي يدخل عليها الرجال<[50].

الثالث: قراءة القرآن

واستدلوا عليه بما عن أبي جعفر× قال: >إنّ القرآن نزل بالحزن فاقرأوه بحزن<[51].

أو ما روي عن الإمام الصادق× قال: >رجّع بالقرآن صوتك فإنّ الله يحب الصوت الحسن يرجع فيه ترجيعاً<[52].

وقد اشتهر بين المتأخرين نسبة استثناء الغناء في قراءة القرآن إلى صاحب الكفاية، قال في الكفاية: "إنّ غير واحد من الأخبار يدلّ على جواز الغناء في القرآن بل استحبابه، بناء على دلالة الروايات على استحباب حسن الصوت والتحزين والترجيع به، والظاهر أنّ شيئاً منها لا يوجد بدون الغناء على ما استفيد من كلام أهل اللغة وغيرهم"[53].

الرابع: الحُداء لسَوق الإبل

والحداء-بالضم- في اللغة كما جاء في لسان العرب: "حدا الإبل، وحدا بها يحدو حدواً وحداء"[54].

وفي مختار الصحاح: "هو سوق الإبل بالغناء لها"[55].

وفي المغني: "وأما الحداء وهو الإنشاد الذي تساق به الإبل، فمباح لا بأس به في فعله واستماعه؛ لما روي عن عائشة قالت: كنّا مع رسول الله| في سفر وكان عبدالله بن رواحة جيّد الحداء، وكان مع الرجال وكان أنجشة مع النساء، فقال النبي| لابن رواحة: "حرم بالقوم" فاندفع يرتجز فتبعه أنجشة فأعنقت الإبل، فقال النبي| لأنجشة: "رويدك رفقا بالقوارير"، يعني النساء..الخ"[56].

الخامس: مطلق الذكر والدعاء والفضائل والمناجاة وأمثالها

مناقشة الاستثناءات على مبنى السيد الخوئي:

إنّ هذه الاستثناءات التي ذكرناها إنّما تأتي على مبنى السيد الخوئي، الذي يرى أنّ الغناء مادّة فقط، كما تقدّم في بحوثنا التمهيدية، وأما مناقشتها، فنقول:

أما الاستثناء الأول والثاني، فهذه عناوين غير الغناء، ولا يصدق عليها الغناء عرفاً؛ لأنّ المراثي خارجة عن الغناء موضوعاً، فلا وجه لذكرها من مستثنيات حرمة الغناء، ولو سلّمنا إطلاق الغناء عليها لشملتها إطلاقات حرمة الغناء، ولا دليل على الاستثناء، ووجود السيرة على الرثاء، وإقامة التعزية على المعصومين في بلاد المسلمين وإن كان مسلّماً، ولكنّها لا تدلّ على جواز الغناء فيها، الذي ثبت تحريمه بالآيات والروايات.

وأما الغناء في الأعراس، فنتعبّد به للنص، ولا يمكن التعدّي لغيره. والإمام× صرّح في الرواية السابقة في مرسلة الصدوق، يعني بقراءة القرآن التي ليست بغناء.

وأما الاستثناء الثالث، فإنّ مفاد هذه الروايات خارج عن الغناء موضوعاً، فلا دلالة في شيء منها على جواز الغناء في القرآن، بل بعضها صريح في النهي عن قراءة القرآن بألحان أهل الفسوق والكبائر الذين يرجّعون القرآن ترجيعا، وعلى الجملة إنّ قراءة القرآن بالصوت الحسن وإن كان مطلوباً للشارع ولكنّها محدودة بما إذا لم ننجر إلى الغناء وإلا كانت محرمة.

وأما الاستثناء الرابع، فلا يمكن أن نتكئ عليه لإرسال السند. وأما الاستثناء الخامس، فأين الغناء من الدعاء؟ الغناء صوت، والمضمون والمحتوى هو المعيار فيه.

ولكن الصحيح أنّ المقصود من الغناء هو صوت يصاغ بلحن معين، وعندئذٍ لا فرق بين المرثية أو الأغنية، فكلٌّ له لحن، ولكن الاختلاف يقع في المضمون والمحتوى، وكذلك ما يصاحب الأغنية من مواد للعزف والموسيقى.

فليس العبرة بالعنوان، وكونه لا يصدق على المرثية أو الغناء، بل ماذا نفهم من الغناء؟ هل هو صوت أو لا؟ وإذا كان صوتاً -وهذا من البديهيات- فما هو مضمونه وشكله؟ فإن احتوى على شعر يرثي الحسين×، أو احتوى على كلام نبيل فيه ذكر لله تعالى، أو حماسة، أو تمجيد الأوطان والحنين إليه، فلا يحرم، وعندئذٍ تنتفي هذه الإشكالات.

لذا عندما نراجع فتاوى السيد الخوئي نجده يعطي ضابطة للغناء، حيث قال: "بل العبرة في الحرمة بكون الصوت الغنائي وأصوات آلات الموسيقى مناسبة لمجالس أهل اللهو والطرب، ومتداولاً بينهم في نواديهم، فإن كانت الكيفية الصوتية أو الآلة الصوتية من هذا القبيل حرمت"[57].

وكذلك عندما سئل، هل يجوز الاستماع إلى قراءة عبد الباسط عبد الصمد المشهورة "الملحن" أو "المنغمة" أو المشابهة لذلك؟ أجاب "لا بأس بذلك كلّه". وسننقل بعضاً من فتاويه في الهامش إن شاء الله تعالى.

فهنا يعترف السيد الخوئي بأنّ الغناء صوت، وعبّر عنه بالكيفية الصوتية -وهذا خلاف مبناه- وقد يأخذ صبغة اللحن والنغم، نعم لو كان مناسباً لمجالس أهل اللهو والطرب حرم، وإلا فلا. فالحرمة تدور مدار المحتوى والظرف الذي فيه الغناء.

المبحث الثاني: الغناء ونظرة الطب إليه

إنّ الشارع الحكيم لا ينهى عن أمر أو يأمر بشيء إلا وفي ذلك النهي أو الأمر مصلحة أو مفسدة، وتشخيص تلك المصالح والمفاسد هو الأعلم بها جلّ شأنه، ولكن الإنسان لقصوره ومحدوديته لا يمكنه إدراك الأشياء على حقائقها؛ لأنّ شهوات النفس ونزواتها المتجذّرة والطارئة والمتقلّبة في بعض الأحيان، والمغريات الخارجية التي تناغي الرغبات والشهوات تهتف بالإنسان لإشباعها، وتحول دون كماله ورقيه المعنوي، وهذا الكمال لا يمكن أن يناله الإنسان إلا عبر قناة الارتباط بالله تعالى، وأسمى وسيلة للارتباط بالله جلّ وعلا، ورسوخ الإيمان في قلبه هي الالتزام بتعاليم شريعته تعالى، والابتعاد عما ينهى عنه، والامتثال بما يأمر به.

فحينما يخاطبنا رسول الله| بقوله: >من قعد إلى قينة يسمع منها صب في أذنه الآنك يوم القيامة<[58]، نفهم أنّ هذا الخطاب يكشف عن وجود مفسدة يريد رسول الله| دفعها عن أمته، وهو الحريص عليهم والرؤوف بهم.

والأنك هو الرصاص، فنتساءل حينئذٍ لماذا يعدنا رسول الله| بهذا العذاب؟ ونحن نعلم بالقطع واليقين أنّه يستغفر لنا فهو الرحيم بنا، كما حدّثنا القرآن بآيات كثيرة حول شفقة رسول الله| بأمته، كقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا}[59].

خاتمة البحث

وأخيراً نقول: إنّ موضوع الغناء ليس من السهل أن نطلق عليه الأحكام بلا دراسة وتأمل للروايات، فالباحث المنصف في مصادر التشريع الإسلامي، واجتهادات الفقهاء المختلفة عبر القرون في فهم هذا التشريع لا يستطيع أن يغفل الدلالات الواضحة للكثرة الكاثرة من نصوص الشارع، وكلام الفقهاء على تحريمه، وأنّ هذا التحريم كان مستقراً في التراث الفقهي بين الفريقين، ولكن نحن نرى أنّ وجهة النظرة الأخرى ليست مغايرة كثيراً لمن حرمه، فإنّ المحور الأساس في تشخيص موضع الغناء هو كونه صوتاً، وهذا الصوت قد يأخذ لوناً متهتكاً ومبتذلاً، فيكون حراماً بلا إشكال في ذلك؛ لذلك نجد أنّ السيد الخوئي -فيما يبدو- قد أعطى صفة الكيفية للغناء، وهذا الصوت قد يأخذ طابع اللهو فيحرم، وأما إذا لم يكن كذلك فليس حراماً، وهذا ما نجده في فتاويه التي يحلّل فيها المراثي والأناشيد الحماسية وغيرها، فهي ليست عناوين غير الغناء، بل هي صوت كما عبّر عنها بأنّها كيفية صوتية، إذاً فلا نجد ذلك الخلاف والبون الشاسع بين الفقهاء.

ولا بدّ من التأكيد أنّ على الفقيه كما نظر بعين إلى نصوص الشرع، فعليه أن ينظر بعينه الأخرى إلى الواقع المعاش، فالواقع المعاش، فالواقع اليومي للغناء والموسيقى في شاشات التلفاز ممّا يندى له الجبين وتنبذه القيم الأخلاقية، فالنموذج اليومي للغناء لا يمكن أن يدخل ضمن دائرة المباح، ولابدّ من أن يدرك القارئ عندما يقول الفقهاء بالإباحة، فنظرهم إلى الكلام النزيه والبريء، والذي يحاكي الفطرة، ويبتعد عن الفساد والرذيلة، وإثارة الغرائز الجنسية بشكل فوضوي، وأما إذا اشتمل على مفاهيم سامية، كحبّ الوطن، والمراثي الحسينية، والحماسة والأناشيد التي تحثّ على الأخلاق وغير ذلك، فهذا مما لا خلاف في حلّيّته.

ووجهة النظر هي أنّ الإنسان الملتزم بخطّ الشريعة لا بدّ من أن يحتاط في هذا الحكم، لا سيما عند الشك فيه، قال الشوكاني:

"ولا يخفى على الناظر أنّ محل النزاع إذا خرج عن دائرة الحرام لم يخرج عن دائرة الاشتباه، والمؤمنون واقفون عند الشبهات، كما صرّح به الحديث الصحيح، ومن تركها فقد استبرأ لعرضه ودينه، ومن حام حول الحمى أوشك أن يقع فيه، ولا سيّما إذا كان مشتملاً على ذكر القدود والخدود والجمال والدلال والهجر والوصال، فإنّ سامع ما كان كذلك لا يخلو عن بلّية، وإن كان من التصلّب في ذات الله على حدّ يقصر عنه الوصف، وكم لهذه الوسيلة الشيطانية من قتيل دمه مطلوب، وأسير بهموم غرامه وهيامه مكبول"[60].

إذاً الاحتياط هو أسلم طريق يسلكه الإنسان المؤمن، ويوصله إلى بر الأمان وإلى شاطئ الرحمة وإلى الفيض الإلهي وإلى الله سبحانه وتعالى.

والحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمد وآله الطيّبين الطاهرين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ  

[1] سورة البقرة: ٢٩.

[2] سورة الأنعام: ١١٩.

[3] الجوهري، إسماعيل بن حماد، تاج اللغة وصحاح العربية (غنى).

[4] أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا، مقاييس اللغة (غنى).

[5] الأفريقي، ابن منظور، محمد بن مكرم، لسان العرب (غنى).

[6] الفيومي، أحمد بن محمد بن علي، المصباح المنير (غنى).

[7] الفيروزآبادي، محمد بن يعقوب، القاموس المحيط (غنى).

[8] ابن الأثير، المبارك بن محمد، النهاية في غريب الحديث، ج3، ص391.

[9] الغزالي، محمد بن محمد، إحياء علوم الدين، ج2، ص294.

[10] الأردبيلي، أحمد بن محمد، مجمع الفائدة والبرهان، ج8، ص57.

[11] الفيض الكاشاني، محمد محسن، الوافي، ج17، ص218.

[12] الأنصاري، مرتضى، المكاسب المحرمة، ج1، ص290.

[13] الشريف الكاشاني، حبيب الله، ذريعة الاستغناء في تحقيق مسألة الغناء، ص71.

[14] الموسوي الخميني، المكاسب المحرمة، ج1، ص198.

[15] الشيرازي، ناصر مكارم، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج12، ص13.

[16] الأنصاري، مرتضى، المكاسب المحرمة، ج1، ص296.

[17] الطهراني، رسالة في الغناء، ص9.

[18] الخوئي، أبو القاسم، مصباح الفقاهة، ج1، ص311.

[19] رسائل الشريف المرتضى، ج4، ص57.

[20] جواهر الكلام، الجواهري، ج22، ص46.

[21] المحيط في اللغة، ابن عباد، ج1، ص391.

[22] ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، ج4، ص306.

[23] أبو بكر الرازي، مختار الصحاح، ص226.

[24] فتح الباري، ابن حجر العسقلاني، ج10، ص55.

[25] إخوان الصفا، رسائل إخوان الصفا وخلان الوفا، ج1، ص192.

[26] المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية، ص890.

[27] حديث لسماحة السيد القائد~ مع أعضاء القسم الثقافي في صحيفة (الجمهورية الإسلاميّة) بتاريخ 15/2/1982م. انظر: (11783http://alwelayah.net/?p=).

[28] الفقه للمغتربين، آية الله العظمى السيد السيستاني=، ص311 وص539.

[29] بحث بعنوان: (الغناء والموسيقى) لآية الله العظمى السيد كاظم الحائري= منشور بمجلة فقه أهل البيت^، العدد40، ص21.

[30] الفتاوى، الشيخ محمود شلتوت، ص414.

[31] ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، ج5، ص213.

[32] الزبيدي، تاج العروس، ج20، ص170.

[33] الجوهري، صحاح اللغة، ج6، ص2487، مادة (لها).

[34] سورة الأنبياء: 17.

[35] الشيخ الجواهري، جواهر الكلام، ج14، ص264.

[36] تقرير بحث البروجردي للشيخ المنتظري، البدر الزاهر في صلاة الجمعة والمسافر، ص299.

[37] وسائل الشيعة، ج17، ص325، ب104 من أبواب ما يتكسب به، ح6.

[38] الصدوق، أمالي الصدوق، ص339، المجلس65، ح1.

[39] المجلسي، بحار الأنوار، ج76، ص251.

[40] وسائل الشيعة، ج15، ص332، باب تعيين الكبائر التي يجب اجتنابها، ح36.

[41] الآمالي، الشيخ الطوسي، ص336.

[42] وسائل الشيعة، ج5، ص319، ب11 من أبواب أحكام المساكن، ح10.

[43] الشيخ النراقي، مستند الشيعة، ج14، ص135.

[44] إرشاد الأذهان، العلامة الحلي، ج2، ص157.

[45] جواهر الكلام، الشيخ الجواهري، ج22، ص45.

[46] المكاسب، الشيخ الأنصاري، ج1، ص29.

[47] رسالة في الغناء، السيد الخوانساري، ص12.

[48] من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ج4، ص60.

[49] مصباح الفقاهة، السيد الخوئي، ج1، ص490.

[50] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج17، ص120، ب 15 من أبواب ما يكتسب به، ح3.

[51] م ن، ج6، ص208، ب 22 من أبواب قراءة القرآن، ح1.

[52] الكافي، الكليني، ج2، ص616، باب ترتيل القرآن، ح13.

[53] كفاية الأحكام، السبزواري، ج1، ص428.

[54] لسان العرب، ابن منظور، ج14، ص168.

[55] مختار الصحاح، الرازي، ص75.

[56] المغني، ابن قدامه، ج12، ص43.

[57] السيد الخوئي، صراط النجاة (تعليق الميرزا التبريزي)، ج1، ص370، س1013.

[58] الفائق في غريب الحديث، الزمخشري، ج1، ص54.

[59] سورة الأنبياء، 64.

[60] الشوكاني، محمد بن علي بن محمد، نيل الأوطار، ج8، ص271.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا