المعروف من مسلك علمائنا المحدثين الأخباريين رضوان الله تعالى عليهم هو صحة أحاديث الكتب الأربعة ونظيراتها، وقد تقدم في العدد الثامن عشر من المجلة وجوه صحة الأحاديث المقتبسة من كلمات المحقق البحراني صاحب الحدائق رضوان الله تعالى عليه، والغرض من المقال هنا التعرض لبعض مناقشات العلماء حول تلك الوجوه:
جواب الوجه الأول:
مفاد الوجه الأول أن الحكم بحجية أحاديث الكتب الأربعة ونظيراتها إنما هو للعلم بصدورها، لكن هذه النتيجة لا يمكن الوصول إليها لعدة أمور:
الأول: يتحقق العلم بصدور الحديث فيما إذا بلغ الحديث حد التواتر، وأصحاب الأئمة(عليهم السلام) وإن بذلوا غاية جهدهم واهتمامهم في حفظ الحديث عن الضياع والاندراس حسبما أمرهم به الأئمة(عليهم السلام)، لكن ظرفهم المحيط بهم ظرف اضطهاد وتقية ولم يتمكنوا من نشر الأحاديث علنا، فلا تبلغ هذه الأحاديث حد التواتر أو قريبا منه(1).
الثاني: على فرض تواتر الأصول والكتب الواصلة إلى المحمدين الثلاثة فإن غاية ما يستفاد من هذا التواتر هو واقعية نسبتها إلى أصحابها وصدورها عن أربابها، ولا يلزم من ذلك العلم الوجداني بصدور أحاديثها جميعا عن المعصومين(عليهم السلام)؛ لأن أرباب الأصول والكتب لم يكن كلهم من الثقات، فيحتمل فيهم الكذب، وإذا كان صاحب الأصل لا يحتمل في حقه الكذب فيحتمل فيه السهو والاشتباه.
وعلى فرض أن صاحب الأصل لا يحتمل فيه الكذب ولا السهو والاشتباه فيحتمل ذلك في من يروي الأصل والكتاب إذ أن من يروي الكتب والأصول فيهم الثقات وفيهم غير الثقات والطائفة آنذاك إنما أجمعت بقبول رواية الثقة لأصول أصحاب الأئمة(عليهم السلام) وكتبهم، ولذا قال الشيخ الطوسي: «والذي يدل على ذلك إجماع الفرقة المحقة، فإني وجدتها مجمعة على العمل بهذه الأخبار التي رووها في تصانيفهم ودونوها في أصولهم، لا يتناكرون ذلك ولا يتدافعونه حتى أن واحدا منهم إذا أفتى بشيء لا يعرفونه سألوه من أين قلت هذا؟ فإذا أحالهم على كتاب معروف، أو أصل مشهور، وكان راويه ثقة لا ينكر حديثه سكتوا وسلموا الأمر في ذلك وقبلوا قوله» (2).
فالطائفة علقت قبول روايات الكتب المعروفة والأصول المشهورة على كون الراوي لها من الثقات، مما يدل على أن الكتب المعروفة والأصول المشهورة لم تكن قطعية الصدور، وإنما تكون مقبولة إذا كان رواتها من الثقات لوضوح حجيتها حينئذ(3).
الثالث: إن الأصول والكتب المعتبرة على فرض أنها مشهورة ومعروفة إلى زمن المحمدين الثلاثة، فإنما هي كذلك على الإجمال إذ ليست كل نسخة منها معروفة ومشهورة، وإنما ينقلها واحد إلى آخر قراءة أو سماعا أو مناولة مع الإجازة في روايتها، فما وصل إلى المحمدين الثلاثة إنما وصل عن طريق الآحاد ولذا أشار الشيخ الصدوق بعد مقدمته في من لا يحضره الفقيه، إلى أن له طرق إلى الأصول والكتب المشهورة معينة ومحددة، وبذلك لا يحصل العلم الوجداني بصدور أحاديثها من المعصومين(عليهم السلام)(4).
الرابع: قد دلَّت جملةٌ من الأخبار على وقوع الدس في أصول الأصحاب وكتبهم في الجملة، وعرض الكتب إنما هو في قليل من تلك الأصول، وكون الكتب الأربعة أو نظيراتها مأخوذة من الكتب المعروضة فحسب غير معلوم، بل المعلوم على خلافه، وحصول العرض لبعض الكتب لا يلزم منه الاطمئنان بحصول العرض لجميعها(5).
مناقشة الجواب
جواب الوجه الأول بالأمور المتقدمة لا يخلو من مناقشة، فأما الأمر الأول: فإنه لا ينحصر العلم بصحة الحديث على تواتره، بل قد يحصل العلم به من جهة احتفافه بالقرائن، والظاهر من دعوى صاحب الحدائق أن العلم بصحة الأحاديث لا من جهة تواترها وإنما من جهة القرائن الحالية لطريقة أصحابنا لنقل الرواية.
وأما الأمر الثاني: إن دعوى صاحب الحدائق لا تنحصر بكون أن مصادر الكتب الأربعة ونظيراتها من الكتب المشهورة والمعروفة بل دعواه تشمل كون تلك الكتب منقحة من الأحاديث المكذوبة، وأما إمكان تحقق الاشتباه في ضمن بعض أحاديثها لا ينافي العلم بأصل صدورها، ونفي الاشتباه ببعض الجزئيات بعد العلم بأصل الصدور ممكن بالأصل والقواعد الشرعية والعقلائية إن لم تكن قرينة على إثبات الاشتباه.
وأما كون أصحابنا لا يسلمون العمل بروايات الكتب المعروفة إلا إذا كان الراوي لها ثقة لا ينافي اشتمال أسانيد روايات تلك الكتب على غير الموثقين إذا كان الراوي للكتاب من الثقات، نعم قد يُشكل بعدم إثبات رواية الثقات لجميع الأصول والكتب المعروفة والمشهورة.
وأما الأمر الثالث: فلا يرد بناء على اختيار ما تبناه العلامة المجلسي (قدّس سرّه) من أن الطرق التي ذكرها المحمدون إنما هو من باب التيمن والتبرك لأن شهرة الكتب والأصول الواصلة إليهم تُغني عن ذلك، ومما يدل على ذلك ما ثبت من وجود بعض الطرق الأخرى إليهم في جملة من الموارد إلى بعض الكتب، ولذا قال في شرح الحديث الخامس والثلاثين من كتابه الأربعين: «إن الظاهر أن هذا الخبر مأخوذ من كتب ابن أبي عمير كما لا يخفى على من له أدنى تتبع، وكتب ابن أبي عمير كانت أشهر عند المحدِّثين من أصولنا الأربعة عندنا، بل كانت الأصول الأربعمائة عندهم(6) أظهر من الشمس في رائعة النهار، فكما أنا لا نحتاج إلى سند لهذه الأصول الأربعة، وإذا أوردنا سندا فليس إلا للتيمن والتبرك والاقتداء بسنة السلف، وربما لم نبال بذكر سند فيه ضعف أو جهالة لذلك، فكذا هؤلاء الأكابر من المؤلفين، لذلك كانوا يكتفون بذكر سند واحد إلى الكتب المشهورة، وإن كان فيه ضعف أو مجهول، وهذا باب واسع شاف نافع إن أتيتها يظهر لك صحة كثير من الأخبار التي وصفها القوم بالضعف»(7).
ثم أورد بعض الشواهد مما يراه دليلا على صحة كلامه أعلى الله مقامه(8)، وظاهر صاحب الحدائق أنه على منواله لتأكيده اشتهار الكتب التي وصلت إلى المحمدين الثلاثة كما تقدم، واستقرب شيخنا مسلم الداوري كلام المجلسي بعد أن جعله احتمالا يشمل المحمدين الثلاثة حيث ثبت لديه أن للشيخ الطوسي طرقاً أخرى إلى بعض الروايات والكتب، ولم يذكرها في المشيخة ولا في الفهرست فكيف لا تكون للكليني (قدّس سرّه) مثلا مع أنّه أقدم زماناً وأكثر شيوخاً وأكثر اشتغالاً بهذا الأمر(9)؟
لكن قد ناقش جملة من المحققين من علمائنا كلام العلامة المجلسي منهم السيد بحر العلوم (قدّس سرّه) من جهة سيرة العلماء -إلا من شذ- بالاعتناء بالصحة المصطلحة في الدراية للأسانيد الواردة في كتب الحديث، ومن جهة ما يظهر من كلام الشيخ الصدوق والشيخ الطوسي من انحصار الباعث لذكر الأسانيد في المشيخة هو الاختصار لا لأجل عدم الحاجة لذكرها، ثم بالغ في رد تواتر الكتب والأصول جميعها عند المحمدين الثلاثة، بل حتى على فرض تواترها فإن اختلاف الأحاديث في ضمنها زيادة ونقيصة وكثرة تغاير ألفاظها ومعانيها مما يدل على الحاجة إلى مراجعة أسانيدها، كما أن الراوي الذي يبدأ به الشيخ الصدوق في الرواية وذكر طريقه إليه في المشيخة لا يعني دائما أن الشيخ الصدوق عنده كتاب ذلك الراوي، إذ قد يكون نقلَ الحديث من كتاب ممن تأخر عنه ونسبه إليه اعتمادا على الكتاب المتأخر. ونص عبارة السيد بحر العلوم في رد العلامة المجلسي: «ويضعف هذا القول إطباق المحققين من أصحابنا والمحصلين منهم على اعتبار الواسطة والاعتناء بها، وضبط المشيخة وتحقيق الحال فيها والبحث عما يصح وما لا يصح منها، وقدحهم في السند بالاشتمال على ضعيف أو مجهول..
ومقتضى كلام الشيخين في الكتب الثلاثة أن الباعث على حذف الوسائط قصد الاختصار مع حصول الغرض بوضع المشيخة، لا عدم الحاجة إليها -كما قيل- وإلا لما احتيج إلى الاعتذار عن الترك، بل كان الذكر هو المحتاج إلى العذر، فإنه تكلف أمر مستغنى عنه على هذا التقدير وقد صرح الشيخ في مشيخة التهذيب: بأن إيراد الطريق لإخراج الأخبار بها عن حد المراسيل وإلحاقها بالمسندات، ونص فيها وفي مشيخة الاستبصار على أن الوسائط المذكورة طرق يتوصل بها إلى رواية الأصول والمصنفات. وفي كلام الصدوق ما يشير إلى ذلك كله، فلا يستغنى عن الوسائط في أخبار تلك الكتب، ودعوى تواترها عند الشيخ والصدوق كتواتر كتبهما -عندنا- ممنوعة، بل غير مسموعة كما يشهد به تتبع الرجال والفهارست والظن بتواترها -مع عدم ثوبته- لا يدخلها في المتواتر، فإنه مشروط بالقطع، والقطع بتواتر البعض لا يجدي مع فقد التمييز، وكون الوسائط من شيوخ الإجازة فرع تواتر الكتب، ولم يثبت...
على أنا لو سلمنا تواتر جميع الكتب، فذلك لا يقتضي القطع بجميع ما تضمنته من الأخبار فردا فردا، لما يشاهد من اختلاف الكتب المتواترة في زيادة الأخبار ونقصانها، واختلاف الروايات الموردة فيها بالزيادة والنقيصة، والتغييرات الكثيرة في اللفظ والمعنى، فالحاجة إلى الواسطة ثابتة في خصوص الأخبار المنقولة بألفاظها المعينة، وإن كان أصل الكتاب متواترا.
وأيضا فالاحتياج إلى الطريق إنما يرتفع لو علم أخذ الحديث من كتاب من صدر الحديث باسمه، وهذا لا يفهم من كلام الصدوق (رحمه الله) فإنه إنما دل على أخذ الأحاديث من الكتب المشهورة التي عليها المعول وإليها المرجع، وهو غير الأخذ من كتاب الراوي الذي بدأ بذكره -كما ذكره الشيخ- ومن الجائز أن يكون قد أخذ الحديث من كتاب من تأخر عنه ونسبه إليه، اعتمادا على نقله له من كتابه، ثم وضع المشيخة ليدخل الناقل في الطريق ويخرج عن عهدة النقل من الأصل، والاعتماد على الغير شائع معروف كثير الوقوع...الخ»(10).
وممن ناقش الشواهد التي ذكرها العلامة المجلسي (قدّس سرّه) على كلامه أبو المعالي الكلباسي(11)، وأبو الهدى الكلباسي غير أنه قال: «أن غاية ما يقتضيه التأمل والتتبع، تواتر كثير من هذه الكتب، دون تواترها على الإطلاق ولا نفي تواترها كذلك» (12).
وكيف كان فإن إجماع الطائفة باعتبار الكتب والأصول الواصلة إلى المحمدين الثلاثة -إذا ثبت- يفضي بالوثوق بصحة نسبتها إلى أصحابها، واختلاف بعض نصوص الأحاديث في إجمالي تلك الكتب والأصول بالزيادة أو النقيصة فيمكن تنقيحها من خلال دراسة نصوص تلك الأحاديث وأسانيدها في مواردها من غير أن ينافي ذلك العلم بصحة نسبة أصل الكتب التي اعتمد عليه المحدث إلى أصحابها، وكذلك الأحاديث المتعارضة ففي خصوص موردها تُجرى قواعد التعادل والتراجيح من غير أن يلزم ما ينفي العلم بنسبة بعض الكتب إلى أصحابها، وعدم ذكر طرق متواترة إليها لا ينافي الوثوق بنسبتها إلى أصحابها من خلال اعتماد الطائفة عليها.
أما الوجه الثاني لصاحب الحدائق فأجيب عليه بـ:
أولاً: إن الأئمة سلام الله عليهم قد نصبوا طريقاً للاعتماد على ما يُنقل عنهم بتقريرهم سيرة العقلاء بترتيب الأثر على خبر الثقة، والضياع إنما يتحقق مع عدم نصب طريق لأخذ الأحاديث في حالة الشك في صدورها، وأما مع نصب الطريق ولو كان طريق الثقات فحينئذ لا ضياع لتعاليم الأئمة(عليهم السلام)، وقد وردت مجموعة من الأخبار تفيد تقرير الأئمة(عليهم السلام) للسيرة العقلائية في الاعتماد على خبر الثقة فمنها ما يلي:
1) عن أحمد بن إسحاق عن أبي الحسن(عليه السلام) قال: «سألته وقلت: من أعامل؟ وعمن آخذ؟ وقول من أقبل؟ فقال: العمري ثقتي فما أدى إليك عني فعني يؤدي، وما قال لك عني فعني يقول. فاسمع له وأطع فإنه الثقة المأمون». قال: «وسألت أبا محمد عن مثل ذلك فقال: العمري وابنه ثقتان فما أديا إليك عني فعني يؤديان، وما قالا لك فعني يقولان، فاسمع لهما وأطعهما فإنهما الثقتان المأمونان»(13).
2) عن عبد العزيز ابن المهتدي والحسن بن علي بن يقطين جميعا عن الرضا(عليه السلام) قال: «قلت لا أكاد أصل إليك أسألك عن كل ما احتاج إليه من معالم ديني أفيونس بن عبد الرحمان ثقة آخذ منه ما احتاج إليه من معالم ديني؟ فقال: نعم»(14).
3) عن عبد العزيز بن المهتدي قال: قلت للرضا(عليه السلام) إن شقتي بعيدة فلست أصل إليك في كل وقت فأخذ معالم ديني عن يونس مولى آل يقطين؟ قال: نعم»(15).
4) عن علي بن المسيب الهمداني قال: «قلت للرضا(عليه السلام) شقتي بعيدة ولست أصل إليك في كل وقت فممن آخذ معالم ديني؟ قال: من زكريا بن آدم القمي المأمون على الدين والدنيا»(16).
ثانياً: الظاهر أن أصحابنا المتقدمين إنما يريدون من الصحيح ما حصل الاطمئنان بصدوره بسبب عدة قرائن التي كانت مورد اعتمادهم(17)، وواضح أنه من باب اجتهادهم وفحصهم عن الأمارات، وما حصل لهم به الاطمئنان أو الظن عن طريق الحدس لا يصح لنا فيه تقليدهم»(18).
والقرائن التي اعتمدوا عليها لم تصل إلينا وعلى فرض أنها وصلت قد لا يتولد منها الاطمئنان على صدور الرواية(19).
وردَّ شيخنا مسلم الداوري الأمر الثاني من هذا الجواب مفصلا، وحاصل رده هو أن القرائن التي اعتمد عليها المتقدمون هي التي أخبر بها الشيخ الطوسي في العدة والاستبصار، من موافقة العقل، والقرآن، والسنة، والإجماع(20)، وهي مورد اعتماد عندنا أيضا، وعلى ذلك فتصحيح المتقدمين تصحيح عن حس لا حدس، فيصح عندنا ما صححوه من الأحاديث(21).
وأما الوجه الثالث لصاحب الحدائق فأجيب عليه:
أن أحاديث العرض وإن أفادت أن الروايات التي تخالف القرآن على نحو التباين لا يمكن أن تكون صادرة من المعصومين(عليهم السلام)، لكن لا يستفاد منها أن كل مدسوس من الروايات فهو يباين ظواهر القرآن الكريم بحيث يُعرف صدور كل حديث لم يباين ظواهر القرآن الكريم، فإن الأحاديث لا تنحصر بما يباين ظواهر القرآن وبما يوافقها، إذ أن ظاهر بعض الأحاديث لا يباين ظواهر القرآن ولا يوافقها، وما استعرضه من أمثلة لا تدل على حصر المدسوس بما هو معلوم من الغلو والغرائب.
وما دل على الأخذ بما وافق الكتاب لا يعني جعل الحجية للخبر الموافق بحيث تكون الموافقة للكتاب كافية في الحجية حتى لو كان الخبر من غير الثقة، بل الأمر بالأخذ بالموافق إرشاد إلى رفع المانع عن الحجية الناتج من مخالفة الخبر للكتاب، فلا يكون حجة إلا مع اجتماع شرائط الحجية الأخرى فيه(22).
وأما الوجه الرابع لصاحب الحدائق:
فأجاب الشيخ السبحاني بأن تلك الشهادات إنما هي عن حدس لا عن حس، فإن المشايخ لم يروا بأعينهم ولم يسمعوا بآذانهم صدور روايات كتبهم، وتنطق أئمتهم بها، وإنما انتقلوا إليه عن قرائن وشواهد جرتهم إلى الاطمئنان بالصدور، وهو إخبار عن الشيء بالحدس ولا يجري فيه أصالة عدم الخطأ ولا يكون حجة في حق الغير(23).
ورد هذا الجواب شيخنا مسلم الداوري مفصلا في كل شهادة من شهادة أصحاب الكتب الأربعة(24) وتقدمت الإشارة إلى مجملها.
وقد تعرض السيد حسن الصدر للجواب على ما أفاده صحاب الحدائق من شهادات بعض الأعلام على صحة الأحاديث، ووضح السيد أن ليس مراد الشهيدين الأول والثاني والشيخ البهائي من كلماتهم صحة جميع أحاديث الكتب الأربعة ونظيراتها، وبيان مردهم على ما يلي:
مراد الشهيد الأول: إن أقصى ما يستفاد من كلمات ذكرى الشهيد هو الاستدلال على أحقية مذهب الإمامية، وصحة ما ترجع إليه الإمامية من أحديث أهل البيت(عليهم السلام)، كما يرجع الحنفية في مذهبهم إلى أبي حنيفة، والشافعية إلى الشافعي، وكل فرقة إلى رأسها، بمقدمتين مسلمتين لا كلام فيها بين الناس:
إحداهما: إنه لا كلام في طهارتهم(عليهم السلام) وشرفهم وظهور عدالتهم.
الثانية: تواتر نسبة الشيعة إليهم(عليهم السلام)، والنقل عنهم(عليهم السلام)، ولا كلام في ظهور هذا -أيضا- بين أهل العلم، بل سائر الناس.
وأحقية المذهب في الجملة وثبوته متواتراً عن الأئمة(عليهم السلام)، لا يستلزم ثبوت كل حكم حكم، وتواتر كل خبر خبر، إلا ما تواتر على الخصوص، وكان مجمعا عليه فيما بين العلماء عنهم، أو كان من ضروريات مذهبهم. وهذا كما أن ثبوت أحقية هذا الدين، وتواتر نسبته إلى سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم لا يستلزم ثبوت كل حكم من أحكام المسلمين، وتواتر كل خبر من الأخبار، إلا ما أجمعوا عليه وكان من الضروريات، أو تواتر على الخصوص.
وبهذا البيان يُعلم عدم صحة حمل كلام الشهيد الأول على ما أراده صاحب الحدائق رضوان الله تعالى عليه(25).
مراد الشهيد الثاني: قول صاحب الحدائق رضوان الله تعالى عليه «ومن ذلك ما صرح به شيخنا الشهيد الثاني.. إلى آخره» أيضاً أخطأ في مراد الشهيد الثاني، لأن دعوى حصر ما جمعت منه هذه الجوامع الأربع في الأصول مما لم يدعه أحد، وكيف، وأنى؟، وتناول الشيخ والصدوق والكليني (رحمهم الله) من الكتب -ككتب الحسين بن سعيد وعلي بن مهزيار وغيرهما كما ستعرف- مما لا يسع أحد إنكاره، وإنما يريد الشهيد الثاني (رحمه الله) بالأخذ منها، الأخذ في الجملة، لأنه لم يؤخذ إلا منها، مع أن الكلام الذي يجري في الكتب جار في الأصول أيضا، إذ أقصى ما في الاعتماد في الجملة كأحقية هذا المذهب وهذا الدين، لا كل خبر خبر فيها. ومن راجع فهرست الشيخ وغيره من كتب الرجال عرف الأحقية ولم تخف عليه الطريقة(26).
مراد الشيخ البهائي: من قوله: «من أن جميع أحاديثنا إلا ما ندر تنتهي إلى أئمتنا الاثني عشر(عليهم السلام)، وهم ينتهون فيها إلى النبي(صلّى الله عليه وآله) فإن علومهم مقتبسة من تلك المشكاة» فإن أقصى ما في انتهاء الأخبار التي ترويها الإمامية إلى الأئمة الأطهار(عليهم السلام)، وانتهاء الأئمة(عليهم السلام) بتلك الأخبار إلى النبي(صلّى الله عليه وآله)، لما ثبت انتهاء الإمامية إلى الأئمة(عليهم السلام) في المذهب معين في الجملة، ولا يعني أن ذلك ثبوت الانتماء في كل خبر خبر. نعم إذا كان المراد من الانتهاء إليهم مجرد الرواية من غير أن يستلزم ثبوت صحة وتحقق النسبة فلا إشكال، لكن هذا لا يفيد غرض صاحب الحدائق رضوان الله تعالى عليه.
وقول الشيخ البهائي رضوا الله عليه «إلا ما ندر» يشير إلى ما يتفق نادراً من الرواية عن النبي(صلّى الله عليه وآله) من غير الأئمة(عليهم السلام)، كما قد يروي الصدوق (رحمه الله) ذلك(27)، أو ما يرسلوه عنه(صلّى الله عليه وآله) في كتب الاستدلال. وأين هذا من دعوى صحة جميع الأخبار، بل القطع بصدورها عن المعصوم(عليه السلام)؟ أم أين هذه الدعوى من اقتصار الشيخ البهائي في مشرق الشمسين على الصحاح؟(28).
النتيجة:
الوجوه التي ذكرها صاحب الحدائق في صحة الأحاديث الواردة في الكتب الأربعة ونظيراتها لا تخلو من مناقشة لدى الأعلام، غير أن الإنصاف أنها تفيد الاطمئنان بصحة كثير من روايات الكتب الأربعة على الإجمال، ونسبة المعلوم بالإجمال تتفاوت كثرته بحسب نسبة معرفة اعتماد علمائنا المتقدمين الأجلاء المحتاطين في الدين على مصادر الكتب الأربعة، فإن انحل المعلوم بالإجمال بما علمت حجيته بالتفصيل من خلال الأسانيد المصححة والنصوص المنقحة فهو، وإلا فإن مع العلم الإجمالي بصحة ما زاد على ما علم بالتفصيل حجيته فالوظيفة العمل على مقتضى قاعدة الاحتياط في بقية الأحاديث المتعلقة بالأحكام الإلزامية فيما إذا لم يتخلف مقتضى العمل بها بغير صحة إسنادها، ومع فقد الموانع.
* الهوامش:
(1) انظر معجم رجال الحديث للسيد الخوئي، ج1، ص22- 23.
(2) عدة الأصول، للشيخ الطوسي، ج1، ص337.
(3) معجم رجال الحديث، ج1، ص23- 24.
(4) المصدر السابق ص24-25.
(5) انظر توضيح المقال في علم الرجال للملا علي كني، ص64، دروس تمهيدية في قواعد علم الرجال، ص70.
(6) يعني المحدثين.
(7) كتاب الأربعين، ص509- 510.
(8) نفس المصدر ص510- 512.
(9) أصول علم الرجال بين النظرية والتطبيق، ج1، ص95.
(10) الفوائد الرجالية للسيد بحر العلوم، ج4، ص77- 80.
(11) الرسائل الرجالية لأبي المعالي الكلباسي، ج4، ص389- 392.
(12) سماء المقال لأبي الهدى الكلباسي، ج2، ص405- 414.
(13) الكافي، ج1، ص330، كتاب الغيبة للشيخ الطوسي، ص243، ح209، وسائل الشيعة، ج27، باب 11 من أبواب كتاب القضاء، ص136، ح4، الفصول المهمة في أصول الأئمة، ص589- 590، الأصول الأصيلة، ص51، بحار الأنوار، ج51، ص348.
(14) اختيار معرفة الرجال، ج2 ص784، ح935، وسائل الشيعة، ج27، ص147، ح33، الفصول المهمة، ص590، بحار الأنوار، ج2، ص251، ح67، الرسائل الرجالية للكلباسي، ج1، ص203، سماء المقال في علم الرجال، ج1، ص23.
(15) اختيار معرفة الرجال، ج2، ص779، ح910، وص785، ح938، رجال النجاشي، ص447، تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي، ج10، ص82، وسائل الشيعة، ج27، باب وجوب الرجوع في القضاء والفتوى إلى رواة الأحاديث، ص148، ح34- 35، بحار الأنوار، ج2، ص251، ح66.
(16) الاختصاص للشيخ المفيد، ص87، اختيار معرفة الرجال، ج2، ص858، ح1112، خلاصة الأقوال، ص150، رجال ابن داود، ص98، جامع الرواة، ج1، ص330، وسائل الشيعة، ج27، باب وجوب الرجوع في القضاء والفتوى إلى رواة الأحاديث، ص146، ح27، بحار الأنوار، ج2، ص251، ح68، مستدرك وسائل الشيعة، ج17، ص 313، ح21446.
(17) كليات علم الرجال الشيخ السبحاني، ص35.
(18) انظر توضيح المقال في علم الرجال، ص63- 64.
(19) انظر دروس تمهيدية في علم الرجال، ص71، ويمكن عد الوثاقة من القرائن التي كان يعتمد عليها القدماء وصلت إلينا عن طريق كتب الرجال، وأيضا يمكن عد الشهرة العملية للرواية قرينة أخرى ولكن في كونها تحقق الاطمئنان لوحدها خلاف مشهور بين الأصوليين.
(20) العدة في أصول الفقه، ج1، ص135، وص143-144، والاستبصار، ج1، ص3.
(21) أصول علم الرجال بين النظرية والتطبيق، ج1، ص96- 102، لكن كلام شيخنا فيه نظر وتأمل.
(22) بحوث في علم الأصول تقريرات درس الشهيد الصدر للسيد للهاشمي، ج7، ص327.
(23) كليات في علم الرجال للشيخ السبحاني، ص49- 50.
(24) أصول علم الرجال بين النظرية والتطبيق، ج1 ص72 إلى ص185.
(25) نهاية الدراية شرح وجيزة البهائي، للسيد حسن الصدر، ص126-127، وص136-137.
(26) نهاية الدراية، ص137.
(27) مثل ما رواه في من لا يحضره الفقيه، ج4، ص44، ح5855.
(28) نهاية الدراية، ص138.
0 التعليق
ارسال التعليق