وقوع الطلاق بالكتابة.. وردّه

وقوع الطلاق بالكتابة.. وردّه

بسم الله الرحمن الرحيم وصلّى الله وسلّم على محمّد وآله.

قال في المسالك: "اتفق الأصحاب على عدم وقوع الطلاق بالكتابة للحاضر القادر على التلفُّظ، واختلفوا في وقوعه من الغائب، فذهب الأكثر -ومنهم الشيخ في المبسوط(1) والخلاف(2) مدَّعياً فيه الإجماع- إلى العدم أيضاً -إلى أن قال- وذهب الشيخ في النهاية(3) وأتباعه(4) إلى وقوعه من الغائب.."(5)، وهو الذي مال إليه في المسالك، واستقربه الفاضل السـبزواري (قدّس سرّه)(6)، والمحدِّث الكاشـاني (قدّس سرّه)(7)، وصـار أحـد

المعاصرين (رحمه الله) إلى وقوعه بالكابة وإن كان الكاتب حاضراً قادراً على التلفّظ(8)، هذه جمـلة الأقوال عندنا، وأما العامّة فجمهورهم على وقوع الطلاق بالكتابة مطلقاً، قال في المغني: "إذا كتب الطلاق فإن نواه طلُقت زوجته، وبهذا قال الشعبي والنخعي والزهري والحَكَم وأبو حنيفة ومالك، وهو المنصوص عن الشافعي، وذكر بعض أصحابه: أن له قولاً آخر أنه لا يقع به طلاق وإن نواه"(9)، وعلى أيّ حال فالبحث في هذه المسألة يستدعي رسم أمور تمهِّد لذلك، وهي كما يلي:

أولاً: في محلّ الكلام، وهو ما لو كتب بطلاق امرأته ناوياً له، كما لو كتب «فلانة طالق»، لا ما إذا تلفّظ به مع الشرائط ثم كتبه؛ إذ الكتابة حينئذٍ توثيق له، ولا ما إذا كتب به غير ناوٍ له أو إذا كتبه ناوياً ومعلّقاً إياه على بلوغ الكتاب؛ فإنه لا يقع وإن تلفّظ به غير ناوٍ له أو ناوياً وكان معلَّقاً فضلاً عما إذا كتبه كذلك.

ثانياً: لا شبهة ولا خلاف في وقوع الطلاق بالكتابة من الأخرس، وقد دلّت عليه صحيحة أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي نَصْرٍ الْبَزَنْطِيِّ أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا الْحَسَنِ الرِّضَا (عليه السلام) عَنِ الرَّجُلِ تَكُونُ عِنْدَهُ الْمَرْأَةُ يَصْمُتُ وَلا يَتَكَلَّمُ، قَالَ: «أَخْرَسُ هُو؟ قُلْتُ: نَعَمْ، وَيُعْلَمُ مِنْهُ بُغْضٌ لامْرَأَتِهِ وَكَرَاهَةٌ لَهَا، أَيَجُوزُ أَنْ يُطَلِّقَ عَنْهُ وَلِيُّهُ؟ قَالَ: لا، وَلَكِنْ يَكْتُبُ وَيُشْهِدُ عَلَى ذَلِك.. »‏(10).

ثالثاً: دلّت جملة من الروايات على اعتبار اللفظ في وقوع الطلاق، منها صحيحة مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) عَنْ رَجُلٍ قَالَ لامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ أَوْ بَائِنَةٌ أَوْ بَتَّةٌ أَوْ بَرِيَّةٌ أَوْ خَلِيَّةٌ. قَالَ: « هَذَا كُلُّهُ لَيْسَ بِشَيْ‏ءٍ، إِنَّمَا الطَّلاقُ أَنْ يَقُولَ لَهَا فِي قُبُلِ الْعِدَّةِ بَعْدَ مَا تَطْهُرُ مِنْ مَحِيضِهَا قَبْلَ أَنْ يُجَامِعَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ أَوِ اعْتَدِّي يُرِيدُ بِذَلِكَ الطَّلاقَ، وَيُشْهِدَ عَلَى ذَلِكَ رَجُلَيْنِ عَدْلَيْن» (11).‏

ومنها صحيحة الْحَلَبِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: «الطَّلاقُ أَنْ يَقُولَ: لَهَا اعْتَدِّي، أَوْ يَقُولَ لَهَا: أَنْتِ طَالِق»(12).‏

ومنها رواية الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَال: «الطَّلاقُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لامْرَأَتِهِ: اخْتَارِي، فَإنِ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَقَدْ بَانَتْ مِنْهُ، وَ إِنِ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَلَيْسَ بِشَيْ‏ءٍ، أَوْ يَقُولَ: أَنْتِ طَالِقٌ، فَأَيَّ ذَلِكَ فَعَلَ فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ.. » (13). وإنما عبّرنا عنها بالرواية؛ لجهالة الحسن بن زياد، وهو الصيقل الذي يروي عنه ابن مُسكان، وإن كان طريق الصدوق (قدّس سرّه) إلى ابن مسكان معتبراً.

ومنها ما في الكافي عن حُمَيْد بْن زِيَادٍ عَنِ ابْنِ سَمَاعَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ الطَّاطَرِيِّ قَالَ: الَّذِي أُجْمِعَ عَلَيْهِ فِي الطَّلاقِ أَنْ يَقُولَ: أَنْتِ طَالِقٌ أَوِ اعْتَدِّي، وَذَكَرَ أَنَّهُ قَالَ لِمُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ: كَيْفَ يُشْهِدُ عَلَى قَوْلِهِ: اعْتَدِّي؟ قَالَ: يَقُولُ: اشْهَدُوا اعْتَدِّي. قَالَ ابْنُ سَمَاعَةَ: غَلِطَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ أَنْ يَقُولَ: اشْهَدُوا اعْتَدِّي. قَالَ الْحَسَنُ بْنُ سَمَاعَةَ: يَنْبَغِي أَنْ يَجِي‏ءَ بِالشُّهُودِ إِلَى حَجَلَتِهَا أَوْ يَذْهَبَ بِهَا إِلَى الشُّهُودِ إِلَى مَنَازِلِهِمْ، وَهَذَا الْمُحَالُ الَّذِي لا يَكُونُ، وَلَمْ يُوجِبِ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ هَذَا عَلَى الْعِبَادِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَيْسَ الطَّلاقُ إِلا كَمَا رَوَى بُكَيْرُ بْنُ أَعْيَنَ أَنْ يَقُولَ لَهَا وَهِيَ طَاهِرٌ مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ: أَنْتِ طَالِقٌ، وَيُشْهِدُ شَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ، وَكُلُّ مَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ مُلْغى"‏(14).

وبعد رسم هذه الأمور نكون قد وطّئنا لبحث مسألتنا بمقتضى القواعد من أصل عملي وإطلاقات، ثم نتناول روايات الباب والمسألة.

مقتضى القاعدة:

مقتضى الأصل العملي-كما قيل- بقاء العقد، واستصحاب حكم الزوجية إلى أن يثبت المزيل(15). وهذا يصحّ بناءً على جريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة، وإلا فلا، بل قد يقال: إن استصحاب عدم سعة الإنشاء لعقد الزوجية بأكثر مما لو رجع وأبرز الفراق حاكمٌ على استصحاب الزوجيّة.

وفي بعض الكلمات أن مقتضى القاعدة بقطع النظر عن الروايات شمول الإطلاقات لكل أسلوب إنشائي يدلّ على إرادة الطلاق بشكل صريح أو على نحو الكناية في الجملة، وأن الكتابة فرد متعارف للعقلاء قديماً وحديثاً في الجاهلية والإسلام(16).

وهذا الكلام مؤلَّفٌ من مقدمتين صغرى وكبرى، ولعل ما في الجواهر في بيان الأصل يؤشّر إلى الكبرى المذكورة؛ إذ قال: "لا ريب في مشروعية الطلاق لرفعه[يعني النكاح]، فكان المتّجه زواله بتحقق مسمّاه الحاصل بإنشائه بكلّ لفظ دلّ عليه، لولا ما تعرفه من الأدلّة على اعتبار خصوص صيغة خاصَّة"(17).

ويلاحظ على الصغرى منهما -لو سلّمنا تماميّة الكبرى-: أنه لا شاهد على تعارف الكتابة كفردٍ للإنشاء في الأزمنة المعاصرة للمعصوم، وأن الغاية من عناية العقلاء بأمر كتابة العقود والإيقاعات والمعاهدات هي توثيق إنشاءاتها اللفظية، من قبيل ما تضمنته آية كتابة الدين(18) المستفاد منها الإرشاد إلى رجحان توثيق الدين(19).

ويلاحظ على الكبرى بأن الشأن كلَّه في إثبات وجود إطلاقات يحرز نظرها إلى جهة البحث، فمثل الآيتين:{ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ }(20)، و{الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ..}(21)- لا نظر فيه إلى ذلك، نعم لو وجدت إطلاقات فمقتضاها وقوع الطلاق بكلّ مبرز عرفاً له، والكتابة مبرز كذلك، وإن لم تكن فرداً متعارفاً في زمان النصوص، ودعوى انصراف المطلقات للأسباب المتعارفة مما لا شاهد عليها. 

والقول بشمول قوله (عليه السلام): «إنما الطلاق أن يقول: أنتِ طالق»لمثل الكتابة عرفاً(22) خلاف الظاهر؛ فإن مفردة (القول) وإن استعملت في التعبير عن المعنى وإن كان بالكتابة، إلا أن المعنى الذي وضعت له هذه المفردة، وهو ما يستبطن دلالةً على التلفُّظ هو المنصرف إليه عرفاً، بحيث يحتاج غيره من المعاني التي استعملت فيه المفردة إلى عناية.

هذا كلّه بقطع النظر عن روايات المسألة.

روايات المسألة:

الرواية الأولى: صحيحة زُرَارَةَ قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ كَتَبَ إِلَى امْرَأَتِهِ بِطَلاقِهَا أَوْ كَتَبَ بِعِتْقِ مَمْلُوكِهِ وَلَمْ يَنْطِقْ بِهِ لِسَانُه. قَالَ: «لَيْسَ بِشَيْ‏ءٍ حَتَّى يَنْطِقَ بِه» (23).‏

وإضمارها لا يعيبها بعد أن كان مضمرها مثل زرارة الذي جلّ رواياته عن الإمام (عليه السلام) وإن اتفقت منه الرواية ندوراً عن غير الإمام، فيكون منصرف المسؤول منه هو الإمام (عليه السلام)، وهذه هي الضابطة بنظرنا في قبول المضمرات وعدمه بلا دخالة لجلالة الرواي وعدمها في القبول وعدمه.

الرواية الثانية: صحيحة زُرَارَةَ قَالَ: قُلْتُ لأَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) رَجُلٌ كَتَبَ بِطَلاقِ امْرَأَتِهِ أَوْ بِعِتْقِ غُلامِهِ، ثُمَّ بَدَا لَهُ فَمَحَاهُ. قَالَ: «لَيْسَ ذَلِكَ بِطَلاقٍ وَلا عتَاقٍ حَتَّى يَتَكَلَّمَ بِه» (24).

وهاتان الصحيحتان مما استدل به لمذهب المشهور من عدم وقوع الطلاق بالكتابة مطلقاً‏. وهناك محاولة للخدشة في ظهور الصحيحة الثانية في مطلوب المشهور، وذلك لوجهين:

الأول: دعوى أن السائل ليس ناوياً وعازماً على الطلاق؛ بدليل أنه كتب به ثم محاه.

الثاني: أن الكتابة لا تكون فعليّة إلا إذا صارت خطاباً، ووجِّهت إلى الطرف الثاني، وأن مجرد الكتابة لا يكون من مصاديق إنشاء الطلاق ما لم يبلغ ذلك إلى الزوجة ؛ فإن العقلاء لا يرتِّبون الأثر على الكتابة التي لم تصل إلى مرحلة الفعليّة(25).

ويلاحظ على الوجه الأول أنه إن كان المراد كون محو الطلاق مؤشِّراً على عدم إرادة الطلاق جدّاً- فيرد عليه أن محو الطلاق المكتوب لا يساوق عدم نيته له، بل قول السائل: (ثُمَّ بَدَا لَهُ) شاهد على إرادته الطلاق وعزمه عليه بكتابته. وإن كان المراد أن قوله (عليه السلام): «ليس ذلك بطلاق» ناظر لقول السائل: (ثم بدا له فمحاه)، أي أن السرّ في عدم كونه طلاقاً أنه محاه، لا أن السرّ كونه كتابةً لا لفظاً- فيرد عليه أن قوله (عليه السلام): «حتى يتكلّم به» ظاهر في أن المدار على التلفّظ، وحمل (حتى يتكلّم) على الاعتراف، أي حتى يقرّ ويعترف به خلاف الظاهر.

ويلاحظ على الوجه الثاني أنه لا دخالة لوصول الطلاق للزوجة في صحّته جزماً؛ إذ أنه بنفس الكتابة يحصل الإنشاء، ويعود الخطاب بعدها وثيقة عليه.

الرواية الثالثة: ما رواه المحمّدون الثلاثة (قدّس سرّهم) بأسانيد صحيحةٍ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَالِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) عَنْ رَجُلٍ قَالَ لِرَجُلٍ: اكْتُبْ يَا فُلانُ إِلَى امْرَأَتِي بِطَلاقِهَا، أَوِ اكْتُبْ إِلَى عَبْدِي بِعِتْقِهِ، يَكُونُ ذَلِكَ طَلاقاً أَوْ عِتْقاً؟ قَالَ: «لا يَكُونُ طَلاقاً وَلا عِتْقاً (طَلاقٌ وَلا عِتْقٌ) حَتَّى يَنْطِقَ بِهِ لِسَانُهُ أَوْ يَخُطَّهُ بِيَدِهِ، وَهُوَ يُرِيدُ الطَّلاقَ أَوِ الْعِتْقَ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُ بِالأَهِلَّةِ وَالشُّهُودِ(والشهور)، وَيَكُونُ غَائِباً عَنْ أَهْلِه» (26).‏

وهذه الرواية هي مستند قول الشيخ (قدّس سرّه) بوقوعه بالكتابة من الغائب في النهاية ومَنْ تبعه، فتكون مخصِّصة للصحيحتين الأولتين، وهذا أحد أوجه الجمع بينهما وبين الثالثة، بل تعدّى العلامة (قدّس سرّه) في المختلف قائلاً: "لا يقال: هذه الرواية مختصة بالغائب، والرواية الأولى مطلقة، والمقيّد مقدّم. لأنّا نقول: الغَيبة والحضور لا تأثير لهما في السببية، فإنّا نعلم أنّ اللفظ لمّا كان سبباً في البينونة استوى إيقاعه من الغائب والحاضر، وكذا الكتابة لو كانت سبباً لَتساوَى الحالان فيها"(27)، وتابعه فيه أحد المعاصرين (رحمه الله)(28).

ويلاحظ عليه ما أفاده في المسالك من أن ذلك "مصادرة محضة؛ لأن الخصم يدَّعي الفرق، ويحتجّ عليه بالخبر الصحيح، وهو الفارق بين الكتابة واللفظ المشترك في السببية بين الغائب والحاضر، فكيف يدّعى عدم تأثير الغيبة والحضور؟!"(29). وبعبارة أخرى: إن حمل قوله (عليه السلام): «وَيَكُونُ غَائِباً عَنْ أَهْلِه»على الفرض العرفي، بمعنى أن الإنسان إنما يقدم على الطلاق بالكتابة عادةً إذا كان غائباً عن أهله- منافٍ لأصالة الاحتراز، ومقتضاها أنه قيد شرعي.

ويويِّد ذلك أن مسألة عدم وقوع الطلاق بالكتابة من الحاضر قد أرسلت في كلمات الشيخ (رحمه الله) ومَنْ بعده إرسال المسلّمات، قال الشيخ (رحمه الله) في الخلاف: "إذا كتب بطلاق زوجته ولم يقصد بذلك الطلاق‏ لا يقع بلا خلاف، وإن قصد به الطلاق فعندنا أنه لا يقع به شي‏ء -إلى أن قال- دليلنا: إجماع الفرقة، وأيضا الأصل بقاء العقد"(30)، وقال في المبسوط: "وإذا تلفّظ به وكتبه وقع باللفظ، فإذا كتب ونوى ولم يتلفّظ به فعندنا لا يقع به شي‏ء إذا كان قادراً على اللفظ.."(31)، وقد نقل الاتفاق غير واحد، منهم الشهيد الثاني (قدّس سرّه) في المسالك(32)، والفاضل السبزواري (قدّس سرّه)(33).

فالمتحصّل عدم نهوض دليل على وقوع الطلاق بالكتابة من الحاضر.

جمع ثان:

وثمة مَنْ جمع بين الصحيحتين الأولتين وبين الثالثة بحمل الصحيحتين على فرض ما إذا لم يقصد الطلاق، بينما فرض الثالثة ما إذا أراد الطلاق وقصده(34)، بتقريب: أن قول السائل في الصحيحة الأولى: «كَتَبَ إِلَى امْرَأَتِهِ بِطَلاقِهَا وَلَمْ يَنْطِقْ بِهِ لِسَانُه»، وقولَه في الصحيحة الثانية: «كَتَبَ بِطَلاقِ امْرَأَتِهِ، ثُمَّ بَدَا لَهُ فَمَحَاهُ» يعمّان صورتي قصد الطلاق وعدمه، فيقيدان بما اشتملت عليه الثالثة، وهو قوله (عليه السلام): «لا يَكُونُ طَلاقاً(طلاقٌ) حتى يَخُطَّهُ بِيَدِهِ، وَهُوَ يُرِيدُ الطَّلاقَ».

ويلاحظ عليه:

أولاً: إنّ هذا الحمل يستلزم إخراج الفرد الأجلى من تحت الإطلاق، وهو فرض ما إذا أراد بالكتابة الطلاق، والإبقاء على الفرد الأخفى تحته، وهو أمر مستهجن عرفاً.

وثانياً: إنّ قوله (عليه السلام) في الصحيحة الأولى: «لَيْسَ بِشَيْ‏ءٍ حَتَّى يَنْطِقَ بِه»، وفي الصحيحة الثانية: «لَيْسَ ذَلِكَ بِطَلاقٍ حَتَّى يَتَكَلَّمَ بِه» ظاهر في أن عدم صحّة الطلاق مستند إلى عدم النطق والتكلّم، بلا فرق بين كونه قد نوى أو لم ينوِ، وحاضراً كان أو غائباً، وقد لفت إليه في الحدائق(35). وبعبارة أخرى إن تعليل انتفاء الأثر بانتفاء الشرط إنما يصحّ عرفاً في فرض وجود المقتضي، فلو كان المقتضي مفقوداً لما صحّ عرفاً التعليل بانتفاء الشرط، فلو لم يكن قصد الطلاق موجوداً لكان الطلاق منتفياً بانتفاء مقتضيه، فلا وجه لتعليل البطلان بانتفاء الشرط، وهو الكتابة.

فالمناسب هو الجمع الأول، ولكن قد يمنع من المصير إليه أمور أو بعضها:

الأول: إن المقيِّد للصحيحتين -وهو ما رواه الحسن بن محبوب عن أبي حمزة الثمالي- ضعيف بالإرسال؛ فإن ابن محبوب لا يمكن أن يروي عن أبي حمزة الثمالي؛ وذلك لأن وفاة الثمالي كانت سنة خمسين ومائة بنصِّ الشيخين النجاشي والطوسي(36)، وكانت هذه السنة أو قريباً منها هي سنة ولادة ابن محبوب؛ فإن وفاة ابن محبوب كانت في آخر سنة أربع وعشرين ومأتين، وكان من أبناء خمس وسبعين سنة بنصِّ الشيخ الكشي (رحمه الله)(37)، وعليه فكيف يعقل أن يروي هو عن الثمالي بلا واسطة. نعم لو كان ما نقله الكشي بقوله: "ومات الحسن بن محبوب في آخر سنة أربع وعشرين ومائتين، وكان من أبناء خمس وسبعين سنة.."- جزءاً من الرواية السابقة على هذا النقل لرفضناه؛ لأن الكشي يرويها عن علي بن محمّد القتيبي عن جعفر بن محمّد بن الحسن بن محبوب، وجعفر هذا مجهول. ولكن الظاهر أنه كلام الكشي، فشبهة الإرسال قائمة.

الأمر الثاني: إن صحيحة أبي حمزة الثمالي وإن كان قد رواها المحمّدون الثلاثة، إلا أنها مما أعرض عنها المشهور، ولم يعملوا بمضمونها، ومثل هذا الإعراض موجب للظن النوعي على خلافها، فلا يتناول هذه الصحيحة أدلة حجية خبر الواحد؛ فإن المختار كون الحجّة من خبر الواحد هو خبر الثقة الذي لم يقم ظن نوعي على خلافه.

ويلاحظ عليه: إنه لما كان من المحتمل قريباً في إعراض المشهور عن العمل بالصحيحة توهُّم كونها معارضة للصحيحتين الأولتين، ولو بعد ضمِّ ما دلّ على حصر محقِّق الطلاق في الصيغة اللفظية (أنت طالق)، وهو صحيحة ابن مسلم المتقدِّمة- فلا يكشف الإعراض والحال هذه عن كونه لمنشأ يرجع إلى ناحية صدور الصحيحة، بل المنشأ أمر اجتهادي صناعي، فلا يعيب مثل هذا الإعراض بالصدور، فتتناول الصحيحة أدلّة حجية خبر الواحد. نعم لو قلنا بأن موضوع الحجّيّة هو الوثوق فمجرد احتمال الإعراض مانع من الوثوق.

أوقعوا الطلاق بالكتابة كالكناية؛ لأنها أحد الخطابين، وأحد اللسانين المعربين عما في الضمير، ونحو ذلك من الاعتبارات التي لا توافق أصول الإمامية(38).

ويلاحظ عليه -مضافاً إلى اشتمالها على ما يخالف العامّة من أمر اشتراط الشهود في صحّة الطلاق(39)- أن الموافقة للعامّة إنما تؤذن بتقديم المخالف لهم على تقدير استقرار المعارضة، والحال أن ما نحن فيه من موارد الجمع العرفي.

الأمر الرابع: ما في الجواهر أيضاً من شذوذ صحيحة الثمالي حتى من القائل بوقوع الطلاق بالكتابة؛ لعدم اعتباره الكتابة بيد المطلِّق على وجه لا يجوز له التوكيل(40).

ويلاحظ عليه أن القائل بوقوع الطلاق بالكتابة إما مصرِّح باعتبار الكتابة بيد المطلِّق بنحو لا يجوز فيها التوكيل كالشيخ في النهاية(41)، وإما غير متعرِّض إلى شرطية المباشرة وعدمها كابن حمزة في الوسيلة(43)، والفاضل السبزواري في كفايته(42) فلاحظ، فلا يعود مضمون الصحيحة شاذّاً.

الأمر الخامس: ما في الحدائق من أن الذي عهد من الشارع في أبواب العقود والإيقاعات والإقرارات ونحوها إنما هو الألفاظ والأقوال الدالّة على هذه المعاني دون مجرد الكتابة، ولهذا لم يجوّزها أحد بالكتابة، ويبعد اختصاص الطلاق بهذا الحكم؛ لعدم ظهور خصوصيّة له بذلك‏(44).

ويرد عليه حلاً: أنه لا محلّ للاستبعاد المذكور بعد ورود النصّ الصحيح في الطلاق بالخصوص دون غيره، بل إنّ هذا منه على خلاف ذائقته المعروفة.

وقد أورد عليه نقضاً: بأن المشهور اعتبار الماضوية في صيغ العقود، بينما اختصّ الطلاق بلزوم كونه بالجملة الاسميّة بالاتفاق(45).

ويلاحظ على هذا النقض -مضافاً إلى أنه لا اتفاق على لزوم كون الطلاق بالجملة الاسمية، فقد قيل بوقوعه بمادّة الطلاق وإن كانت في ضمن جملة فعلية، كما سيأتي- أن اعتبار الماضوية في سائر العقود والإيقاعات دون الطلاق ليست ميّزة لها عليه، بخلاف عدم كفاية الكتابة فيها دونه؛ فإنها ميّزة لها عليه، فيحق آنئذٍ لصاحب الحدائق (رحمه الله)أن يستبعد اختصاص الطلاق بهذا الحكم.

الأمر السادس: ما في بعض الكلمات من أمر الأولويّة؛ فإنه لا يصحّ الطلاق بما هو أقوى من الكتابة كـقول الزوج: (أنتِ مطلّقة) أو (أنتِ طلاق) أو غيرهما من الألفاظ، فلا يجوز الاكتفاء بالكتابة مع القدرة(46).

ويلاحظ عليه بأن المقيس عليه -وهو عدم صحة الطلاق بمثل (أنتِ مطلّقة) أو (أنتِ طلاق)- غير مسلّم؛ نعم هو رأي المشهور، وإلا فقد ذهب أحد الأعاظم (قدّس سرّه) إلى صحّة إيقاعه بما ذكر، بل بما كان بنحو الجملة الفعليّة كـ(طلّقت فلانة) أو (طلّقتكِ)(47)، ولعلّه لأجل أن ما دلّ على الحصر إنما هو في مقابل ما لا يشتمل على مادّة الطلاق.

ولكن يمكن تقرير الأولوية بنحو لا يرد عليه ما ذكر فنقول: إذا لم يصحّ بما هو أقوى من الكتابة كـقول الزوج: (أنتِ مسرَّحة) أو (سرَّحتكِ) أو (أنتِ مفارَقة) أو (فارقتكِ) فلا يصح بالكتابة من القادر.

ويلاحظ على هذه الأولوية المدّعاة أولاً: إنه بعد ورود النص الصحيح بوقوع الطلاق بالكتابة من الغائب فلا بدّ من تقييد ما ظاهره حصر محقِّق الطلاق في قول: (أنت طالق).

وثانياً بالنقض: فإنه قد دلّت صحيحتا محمّد بن مسلم والحلبي على وقوع الطلاق بالكناية، وهو أن يخاطبها بـ(اعتدّي)، بينما كتابة (أنتِ طالق) أصرح منها، نعم الصحيحتان محلّ إعراض المشهور في جزئيّة (اعتدّي).

فالمتحصّل أنه وإن اندفع أغلب المناقشات عمَّا رواه الثمالي إلا أن شبهة إرسال ابن محبوب عنه ظلت قائمة، فلا مقيّد لإطلاق صحيحتي زرارة في منع إيقاع الطلاق بالكتابة وإن كان المطلّق غائباً.

والحمد لله أولاً وآخراً، وصلّى الله على محمّد وآله.

 

* الهوامش:

(1) المبسوط في فقه الإمامية5: 28.

(2) الخلاف4: 469.

(3) النهاية في مجرد الفتوى: 511.

(4) وهو ابن حمزة (قدّس سرّه) في الوسيلة: 323، وابن البرّاج (قدّس سرّه) في الكامل على ما حكاه عنه في المختلف7: 346، ولكنه وافق الأكثر في المهذّب2: 277 قائلاً: "وإذا كتب بطلاقها ولم يتلفّظ به ولم ينوه لم يقع طلاق، فان تلفّظ به وكتبه، وقع باللفظ إذا كان معه النية للفُرقة، فإن كتب ونوى ولم يتلفّظ بذلك لم يقع به طلاق، هذا إذا كان قادراً على اللفظ..".

(5) مسالك الأفهام9: 70- 71.

(6) كفاية الأحكام2: 328.

(7) مفاتيح الشرائع2: 316.

(8) لاحظ فقه الشريعة3: 579 م 889، أحكام الشريعة: 502 م1462، فقه الطلاق وتوابعه1: 161 للسيّد محمّد حسين فضل الله (رحمه الله).

(9) المغني لابن قدامة8: 412، ومثله في الشرح الكبير لابن قدامة الآخر8: 281- 282.

(10) وسائل الشيعة22: 47 ب19 من أبواب مقدّمات الطلاق ح1.

(11) وسائل الشيعة22: 42 ب16 من أبواب مقدّمات الطلاق ح3.

(12) وسائل الشيعة22: 42 ب16 من أبواب مقدّمات الطلاق ح4.

(13) وسائل الشيعة22: 43 ب16 من أبواب مقدّمات الطلاق ح7.

(14) الكافي6: 70 (ك الطلاق- باب ما يجب ان يقول من أراد ان يطلِّق ح4).

(15) مسالك الأفهام9: 70.

(16) فقه الطلاق وتوابعه: 157، تقرير بحث السيّد محمّد حسين فضل الله (رحمه الله)، بقلم الشيخ محمّد أديب قبيسي.

(17) جواهر الكلام32: 56.

(18) سورة البقرة: 282.

(19) لاحظ للمزيد كتاب (بحوث فقهيّة هامّة) للشيخ ناصر مكارم الشيرازي (دام ظله)، ففيه رسالة في جواز الإنشاء بالكتابة في العقود والإيقاعات‏:95- 125 من الكتاب، وبالخصوص ص107-108.

(20) سورة الطلاق: 1.

(21) سورة البقرة: 329.

(22) فقه الطلاق وتوابعه: 157.

(23) وسائل الشيعة22: 36 ب14 من أبواب مقدّمات الطلاق ح1.

(24) وسائل الشيعة22: 36 ب14 من أبواب مقدّمات الطلاق ح2.

(25) فقه الطلاق وتوابعه: 158- 159.

(26) وسائل الشيعة22: 37 ب14 من أبواب مقدّمات الطلاق ح3.

(27) مختلف الشيعة7: 348.

(28) فقه الطلاق وتوابعه1: 160.

(29) مسالك الأفهام9: 73.

(30) الخلاف4: 469 م29.

(31) المبسوط5: 28.

(32) مسالك الأفهام9: 70.

(33) كفاية الأحكام2: 327.

(34) فقه الطلاق وتوابعه1: 160.

(35) الحدائق الناضرة25: 214- 215.

(36) رجال النجاشي: 115 (296)، رجال الطوسي: 110 (1083)، 174 (2047).

(37) اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي)2: 851. واحتمال تصحيفها عن (خمس وتسعين) لتقارُب (سبعين) و(تسعين) خطَّاً- يدفعه اتفاق نسخ كتاب الكشي على (وسبعين)، وكذا تطابق ما نقل عنه معه كخلاصة العلامة (قدّس سرّه)(: 37(1))، ورجال ابن داود(: 116 (459)).

(38) جواهر الكلام 32: 63.

(39) قال في فقه السنة2: 257- 258 تحت عنوان: (الإشهاد على الطلاق) "ذهب جمهور الفقهاء من السلف والخلف إلى أن الطلاق يقع بدون إشهاد -إلى أن قال- وخالف في ذلك فقهاء الشيعة الإمامية فقالوا: إن الإشهاد شرط في صحَّة الطلاق، واستدلوا بقول الله سبحانه في سورة الطلاق: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ}. فذكر الطبرسي: أن الظاهر أنه أمر بالإشهاد على الطلاق، وأنه مروي عن أئمة أهل البيت رضوان الله عليهم أجمعين، وأنه للوجوب وشرط في صحة الطلاق. وقال تحت عنوان: (من ذهب إلى وجوب الاشهاد على الطلاق وعدم وقوعه بدون بيِّنة) وممن ذهب إلى وجوب الإشهاد واشتراطه لصحَّته من الصحابة -أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وعمران بن حصين رضي الله عنهما، ومن التابعين: الإمام محمد الباقر والإمام جعفر الصادق وبنوهما أئمة آل البيت رضوان الله عليهم، وكذلك عطاء وابن جريج وابن سيرين رحمهم الله".ولاحظ بقيّة كلامه؛ فإنه لا يخلو من عائدة.

(40) جواهر الكلام 32: 63.

(41) النهاية في مجرد الفتوى: 511.

(42) الوسيلة إلى نيل الفضيلة: 323.

(43) كفاية الأحكام2: 327- 328.

(44) الحدائق الناضرة25: 214.

(45) فقه الصادق22: 417.

(46) تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة(ك الطلاق): 45.

(47) منهاج الصالحين للإمام الحكيم2: 312 (الفصل الأول م 7)، ووافقه السيّد الهاشمي (دام ظله) في منهاجه2: 410 م 1429.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا