الملخص:
(تعرَّض الكاتب إلى حكم الأذان والإقامة، مبيناً الاستدلال على القول بالوجوب كما ذهب إليه بعض الأعلام بستَّة طوائف من الرِّوايات، ثمَّ ذكر ما يخالفها، محاولاً الجمع بينهما وحل التَّعارض، ثمَّ ذكر أدلة أخرى على وجوب خصوص الإقامة متعرضاً لدلالتها ومناقشتها)
المقدِّمة
إنَّ رجحان كلٍّ من الأذان والإقامة ممَّا لا خفاء فيه،ويدلُّ عليه بعد التَّسالم بين عموم المسلمين الرِّوايات الَّتي بلغت حدّاً من الاستفاضة يغني عن النَّظر في أسانيدِها، حتَّى أنَّه قد ورد عن أمير المؤمنينg أنَّه قال: >قلنا: يا رسول الله، إنَّك رغَّبتنا في الأذان حتَّى خِفنا أن تضطَّرب عليه أُمَّتُك بالسُّيوف، فقال رسول اللهe: أمَا إنَّه لن يعدوَ ضعفاءكم<([1])؛ بل ذهب بعضُ الأعلام إلى القول بالوجوب فيهما، مستنداً في ذلك إلى عدد من الرِّوايات على طوائفَ كالآتي:
الطَّائفة الأولى: ما ورد في مقام بيان الوظيفة العمليَّة
الرِّواية الأولى: موثَّقة عمَّار بن موسى السَّاباطي عن أبي عبد اللهg قال: >إذا قمتَ إلى صلاة فريضة فأذِّن وأقِم، وافصِل بين الأذان والإقامة بقعود، أو بكلام، أو بتسبيح<([2]).
السَّند: ليس في سند الرِّواية من يتأمَّل فيه عَدا عمَّار بن موسى السَّاباطي لكثرة اشتباهه وعدم ضبطه -على ما قيل- غير أنَّه ثقة، ووقوعِ عدد من الفَطَحِيَّة في سلسلة رُواتِها لا يقدَح فيها؛ إذ لا يشترط أكثر من وثاقة الرَّاوي، وفساد العقيدة لا يتنافى إلَّا مع العدالة دونها.
الدَّلالة: وهذه الصَّحيحة لا قُصور في دلالتها على الوجوب إلَّا من جهة وحدة السِّياق بين قولهg: >فأذِّن وأَقِم<، وقولهg: >وافصل بين الأذان والإقامة<، فإنَّه يشكِّل قرينة على وحدة استعمال صيغة الأمر إمَّا في الطَّلب الاستحبابي على تقدير اتِّحاد الجُمل كما في قولك: اغتَسِل للجنابة والجمعة، وإمَّا في جامع الطَّلب على تقدير تغايِر الجمل كما في قولك: اغتسل للجنابة واغتسل للجمعة؛ وذلك -في حالة الاتَّحاد- لاستحالة استعمال الَّلفظ الواحد في غير معنى إمَّا عقلاً وإمَّا عقلائيَّاً لكونه خلاف الظَّاهر على مسلك الوضع، أو للابتلاء بالإجمال -في حالتي الاتِّحاد والتَّغاير- على مسلَكَي الوضع والإطلاق، لاحتمال قرينيَّة السِّياق المانعة من انعقاد الظُّهور في الوجوب والإطلاق.
وأمَّا على القول بأنَّ الصِّيغة موضوعة لجامعِ الطَّلب وأنَّ الوجوب والاستحباب أمران خارِجَان عن حريم المدلول الوضعي للصِّيغة، وأنَّهما حكمان عقليَّان منتزعان من الطَّلب وعدم التَّرخيص كما في الوجوب، أو الطَّلب والتَّرخيص في التَّرك كما في الاستحباب، فإنَّه لا إشكال -من جهة وحدة السِّياق- يرِدُ على الاستدلال بالصَّحيحة للوجوب.
الرِّواية الثَّانية: حسنة زرارة -بإبراهيم بن هاشم- عن أبي جعفرg -في حديث- قال: >إذا.. كان عليك قضاء صلوات فابدأ بأولهنَّ، فأذِّن لها وأقِم، ثمَّ صلِّها، ثمَّ صلِّ ما بعدها بإقامة إقامةٍ لكلِّ صلاة<([3]).
الدَّلالة: وهذه الحسنة ظاهرة في الوجوب، ولا يرِدُ عليها ما يرِدُ على السَّابقة من الإشكال بوحدة السِّياق.
الطَّائفة الثَّانية: ما ورد بلسان نفي الحقيقة
كما في موثَّقة عمَّار، قال: سمعت أبا عبد اللهg يقول: >لا بدَّ للمريض أن يؤذِّن ويقيم إذا أراد الصَّلاة ولو في نفسه إن لم يقدر على أن يتكلَّم به<، سُئل: فإن كان شديدَ الوجع؟ قال: >لا بدَّ من أن يؤذِّن ويقيم؛ لأنَّه لا صلاة إلا بأذان وإقامة<([4]).
الدَّلالة: وهذه الرِّواية في صدرها >لا بدَّ للمريض أن يؤذِّن ويقيم ولو كان شديدَ الوَجع< دلالة على الوجوب لغير المريض بالفحوى، وفي ذيلها >لا صلاة إلا بأذان وإقامة< دلالة على الوجوب الغيري في كلٍّ منهما، وهما إمَّا شرطان -كما هو مقتضى هذا اللسان- دخيلان في تحقُّق ماهيَّة الصَّلاة على حدِّ سائِر الأركان كالرُّكوع والسُّجود وهو بعيد لانطباق عنوان الصَّلاة وصِدقه على الفاقدة لهما حقيقة، وإمَّا شرطان بمقتضى التَّقدير للصّحة أو للكمال، وحيث أنَّ الثَّاني يحتاج إلى ضمِّ عناية زائدة يتعين الأوَّل وهو التَّقدير بالصِّحة، إذ أنَّه مع تعذُّر الحمل على المعنى الحقيقي يتعيَّن الحمل على أقرب المجازات، وهو هنا لدى العرف نفي الصِّحة لا نفي الكمال.
الطَّائفة الثَّالثة: ما ورد بلسان نفي الجواز
كما في موثَّقةٍ أخرى لعمَّار، عن أبي عبد اللهg، قال: سُئِل عن الرَّجل يؤذِّن ويقيم ليصلِّي وحده فيجِيء رجل آخر فيقول له: نصلَّي جماعة، هل يجوز أن يصلِّيا بذلك الأذان والإقامة؟ قال: >لا، ولكن يؤذِّن ويقيم<([5]).
الدَّلالة: وهذه الرِّواية كسابقتها أيضاً على تقدير تماميَّتها ظاهرة في شرطيَّة كلٍّ من الأذان والإقامة وأنَّهما واجبان غيريان لا تصحُّ الصَّلاة من دونهما، فإنَّ عدم الجواز لكونه لساناً عرفياً لعدم الصِّحة، ظاهر في الحرمة الوضعيَّة أي البطلان.
اللهم إلَّا أن يقال: بأنَّ نفي الجواز إنَّما هو لتقرير ما في ذهن السَّائل من أنَّهما في صلاة الفرادى وفي صلاة الجماعة ماهيَّتان متغايرتان وإن اتَّحدتا صورة فلا بدَّ فيهما من القصد والتَّعيين، ومعه يقع السُّؤال عن الاكتفاء بأذان الفرادى لصلاة الجماعة هل يصحُّ كما يصحُّ الاكتفاء بأذان الجماعة في صلاة الفرادى -على ما تقتضيه بعض الرِّوايات- أو لا يصحُّ الاكتفاء؟
وأمَّا ذيل الرِّواية، وهو قولهg: >ولكن يؤذِّن ويقيم< فلا دلالة فيه على الوجوب أيضاً، لابتلائِه بالإجمال من جهة تقدُّم الحظر عليه.
الطَّائفة الرَّابعة: ما ورد بلسانِ نفي الإجزاء والاكتفاء
الرِّواية الأولى: الموثَّق عن الحسن بن زياد عن أبي عبد اللهg، قال: >إذا كان القوم لا ينتظرون أحداً اكتفوا بإقامة واحدة<([6]).
الرِّواية الثَّانية: صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد اللهg، قال: >يجزيك إذا خلوت في بيتك إقامة واحدة بغير أذان<([7]).
الرِّواية الثَّالثة: صحيحة أخرى لابن سنان عن أبي عبد اللهg، قال: >تجزئك في الصَّلاة إقامة واحدة إلا الغداة والمغرب<([8]).
الرِّواية الرَّابعة: ما في صحيحة لمحمَّد بن مسلم والفضيل بن يسار عن أحدهماh، قال: >تجزيك إقامة في السَّفر<([9]).
الرِّواية الخامسة: صحيحة زرارة بن أعين عن أبي جعفرg، أنَّه قال: أدنى ما يجزي من الأذان أن تفتتح الليل بأذان وإقامة، وتفتتح النَّهار بأذانٍ وإقامة، ويجزيك في سائر الصَّلوات إقامة بغير أذان<([10]).
الرِّواية السَّادسة: رواية أبي بصير عن أحدهماh، قال: سألته: أيجزئ أذان واحد؟ قال: >إن صلَّيت جماعةً لم يجز إلا أذان وإقامة، وإن كنت وحدك تبادر أمراً تخاف أن يفوت، يجزئك إقامة إلا الفجر والمغرب<([11])، الحديث.
فهذه الرِّوايات حيث إنَّها في مقامِ تحديد الوظيفة العملية قد دلَّت بمفهومها تارةً وبمنطوقها أخرى على عدم إجزاء الإقامة عن الأذان وجواز الاكتفاء بها عنه في غير ما استثني؛ هذا وفي سند الرِّواية الأخيرة وهناً من جهة الجواهري فإنَّه مجهولٌ ومن جهة البطائني فإنَّه ضعيف، وكذلك في الرِّواية الأولى من جهة الحسن بن زياد فإنَّه مشترك بين من ورد في حقِّه توثيقٌ وهو العطَّار وبين من لم يوثَّق وهو الصيقل، ولا سبيل إلى تعيين أحدهما على الآخر بالأعرفية؛ لكون كلٍّ منهما صاحب كتاب، والقول بالاتحاد بعيد، فتمامية سندها تتوقَّف على القبول بكبرى الجابرية.
الطَّائفة الخامسة: ما ورد بلسان نفي التَّرخيص
كما في موثقة لسماعة عن أبي عبد اللهg، قال: >لا تصلِّ الغداةَ والمغرب إلا بأذان وإقامة، ورخص في سائر الصلوات بالإقامة، والأذان أفضل<([12]).
السَّند: ما في سلسلة الرُّواة من يتأمَّل فيه غير زرعة بن محمَّد الحضرمي لفساد عقيدته فإنَّه واقفي، إلا أنَّه ثقة ولا يعتبر في حجية الخبر -على ما دلَّت عليه السِّيرة- عدالةُ الرَّاوي.
وهذه الرِّواية أيضا حيث إنَّها في مقام تحديد الوظيفة العملية دلَّت بمنطوقها تارة على وجوب الإقامة في صلاتي الغداة والمغرب، وبمفهومها تارة أخرى على نفي الرُّخصة في ترك أذاني الغداة والمغرب.
الطَّائفة السَّادسة: ما ورد بلسان نفي الإلزام عن المرأة
الرِّواية الأولى: ما ورد في جزميَّات الصَّدوق عن أبي عبد اللهg، أنَّه قال: >ليس على المرأة أذان ولا إقامة<([13])، الحديث.
السَّند: لا يقدح الإرسال بهذه الرِّواية ولا غيرها من سائر جزميَّات الصَّدوق، ودعوى أنَّه يخبر عن حدس فلا يشمله دليل حجية الخبر لا يعبأ بها لأحدِ أمرين؛ الأوَّل: أنَّ أصالة الحسِّ العقلائية هي الحاكم في موارد دوران الأمر بين الحسِّ والحدس، خصوصاً مع ملاحظة المنهج العلمي لمثل الصدوق من اعتماده على القرائن الواضحة، والثَّاني: أنْ يقال: بوفاء الأمارة والعلم التعبُّدي لديه بدور القطع الموضوعي في جواز الإسناد للمولى، فإخباره عن الصادقg إخبارٌ بقيام الأمارة لديه عن طريق اللازم، فيشملُه دليل حجية الخبر لكونه أمراً حسياً، وليتأمَّل.
الرِّواية الثَّانية: ما ورد في روايةٍ عن جعفر بن محمد عن آبائه في وصية النَّبيe لعليg، قال: >ليس على المرأة أذان ولا إقامة<([14]).
السَّند: سند هذه الرِّواية مبتلى بالضَّعف لوقوع المجاهيل في سلسلة رواتها.
الرِّواية الثَّالثة: ما ورد في صحيحة جميل بن دراج، قال: سألت أبا عبد اللهg: عن المرأة أعليها أذان وإقامة؟ فقال: >لا<([15]).
الدَّلالة: ولسان هذه الطَّائفة من الرِّوايات ظاهرٌ في نفي الإلزام حسب ما يقتضيه تتبع موارد استعماله، فيدلُّ بدلالةِ الاقتضاء على ثبوت الإلزام لغير المرأة في الجملة منعاً من اللغوية، وإن لم يثبت مفهوم اللقب.
ما دلَّ من الرِّوايات على عدم الوجوب
الأولى: صحيحة ابن سنان عن أبي عبد اللهg، قال: سألتُ أبا عبد اللهg عن المرأة تؤذِّن للصلاة؟ فقال: >حسن إن فعلت، وإن لم تفعل أجزأها أن تكبِّر، وأن تشهد أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمدا رسول الله<([16]).
الدَّلالة: وهذه الصَّحيحة وإن كان صدرها >حسن إن فعلت< دالاً على استحباب الأذان، إلا أنَّ الذَّيل >وإن لم تفعل أجزأها أن تكبِّر<، يشكل بمفهومه قرينة على الوجوب التخييري، وأنَّ المستحب هو تطبيق الجامع على أحدِ العدلين أي الأذان دون التَّكبير والشَّهادتين.
الثَّانية: حسنة الحلبي عن أبي عبد اللهg، قال: >إذا أذنتَ وأقمتَ صلَّى خلفك صفَّان من الملائكة، وإذا أقمتَ صلَّى خلفك صفٌّ من الملائكة<([17]).
الدَّلالة: بعد المفروغية من أنَّ ترتُّب الثَّواب على الصَّلاة إنَّما هو من آثار الصِّحة، فإنَّ غاية ما يمكن أن يستدل عليه بهذه الرِّواية عدم كون الأذان واجباً غيرياً، ولا معيِّن للقول بالاستحباب لاحتمال وجوبه النَّفسي.
الثَّالثة: رواية العباس بن هلال عن أبي الحسن الرِّضاh، قال: >من أذَّن وأقام صلَّى خلفه صفَّان من الملائكة، وإن أقام بغير أذان صلَّى عن يمينه واحدٌ وعن شمالِه واحد<، ثمَّ قال: >اغتنم الصَّفين<([18]).
السَّند: وفيه ضعف لمكان الحسين بن إبراهيم بن ناتانه فإنَّه مهمل، ولا سبيل إلى توثيقه إلا من جهة ترضِّي الصَّدوق عليه وكونه من مشايخه في الإجازة، ولمكان العباس بن هلال؛ فإنَّه مجهول ولا سبيل إلى توثيقه إلا من خلال وقوعه في أسانيد التَّفسير.
الدَّلالة: وهذه الرِّواية أتمُّ دلالة من السَّابقة على الاستحباب؛ وذلك من جهة الذَّيل (اغتنم الصَّفين)؛ فإنَّ لمادة الاغتنام ظهوراً في الحثِّ والتَّرغيب بنحوٍ يناسبُ مقام الاستحباب.
الرَّابعة: صحيحة زرارة بن أعين، قال: سألت أبا جعفرg عن رجلٍ نسيَ الأذان والإقامة حتى دخل في الصَّلاة، قال: >فليمضِ في صلاتِه فإنَّما الأذان سنَّة<([19]).
الدَّلالة: تماميَّة الاستدلال بالرِّواية متوقِّفة على أنَّ المراد بالسُّنة فيها النَّدب دون الوجوب، وهو محلُّ نظرٍ لذوي البصر؛ فإنَّ ممَّا لا شكَّ فيه لدى المتتبِّع لموارد استعمال السُّنة في الرِّوايات أنَّها ما ثبت من طريق رسول اللهe مستحباً كان أم واجباً أم غيرهما، في قبال ما ثبت بكتاب الله! وهو الفريضة، ولا أقلًّ من الإجمال.
اللهمَّ إلا أن يقال: بأنَّ الأذانَ ممَّا ثبتَ بكتاب الله! فهو فريضة، وذلك لقولِه تبارك وتعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}(الجمعة:9)، وقوله عز من قائل: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا}(المائدة:58)، فيتعيَّن إرادة الاستحباب من السُّنة في الرِّواية الشَّريفة؛ وهذا الاحتمال محلُّ نظر وتأمًّل أيضاً؛ فإنَّ خفاء حكم الأذان على زرارة -حتى يسأل عن جواز المضي وعدمه على النَّاسي- ممَّا لا يترقَّب من مثله شأناً ومنزلةً، فتكون الرِّواية سؤالاً وجواباً ناظرة إلى قاعدة لا تنقض السُّنة الفريضة.
الخامسة: رواية أبي الصَّباح عن أبي عبد اللهg، قال: سألتُه عن رجلٍ نسيَ الأذان حتى صلَّى، قال: >لا يعيد<([20]).
السَّند: فيه ضعف من جهة الرَّاوي عن أبي الصَّباح الكناني وهو محمَّد بن الفضيل، لاشتراكه بين أشخاصٍ لا سبيل لتعيين أحدهم على الآخر، وفيهم الثِّقة وغيره.
الدَّلالة: والرِّواية هذه لا دلالة فيها على الاستحباب فإنَّ النِّسيان مسقطٌ للحُكم ورافعٌ له حقيقةً، إمَّا لما يستظهر من حديث الرَّفع، أو لاستحالة تكليف النَّاسي عقلاً لكونِه عبثٌ لا بعث فيه.
السَّادسة: صحيحة داود بن سرحان، عن أبي عبد اللهg في رجلٍ نسيَ الأذان والإقامة حتى دخل في الصلاة، قال: >ليس عليه شيء<([21]).
الدَّلالة: وهذه الصَّحيحة غاية ما هي ظاهرة فيه أنَّ الأذان شرطٌ ذكريٌ، لا تجب مع نسيانه إعادة الصَّلاة، على أنَّها مقيَّدة بصحيحة للحلبي عن أبي عبد اللهg، قال: >إذا افتتحت الصَّلاة فنسيتَ أن تؤذِّن وتقيم، ثمَّ ذكرتَ قبل أن تركعَ فانصرف وأذن وأقم واستفتح الصلاة، وإن كنت قد ركعت فأتمَّ على صلاتك<([22]).
السَّابعة: صحيحة الحلبي، عن أبي عبد الله عن أبيهh أنَّه كان إذا صلَّى وحدَه في البيت أقام إقامة ولم يؤذن([23]).
الدَّلالة: وهذه الرِّواية على فرض تماميَّتها ظاهرةٌ في أنَّ أذان المنفرد في بيته لا رجحان فيه؛ إذ أنَّ إصرار المعصوم على ترك المستحب واعتياده على فعل المكروه بعيدٌ للغاية، وهو يساوق القول بنفي المشروعية في الأمر العبادي القربي؛ فإنَّ قوامَه الرُّجحان، ويؤيِّد القول بعدم المشروعية صحيحة يحيى الحلبي عن أبي عبد اللهg، قال: >إذا أذَّنت في أرض فلاة، وأقمتَ صلَّى خلفُك صفَّان من الملائكة، وإنْ أقمتَ ولم تؤذِّن صلَّى خلفك صفٌ واحدٌ<([24])، فإنَّ أخذَ القيد (أرض فلاة) ظاهرٌ في المفهوم بدلالة الاقتضاء على نحو العلة الناقصة، بمعنى أنَّ للقيدِ دخالة في ترتُّب الحكمِ وإلا لزمتْ اللغوية كما في سائر الجُمل الوصفية.
الثَّامنة: صحيحة عمر بن يزيد، قال: سألت أبا عبد اللهg عن الإقامة بغير أذان في المغرب؟ فقال: >ليس به بأس، وما أحبُّ أن يعتاد<([25]).
الدَّلالة: وهذه الصَّحيحة أتمُّ روايات الباب دلالةً على استحباب الأذان وعدم وجوبه في صلاة المغرب وسائر الصَّلوات للقطع بعدم الخصوصية.
المناقشة في صحيحة عمر بن يزيد:
وقد تبيَّن تماميتها في الدَّلالة على الاستحباب، غير أنَّها معارضة بما تقدَّم ذكرُه من الرِّوايات الدَّالة على الوجوب، بنحوٍ لا بدَّ معه من ارتكاب التَّأويل حتى يتيسَّر به الجمع العرفي، وذلك:
في ما ورد في مقام بيان الوظيفة العملية بصيغة الأمر، بالحمل على الاستحباب.
وفي ما دلَّ على نفي الحقيقة، بالحمل على نفي الكمال.
وفي ما دلَّ على نفي الاجتزاء، بالحمل على الاجتزاء بما فيه غنىً وكفاية في مقام الوظيفة العملية المقرَّرة على المكلَّف مستحبة كانت أم واجبة، وهو تعبير لا حزازة فيه لدى العرف عن الأمر بالجامع بين الأذان بشرط الإقامة وبين الإقامة لا بشرط، نعم في تطبيق الجامع على الفرد الأوَّل مراعاة لأعلى مرتبة من الكمال بخلاف تطبيقه على الفرد الثَّاني.
وفي ما دلَّ على نفي الإلزام عن المرأة، بالحمل على نفي الرُّجحان المساوق لنفي المشروعية عن الأمر العبادي، إذ ما وراء عبادان من قرية بعد الالتزام باستحبابه في نفسه؛ وحيث أنَّ هذا الحمل غريبٌ؛ إذ ما من أحدٍ من الفُقهاء قد التزم به فيما أعلم، لا مناص من الحمل على أنَّ الأذان غيرَ ثابتٍ بعنوانه على المرأة، وإنَّما الثَّابت عليها الجامع بينه وبين الشَّهادتين، على ما نطقت به صحيحة عبد الله بن سنان.
هذا والضَّابط في الجمع الدَّلالي والعرفي بين الرِّوايات المتعارضة قرينية أحد الدليلين على الآخر لدى العرف، وحيث إنَّه كلَّما أمكن أن يكون قرينة على تقدير الاتِّصال فهو قرينة على تقدير الانفصال بنظر العرف غالباً، لا يتيسَّر الجمع بين صحيحة عمر بن يزيد الدَّالة على استحباب الأذان ونفي البأس عن تركه، وبين موثَّقة كلٍ من عمَّار بن موسى السَّاباطي الدَّالة على نفيِ جوازِ تركِه بمنطوقها، وموثَّقة سُماعة بن مهران الدَّالة على نفي الرُّخصة بمفهومها.
فلا بدَّ من المصير إلى المرِّجح من موافقة الكتاب أو مخالفة العامَّة إن وجد، وإلا قيل بالتَّساقط إن فقد، والظَّاهر أنَّ الكفَّة تميل إلى موثقتي سماعة وعمَّار النافيتين للرُّخصة والجواز؛ لاتفاق العامَّة في الكوفة والمدينة عصر الصادقينh كمالك وأبي حنيفة على استحباب الأذان.
وما يهوِّن الخطب عدم حجية كلٍ من موثَّقتي عمَّار وسماعة؛ إمَّا للإجمال وإمَّا لإعراض المشهور عنهما، وما هذا حاله من الوهن والضعف لا يصلح للمعارضة.
ثمَّ إنَّ النِّسبة بين ما دلَّ على وجوب الأذان في الجماعة مطلقاً، كصحيحة عبد الله بن سنان: >يجزيك إذا خلوت في بيتك إقامة واحدة بغير أذان< والموثَّق عن الحسن بن زياد: >إذا كان القوم لا ينتظرون أحداً اكتفوا بإقامة واحدة<، وبين ما دلَّ على وجوبِه في الحضر مطلقاً كقولهg في الصَّحيح: >تجزيك إقامة في السَّفر<، هي العموم والخصوص من وجه، فمادة الافتراق هي صلاة الجماعة في الحضر، ومادة الاجتماع هي صلاة الجماعة في السَّفر وصلاة المنفرد في الحضر.
وأنَّ النِّسبة بينهما وبين صحيحة عمر بن يزيد نسبة العموم والخصوص المطلق، فلا بدَّ فيها من إعمال صناعة التَّقييد بلحاظ مادة الافتراق، وذلك بالإبقاء على الظُّهور في وجوب أذان صلاة الجماعة في الحضر، ولا بدَّ من جعلِها مرجعاً وعموماً فوقانيا بلحاظ مادة الاجتماع لمكان التَّساقط بين الدَّليلين.
نعم، ما دلَّ على وجوب الأذان في الحضر كقولهg: >تجزيك إقامة في السَّفر< معارضٌ بصحيحة الحلبي عن أبي عبد اللهg: عن الرجل، هل يجزيه في السَّفر والحضر إقامة ليس معها أذان؟ قال: >نعم، لا بأس به<([26])؛ فيبقى ما دلَّ على الوجوب في صلاة الجماعة مطلقا في السَّفر وفي الحضر بلا معارض.
ما دلَّ من الرِّوايات على وجوب الإقامة:
الطَّائفة الأولى: لسان المفروغيَّة من الوجوب
الأولى: رواية العبَّاس بن هلال عن أبي الحسن الرِّضاg، قال: >من أذَّن وأقامَ صلَّى خلفَه صفَّان من الملائكة، وإن أقام بغير أذان صلَّى عن يمينِه واحد وعن شماله واحد<، ثمَّ قال: >اغتنم الصَّفين<([27]).
الدَّلالة: استدلَّ بذيلِ هذه الرِّواية >اغتنم الصَّفين< على وجوب الإقامة، وذلك للظُّهور في المفروغية من تحقُّق الصفِّ الأوَّل، وفيه: أنَّ غاية ما يتحقَّق بالإقامة أن يصلِّي عن يمينِه واحدٍ وعن شمالِه واحدٍ، وأن لا تحقُّق حتى للصفِّ الأوَّل من دون الأذان.
الثَّانية: صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد اللهg: >يجزيك إذا خلوت في بيتك إقامة واحدة بغير أذان<([28]).
الدَّلالة: لسان الإجزاء في مقام الوظيفة العملية ظاهر في المفروغية عن الوجوب، وتقريب ذلك أن يقال: بوجود موارد لا تجزي الإقامة فيها عن الأذان كصلاة الجماعة، وهو ما ليس له أيُّ معنىً مع القول بالاستحباب لدى العرف، ولا أقل من الانصراف إلى الإجزاء في مقام الوظيفة العملية الواجبة.
الطَّائفة الثَّانية: لسان التَّنزيل
الأولى: رواية أبي هارون المكفوف عن أبي عبد اللهg، قال: >يا أبا هارون، الإقامة من الصَّلاة، فإذا أقمتَ فلا تتكلَّم ولا تؤم بيدك<([29]).
السَّند: لم يرد في حقِّ أبي هارون توثيقٌ عدا عمَّا في كامل الزِّيارات، كما أنَّ في سند الرِّواية صالح بن عقبة، وهذا أيضاً لا سبيل إلى توثيقه إلا من جهة أسانيد التَّفسير على أنَّه متهَّمٌ بالضَّعفِ والكذبِ والغُلو.
الدَّلالة: لسان التَّنزيل ظاهرٌ في أنَّ للإقامة ما لأجزاء الصَّلاة من أحكامٍ كالوجوب.
الثَّانية: رواية سليمان بن صالح عن أبي عبد اللهg، قال: >لا يقيم أحدُكم الصَّلاة وهو ماشٍ، ولا راكبٍ، ولا مضطجعٍ إلا أن يكون مريضاً، وليتمكَّن في الإقامة كما يتمكَّن في الصَّلاة، فإنَّه إذا أخذ في الإقامة فهو في صلاة<([30]).
السَّند: سليمان بن صالح مشترك بين عدَّة أشخاصٍ فيهم من لم يوثَّق، إلا أنْ يقال بالانصراف إلى الثَّقة؛ لأنَّه صاحب كتاب فهو أشهر من غيره، على أنَّ في السَّند صالح بن عقبة.
الدَّلالة: وهذه الرِّواية أيضاً حيث إنَّ لسانَها لسان التَّنزيل ظاهرةٌ في وجوب الإقامة، إلا أن يقال بأنَّ لسان التَّنزيل لا إطلاق فيه، فيقتصر على أهمِّ الآثار مع حذفِ المتعلَّق، وأمَّا مع عدمِ الحذفِ فيقتصرُ على ما ذكر من قبيل التَّمكن في الإقامة.
الطَّائفة الثَّالثة: بيان الوظيفة العملية موارد الخطأ والنِّسيان والقضاء
الأولى: صحيحة علي بن يقطين قال: سألتُ أبا الحسنg، عن الرُّجل ينسى أن يقيم الصَّلاة وقد افتتح الصَّلاة؟ قال: >إن كانَ قد فرغ من صلاتِه فقد تمَّت صلاتُه، وإن لم يكن فرِغ من صلاتِه فليعد<([31]).
الدَّلالة: قولهg: >وإن لم يكن فرغ من صلاته فليعد<، ظاهرٌ في وجوب الإقامة لعدم تماميَّة صلاتِه من دونِها قبلَ الفراغ على ما يشهد به قولهg: >إن كان قد فرغ من صلاتِه فقد تمَّت صلاتُه<.
الثَّانية: معتبرة علي بن جعفر قال: سألتُه عن الرُّجل يخطئ في أذانه وإقامته فذكر قبل أن يقوم في الصَّلاة، ما حاله؟ قال: >إن كان أخطأ في أذانه وإقامته مضى على صلاتِه، وإن كان في إقامته انصرف فأعادها وحدها، وإن ذكر بعد الفراغ من ركعة أو ركعتين مضى على صلاتِه، وأجزأه ذلك<([32])، الحديث.
السَّند: ليس في سند الرِّواية من يتأمَّل فيه سوى عبد الله بن الحسن؛ فإنَّه مجهول لم يرد في حقِّه توثيق، غير أنَّه من الممكن التغلُّب على هذه المشكلة من جهة اعتماد الحميري في كتابه قرب الإسناد على نسخة عبد الله بن الحسن -دون اعتماده على نسخة شيخه العمركي البوفكي الثَّقة- فإنَّ فيه شهادة بوثاقته وصحَّة نسختِه، فتأمَّل.
الدَّلالة: وهذه الرِّواية ظاهرةٌ في وجوب إعادة الإقامة في مورد الخطأ فتدلُّ بالفحوى على أصل الوجوب؛ إلا أن يقال بعدم حجية الرِّواية لاضطراب متنها؛ وذلك لبعد احتمال أسوئية الخطأ في الإقامة وحدها من الخطأ في الأذان والإقامة معاً، حتى لا يجوز المضي في الحالة الأولى دون الحالة الثَّانية، غير أنَّه يكفي لرفع إشكال الأسوئية احتمال أنَّ الخطأَ في الأذان يتدارك بالإقامة وبالعكس، فيجوزُ المضي حينئذ على الخطأ بخلاف ما لو لم يؤذِّن، غير أنَّه على هذا الاحتمال تكون الرِّواية مجملة لا دلالة فيها على الوجوب، لاحتمال أنَّ النَّظر فيها إلى شرائط الصِّحة سواء كانت الإقامة واجبة أم كانت مستحبة.
الثَّالثة: حسنة زرارة عن أبي جعفرg قال: إذا كان عليكَ قضاءُ صلواتٍ، فابدأ بأوَّلهنَّ، وأقم، ثمَّ صلِّها، ثمَّ صلِّ ما بعدها، ثمَّ صلَّ ما بعدها بإقامة إقامة لكلِّ صلاة.
الدَّلالة: وهذه الرِّواية أيضاً لا إشكال في دلالتها على وجوب الإقامة، إلا من جهة موردية توهُّم الحظر الموجب للإجمال، فيقال: بأنَّ زرارة يعلمُ إجمالاً بوجود موارد يسقط فيها كلاً من الأذان والإقامة عن المشروعية، ويحتمل أنَّ موارد قضاء الصَّلاة منها، فتأمَّل.
وكيف كان فهذه الرِّوايات على تقدير تماميتها دلالةً وسنداً ساقطة عن الحجيَّة لإعراض المشهور عنها.
خفاء الحكم:
هذا وقد تبيَّن وجوبُ الأذان والإقامة لصلاة الجماعة في الحضر، إلا أنَّ غير واحدٍ من الأعلام ذهب إلى المنع منه لخفاء الحكم مع كثرة الابتلاء به.
وفيه: أنَّ خفاءَ الحكم كما يناسب القول بالاستحباب يناسب القول بالوجوب، وهو ممَّا لا غرابة فيه كما يشهد له خفاءُ الحكم في مسألة تطهير البئر نزحاً بالدِّلاء مع كثرة الابتلاء، وكما هو مشاهد في زماننا من عدم تفريق كثيرٍ من العوام بين واجبات الصَّلاة ومستحباتِها، على أنَّه قد ذهب جملةٌ من متقدِّمي علمائِنا إلى القول به -على نحوٍ يحقِّق الشُّهرة- كالشَّيخين وابن البَّراج وابن حمزة وابن زهرة والكيدري وأبي الصَّلاح الحلبي الذي نسبه إلى الأكثر، والمرتضى على الرِّجال خاصَّة -علماً أنَّه لا يعمل إلا بالإجماع والمتواتر دون أخبار الآحاد- وغيرهم في الجملة كابن الجنيد.
ارتكاز الوجوب:
ويستأنس من رواياتٍ كثيرةٍ أنَّ المرتكز لدى أصحاب الأئمةq وجوب الأذان والإقامة، ولو من جهةِ كثرة السُّؤال عن شرائطهما بنحوٍ يكشفُ عن عظيم عنايتهم، وشديد اهتمامهم بهما، وهو ما لا يتلاءم إلا مع القول بالوجوب خاصَّة، وهذه الرِّوايات كالآتي:
الأولى: موثَّقة عمَّار، قال: سمعت أبا عبد اللهg يقول: >لا بدَّ للمريض أن يؤذِّن ويقيم إذا أراد الصَّلاة ولو في نفسه إن لم يقدر على أن يتكلَّم به<، سئل: فإن كان شديدَ الوجع؟ قال: >لا بدَّ من أن يؤذِّن ويقيم؛ لأنَّه لا صلاة إلا بأذان وإقامة<([33]).
الدَّلالة: يستأنس من هذه الرِّواية أنَّ المرتكز في ذهنِ عمَّار وجوب الأذان والإقامة، وإلا فأيُّ معنىً لسؤالِه عن السُّقوط مع شدَّة وجع المريض، فإنَّ الاستحباب لا كلفةَ فيه.
الثَّانية: موثَّقة أخرى لعمَّار، عن أبي عبد اللهg، قال: سُئِلَ: عن الرِّجل يؤذِّن ويقيم ليصلِّي وحدَه فيجيء رجلٌ آخرَ فيقول له: نصلي جماعة، هل يجوز أن يصليا بذلك الأذان والإقامة؟ قال: >لا، ولكن يؤذِّن ويقيم<([34]).
الثَّالثة: صحيحة جميل بن دراج، قال: سألت أبا عبد اللهg: عن المرأة أعليها أذان وإقامة؟ فقال: >لا<([35]).
الرَّابعة: صحيحة زرارة بن أعين، قال: سألت أبا جعفرg عن رجلٍ نسي الأذان والإقامة حتى دخل في الصلاة، قال: >فليمض في صلاته، فإنَّما الأذان سنَّة<([36]).
الدَّلالة: تقدَّم في مناقشة ذيل هذه الرِّواية أنَّ خفاء الحكم على مثل زرارة، وجواز المضي في الصَّلاة مع الإخلال بالمستحب ممَّا لا يترقَّب منه، ما يكشف عن وجود ارتكاز لديه بالوجوب، غاية الأمر عدم علمِه بأنَّه ممَّا ثبتَ بكتابِ الله! فهو فريضة أو هو ممَّا ثبت من سنَّة رسول اللهe؛ لا يقال: بأنَّ سؤالَه من أبي جعفرg يكشف عن حداثة سنِّه، فلا مانع من خفاء الحكم لديه، فإنَّه يقال: بأنَّ مثل الأذان والإقامة ممَّا لا يخفى حكمُه عادة على عوام المتشرِّعة فضلاً عن علمائِهم، على أنَّ زرارة كان عالماً فقيهاً على مذهب العامَّة في حداثة سنِّه.
الخامسة: صحيحة عمر بن يزيد، قال: سألتُ أبا عبد اللهg عن الإقامة بغير أذان في المغرب؟ فقال: >ليس به بأسٌ، وما أحبُّ أن يعتاد<([37]).
الدَّلالة: وهذه الرِّواية وإن كانت ظاهرة في استحباب الأذان إلا أنَّها تكشف عن ارتكاز وجوبه لدى السَّائل، ولا أقل من خفاء حكمه عليه وإلا فأيُّ معنىً للسُّؤال.
السَّادسة: صحيحة علي بن يقطين قال: سألتُ أبا الحسنg، عن الرِّجل ينسى أن يقيم الصَّلاة وقد افتتح الصلاة؟ قال: >إن كان قد فرغ من صلاته فقد تمَّت صلاته، وإن لم يكن فرغ من صلاته فليعد<([38]).
الدَّلالة: السُّؤال عن تمامية الصَّلاة وعدمها مع نسيان الإقامة، يكشف عن وجود ارتكاز لدى السَّائل بأنَّها شرط في صحَّة الصَّلاة، وهو ما يتناسب مع الوجوب الغيري.
السَّابعة: صحيحة علي بن رئاب قال: سألت أبا عبد اللهg: تحضر الصَّلاة ونحن مجتمعون في مكانٍ واحدٍ، أتجزينا إقامة بغير أذان؟ قال: >نعم<([39]).
الدَّلالة: لا يقال: بأنَّ هذه الصَّحيحة تعارض ما دلَّ على وجوب الأذان كما في صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد اللهg: >يجزيك إذا خلوت في بيتك إقامة واحدة بغير أذان<([40])؛ فإنَّه يقال: بأنَّه لا ظهورَ في قوله: >ونحن مجتمعون في مكان واحد< على صلاة الجَّماعة، بل هي على وجوب الأذان في صلاة الجَّماعة أدلُّ، فإنَّ ابن رئاب ربَّما توهَّم أنَّ الإقامة حال الاجتماع لا تجزي عن الأذان، كما في صلاة الجَّماعة، فأجاب الإمامg بما يرفع مثل هذا الوهم.
الثَّامنة: السُّؤال عن صحَّة الأذان من غير طهور: صحيحة محمَّد بن مسلم عن أحدهماh قال: سألته عن الرُّجل، يؤذِّن على غير طهور؟ قال: >نعم<([41]).
التَّاسعة: السُّؤال عن صحَّة الأذان من جلوس: رواية حمران قال: سألت أبا جعفرg عن الأذان جالساً؟ قال: >لا يؤذِّن جالساً إلا راكب أو مريض<([42]).
العاشرة: السُّؤال عن أذان غير العارف: موثَّقة عمَّار عن أبي عبد اللهg قال: سئل عن الأذان، هل يجوز أن يكون عن غير عارف؟ قال: >لا يستقيم الأذان، ولا يجوز أن يؤذِّن به، إلا رجلٌ مسلم عارف، فإنَّ علم الأذان وأذَّن به، ولم يكن عارفاً لم يجز أذانه ولا إقامته ولا يقتدي به<([43])، الحديث .
الحادية عشر: السُّؤال عن النِّسيان في الإقامة والأذان: عن عمَّار السَّاباطي أنَّه قال: سُئِلَ أبو عبد اللهg: عن رجلٍ نسي من الأذان حرفاً فذكرَه حينَ فرغ من الأذان والإقامة قال: >يرجع إلى الحرف الذي نسيَه فليقله، وليقل من ذلك الحرف إلى آخره، ولا يعيد الأذان كلَّه ولا الإقامة<([44]).
الثَّانية عشر: السُّؤال عن الأذان والإقامة إلى غير القبلة: معتبرة علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفرh قال: سألته عن رجل يفتتح الأذان والإقامة وهو على غير القبلة ثمَّ يستقبل القبلة، قال: >لا بأس<.
وغيرها كثيرٌ من الرِّوايات تمَّ الإعراض عن ذكرِها خشيةَ الإطالة، ظاهر السُّؤال فيها عن شرائط الأذان والإقامة المفروغية من وجوبهما، وإن كانت دلالة بعضها على ارتكاز المفروغية من وجود موارد لسقوط الأذان والإقامة وانتفاء المشروعية أوضح.
دوران الوجوب بين النَّفسي الاستقلالي والغيري التَّبعي:
في جملة ممَّا تقدَّم ذكرُه من الرِّوايات دلالة على أنَّ الأذان والإقامة واجبان غيريان وشرطان دخيلان في صحَّة الصَّلاة، إلا أنَّه يقعُ الكلام في صحَّة الصَّلاة على تقدير الشَّك في الشَّرطية.
ولا يخفى أنَّ مقتضَى الأصل اللَّفظي على القول بوضع أسماء العبادات للأعم، صحَّة التَّمسك بالإطلاق في طرف صيغة الأمر بالأذان لإثبات النَّفسية ونفي الغيرية، أي وجوبه على تقدير وجوب واجبٍ آخر كالصَّلاة، إذ إنَّ مثل هذا التَّقييد يحتاج إلى مؤنة زائدة بنظر العرف.
كما يصحُّ التَّمسك بالإطلاق الواوي لمادة الصَّلاة وذلك لنفي الوجوب الغيري عمَّا يحتمل شرطيته ووجوب تقيُّد الصَّلاة به كالأذان.
وأمَّا على القول بالوضع للصَّحيح فلا يمكن التَّمسك بإطلاق أيٍّ من مادة الصَّلاة أو صيغة الأمر بالأذان، أمَّا الأوَّل فلوضوح دخل التَّقيد في المسمَّى، وأمَّا الثَّاني فلاحتمال دخل الصَّلاة في صحَّة الأذان، إمَّا على نحو الشَّرط المتأخِّر، وإمَّا على نحو التَّحصيص على أقلِّ تقدير، وهو ما يوجب سريان الإجمال للصِّيغة.
هذا، ومقتضى الأصل العملي جريان البراءة عن شرطية الأذان كما في سائر موارد الدَّوران بين الأقلِّ والأكثر، لتحقُّق ضابط الانحلال الحقيقي في العلم الإجمالي المردَّد بين قضيَّتين مشكوكتين، إلى علمٍ تفصيليٍ بالأقلِّ وشكٍّ بدويٍ بالأكثر فتجري البَراءة عنه.
وأمَّا على القول بأنَّ الأذان على تقدير وجوبِه النَّفسي فإنَّ الصَّلاة واجبٌ غيري حيث أنَّها شرط في الصِّحة، تدخل المسألة في موارد الدَّوران بين المتباينين فتجري أصالة الاشتغال لعدم تحقُّق ضابط الانحلال الحقيقي كما هو واضح للترديد بين وجوب أحدهما نفسيا على تقدير وجوب الآخر غيرياً، ولعدم تحقُّق ضابط الانحلال الحكمي إذ إنَّ التَّرخيص في الأطراف يستلزم التَّعارض المؤدِّي للتَّساقط، وفي أحدها غير المعيَّن ترجيح بلا مرجِّح.
والحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصلَّى اللهُ على محمَّدٍ وآلِه الطَّيبين الطَّاهرين
([1]) مستدرك الوسائل، المحدِّث النُّوري، ج4، ص19.
([2]) مستدرك الوسائل، المحدِّث النُّوري، ج4، ص19، عن كتاب الجعفريات.
([3]) الكافي، الكليني، ج3، ص291، والتهذيب، الطوسي، ج3، ص158.
([4]) تهذيب الأحكام، الطوسي، ج2، ص282.
([5]) الكافي، الكليني، ج3، ص304، ومن لا يحضره الفقيه، الصدوق، ج1، ص394، وتهذيب الأحكام، الطُّوسي، ج2، ص277.
([6]) تهذيب الأحكام، الطوسي، ج2، ص50.
([7]) نفس المصدر.
([8]) الاستبصار، ج1، ص300، وتهذيب الأحكام، ج2، ص51.
([9]) تهذيب الأحكام، الطوسي، ج2، ص52.
([10]) من لا يحضره الفقيه، الصدوق، ج1، ص286.
([11]) الاستبصار، الطوسي، ج1، ص299، وتهذيب الأحكام، ج2، ص50.
([12]) تهذيب الأحكام، ج2، ص52.
([13]) من لا يحضره الفقيه، الصدوق، ج1، ص298.
([14]) وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج5، ص406.
([15]) تهذيب الأحكام، الطوسي، ج2، ص57.
([16]) تهذيب الأحكام، الطوسي، ج2، ص58.
([17]) الكافي، الكليني، ج3، ص303.
([18]) من لا يحضره الفقيه، الصدوق، ج1، ص287.
([19]) الاستبصار، الطوسي، ج1، ص304، وتهذيب الأحكام، ج2، ص258.
([20]) الاستبصار، الطوسي، ج1، ص303، وتهذيب الأحكام، ج2، ص279.
([21]) الاستبصار، الطُّوسي، ج1، ص305.
([22]) تهذيب الأحكام، الطوسي، ج2، ص278.
([23]) تهذيب الأحكام، الطوسي، ج2، ص50.
([24]) تهذيب الأحكام، الطوسي، ج2، ص52.
([25]) الاستبصار، ج1، ص300، وتهذيب الأحكام، الطوسي، ج2، ص51.
([26]) تهذيب الأحكام، الطُّوسي، ج2، ص52.
([27]) من لا يحضره الفقيه، الصَّدوق، ج1، ص278.
([28]) تهذيب الأحكام، الطوسي، ج2، ص50.
([29]) الاستبصار، الطوسي، ج1، ص301، وتهذيب الأحكام، ج2، ص54.
([30]) تهذيب الأحكام، الطُّوسي، ج2، ص52.
([31]) تهذيب الأحكام، الطوسي، ج2، ص279.
([32]) قرب الإسناد، الحميري، ص182-183.
([33]) تهذيب الأحكام، الطوسي، ج2، ص282.
([34]) الكافي، الكليني، ج3، ص304، ومن لا يحضره الفقيه، الصدوق، ج1، ص394، وتهذيب الأحكام، الطُّوسي، ج2، ص277.
([35]) تهذيب الأحكام، الطوسي، ج2، ص57.
([36]) الاستبصار، الطوسي، ج1، ص304، وتهذيب الأحكام، ج2، ص258.
([37]) الاستبصار، ج1، ص300، وتهذيب الأحكام، الطوسي، ج2، ص51.
([38]) تهذيب الأحكام، الطوسي، ج2، ص279.
([39]) قرب الإسناد، الحميري، ص163.
([40]) تهذيب الأحكام، الطُّوسي، ج2، ص50.
([41]) وسائل الشَّيعة، الحرُّ العَاملي، ج5، ص392.
([42]) الاستبصار، ج1، ص302، وتهذيب الأحكام، الطُّوسي، ج2، ص57.
([43]) الكافي، الكليني، ج3، ص304.
([44]) من لا يحضره الفقيه، الصدوق، ج1، ص289.
0 التعليق
ارسال التعليق