هذه قصّة قصيرة كنت قد كتبتها منذ عدّة سنوات أُقدمها بين يدي القُرَّاء الأعزاء مع تغيير وزيادة في بعض فقراتها.
ارتمت في أحضانِ أُمّهِا وكأنّها تبحث عن مأوى، أخذت تقبّلها، فرائصُها ترتعدُ والدموع تنحدر من خدّيها الذين بديا شاحبين من الفزع لفرط ما نالها من الارتباك والخوف. إنها للتوِّ قد استيقظت من نومها مذعورةً، فقد كانت تعيش في ذلك العالم أحلاماً أقضّت مضجعها.
حضنتها أمها إلى صدرها وأخذت تكفكف الدّموع من عينيها بيديها الذابلتين. نادتها مخاطبة: ما بكِ، ما الذي دهاكِ يا زينب؟ تنهّدت طويلاً وأخذت تحاول أن تلملم الحروف من هُنا وهُناك علّها تستطيع أن تعبّر عّما يختلج في داخلها. بعد أن هدأت من روعتها أخذت تسرد لأمّها ما انتابها في حال نومها.
لقد رأيتُ نفسي وكأنني لا أقوى على الحراك وكأن شيئاً يجذبني عن أن أخطو ولو خطوة واحدة إلى الأمام. نعم أحسست أن رجلي لا تطاوعني، أخذت أصرخ والعَرَق يتصبّبُ من جبيني، وفجأةً رأيتُ نفسي مستيقظة وإذا أنت أمامي، فأخذت أبكي بلا شعور.
أخذت الأمُ العطوفة تربت على رأس ابنتها بحنان الأمومة وهي تخاطبها لا عليك يا بنيّتي إنّما هي أضغاثُ أحلامٍ، قومي وتوضّئي وأبعدي عنكِ هذه الأفكار. لملمت زينبُ نفسها وأخذت تخطو إلى دورة المياه وأسبغت الوضوء وجلست إلى جنب كتاب كانت الليلة الماضية تتصفّحه، وتذكرّت بعض أحداث ما مرّ في ذلك الكتاب فقد كان الكتاب يتحدث عما كان يعانيه المسلمون في أرض البوسنة والهرسك من التنكيل والتشريد والتقتيل على أيدي الصرب وكيف أن الصرب لم يتركوا صغيراً ولا كبيراً من كلا الجنسين إلا وألحقوا به الأذى فكم قتلوا من أطفال ورضّع وأمهات وآباء وشيوخ وشبان وكم هدموا من مساجد، كُلّ ذلك لكي لا يظهر صوت الإسلام أو يرتفع صيته، وتتكرّر المعادلة اليوم أيضاً فها هي أرض العراق أرض المقدّسات أرض التضحيات تُستباح فيها المحرّمات وتُهْدَم فيها صوامع يذكر فيها اسم الله، يُستباح فيها الدم الحرام، دم المسلم، والعالم بمسمعٍ وبمنظر أمام كلّ ذلكِ فمنهم من يتفرّج على الموقف مضمراً التأييد ويخفي ما يختلج في نفسه من ارتياح وذلك هو الغرب الكافر الذي لطالما وقف وقفة التحدّي للإسلام وكذلك من يدّعي انتسابه للإسلام وهولا يمت للإسلام بصلة وهم التكفيريّون، هذه فئة، وفئة أُخرى تقف موقف المتفرّج وقد تضمُر عدم الرضا ولكنها خاوية الإرادة من الناحية العملية وذلك لتبعيتها للغرب المتغطرس وعدم استقلالية قرارها. وبين ذين وذين تضيع المعايير الصحيحة، ويبقى الشعب العراقي بكل طوائفه وانتماءاته يُكابدُ الأمرّين.
سرحت بعد هذا زينب في أفكار قادتها إلى ملحمة كربلاء الحسين (ع)، وتذكرت ما أصاب الحسين (ع) وأهل بيته من القتل والتنكيل والسبي والتشريد، كُلّ ذلك لكي يبقى الإسلام عزيزاً وتبقى رايةُ الإسلام رفرافة. كان بإمكان الإمام الحسين (ع) أن يبايع يزيد -لعنه الله- ومن ثمّ يعيش حياة الرفاهية والنعيم، بل ويحصل على ولاية أو ما شابه، وبذلك يحفظ نفسه، كان بإمكان الإمام الحسين(ع) أن يقول كلمة (نعم) فقط ومنها يحصل على الحياة المرُفهّة، ولكنّه آثر حياة الرّوح على حياة الجسد، حياة المبادئ والقيم على حياة الدونيّات والزوائل، ولقد قالها صريحة ومضى عليها: كأنّي بأوصالي تقطّعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء(1)... لماذا يا أبا عبد الله، لماذا يا ابن رسول الله؟!
ألا ترون إلى المعروف لا يؤمرُ به، وإلى المنكر لا يُتناهى عنه، ليرغب المؤمنُ في لقاء الله.....(2).
هذا السؤال الذي لا بُدّ وأن يطرح نفسه في كل زمان وفي كُلّ مكان عندما يُهجر الأمر بالمعروف ويعيش الناس حياة المنكر. نعم هذه هي الطريقة والاستراتيجية التي لابُدّ أن يعيشها المؤمنِ في كل زمان وفي كل مكان. أن يعيش آمراً بالمعروف وناهياً عن المنكر بكل ما وسعه ولا تتوقف هذه الفريضة يوماً ما وإلا فلا مجال لحياة المؤمن في وسط يؤدّي به إلى خسران الآخرة وضياع الدين ولكن كيف السبيل إلى ذلك يا أبا عبد الله وكيف الخلاص يا ابن بنت رسول الله؟!
(رضا الله رضانا أهل البيت..)(3). فسرُّ رضا الله سبحانه لا بد له من أن يعبر من خلال سفينة لها ربّان ماهر لأن الطريق شائك والأمواج متلاطمة والرضا الإلهي جوهرة نفيسة ليست بمتناول أيّ يدٍ إلاّ يداً طُهرت في جميع الجنبات وكمُلت في أعلى ما يمكن أن يصل إليه الإنسانُ في الكمال، هذه اليد الأمينة هي متمّثلة في من قال عنهم الجليل جلّ وعلا {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}(4).
فلذا كان الدين والرضا الإلهي يمثّل عند أهل البيت وعند مولانا أبي عبدالله(ع) الشيء الكثير، وكانت النفس والسمعة وغيرها من الأمور الزائلة لا تمثّل له (ع) شيئاً عندما تتعارض مع الهدف المقدّس فلم تكن الدنيا بطوق يطوّق الحسين (ع) من أن يصل إلى الرضا الأوحد، بل لقد انحنت الدنيا خجلى أمام الحسين (ع) فضلاً من أن ترمُش للحسين (ع) بأن يميل بنظرة عابرةٍ لها لأن الحسين (ع) لم يعطها الفرصة ولا للحظة بأن تفكرّ في الدخول إلى معينه الصافي. نعم، الحسين(ع) مجهول القدر، لا نعرفه حقيقةً، وكيف يحيط الناقص بالإنسان الكامل، ولو عرفناه لتحررنا من كلّ القيود وعلى كل المستويات، الحسين (ع) نفحةٌ من نور الله، نفحة أطلت على هذه الدنيا وقد كانت تُريد أن لا يبدو في هذه الحياة إلا النور، كانت تريد أن تطرد الظلام بل الضبابية من كل الوجود، ولكن الإنسان وبتماديه وتلطخه بالدونيات لم يعرف للحسين (ع) قدراً، وبالتالي يحجب النور عن نفسه، فها هو سلام الله عليه يقول (إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدّي (ص) أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر...)(5)
وهل هُناك نورٌ أعظم من هذا النور، وهو أن يعم الصلاح في أرجاء المعمورة، فهذه الأهداف الإلهية كان الحسين (ع) يسعى لتحقيقها، والأمّة اليوم مطالبة بأن تسير على هذا النهج حتى تصل إلى ما كان يرجوه أبي الضيم أبو عبد الله الحسين (ع).
لقد كانت زينب سارحة في هذه الأفكار، وإذا بها تسمع صوت أذان الفجر، الله أكبر، الله أكبر، فردّدت معه: نعم: الله أكبر، وهذا دليل انتصار دم الإمام الحسين(ع) على سيوف بني أميّة.
ذهبت إلى مصلاّها وأدّت فرضها، ثم فتحت القرآن وإذا بالآية الشريفة: {وَنُرِيدُ أَنْ نَّمُنَّ عَلى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِيْ الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ}(6) فأخذت تدعو: اللهم كن لوليّك الحجة ابن الحسن صلواتك عليه وعلى آبائه في هذه الساعة وفي كل ساعة وليّاً وحافظاً وقائداً وناصراً ودليلاً وعيناً حتّى تسكنه أرضك طوعاً وتمتّعه فيها طويلاً. وأخذت تتساءل: يا تُرى! هل نحنُ محط نظر الإمام (ع) أم لا، هل نحن محل رضاه أم لا، ما الفائدة من حياة ليس فيها ارتباط بإمام العصر (عج) من خلال الانقياد لتعاليم الرسالة المحمّديّة والأخلاق الإسلاميّة وكلٌّ مِنّا يدّعي الارتباط به سلام الله عليه ولكنه هو (ع) لا يقبل إلا أصحاباً لهم مواصفاتٌ خاصّةٌ فيا مولانا أفض علينا بنظرة منك يكون فيها خلاصُنا من غوائل وموبقات هذه الدنيا، سيدي متى ترانا ونراك، وقد حملت لواء النصر ترُى أترانا نحفُّ بك، وأنت تؤُمُّ الملأ. أنهت زينب التعقيبات ثم انسلَّت على استحياء طرف أُمّها قبّلتها في وجنتيها وجلست بجانبها وأخذتا تتجاذبان أطراف الحديث ثم تهيأت بعد ذلك وذهبت المدرسة، أما ما كان من أمر الحاج حسن والد زينب فقد عاد من مزرعته في وقت الغروب بعد أن أمضى نهاراً ملؤه العناء لأجل أن يحفظ ماء وجهه عن الآخرين. يا ترى كم هي لحظات سعيدة بالنسبة للحاج حسن فهو وإن كانت أعضاؤه متعبة من أثر العمل المتواصل طوال اليوم ولكنّه يحسُّ بارتياح شديدٍ في داخله لأنّه يرى نفسه أنه يؤدي دوراً في هذه الحياة فـ(الكادُّ على عياله كالمجاهد في سبيل الله)(7).
بينما هو سارحٌ في أفكاره إذا بالباب يُطرق، تدخل أم باقر تتقدم جهته حتّى إذا وصلت لجانبه حيّته قائلةً: السلام عليك يا أبا باقر. ساعدك الله، فردّ السلام عليها بأحسنَ منه، أردفت سلامه بالعبارات المسكّنة لتعبه: يا ترُى كم أنت تتعب وتشقى يا زوجي العزيز، فيجيبها أبو باقر بنظرات الأمل (زرعوا فأكلنا ونزرع ليأكلون) لا طعم للحياة يا زوجتي العزيزة بدون المُعاناة. فالمُعاناة بداية النجاح في هذا الطريق، ولكن ليست كلُّ مُعاناة، ولكنَّ المُعاناة التي تنطلق من وحي رضا الرب وفي سبيله وتستمر على ذلك الدرب إلى النهاية. بالمناسبة أين ابني باقر؟ لم أره منذ مجيئي. ابنك باقر خرج مع صديقه علي متوجهان إلى المسجد.
نعم... نعم تذكرت. هذه الليلة سيقام احتفال بمناسبة ميلاد منقذ البشريّة الإمام المنتظر (عج) ولقد أخبرني بذلك منذ الصباح. أنا سوف ألحقهم أيضاً لأستلهم من فيوضات هذا الإمام العظيم.
على بركة الله
أمّا بالنسبة لزينب فقد كانت مشغولة مع صديقاتها في إقامة المناسبة في الإطار النسوي ولقد كانت مُكلّفة بإلقاء كلمة في ذلك المحفل ولقد جاء في كلمتها ما يلي:
إننا إذ نعيشُ هذه الذكرى العظيمة لابدّ أن نعي حقيقتها لكي نكون بمستوى تحمّل المسؤوليّة، لابدّ أن لا تمرّ علينا هذه الذكرى مرور الكرام مرور كمن لم يسمع ولم يرَ، إننا جميعاً مسؤولون عن تأخير خروج إمام العصر(عج) فإمام العصر يريد أنصار، يريدُ ممهدين، يريد من يتحمل المسؤولية، فإذا كُنّا لا نتحّمل الآن أقل مسؤوليّاتنا وتكاليفنا فكيف نأمل في أن يُعجل في ظهوره الشريف، لنعلم جميعاً أننّا إذا لم نتحّمل المسؤوليّة اليوم فسيأتي من يتحمّلها عنّا لأن دين الله باقٍ إلى قيام الساعة. فهناك من يحملونه ولو كلّفهم ذلك حياتهم، فإذا لم نكن نحنُ أولئك فسيكونون غيرنا، أن ظهور الإمام (عج) لا يكون بالأُمنيات بل يكون بتحمّل المسؤوليات والتكاليف، بالتضحيات، التضحية بالوقت، بالمال، بالنفس، بالأهل، بكلّ شيءٍ في الوجود، لأنّ ظهوره يمثّل انتصار الإسلام والدّين على الكفر والشرك والظلم والظالمين، فلا مجال في هذه الدّنيا للمتقاعسين والمتلوّنين. أنتنّ أيتها الأخوات العزيزات تستطعن أن تبنين أجيالاً يحملون راية الإسلام بعزم وإرادة حديديتين، وفي نفس الوقت تستطعن أن تُخرّجن أجيالاً لا يحملون من الإسلام حتّى اسمه، نعم والتاريخ مليءٌ بهذه المعاني لذلك(إذا صلحت المرأة صلح المجتمع) أنظرن إلى التاريخ وتأمّلن أليست سميّة زوجة ياسر أول شهيدة في الإسلام؟، فإذا كانت النساء أمثال هذه الشهيدة فكيف لا يصلح المجتمع وكيف لا ترتقي الأمّة، نعم إذا تحملن النساء مسؤولياتهن وأدّين واجبهن وعشقن درب الحق تبارك وتعالى فإنهن لا محالة سيخرّجن أبناء صالحين وبنات صالحات، وماذا عساهن أن يخرّجن لو فعلن عكس ذلك غير أن يخرّجن أبناء مثل أبناء الغرب الذين لا يعرفون معنىً للحياة الحقيقية ولذا نراهم قد استبدلوها بالدّعارة والعهر والمجون والمخدّرات والسينما. ولقد أجاد الشاعر عند ما قال:
الأمّ مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيّب الأعراق.
وفي الختام لا يسعني إلا أن أسأل الله بحق صاحب هذه الذكرى إمام العصر أن يوفقنا جميعاً لما يُحب ويرضى وأن يجعلنا من أنصار الإمام المهدي المنتظر (عج) ومن الممهدين لظهوره المبارك والسلام عليكن جميعاً ورحمة الله وبركاته.
من جهة أُخرى كان احتفال الرجال مليئاً بالعطاء والحيوية أيضاً فقد كانت الزينة تملأ آفاق المسجد وكانت فقرات الاحتفال متنوّعة فقد ألقيت بعض الكلمات وأنشودتان وقصيدتان. جاء في إحدى الأنشودتين:
يا طيور السماء غرّدي جاءنا القائد المنقذ
غرّدي وافرحي وانشدي قد أتانا الغدُ المشرق
ثم كانت فقرة الختام في البرنامج توزيع بعض الهدايا للأطفال الذين وصلوا سن البلوغ والتكليف وقبل تسليمهم الهدايا تسلّم المنصّةَ أحد العلماء وألقى كلمة بالمناسبة كان من ضمن ما أتى فيها: كم هي نعمة كبرى نعمة التكليف، وكم هو تفضّل كبيرٌ من الخالق أن يشرّف هذا العبد بالتكليف، إنّ لحظةَ التكليف لحظة ينتقل فيها الإنسان من عالم إلى عالم آخر مختلف، عالَم يتشرّف فيه البالغ بتشريف خاص وعُلقة خاصة مع ربه. نسأل الله أن نوفق لأداء تكاليفنا على أحسن وجه، والحمد لله رب العالمين.
* الهوامش:
(1)في رحاب عاشوراء، الشيخ الآصفي: 370، عن بحار الأنوار: 44: 366- 367، اللهوف: 52-53، نفس المهموم: 163، الوثائق الرسمية لثورة الحسين(ع): 77-78.
(2)تاريخ الطبري: 7: 300، مقتل الخوارزمي.
(3)في رحاب عاشوراء، الشيخ الآصفي: 370، عن بحار الأنوار: 44: 366- 367، اللهوف: 52-53، نفس المهموم: 163، الوثائق الرسمية لثورة الحسين(ع): 77-78.
(4)سورة الأحزاب، الآية 33.
(5)بحار الأنوار: 44: 329، مقتل الخوارزمي:1: 188
(6) سورة القصص، الآية 5.
(7)ميزان الحكمة: 4: 119، ح: 7203.
0 التعليق
ارسال التعليق