العلم بالمسائل الشرعية، التبحر في الفقه، سعة الأفق والإحاطة بتفريعات كثيرة، كل ذلك من الأمور الراجحة والمطلوبة بقوة.
ولكنها إذا افتقرت إلى ملكة الموازنة بينها وتشخيص التكليف الشرعي لا تؤدي إلى الغاية المطلوبة والمرجوة لتنظيم حياة الفرد والمجتمع، الدينية.
ربما يواجه الفرد مسألة واحدة فقط، ومع سعة علمه وإحاطته بالقواعد الفقهية لا يستطيع الجزم بأن القاعدة التي طبقها قد كانت في محلها ومثال على ذلك أن يتعرض مال وعرض هذا الشخص للخطر، فإن كان غير حائزٍ على ملكة الموازنة بين القواعد، وتشخيص التكليف الشرعي لـه على أساس ذلك فإن أول ما يتبادر إلى ذهنه هو معنى الضرر والحرج، وأهميه المحافظة على ماله، وعدم تساهل الشرع الحنيف في موضوع العرض وحرمة الدم.
أما إذا توفر هذا الشخص على هذه الملكة فإن ما يطرق ذهنه هو موضوع الموازنة بين أهمية العرض وحرمة الدم، مع أهمية الهدف الذي يهدر دمه ويستباح عرضه لأجله.
وفي واقعة كربلاء جسد لنا الإمام الحسين (ع) هذا الوعي بأهمية الدين على الدم والذرية والأهل والعيال.
فتاوى فقهاءنا تضم بين جنباتها هكذا نفحات من نفحات الوعي الحسيني، فهم لا يوجبون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في بعض الحالات، كأن يكون ذلك مدعاة للإضرار بالعرض والنفس، هذا أولا. أما ثانياً، وحينما يكون في بقاء الدم في العروق ضرر وخوف على دين الله عز وجل فإن هدره يصبح واجباً شرعياً كالصلاة التي لا يمكن تركها.
عندما يصطف جنود ابن زياد لمحاربة الإمام الحسين (ع)، ينبري علي الأكبر (ع) ليقول:
«أو لسنا على الحق؟... يا أبه إذن لا نبالي بالموت»، بينما يعترض أناس على الإمام الرضا (ع) وينزعجون لعدم قيامه بثورة على المأمون، فيما يتجرأ آخرون على الإمام الحسن (ع)، ويقول لـه أحدهم: السلام عليك يا مذل المؤمنين، مع أنهم كانوا يعرفون أن ذاك هو الإمام، وأنهم هم الشيعة لهذا الإمام (حسب الفرض)، فمنشأ هذا التباين في المواقف هو عدم معرفة التكليف الشرعي، سيّما مع الإمام المعصوم (ع)، والذي هو الامتثال والتسليم المطلق وعدم المسائلة.
معرفة الحكم الشرعي والتفريق بينه وبين الحق الشخصي، العلم بأن الحكم هو دين في عنقي ليس لي التخلي عنه والتبرع به كما هو الحق الشخصي.
هذه الأمور تعين المؤمن في تحديد قراره بشأن كثير من الأمور المرتبطة بالدين.
قد تكون هناك منافع ذات أهمية، بل قد تكون تلك المنافع منافع دينية، ولكنها معارضة بخسارة أكبر، فما هو تلكيفي أمام هذا التعارض؟
لعلّ هناك باباً من أبواب الفرج والرزق والسعة للمؤمنين، حينما يساهمون في مؤسسة أو مجلس معين ويندرجون تحته، ولكنها معارضة بتمكين الظالم من المذهب، وخصوصاً إذا ما تعددت الشواهد التاريخية لمشاريع هذا الظالم التي تفضي إلى القطع بعمله المضر والقائم على الإساءة للآخرين والتسلط على أمور المؤمنين.
ربما أحصل على منفعة دينية، وأعلم ابني فقه آل الرسول (ص)، ليعمل بالعمل الصالح، ويهتدي إلى الهدى الحق، فيما أكون بإقدامي على تعليمه في تلك المدرسة أو هذا المعهد الديني غير المستقل، أو الموجه من قبل الظالم، موجباً لتسلط غير أهل التقوى على مقدرات الشرع المقدس في هذه البقعة أو تلك، ليعملوا بعد فترة من الزمن في دين الله عز وجل بما وافق مصالحهم السياسية أو الاقتصادية أو غيرها.
فبالموازنة بين هذه الأمور، ايجابياتها وسلبياتها، ومعرفة أنها نوع من الأحكام الشرعية التي ليس لي الإغضاء عنها أو تحكيم الذوق الخاص فيها نصل إلى النتيجة ويتضح التكليف الشرعي.
فالعودة إلى كربلاء الحسين (ع) عودة استزادة في دروس الوعي وتحصيل ملكة تشخيص الوظيفة الشرعية، بدلاً من الانكفاء على نظرة أحادية الجانب، تنظر للمواضيع نظرة ضيقة، مقتطعة إيّاها عن المقدمات والخلفيات والأسباب والأهداف والنتائج المرتقبة.
فالإمام الحسين (ع) لا ينظر إلى قتل النفس نظرة أحادية الجانب تقول بحرمة الدم وفقط، ولذا كان قد أوجب إهدار الدماء في سبيل بقاء دين جده (ص) قائلاً:
إن كان دين محمد لم يستقم إلا بقتلي فيا سيوف خذيني
ولأن الموضوعات مختلفة، ودرجات وضوحها متفاوتة كان لزاماً عقلياً أن يرجع الجاهل إلى شخص أكفأ منه، وأقدر على تشخيص الموضوعات المعقدة، وليسمى ذاك المرجع بالقائد أو أي تسمية أخرى.
0 التعليق
ارسال التعليق