الحداثة المسمومة

الحداثة المسمومة

يرى البعض أن الحداثة والتجديد شأن غربي، وأن التقليد شأن شرقي، وفعلا حاول الغرب أن يحتكر هذه المفاهيم لنفسه ويربطها بتاريخه وجغرافيته، ويلحقها بمنظومته الفكرية والفلسفية، بشكل يصور الحداثة وكأنها الغرب، وأن الغرب هو الحداثة، وعليه، فالحداثة بدأت من الغرب واليه تنتهي، أي أنها تشكلت على أساس المركزية الغربية، وقد بذل المستشرق الايرلندي الأصل (ديلاسي أوليري) في كتابه (الفكر العربي ومكانته في التاريخ)، جهدا لكي يبرهن على أن لا مكانة للفكر العربي الإسلامي في تاريخ الفكر الإنساني، وحاول أيضا أن يجد تأثيرات أجنبية من الثقافات الأوروبية يرجع إليها نشأة وتكون أبرز الأفكار والعطاءات التي عرفت بها الثقافة الإسلامية، بل انه يقول حتى علم التوحيد الإسلامي قد تحدد وتطور بواسطة منابع هيلينية.

وأنا في هذه العجالة لا أريد أن أتعرض لهذه المقولات المتطرفة، فهي تكشف عن زيفها بنفسها، وذلك لعدم موضوعيتها، ولكن ما يحز في النفس هو أن بعض المثقفين العرب ممن يرتدي ثوب النظرة الإسلامية قد تبنى عمليا هذه القراءات تحت ذريعة تعدد القراءات وحرية الفكر، فهؤلاء المثقفون يتعاطون مع تاريخ العالم بالطريقة التي دونها الغرب، والتي تنسجم مع رغباته وتصوراته الفكرية والفلسفية بالشكل الذي يلتقي مع مفهوم المركزية الغربية، فهذا الكاتب العربي (محمد سبيلا) في كتابه (جغرافيات الحداثة)، حينما يتحدث عن جغرافيات الحداثة، فانه يعتبر أوروبا هي مسقط رأس الحداثة ومرجعيتها. هذا ما يرتبط في جانب معين بمفهوم الحداثة الذي تشكل في القرن التاسع عشر، إلى أن جاء عصر ما بعد الحداثة في النصف الثاني من القرن العشرين، وهو ما زال يحتفظ بتأثيره وفاعليته، مع أن هويته لم تتحدد بعد بصورة واضحة، ولم يستجمع رؤيته الاجتماعية، ويكون له نسقه الفكري المتماسك، فالتشتت والغموض والتفتيت هي الملامح الغالبة عليه، بحيث يستعصي على التعريفات أو الحدود المنطقية، فتكون من قبيل التوصيفات العامة.

وبين محور الحداثة ومحور ما بعد الحداثة يتهافت أغلب المثقفين العرب، على سبيل المثال لا الحصر-  حيث انه يوجد الكثيرون- (محمد أركون) في كتابه (من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي)، نراه يطرح نقده الحاد والصارم للفكر الديني والتراث الإسلامي بالطريقة السجالية المعهودة في الغرب، فهو غالبا ما يصور نفسه وكأنه في نزاع وصدام مع الفقهاء والعلماء، فحينها يحق لنا أن نتساءل عن دافع هذه الحالة التصادمية من قبل أركون وأمثاله، وهل هذا ينسجم مع أخلاقيات الحوار، أوليس ذلك من حالات التحريم والإرهاب الفكري التي يناضلون من أجل اجتثاثها.؟!


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا