الحَـْمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِـين، وَالصَّـلاةُ وَالسَّـلامُ عَلى مُحَـمَّدٍ وَآلِهِ الطَّيبِـينَ الطَّاهِـرِين، اللَّهُمَ إنِّي أسـالُك أنْ تُصَلِّي عَلَى مُحَـمَّدٍ نَبِيِّ رَحْمَـتِكَ، وكَلِـمَةِ نُـورِكَ، وأنْ تَمْـلأ قَلـبِي نُـورَ اليَقِـينِ، وصَـدرِي نُـورَ الإيـمَانِ، وفِـكْري نُـورَ النِّـيَاتِ، وعَـزمِي نُـورَالعِـلْمِ.
تمهـيد
هـذا المـقَال عِبـارة عـن توصِـيفٍ وتحلـيلٍ لبَعـض ما يَجـري في مَيادِيـن الحَيـاة من اخـتِلاطٍ وعَـلاقـاتٍ وصَداقـاتٍ بين جنس الرجَـال والنِّـساء، يَستـهدفُ إلقـاء نَظـرة فَاحِـصة للواقِـع المُعـاش اليوم.
والكـلامُ مُـوجَّهٌ لاثـنين من أهـمِّ ميادِيـن الحَيـاة وهُما مَيـدَانا (الدِّراسَة) و(العَـمَل)، ولا يَخـتَلِف اثـنَان على كَونهما ذوي حَيـويَّـة ومَحـلّ ابتـِلاء لمِـثْل تلك العَـلاقات المَشْـبُوهَـة أو المُحَـرَّمـَة، ومـن واقـع التَّجـربَة يُسـلَّط الضَـوء على عـدَّة نقـاطٍ تَصِف وتُحـلِّل الوضـع الجـاري والله المُسْـتعَان.
وقبل سَـرد الحَـديث نقُـول: يُوجَـد اختِـلاطٌ مَذْمُـومٌ وآخَـر غَـير مَذْمُـوم(1)، وكُـلُّ ذلك بلِـحَاظ الأثَـر المُـتروك والنتيـجة الحاصـلة من هَـذين النَّـوعَين جـرَّاء وجُـود الاخـتِلاط.
فالأوَّل هُـو ما قَصَـدناه مِـنَ المقَـال، فالـذي يُمـيِّزهُ هو احتِـوائـه على المُخـالـفَات الشَّـرعِـيَّة، والخُـروج عن الأحكَـام والحُـدود الإسـلامـيَّة، والإتيَـان بالمفَـاسِـد والمـسَاوئ الأخلاقـيَّة وغير ذلك ممَّـا يقَـع في دائـرة مَا يُغـضِب الله (عزّ وجلّ). ووجُـودُه مُتكـثِّرٌ بتعـدُّد مَـيَادِيـن الحَـياة العِلمـيَّة والعَملـيَّة، ووقـوعُه مُتكـرِّرٌ بتجَـدُّد لقَـاء الجِنـسَين في مُختَلف البقَـع والأمـَاكن، وظهـورُه مُطَّـردٌ للانفـتَاح الحـاصِل والتَّـلاقِي الكَبـير بين الرَجـل والمـَرأة في شـتَّى الـدُروب. والعَـالمَ الـيوم يَعُـجُّ به في مساحَـةٍ واسـعَةٍ جداً من الحَـياة.
وأمَّا الثَّـاني(غير المذموم) فلا كَـلام بخصُوصه فـي هذا المقَـام لالتِـزَامِ أفْـرَادِه بأحكَام الشَّـرع المُـقدَّس والضَـوابط الإسلامـيَّة، والشَّواهـدُ على ذلك غـير قَليـلة، فالقـَريبُ من ذلك يعُـاين حقيـقَةَ ذلك ويَحـمدُ الله (عزّ وجلّ). لوجود مِثْـل هـذه الأفـراد والشَّخـصيَّات المُلتَـزمَة والمُؤمِـنَة التي يَفتَـخِر بها الإسـلامُ لكَونِها مُجتَـهدةً علمًا وعملاً مع التَّـديُّن والالتِـزَام، فتُعـتَبرُ تلك شخصيَّاتٌ تنافـسُ الآخَـرين وتُتَرجِـمُ له عُلوَّ الدِّين ورُفعَـتَهُ بالتَّـقـيُّد بما هـو واجبٌ في مُحِـيط التَّعْـليم والعَـمَل.
يُقـال بأنَّ بُـؤَر الاخـتِلاط من مَظَـانِّ بُـروز الإيْمَـان والتَّـقْوَى، لأنَّـه مَعـهُودٌ بين السَّالكِـين العَـارفِـين أنَّـهُ كُلَّـمَا وُجِـدَت النَّـفسُ في مَـحَلِّ الامتِـحَان والابتِـلاءِ نَلحَـظُها تَسْـمُو دَرجَـاتٍ فَدرجَـات، طَـبعَاً في حَـال سَعْـي النَّـفْس للوقُـوف عند الشُّـبهَات والأخـذ بالوَاجِـبَات وتَـرك المُحـرَّمَات، فبُقـعَةُ الاختِـلاط (المذمـُوم) مكَـانٌ لانحطَـاطِ النَّـفس أو سُمُـوِّهَا بتَحـصِيل المَلَـكَات الأخـلاقـيَّة مِثْل الصَـبر على غَـضِّ النَّـظر وإمسَـاك اللِّسَان عن الهَـذَر وفُضُـول الكَـلام.
أولاً: مَيْـدَانُ الـدِّرَاسَـةِ وَالتَّـعْلِـيْم
ابتَـدأتُ الكَـلامَ في مَيْـدَان الدِّراسَـة بحُـكْم كَونِـه يَسـبقُ مَيْـدَانَ العَـمَل غَالـباً، ولعَـلَّهُ في أكـثَر البُـلدَان العَربـيَّة يَشْـرَع الـولَدُ والبـنْتُ في تَحـصِيل العِـلْم في مَـدَارس مُستَـقلَّة لكُلٍّ مِـنَ الجِنْـسَين، وهـذا يُعـطِي فُـرصَةً كَبـيرَةً لِبـنَاء العَـلاقـَات ورَوابـِط المَعَـارف بشَكـلٍ وَاسِـع، حَيثَ أنَّ الـولَدَ يُصَـادقُ من جِنْـسِه الـذُّكُور وهكـذا بالنِّـسبَة للبـنْتِ، فَيَنـتَفِي الاحـتِرازُ الشَّـدِيد والاحتِـيَاط في العَـلاقَـات تَقْـريبَاً -الكَـلامُ هنا يَخـصُّ دائـرةَ العَـلاقَـات الإيْمـانـيَّة- لكِـن المشكِـلة تَكـمُن بعـد أنْ يَتخَـطَّى الولـدُ والبـنتُ الـدِّراسَـةَ في المـدَارس ويَلتَـحِق الاثـنان بالجَامِـعَات والمعَـاهِـد التَّعـليمِـيَّة، لأنَّ جـَوَّ التعـلُّم مُخـتَلـطٌ (co -education) في الأعمِّ الأغـلَب إنْ لم يكُـن الكُـلُّ كَذلِك.
في الـحَالة العَـاديـَّة يمُـثِّل اقْـتِرابُ مقاعِـد الـدِّراسَـة بين الجِنْسَـين في الجَامِـعات والمعَـاهِد أمـراً جَـديداً ومُـربكاً لحـدٍّ بَعـيد، فتَصـوَّرْ بعـدَ أنْ كان الولدُ مع الولد والبنتُ مع البنت في عَـلاقاتهم وأحَـاديثهم ومَـجالسهم وإذا بمحِـيطٍ دراسـيّ يَجمَـع الولدَ والبنتَ في صـفٍّ دراسـيّ وما لازمَ ذلك. وعنـدمَا اقـتَرب الجنْـسَان دراسـةً أصـبحَ صـرحُ الجامـعَة والمعـهَد مَحـلاً لبُـروز المُشكِـلات والمُخالفَـات الشَّـرعيَّـة كمَّـًا وكَيـفًا ونَوعـًا، من نظـرةٍ ولمـسَة وجلـسَةٍ وضحـكَةٍ وعَـلاقةِ وما خـفي أدهَـى، فهذا الطـالب أو الطـالبة إذا كانَ يقـضِي عـدَّة ساعَـات يومـيًا لتحصِـيل العِـلم في مِثْـل هذه الأجْـواء يجـدُر أنْ يكُـون وضـعُه في حـالة استـنفَار وانتبَـاه دائمَـين لما يـدور حـوله، فلا الغَـفلة والتـسَامح يجـدِيان ولا التَـهاون والتَّـسويف يُنجـيَان؛ لأنَّ ما يجـري اليـوم في غـاية الخُـطورة حيث أنَّ الوضـع مُـؤلم حقـيقة، وذلك لغـياب الأخـلاق والقِـيَم والتَّـديُّن وظهـور المفـاسد في كلِّ حَدب وصَوب بـزَيف القَبـول والرضَـا بالواقِـع، واعتـبَار المُخالـفات الديـنيَّة أمـراً عاديّـاً يَتطـلَّبه حال الـدَّارِس في هذه الصُـروح المُخـتَلَـطَة.
الخـوفُ كلُّ الخَـوف هـو من تَصـلُّب الـرَّأي المُساهِـم في خَـلْق أجْـواء الاختِـلاط وحيـثيَّاتِـه، ومـن اتِّسَـاع رُقعـة هذا الاتجـاه في التفـكِير، لأنَّ له الأثـَر البَـالغ في تصعِـيب قَبـول الموعِـظَة والنُّـصح والإرشَـاد الدِّيـني على هـذه الأجـيَال واللاحِـق منـها، وبالتـالي تُستهـجَن طرائـقُ التَّربيَـة الدِّينِـيَّة والقُـيُود الشَّـرعـيَّة المُلـزمَة للوقـوف على ما يُـرضي الربَّ المُتـعال، فـعَن أمـير المؤمنِـين (عليه السلام) أنَّه قَال: «أصْـعَبُ السِّيَـاسَاتِ نَقْـلُ العَـادَات»(2).
الانضـمَام إلى الجَـامعة يَعـني الكَـون تحـت سقـف يُقـيِّد النَـظر بعـد إطـلاقِـهِ، يُحـدُّ من الحَـدِيث بعـد كَثـرتِـهِ ويُتـحرَّز من العَـلاقات ومُحاولَـة ضَبـطها من النَّـاحية الشَّـرعـيَّة، وأيضًا هناك أمُـور أخْـرى يَجب الالتـفَات إليـها، أجمـعُها بهـذه الكـلمَة، (أنَّ الجـوَّ الجَامِـعيّ يَتطـلَّب إعـادة صِياغـة شَخـصَّية وأفكَـار، وصَـقل سُـلوك وأخَـلاق، وتحصِـيل صَـبر وحَـزم، والـتزام بشَـرع ودِيـن، وعَـقد ثَبَـات وتوكُّـل على الله (عزّ وجلّ) في كُـلِّ شِـبر من الجَـامعـة والمَعـهَد).
مَن كَـان على مَقـرُبة من مُحِيط أجْـواء الاخـتِلاط الـدِّراسيَّة يَعـلمُ بمـدَى تَدهـور الأوضَـاع وتَأزمِّـها، ويَعـلم كَمْ هـي تلك المُلاحـظات والمُـؤاخَـذات على السُّـلوكيَّات والأفـعَال، وتَمـرُّ علَـيه من الـحَركَات مَا هـو مَشـبُوه أو مُحـرَّم، ويَلتـفِت لمـا يَجـري في الفَـعالـيَّات مـن تَـدنٍّ أخْـلاقِي، وكُلُّ هـذه القَـضَايا تحـصَل بعـشَرات المـرَّات ممَّا يعـطيهَا طـابعاً يُجـذِّرهَا ويُـؤصِّلـهَا في حَقيـقَة الأمـر والوَاقِـع.
التَّغـافُل عـن مِـثْل هـذا الاخـتِلاط وما يُحـدِثـه من تَـقَاعُـسٌ عن الأمـر بالدِّيـن، والعَـمَل الفَـردي والسُّـلوك الصَّـادر من جـهَةٍ واحِـدةٍ لا يُقـاس ويُجـابَه بهـذا الجـوِّ الخَـطير، إذ يَحتاج ذلك لحـركَة جَـامعَة شَامِـلة تَقـف في وجـه هـذه المُخالـفَات، والاستـمرَار والـدوَام دفـاعاً عن ما أتَـى به الإسـلام من حِشـمةٍ وعَـفافٍ وأخـلاق يَتحـتَّم هُنا، فعـند التَّـفَشي والانفِـلات يكُـون الضـبطُ صعْـباً.
حَـديثٌ مُتـبادَل بلا قَـيد ولا شَـرط، ضَحـكَاتٌ وقَهـقَهاتٌ تُـدوِّي المُـمرَّات والصُـفُوف، مـواعِيد واتِّفـاقَات لعَـقد جَلـسَات وأحَـاديث، تَرصُّـد وتَـرقُّب للنَـظرات واللقَـاءات، وأمُـور أخَـرى تُعـدُّ مظـاهِر للاخـتِلاط، وهُـناك مَظـاهِر عَـديدة له تَخـتَلف في خِفَّـتِها وشِـدَّتِها ونَوعـيِّتِها أيضاً، طَبـعاً من المُـؤكَّد أنَّ بعـضَ المظَـاهر تُؤثِّـر على الـدِّراسَة في حال إذا ما اسْتَـشْرت وتَفـحَّلَت على أرض الوَاقِـع، ولكن تَبـقَى العَاقِـبة والمُسـؤوليَّة شَخصـيَّة لحدٍّ مَا، لكِـن ما يَتـأسَّف المرءُ علَيه أكـثَر هو انعِـكاس مَظـهَر الاخـتِلاط المُـريب لِيضْرب على أوتَـار أخْرى ونواحٍ مُختَـلفة مِـثْل (الأسـرَة) و(العَائـلة) بشَكل خاصّ والمجـتَمع الخَـارجيّ بشَكل عـامّ.
تَشـبّعُ الفِكـر والسُّـلوك بالعَـادات المُخـالِفة للـدِّين في البيـئَة الـدِّراسيَّة بالنَظـر لطُـول المُـدَّة التي يَقـضِيهَا الطَّـالِب والطَّـالِبة في دِراستِـهما الجَامـعيَّة من سَنـوات تَصـل في المُتـوسِّط لخَمْس، هـذِه الفَتـرة ليست بَسـيطَة فبإمـكَانها أنْ تُـربِّي فَـرداً وتُغـذِّيه بمشَـارب مُتـنوِّعة -مع غـض النظـر عن السـليم والفـاسد منها- والتَّشـبُّث بأحَـد مَظَـاهر الاخـتِلاط ولو صَغـيراً يضْـفِي على النَّـفس نَوعـًا من الانغِـمَاس والركُـون والاستِـسلام لما يَـجري، ويُحسِّـس الشَّخـص المُتعَـلِّق بها بِنحْـو عُلـقَةٍ وتَعلُّـقٍ بما يَكـتَسبه ويُـداوم على فِعـلِه أو تَـركه، مُتَـوهِّمٌ مَن يَقـول أنَّـهُ -أي التعـلُّق بالاختـلاط- مجـرَّد حَـالات تَـزُول بـِزوال المُقتـضِي بل هي وُقـوعٌ فيما يَنْـدُر التَّخـلُّص مِنـه، المقَـام هنا ليـس فَقـط وفَقـط مَوقِـف حَالّ، بل أفعَـال مُؤسِّـسَة لفِكـرٍ وتَيَّـارٍ وتَوجُّـهٍ ينـصِب الحـرَب لمُواجَـهة مَبـادئ الـدِّين الإسـلامِي الحَنِـيف.
هَـذه المَظـاهر تَحتَـاج لِـدِراسة وتحلِـيل، للسـيطَرة عَلـى زمَـام الأمُـور والأخـذ بيـدِها لما يَصـبُو إليه الدِّيـن والشَّـريـعَة، مَظـاهرٌ تَسْتـجدِي عَالِـمَ الدِّيـن والمُفكـِّر المُـؤمن لمُتَـابعة الأمـر وبَـتره بأفكَـار الإسـلام النَـيّرة، وبأحـكَام الشَّـرع المُقـدَّس، مَظـاهرٌ تَنـتَظر البَـديل الإسْـلامي لما يحـتَاجه طـالِبُ هـذه الأجـواء المُختَـلَطة وتَوفـير المُراد للفَـرد اللاهِـث وراء زَيـف الاختِـلاط، مَظاهـرٌ تَنـتظِر الـردَّ المُحـكَم والوُقـوفَ ضـدَّها بكُـلِّ بَسـالة وشَجـاعة بالمنْـطِق والدَّلِـيل وبتنـظيمٍ أكثَـر دِقَّـة وتَرتيـبٍ أكثَـر ضَبْـطاً، خاصَّـة في الفعَـاليات والمُنـاسبَات واللقَـاءات التي عَـادةً ما يخـتَلِط فِيـها الحَـابل بالنَـابل.
من الوَاضِـح أنَّ مَا يَقـع في أجـوَاء الجَامِـعة أمرٌ مُنـفَلِت ومَسكُـوت عَنه، لا عَلى الأقَـلِّ من الشَّخْـص نَفـسه، فما الـدَّاعِي لإطَـالَة الحَـديث خَـارج وَقـت الـدَّرس بَـين الجنْـسَين؟ ولمـاذَا تَنـتَشِر الأحَـاديث الوديَّـة الغَـير لائقَـة بَيْـن الشَّـاب والشَّـابة؟ (خُصـوصاً فيـمَا إذا كَان أحَـد الطَّـرفَـين مُرتَـبطاً بعَـقد زَواج أو كُليـهما كَـذلك، فهَـذه الطَّـامَّة الكُـبرى)، ما السـبب وراء التـقرُّب والـودِّ الصـادر من الـولد والبنـت؟
وهَـذا الأمْـر ليسَ بخَـفِيّ؛ لأنَّ شواهِـدَه تَـمرُّ كَثـيراً، وأسئِـلة كَثـيرة تَنبَـثق وتَـبرُز إلى السَـطح بخصُـوص الاختِـلاط.
إنَّ الانجـذاب الحـاصل بَـين الجنـسَين فِطـريٌّ، لما يترتَّـب علَـيه مـن ربَـاطٍ مُقـدَّس وثِـيق، ولكـن يحـتَاج لتـوجِـيه وإدارة إلى حيـث يقْبَـله دِيـنُ مُحَـمَّد (صلّى الله عليه وآله)، فلا مَلامَـة لما يحـصَل من مَـيل قَهـراً خَـارج عـن إرادة الطَّـرفَـين، وإنَّما المُشـكِل عنـدَما يُوظَّـف الانـجِذاب والمـيْل لمـلءِ الفَـراغ والتَّـسليَة وتحـصِيل الشَّهَـوات واللّـذات المحرَّمَـة، فالكَثـير من النَّـاس له ادِّعـاءاتُـه وتَعلـيلاتُـه حـول الاختِـلاط ويكـون من المُسَـاهِمِـين في هـذه الظَّـاهرة بوجُـودِه وسكُـوتِه أو رضَـاه وتأييـدِه.
حَـالة تَشْـبَه الفَـزعَة تُصيب الطَّـالب حَـالما يَنـخَرط للوَهَـلة الأولى في المُحِـيط المُختَـلَط بالجَـامعَة، وهـو في مَرحـلَة شَبَـاب لَيس بغَـريب علَـيهَا إذَا ما تَعَـذَّر الشَّـبَاب بـ (حُـجَّة الانفِـتَاح والتَّـجْربَة والحُـريَّة في بنَـاء العَـلاقَـات مَعَ الجنْـس الآخَـر)، لَحَـقّاً تلكَ مُستَمـسَكات وَاهـيَة لضَـعْف ما يَبتَـني عَلَـيه هذا الـرأي، ولعَـلَّ البَعـض يَشمَـئزُّ من كَثـرة القُـيُود الدِّينـيَّة، ولكـن في الحَقـيقَة هَـذه ضَـوابط لسَـعَادة الإنسَـان في حَيَـاته وبعـدَ ممَـاتِه، لأنَّـه لا يَعـرف مصْـلَحة هذا المخـلُوق إلا خالـقُه (عزّ وجلّ).
البَعَـضُ يَشـعُر بالصـدمَة لِعَظـيم فِعْـلِه عنـدَما يُـنَبَّه بـ (الأمْـر بالمعُـرُوف والنَّهـي عَن المُنـكَر)؛ لأنَّـه يُوجَـد أفـرَاد تَغِيـب عَنـهُم أحكـام الديـن البَديـهيَّة في مَجَـالات من الحَـيَاة، ويَتصـوَّرون أنَّ مَسـيرَهم في الطَّـريقِ الصَّحِـيح، وكَمْ هِـي الأمثِـلَة عَلى ذلك حيث أنَّ البَعْـض يَجـهَل بـ (وُجُـوب سـتر المَـرأة لكَـامِل جِسـمِها إلا الوَجْـه والكَـفَّين) ويَعتَـقِد بجـوَاز كَشْـف القَـدمَين! وهـذا كلُّه نَتيـجَة الوُلـوج والـذوبَان في جـوِّ الاخـتِلاط والتَشـبُّث به والانقِـيَاد لمِظَـاهره والتَّـصدِيق بتقـوّلاتِه التي لا تُغـني ولا تُسـمِن من جُـوع.
ويَعـزُو السَـبب وَراء عَـدَم عَـزْل الطُّـلاب والطَّـالبَات في جَامعَـاتِهم المُستَـقلَّة إلى ضَعْـف الإمَكـانيَّات والميـزَانيَّات، حيث يَقـصُر ذلك عن تهـيئَة جامـعَات خاصَّة لأنَّ ثمَـن ذلك مُكـلِفٌ وبَاهِـظٌ، وقد يَتـصَدَّر السَبـب خَلـف ذلك هو قَـصْدٌ وعَـمْدٌ من الأنظِـمَة الحَاكِـمة لتدمِـير القِيَـم والأخـلاق الإسـلاميَّة في ضِـمْن تلك الأجْـواء ليَسـهُل تميـيع الجِـيل الشَّـبَابي المَعْـدُود لِقِـيَادة المُستـقبَل وتَـصَدُّر المَكَـان الرِّيَادي في الحَـياة العِلمـيَّة والعَمـليَّة، وبالتَّالي تمُـرَّر رَغـبَات الحُـكَّام والسلاطِـين لتَـخْدير الشُّـعُوب والتَّـسَلُّط على عُقُـول النَّاس ونَـزَواتهِم ليخـلُو لهم الوَضـع ليفـعَلُوا ما يَحْـلُو لهَم.
ثَانِـياً: مَيْـدَانُ العَـمَـل ِوَالمِـهَـنَـة
إنَّ مَيَـادِين العَـمَل كَثـيرة، وتختَـلف باختِـلافِ طَبـيعَة الوَظـيفَة والمهـنَة المُلـقَاة عَلى عَاتِـق العَـامِل، فمِـنهَا ما هُـو بعِـيد عن جـوِّ الاختِـلاط ومِنـهَا ما هُو قَـريب من ذلك، فلا كَـلام لما هُـو بَعـيد، بلْ أخُـصُّ الحَـديث عمَّا هُو مُبـتَلى بمشـكِلة الاختِـلاط والعَـلاقَات المُحَـرَّمَة.
يَزعَـم البَعـض على أنَّ (جَـوَّ الـدِّراسَة) الجَامِعـيَّة يُفـسِد الكَـثير من الشَّـبَاب والشَّـابَات لأنَّهم يدخـلُون الجَامـعة في مُقتَـبل العُـمر، وعلَـيه يكُـون هُـو أكـثَر خُطـورَة من (جَـوِّ العَـمَل) الذي عـادةً ما يَنـضمّ له الفَـرد بعـد تجـربَة في الحَـياة، وغَالـباً ما يَكُـون الفَـرد مُرتَـبطاً بأُسـرة تبـعدُه عن التَّـأثُّر والسَّـير وَراء حَيثـيَّات الاختِـلاط. لكن الوَاقِـع المُعَـاش يُدلِّل على عَكْـس ذَلك، حَيث نَجِـد نَوعـيَّة في العَـلاقَات المشـبُوهَة واختِـلاطاً غَريـباً في مُـحيط العَـمَل يَفُـوق مُحِـيط الـدِّراسَة بمـرّات، ومن المُـؤكَّد وراء ذلك سَبـب وعِـلَّة.
مِـن الأسـبَاب هُـو كَـون العَـامِل عَلى دَرجَـة كَبـيرَة من القُـرب من الجِـنْس الآخَـر، لالتِـزَامه بعَـمَل ما مقَـابل الأجـر المحـصُول، فلا يَستـطِيع العَـاملُ التَّـسَيُّب من العَـمَل المُـوجَّه إليه، حَتَّى لو ارتَـبَط بعَـملِه جِنْـسٌ آخَـر، فنَـجِد في (جَـوِّ العَـمَل) تَقـيُّداً بالتعَـامل مع الجِنْـس الآخَـر -عَلـى فَـرض كَـون القِـسم أو الدَّائِـرة تَحـوي عَامـلِين من الجِنْـسَين- لتخـلِيص مُعـامَلة أو عَـمَل. ومـن الأسـبَاب هُو طُـول المُـدَّة التي يَقضِـيها العَـامِل في عَمَـله مُشتـغِلاً بما علَـيه في ظَـرفٍ يفـرِضُ علَـيه الأخْـذَ والـرَدَّ مع الجِـنْس الآخَـر. أيضاً يُوجَـد سببٌ لذلك، وهُو وجُـود ضَبـابيَّة وعَـدم التَّـوجُّه لما هُـو من ضِـمن العَـمَل ولما هُـو خَـارج عـنه، فعَـددٌ من العَامـلِين يحـسَبُ أنَّ كلَّ شيء دَاخِـلٌ في العَـمَل ومُحَـاسَبٌ علَيه، حَتَّى أنَّـه يَعـتَقد أنَّ تكـوينَ عَـلاقَات في رِحـلَة لموظَّـفِي القِـسم مِـنَ (العَمَل)!، أو حَتَّى هَـذه القَهْـقَهة مَـع الزَّبـون يُفـكِّر أنَّها (عَمَل)!
الاختِـلاطُ له أثَـر يَنـخَر في سَـلامَة بنَـاء الأُسـرَة والمجـتمَع، لأنَّـهُ يُتصَوَّر أنّ الهَـدف من تَشكِـيل الأسـرَة هُو الاستِـقرَار النَّفـسِي والجَـسَدي المُـؤدِّي لالتـفَات الفَـرد إلى الصَـلاح والتَّـقوَى والصَيرورة في طَـريق الاستِـقَامة أكثَـر من بَقـيَّة مَـراحل عُمره، فمَا النَّتـيجَة عِنـدمَا نَـرى قِمَّـة الاختِـلاط بَـين الجِنـسَين المُرتَبـطَين(المتَـزوِّجَين) في العَـمَل؟ وكَمْ له التَّـأثِير السَّـلْبي عَلى سُكُـون النَّـفْس دَاخِـل الأُسـرَة وإخـلاصِها للشَّـريك، فطَبـيعيٌّ من له عَلاقـاتُه المشـبُوهَـة في العَـمَل يكُـون تَعامـلُه أقـلَّ صَـفاءً وإخْـلاصَاً وحُـبّاً لأُسـرتِه، لكن في المُقـابل نجـد المُتـشرِّعَ بدِيـن الله (عزّ وجلّ) والمحـتَاطَ في تَعـاملِه في محِـيط العَـمَل أكـثَر قُـدرةً على التَّـعَاطي بروحِـيَّةٍ هَـادِئةٍ مُستَـقرَّةٍ ومُتَّـزنة دَاخِـل العـشِّ الـزَّوجِي.
قد يَكـونُ السَّـبب وَراء تأخُّـر الـزَّواج لدى بَعـض النِّـسَاء وعُنوستِـهِنَّ نَتيـجَة الاسـتِرسَال في الكَـلام مَـع الأجنَـبي وعَقْـد الجَلـسَات خَـلف الجَلـسَات في مَـيدَان العَـمَل، ويحـصَل بأن تِلك المـرَأة بَعـدئذٍ لا يَرغَـب فِيها أحَـدٌ، ولا تجـد مَـنْ يَتـقدَّم لخِطْـبَتِها تأثُّـراً بما دَار أيَّام عُزوبَتِـها مِن عَـلاقَات مَشـبُوهَة مع هَـذا وذاك، واتِّصـافِها بما هُو مُشـين لشَخصـيِّتها وحَيـاءِها، والمعـضِلة أنَّ كَثـيراً منهُنَّ يجهَـلْن ذلك ويَستَـسهِلنَ القَضـيَّة ويَـرونها مجـرَّد أحَـادِيث عَـمَل!
والمُـلاحَظ في هَذا المَيـدَان استِـسلام المَرأة بشَـكلٍ عَـامّ بنَحوٍ مّا لكُـلِّ مَـن يَتـودَّد ويَتحَـبَّب ويَتـقرَّب إليـها ويُظـهر نيَّـةَ المُصَـاحَبة والمُرافـقَة في أروقَـة دَوائِـر المؤسَّـسَة أو الشّـركَة وما شَـابَه ذلك، في حِين أنَّـنَا نَفـهَم أنَّ الرَّجُل في كَثِـير من الأحـيَان يكُـوِّن العَـلاقَات المشـبُوهَة هَـادفِاً تَسـليَةً وما أتبـعَها، وعنـدَما تتـداوَل الأيَّام نجـده يرمِـي بمـن كَـان يَتـودَّد إليـهَا ليتَـعلَّق بغـيرهَا وهكَـذا دَوالـيك، فما حَال هَـذه المَـرأة؟ تَعتَـقد بصْـدق المُتـودِّد وتعْـطيه وقتَـهَا وإذا هُو كَـاذِب في نَـوايَاه! وعلَـيه تَنـفَذ الأيَّام ويَضِـيع العُـمر ويكـبَر الإنـسَان ولا يجـد نَفـسَه إلا ويـحِنُّ نَـدامةً على الأيَّام السَّـالفة المنقَـضِية في اللّـهو واللّعِـب.
الازدوَاجُ في الشَّخصيَّةِ يُعـتبَر من أمـرَاض بيـئَة الاخـتِلاط في مَيَـادِين العَـمَل والمِـهَن، وهو ظَـاهر بأجلَى صُـوَرِه ومَصَاديـقِه، ويُفـسِّر ذلك تجـاوُز خُطُـوط الـدِّين داخِـل العَـمَل، وخارجـه نجد التَّلـبُّس بخِـلاف ذلك من زيّ وحَـديث، وعَلى سَبـيل المِـثال (نَرى الرَّجُل والمَرأة يَفـكَّان القُـيُود الشَّـرعـيَّة ليَسْـتَرسِلا في المشْـبُوه من الكَـلام والحَـركَات داخِـل صَـرح العَـمَل بلا حَـيَاء، ونجـدهُما في المُـحِيط العَـائليّ كَمْ يَتـحرَّزا في عَـلاقَاتهـِما مع الأجنَـبيّ والأجنـبيَّة في ضِـمْن العَائِـلة الوَاحِدَة)، فالحَـال واضِـح بوجُـود الازدِوَاج في الشَّخـصيَّة.
فهَـذا الازدِواج يفـصُم شَخصـيَّة الفَـرد ويجعَـلها ركِيـكَة هشَّـة، وقَابـلَة لتَـراكُم النـظرات ضِـدَّها، والتي مـن شَـأنهَا أنْ تُقـلِّل من مكَـانة الفرد ومَـنزلـتِه بين النَّـاس، لأنَّ التـعامل بوجـهَين وبقالـبَين لا يـدوم ويجـعل المرء غير مُتَّـزنٍ في التَّـصرفَات والسُّـلوكيَّات، ويحـصل له التَّـهافُت والهـفَوات التي تقـلِّل من شَـأنهِ كإنسَـان بالنـظَر إليـه كَوحدَة من الانسـجَام والانتِـظام في السِّر والعَـلَن، في العَـمَل وخَارجـه، فبالقـيَاس لعِظَـم وكثـرَة النَّـواحي التي يَصـبَح فيـها الخَـلَل نتيـجَة الاختِـلاط، نقُـول بعـبَارة صَـريحة: (أنَّ الاختِـلاطَ تيَّـارٌ مُدمِّـرٌ يَسِـيرُ بجـلاء من حَـيث المَظـهَر ويخـفِي الدَّواهِـي في جُعْـبتِـهِ).
الخَـاتِـمَـة
يَستـحقُّ مَيـدَانا (الـدِّراسَة) و(العمل) اهتِـمَاماً أكثَـر من غَـيرهما لكَـونهمَا يَتمَـيِّزان بأنَّ مُشـكِلة الاخـتِلاط فيهـِما يَومـيَّة بخـلاف بَعـض المَيـادِين التي يَرتَـبِط بها الاختِـلاط في مـواسِم وأيَّـام مُعيَّـنَة من الـدَّهر، طبـعَاً يبَـدأ الاهتـمَامُ من نَفْـس الفَـرد ووليِّه والمسْـؤول عنه، ومـن ثُمَّ على المُشتغِـلِين بأمُـور الدِّيـن والشَّـريعَة لعـمَل التَّوجِـيه والإرشَـاد، ويَنـتهي بالمجـتمَع الصَّالح الذي يدعُـو لطَـرد شَـواذِّ الأفعَـال من نَسيـجِه الإسْلاميّ ومُحـاوَلة التَّجَـلبُب بكُـلِّ خُلُـقٍ كَـريمٍ عَفِـيف.
هَذه صُـورةٌ عُكِسَت لتَقـريب المنْـظَر لمن هُم يَنْـأَون عن هَـذه المَـوارد، آمِلِـين بأنه استطَـاع الهَـدَفُ تَقـديم خِـدمة لمن هم يُعـايشُون أمـرَ التَّبـلِيغ والنُّـصْح الـدِّيني عـلَّه يُظـلُّنا الله (عزّ وجلّ) برحمـتِه وعطـفِه. غَـفَرَ اللهُ لي وَلـكُم وَالسَّـلامُ عَلَيـكُم ورَحمَـةٌ مِـنهُ وبَـركَـات.
* الهوامش:
(1) المقصود من الإختلاط غير المذموم هو الإختلاط المباح الذي لا رجحان فيه بحسب الحكم الأولي، والتقسيم المذكور لا يتضمن الحث على هذا النوع من الإختلاط وإن لم يكن محرماً بذاته، إلا أنه مكروه ومرجوح بحسب ما ذهب إليه بعض الفقهاء، أو لا أقل، هو غير راجح إن لم نقل بمرجوحيته.
(2) كنز العمال 2969.
0 التعليق
ارسال التعليق