{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ، عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيْكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10)}.
وتسمى أيضاً سورة السفرة، وهي سورةٌ مكيةٌ تبحث مسائل مهمة، وتتحدث في بدايتها عن عتابٍ إلهيٍّ شديدٍ لمن يقدم الأغنياء والمترفين على الضعفاء والمساكين من المؤمنين فيرفع أهل الدنيا ويضع أهل الآخرة(1)، ومواجهة المؤمن بأسلوبٍ غير لائقٍ مع أنه باحثٌ عن الحق، وهذا الشخص المؤمن هو عبد الله بن شريح بن مالك الفهري، وهو ابن أم مكتوم، وهو ابن خالة السيدة خديجة بنت خويلد(ع)، وكان قبل أن يسلم يدعى حصيناً، فسماه النبي(ص) عبد الله، وهو صحابيٌّ جليلٌ شجاعٌ أسلم بمكة وصار من مؤذني النبي(ص) بالمدينة المنورة، وأحد مشاهير قُرَّاء القرآن بها، وقد فقد بصره وعمي، واستخلفه النبي(ص) على المدينة أكثر من مرة عندما كان يغادر إلى غزواته، واستشهد في واقعة القادسية السنة 15 للهجرة وقيل 16 للهجرة وهو أعمى، وقيل توفي السنة 23 للهجرة بالمدينة المنورة(2)، أما الشخص العابس فهناك أناسٌ لم يقفوا على شخصية النبي(ص) صاحب الأخلاق الفاضلة والسجايا الحميدة، فادَّعَوا أن الذي عبس وتولى هو النبي المصطفى(ص) والعياذ بالله، ولذلك كان هذا البحث دفاعاً عن رسول الله(ص)، وأنا لست بمحققٍ بل متطفلٌ صغيرٌ. والذي أطرحه هو مجرد قناعاتٍ شخصيةٍ بعيدةٍ عن التعريض بأي شخصيةٍ من الشخصيات العلمائية. بل مجرد مناقشة فكرةٍ لعل وعسى أن يكون لله في ذلك رضىً وللناس فيه صلاح، وأرجو أن لا يبخل عليَّ الأساتذة والإخوة بملاحظاتهم لتقويم ما اعوج في هذا البحث.
لماذا البحث في مثل هذه القضايا الآن ؟
قد يتوهم في بادئ النظر أن البحث عن هوية العابس في الآيات المباركة ليس بالأمر المهم، أو أنه من المواضيع الجانبية التي لا تستحق البحث وهناك مواضيع أولى بالطرح حالياً، ولكن هذه النظرة حادت عن الصواب، إذ أن الدعوى القائلة بعبوس النبي(ص) هي في الخطورة بدرجةٍ يمكن أن تكون نافذةً للخدش بشخصية النبي الأعظم(ص) والتقليل من مقامه وهتك حرمته المقدسة سواءً أكان بشكلٍ مقصودٍ أو لا، ولذلك نجد حالياً كيف تعدت بعض الصحف بشكلٍ وقحٍ على مقام النبوة المهيب بهذه الرسوم الكاريكتورية، وتصريحات رئيس الكنيسة الكاثوليكية السخيفة في الفترة الأخيرة، بل وقد بلغت القذارة مستوىً بحيث تُضْرَبُ قبة حرم أبناءه(ص) وتهدم بدون رعايةٍ لحرمته، أو أنه نجد بعض الكتابات التي تنتقص من مقام النبوة بقصدٍ أو بدونه بدعوى محاربة الغلو والمغالين، ولذلك لا بد من التطرق إلى القضية لا بما هي حادثةٌ تاريخيةٌ وحسب، بل دفاعاً عن رسول الله(ص) عن أي شيءٍ قد يُنسَب له وهو عنه بريءٌ وأي وصفٍ لا ينسجم مع مقامه الذي لا يدرك كنهه إلا الله سبحانه وتعالى.
وقفة مع المثبتين:
يمكننا تقسيم الأشخاص القائلين بأن الآيات قد نزلت في الرسول(ص) إلى قسمين :
القسم الأول:هو قسم يهون عليه اتهام النبي(ص) بهذه الصفة أو بغيرها شريطة أن تبقى ساحة قدس غيره منزهةً وبريئةً، وذلك لخدم أغراضهم ومصالحهم، وهذا القسم خطيرٌ جداً. ومن أبرز ممثيله أبو هريرة الدوسي الذي قد صرح أمير المؤمنين(ع) بتكذيبه ومن ذلك ما أثر عنه(ع) أنه قال(ألا إن أكذب الناس -أو قال:أكذب الأحياء- على رسول الله(ص) أبو هريرة الدوسي)(3)، فإن هذا الرجل قد كذب على رسول الله(ص) لاستنقاص مقامه وتبرئة ساحة الظَّلَمَة، فيروي مثلاً أن النبي(ص) قال:(إنما أنا بشرٌ أغضب كما يغضب البشر، وألعن كما يلعن البشر، فأيما عبدٍ سببته أو لعنته في غير كنهه فاجعله له رحمة)(4)، ولو لاحظنا هذه الرواية نجد بأنها تستهدف ما ثبت عن النبي بلعن جماعةٍ من الصحابة، وبذلك تكون سمعة وماء وجه هؤلاء عند أبي هريرة أهم من سمعة وماء وجه الرسول(ص)، فقالوا مثلاً إن الله أجرى الحق على لسان عمر وقلبه في الرضا والغضب، وإن الملائكة تحدثه، والملك ينطق على لسانه، و(إن جبرئيل جاء إلى النبي(ص) فقال له:أقرئ عمر السلام، وأعلمه إن رضاه حكمٌ، وغضبه عزٌّ!!)(5) فشهد الله تعالى لعمر بأنه معصومٌ في الرضا والغضب بخلاف نبينا الكريم(ص) فإنه يلعن ويغضب بغير حقٍّ، أو يروون أن النبي والعياذ بالله يستمع الباطل إلى أن يأتيَ شخصٌ فيقول كفوا فقد جاء رجلٌ لايحب الباطل، فيقال من؟ فيقول عمر(6)، أو يروون عن النبي(ص) أنه قال:ما أبطأ الوحي إلا ظننت أنه قد بعث إلى عمر(7)، وغيرها الكثير مما تعج بها كتبهم مما يستهدف بشكلٍ واضحٍ مكانة النبي وحرمته المقدسة، ولذلك يهون على أمثال المدعو (.... ) أن يطعن بسيدة نساء العالمين(ع) التي هي بضعة الرسول(ص) وروحه التي بين جنبيه ومن أغضبها فقد أغضب الله، في سبيل تسجيل منقبةٍ أو دفع مثلبةٍ لأسياده فيقول أن أهل السنة يبحثون العذر لفاطمة في قضية غضبها على أبي بكر ولا يبحثونه لأبي بكر، فهي التي أخطأت ويقول بأنها لو لم تقبل أن يصلي عليها أبو بكر فهي منقصةٌ فيها(8)، وأمثال هذا كثر ممن لا ينفكون في محاربتهم للإمام الحسين(ع) والشعائر الإلهية، وبالجملة فإن هذا التيار يهدف إلى ضرب شخصية الرسول(ص) بشكلٍ واضحٍ ومتقصدٍ، وما ذلك إلا لنصبهم له ولأهل بيته صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
القسم الثاني:هناك قسمٌ ممن يثبتون مثل هذه الصفات إلى النبي الأكرم(ص) غفلةً منهم وربما كان ذلك استناداً إلى شبهةٍ، وذلك ناتجٌ من اجتهادهم جزاهم الله خير الجزاء، فإنهم ممن يملكون طيبة قلبٍ وحسن نيةٍ وليس عندهم أي عداءٍ للنبي الأكرم(ص) كعلمائنا الأبرار الأخيار، ولكن يبقى تفسير الآيات الكريمة في الرسول يشكل مطعنةً ومنقصةً كبرى في شخصيته سواءً أكان ذلك بشكل مباشر أم غير مباشرٍ، بشكلٍ واعٍ أم غيره.
منهجية البحث:
سنحاول البحث في ثلاث طرقٍ لنفي هذه الصفة عن الرسول الكريم:
الطريقة الأولى:النظر في نفس الآيات والروايات لنرى هل يوجد فيها دلالةٌ على أن الشخص العابس في الآيات هو شخص النبي العظيم؟
الطريقة الثانية:النظر إلى القضية من جهة عصمة النبي(ص) لنجد بشكلٍ واضحٍ جداً أن أمثال هذه الصفات تتنافى مع عصمة النبي العظيم.
الطريقة الثالثة:النظر في مقام نبينا الخاتم، وهذا الطريق يمنع أي شبهةٍ أو خدشةٍ قد تتعرض لهذا المقام الرفيع بحيث لا يجرؤ أحدٌ على الانتقاص منه والتجرؤ عليه.
النظر في نفس الآيات المباركة:
{عَبَسَ}:الآيات لما بدأت بدأت بفعلٍ ماضٍ فاعله ضمير الغائب (هو) العائد على شخصٍ غير مذكورٍ وغير مصرحٍ باسمه، ولا يمكن أن نقول بأن كل فعلٍ ذكر في القرآن الكريم كان فاعله ضمير الغائب فهو راجعٌ إلى نبينا الكريم، إذ أن هناك ضمائر في كتاب الله لا أحد يجرؤ أن يفسرها على أنها عائدةٌ إلى النبي(ص) كما في قوله تعالى {فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى، وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى}(9)، نعم إذا كانت هناك قرينةٌ كأن يكون المقام يرتبط بالنبوة نستطيع إرجاع الضمير إلى النبي كقوله تعالى {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى، فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى}(10). بل إن في سورة عبس تصرخ القرائن بوضوحٍ على استحالة إرجاع الضمير للنبي كما سيأتي بيانه، إذن ليس بالضرورة أنه إذا لم يذكر الفاعل وكان عندنا ضمير نرجعه إلى النبي، فهذه الموجبة الكلية منتقضةٌ بسالبةٍ جزئيةٍ كما تقدم، فنفس(عبس) لا يوجد فيها دلالةٌ على تشخيص هوية العابس لو بقينا نحن والآية المباركة.
{أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى}:الكلام فيها كالكلام في سابقتها فالضمير لا يدل على هوية المقصود به.
{وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى}:هنا أشكل البعض بأنه لا بد أن نحمل الخطاب للنبي(ص) لأن القرآن لا يخاطب إلا الرسول، ويمكن دفع هذا الإشكال بجوابين:
الأول:أن يكون من باب التعريض، بنسبة الفعل لشخصٍ وإرادة شخصٍ آخر من باب (إياكِ أعني واسمعي يا جارة)(11)، فأنت تخاطب شخصاً ولكن مقصودك الأصلي شخصٌ آخر، وهذا ما يسمى في علوم البلاغة بإبراز غير الحاصل في معرض الحاصل، ويوجد على ذلك شواهد من القرآن الكريم كقوله تعالى{لإَنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ}(12)، فإن عدم إشراك النبي مقطوعٌ، ولكنه عبر بالفعل الماضي الذي يدل على الوقوع لأجل التعريض بالآخرين، وهذا نظير ما قد يُنسَب للنبي(ص) على فرض صحة النسبة أنه قال (لإن سرقت فاطمة لقطعت يدها)، فهنا تعريضٌ بأن فاطمة العظيمة أقطع يدها فكيف بغيرها؟ فنقول في سورة عبس بأنه قد يكون الخطاب موجهٌ للنبي(ص) إلا أن المراد منه الآخرين، فالنسبة في الواقع هي نسبةٌ ظاهريةٌ، فهذا الإنسان العظيم لو عبس لصدرت في حقه المذمة والملامة فكيف بالآخرين؟ وإنما وجه هذا الخطاب للنبي(ص) لوجود كمال الألفة بين الباري جل وعلى ورسوله الكريم وهذا نظير قوله تعالى{وَمَالِيْ لاَ أَعْبُدُ الَّذِيْ فَطَرَنِيْ}(13)، فليس دائماً المخاطب هو نفسه المقصود بالخطاب.
الثاني:قد لا تتم هذه النكتة البلاغية في هذا المورد فنجيب بجوابٍ أقوى ينفي الإشكال من أصله، فنقول إنه ليس دائماً القرآن الكريم عندما يخاطب فهو يخاطب النبي الكريم، فهناك فرقٌ بين نوعين من أنواع الخطاب:
النوع الأول:خطابٌ يتعلق بقضايا التشريع والتبليغ أو شرح أحوال النبي(ص)، فهذا الخطاب لا ريب أنه موجهٌ للرسول كقوله تعالى{بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ}(14).
النوع الثاني:خطاباتٌ غير متعلقةٍ بالتشريع والتبليغ، فهذه يمكن أن توجه لغير النبي، بل هناك خطاباتٌ لا يعقل أن توجه للرسول الكريم كقوله تعالى{فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى، وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى، ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى، أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى، ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى}(15)، ففي هذه الآيات أيضاً جاءت بضمير غائبٍ ثم عطفت للخطاب، أو في قوله تعالى{ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيْزُ الْكَرِيْمُ}(16)، فهذا خطاب الباري جل وعلى لواحدٍ من أهل جهنم يتوعده بالعذاب استخفافاً به، فهذا أيضاً خطابٌ لكن لا يستطيع أحدٌ أن ينسبه للنبي(ص)، فتبين أن هذه القاعدة التي أسسها المشكل وهي أن كل خطابٍ فهو موجهٌ للنبي لا تجري على إطلاقها، فليس في المقام ما يرجح كون المخاطَب هو النبي(ص).
النظر في الروايات:
الروايات القائلة بأن العابس هو نبينا الكريم(ص) هي روايات من طرق العامة، وحاصلها أن الآيات نزلت في قصة ابن أم مكتوم الأعمى حيث (دخل على النبي(ص) فقال:يا رسول الله أقرئني وعلمني مما أعطاك الله، وكرر عليه ذلك وعنده قومٌ من صناديد قريش يناجيهم في أمر الإسلام فعبس النبي في وجهه وقال في نفسه الآن يقول هؤلاء الصناديد إنما أتباعه العميان والعبيد، فعاتبه الله بهذه الآيات، فكان(ص) حينما يرى ابن أم مكتوم يقول:مرحباً بمن عاتبني فيه ربي فيكرمه حتى يستحي ابن أم مكتوم من كثرة إكرامه له)(17).
وهذه الرواية يمكن الاستدلال على بطلانها بوجوهٍ:
أولها:الرواية ضعيفةٌ جداً من ناحية السند إذا طبقنا قواعد الإمامية عليها في الجرح والتعديل.
ثانيها:أنها مقطوعة السند، فإن أقرب الرواة إلى الزمن الذي تنسب إليه الحكاية هم أنس بن مالك وابن عباس وعائشة، أما أنس فهو مدني والواقعة حدثت في مكة وكان صغيراً جداً، أما ابن عباس وعائشة فإما أن لا يكونا مولودين أو أنهما كانا طفلين لا يميزان شيئاً.
ثالثها:روايات العامة مضطربة النقل مع اختلاف الروايات في تحديد من كان يناجيه الرسول(ص)، ففي بعضها أنه عتبة وشيبة، وفي أخرى أنه جمعٌ من وجوه قريش منهم أبو جهل وعتبة بن ربيعة، وفي روايةٍ ثالثةٍ أنه عتبة والعباس وأبو جهل، وفي رابعةٍ أنه العباس وأمية وصفوان، وقد قيل بأن ابن أم مكتوم لم يجتمع مع المذكورين في مكة(18)، وهذا موجبٌ لوهن الرواية.
رابعها:قول الراوي(قال في نفسه:الآن يقول هؤلاء الصناديد ) إذ أن الراوي لا ينقل إلا الأمور الحسية والحاصل أنه ينقل أمراً غيبياً قلبياً لا سبيل إلى روايته لأنه لا يراه أو يسمعه أو يحس به لكي يسجله ويشهد عليه.
خامسها:هذه الروايات معارضةٌ بما هو أحسن منها طريقاً والتي تدل على أن العابس هو غير النبي(ص)، وستأتي الإشارة إلى ذلك عن قريبٍ بإذنه تعالى.
سادسها:تعارض التفسير مع أخلاق نبينا العظيم(ص) ومسلمات العقيدة كما سيتضح في طيات البحث إن شاء الله.
إذن في من نزلت؟
قال الطبرسي في مجمع البيان:روي عن الصادق(ع) إنها نزلت في رجلٍ من بني أمية كان عند النبي(ص) فجاء ابن أم مكتوم، فلما رآه تقذر منه وجمع نفسه وعبس وأعرض بوجهه عنه فحكى الله سبحانه ذلك وأنكره عليه(19).
وإذا لاحظنا الرواية سنجد أنها مرسلة الإسناد، فالطبرسي(ره) لم يذكر سنده إلى الإمام الصادق(ع)، والمعروف أن المراسيل ليست بحجةٍ فلا يمكن الاعتماد على هذه الرواية، ولكن نجد بأن هناك مرجحاتٌ كثيرةٌ تدفعنا لترجيح هذه الرواية رغم إرسالها، إذ أنها محتفةٌ بقرائن توجب الاطمئنان بصدورها عن المعصوم أو ترجيحها على سابقتها لا أقل:
منها:أن الرواية موافقةٌ لما ذكره علي بن إبراهيم القمي في تفسيره حيث قال:نزلت في عثمان وابن أم مكتوم، وكان ابن أم مكتوم مؤذناً لرسول الله(ص)، فجاء إلى رسول الله(ص) وعنده أصحابه وعثمان عنده، فقدمه رسول الله(ص) على عثمان، فعبس عثمان وجهه وتولى عنه(20).
ومع أن القمي لم يصرح بأن ما ذكره رواية أولا، ولكن باعتبار أنه كان بصدد بيان سبب النزول وسبب النزول لا سبيل لمعرفته إلا بالروايات فيتبين أنه كان مستنداً لرواية.
ومنها:أنه ليس بمستبعدٍ أن يصدر ذلك من أمثال عثمان، فإنه كان معروفاً بالزهو والخيلاء في التعامل، حتى أنه رُوِيَ أن عثمان يوم الخندق مر بعمار بن ياسر وهو يحفر وقد ارتفع الغبار من الحفر، فوضع عثمان كمه على أنفه ومر، فقال عمار:
لا يستوي من يعمر المساجدا
يظل فيها راكعاً وساجداً
ومن تراه عانداً معانـــــداً
عن الغـــــبار لا يزال حائداً
فالتفت إليه عثمان وقال:يا ابن السوداء إياي تعني، ثم أتى رسول الله(ص) فقال له لم ندخل معك لتسب أعراضنا، فقال له رسول الله(ص):قد أقلتك إسلامك فاذهب. فأنزل الله: {يَمُنُّوْنَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوْا قُلْ لاَ تَمُنُّوْا عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}(21)، (22).
ومنها:أن هذه الرواية ليست مخالفةً لكتاب الله، بخلاف الرواية الأولى فإنها مخالفةٌ للقرآن الكريم الذي يصف الرسول بأنه ذو خلقٍ عظيمٍ وأنه رؤوفٌ بالمؤمنين عطوفٌ عليهم، وقد أمر الأئمة(ع) أصحابهم بعرض الأحاديث على كتاب الله فإن وافقت كتاب الله فهي، و إلا فلا يؤخذ بها، ففي صحيحة ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله(ع) قال:(إذا ورد عليكم حديثٌ فوجدتم له شاهداً من كتاب الله عز وجل أو من قول رسول الله(ص)، و إلا فالذي جاءكم به أولى به)(23). وفي صحيحة هشام بن الحكم عن أبي عبد الله(ع) قال:(خطب النبي(ص) بمنى فقال:أيها الناس ما جاءكم عني يوافق كتاب الله فأنا قلته، وما جاءكم بخلاف كتاب الله فلم أقله)(24).
ومنها:أن الآيات في مقام عتابٍ وتأنيبٍ وتوبيخٍ للعابس المتولي، وقد ورد عن ابن أبي عمير عمن حدثه عن أبي عبد الله(ع) قال:(ما عاتب الله نبيه فهو يعني به من قد مضى في القرآن مثل قوله {لَوْ لاَ أَنْ ثَبَّتْنَاْكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيْلاً}(25) عُنِيَ بذلك غيره)(26).
وقد أشكل بأن القول القائل بأنها نازلةٌ في عثمان معارضٌ بما أثبته المؤرخون من أن عثمان لم يكن يومها في مكة، إذ أنهم يذكرونه في جدول المهاجرين إلى الحبشة فلم يكن في مكة وقتها، ويمكن أن يجاب عن هذا الإشكال بأن المؤرخين أنفسهم ينصون ومنهم ابن هشام بأنه قد رجع ثلاثون نفر إلى مكة ومنهم عثمان(27).
وربما يورد أيضاً بأنه لا يعقل بأن الآيات الكريمة تندد بسلوك شخص عادي، بل لابد أن يكون له منزلةٌ ومقامٌ ككونه نبيٌّ من أنبياء الله، ويجاب على ذلك بأن هذه القضية تشكل ظاهرة تستحق المعالجة حتى لو صدرت من أتفه الناس كقوله تعالى {إِنْ جَاْءَكُمْ فَاْسِقٌ بِنَبَأٍ}(28)، فإنها نازلةٌ في أتفه الناس وهو الوليد بن عتبة حيث جاء بتقريرٍ كذبٍ للرسول الكريم(ص)، وحيث إن الظاهرة هذه منتشرةٌ فلكي لا تكثر أمثال هذه التقارير الكاذبة فلا بد من التبَيُّن لمعالجة هذه الظاهرة.
وعلى أي حالٍ، حتى لو لم تقبل هذه الرواية -مع أنها للإنصاف محتفةٌ بما يوجب الوثوق بصدورها- فإنه لا يمكن الأخذ بسابقتها، فينتج أنه لا دلالة في الروايات على كون العابس هو الرسول الكريم(ص)، فمقتضى الأدب مع رسولنا الكريم أن نقول لا أقل أنها نزلت في شخصٍ مجهولٍ لا نعرفه.
الآيات وعصمة النبي(ص):
الآيات الكريمة تذكر جملةً من العيوب والنقائص في هذا الشخص العابس، ولا يمكن أن ننسب واحدةً من هذه الإدانات إلى شخص الرسول الكريم(ص)، إذ أنها تتنافى مع عصمته الثابتة بالدليل القطعي، ونذكر هذه الإدانات تباعاً:
1- الإدانة بالعبوس والتولي:والعبوس هو قطوب الوجه من ضيق الصدر(29)، والتولي هو الإعراض بالوجه، هذه الصفة تكون مذمةً ومنقصةً لمن يفعلها إذا صدرت منه لغير مستحقٍ، أما إذا صدرت لمستحقٍ فليست بمنقصةٍ. فأمير المؤمنين(ع) قال:(أمرنا رسول الله أن نلقى أهل المعاصي بوجوهٍ مكفهرةٍ)(30)، فبعض أهل المعاصي إذا واجهته بوجهٍ عبوسٍ يعرف أنك غير راضٍ فيرتدع عن المعصية، فالعبوس للمستحق في محله كما في النهي عن المنكر وتأديب المستحق، بينما العبوس لغير المستحق يعتبر مذمةً ومنقصةً وغالباً يكشف عن احتقارٍ ولا يجوز شرعاً احتقار المؤمن.
وهناك دعوىً قائلةٌ بأن النبي(ص) عندما عبس في وجه ابن أم مكتوم كان عن استحقاقٍ لذلك، إذ أن الرجل قاطع النبي(ص) وهو يهدي القوم فهو قد ارتكب شيئاً غير لائقٍ، فلذلك استحق أن يواجَه بالعبوس.
ويرد على هذه الدعوى عدة تحفظاتٍ:
1- أن الشخص المعبوس في وجهه هو رجلٌ مؤمنٌ طالبٌ للهدى، وهو من الخاشين الخاشعين، وأكثر من ذلك هو رجلٌ أعمى، فلو صدرت منه مقاطعةٌ فنفس عماه عذرٌ له فيما صنع لأنه ليس له اطلاع على ما يحدث، بل وكما قال صاحب الميزان(ره):إن في التعبير بالجائي الأعمى مزيد توبيخٍ لما أن المحتاج الساعي في حاجته إذا كان أعمى فاقداً للبصر وكانت حاجته في دينه دعته إلى السعي فيها خشية الله، كان من الحري أن يرحم ويخص بمزيد الإقبال والتعطف، لا أن ينقبض ويعرض عنه(31).
2- إن الآيات الكريمة وكما هو واضحٌ سياقها سياق إثبات البأس لا نفي البأس، و في مقام العتاب والتنديد بالفعل لا التعذير، فلو كان الفاعل معذوراً فلماذا جاءت الآيات بالعتاب؟ فكان من المفترض أن تبرر الآيات فعل الفاعل وتلتمس له العذر وتدافع عنه، لا أن تأتي في مقام التوبيخ والتنديد.
3- إن النظر في الآيات الكريمة يوضح بأن إقبال الشخص على القوم لم يكن لغرض هدايتهم بل لأنهم أغنياء {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى وَمَاْ عَلَيْكَ أَنْ لاَّ يَزَّكَّى}، والتصدي التعرض للشيء بالإقبال عليه والاهتمام بأمره، ومحصل ملاك ما ذكر من العبوس والتولي والعتاب هو أنك تعتني وتقبل على من استغنى واستكبر عن اتباع الحق، وما عليك أن لا يزكى وتتلهى وتعرض عمن يجتهد في التزكي وهو يخشى، والمعنى أنك لا تبالي بعدم تطهره من دنس الكفر والفجور، وهذا المعنى أنسب لسياق العتاب ثم الذي قبله ثم الذي قبله على ما صرح به صاحب الميزان (ره)(32)، ولو دققنا أكثر سنجد بأن تفسير الآيات في النبي ينتج مصادمة القرآن لنفسه إذ أنه يقول {يَتْلُوْ عَلَيْهِمْ آيَاْتِهِ وَيُزَكِّيْهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَاْبَ وَالحِكْمَةَ}(33)، بينما في سورة عبس يقول:{وَمَاْ عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّىْ}.
4- لم يذكر أرباب السير والتاريخ أن صناديد قريش قد اجتمعوا بالرسول الكريم في مكة المكرمة ليسمعوا منه، بل إنه في بعض المسائل كانوا يوسطون أبا طالب(ع) وكان أبو طالب(ع) يدافع عن النبي(ص) والنبي دائماً يعلن عن صبره وصموده في مواجهتهم، ثم لو تنزلنا بأن النبي(ص) قد اجتمع معهم هل كان رسول الله(ص) يتوخى أنهم سينتفعون منه أكثر من ابن أم مكتوم الصافي المخلص؟ فالرسول كان مميزاً لمعادن الناس ويعلم أن الكلمة لابن أم مكتوم أنفع منها لأبي جهل الذي كان يصرح بأن نقل جبال أبي قبيس أهون عليه من الشهادتين، بل إن النبي(ص) كان يعرف ذلك من أول الدعوة وكان يقول بأن لكل نبيٍّ فرعون، وفرعون هذه الأمة أبو جهلٍ(34).
وعلى أي حالٍ، يظهر بأن العبوس في الآية الكريمة لم يكن لشخصٍ يستحق مثل هذه المعاملة، وينتج بأن معاملة النبي(ص) له كانت على خلاف العدل، إذ أن العدل هو إعطاء كل ذي حقٍّ حقه، وبالتالي يلزم نقض الغرض من بعثة النبي(ص) وهو إرخاء العدل في المعمورة ببركة وجوده المبارك، والذي يعضد ما ذكرناه هو سيرة النبي(ص) العملية، حيث إنه لم يُرَ إلا مبتسماً وكانت أسنانه تبدو كاللؤلؤ، بل إنه كان يعامل أصحابه معاملةً بحيث لا يحسب أحدٌ أن أحداً أكرم على رسول الله منه، وهذا الأمر واضحٌ لمن اطلع على رشحاتٍ بسيطةٍ من سيرته العطرة، بل إنه نقل في التاريخ بأن حادثةً جرت كالحادثة المروية في المقام، وبالعكس تماماً نجد بأن النبي(ص) عالج الموقف بكل طيبةٍ وخلقٍ نبيلٍ فيروى (إن أنصارياً جاء إلى النبي(ص) يسأله، وجاء رجلٌ من ثقيف، فقال رسول الله(ص):يا أخا ثقيف إن الأنصاري قد سبقك في المسألة، فاجلس كيما نبدأ بحاجة الأنصاري قبل حاجتك)(35)، والأعمى أولى أن يعامل بهذه الطريقة.
2- الإدانة بعدم المبالاة بتزكية العباد:فالمنطلق في تحركه كما تقدم ليس الهدى والدين والرسالة، وإنما المنطلق في تحركه الغنى والفقر، وهذه الصفة لا تليق بمن هو دونه في المقام فكيف بسيد الكائنات على الإطلاق؟
3- الإدانة بالتلهي:مع أن الرسول الكريم(ص) ليس من وظيفته الربانية التشاغل عن هداية الناس، بل إن دعوة الرسول هي لشجب من يتلهى عن ذكر الله ويندد بالذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً وحاشاه أن يلهو عن الذاكرين والمتعلمين وطالبي الهدى.
ثم إن هذه الصفات يلزم منها نفور العباد من النبي(ص)، قال تعالى:{وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيْظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوْا مِنْ حَوْلِكَ}(36)، مع أن الحرص على هداية الناس مما لاشك في حسنه ومطلوبيته بل إنه من الصفات الكمالية الممدوح بها النبي(ص) في القرآن الكريم، قال تعالى:{لَقَدْ جَاْءَكُمْ رَسُوْلٌ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيْزٌ عَلَيْهِ مَاْ عَنِتُّمْ حَرِيْصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤْمِنِينَ رَؤُوْفٌ رَّحِيْمٌ}(37)، فهو يعز عليه الشيء الذي يسبب لكم العنت والمشقة، فهذا إن حدث فهو مخلٌّ بمقام الرسالة ويؤدي إلى نقض الغرض من بعثته، ونقض الغرض من الخالق الحكيم محالٌ.
والله سبحانه وتعالى قد صاغ شخصية النبي الكريم(ص) في القرآن الكريم وقد أجلَّ الله قدره عن هذه الصفات، إذ أنه ليس من صفاته ذلك مع الأعداء المنابذين فضلاً عن المؤمنين المسترشدين، قال تعالى:{وَإِنَّكَ لَعَلَىْ خُلُقٍ عَظِيْمٍ}، فالله سبحانه ههنا قد عظَّم خلق النبي الكريم(ص)، والآية واقعةٌ في سورة (ن) التي اتفقت الروايات المبينة لترتيب نزول السور على أنها نزلت بعد سورة (العلق)، فكيف يعقل أن يعظم الله خلقه في أول بعثته ويطلق القول في ذلك ثم يعود فيعاتبه على بعض ما ظهر من أعماله الخلقية ويذمه بمثل التصدي للأغنياء وإن كفروا والتلهي عن الفقراء وإن آمنوا واسترشدوا؟(38).
وقال تعالى أيضاً:{وَأَنْذِرْ عَشِيْرَتَكَ الأَقْرَبِينَ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ}(39).
ونستنتج من كل ما تقدم أن نسبة هذا الفعل للنبي يشكل مطعنةً ومنقصةً وعيباً اجتماعياً، ولا تليق المنقصة بالنبي(ص)، إذ أنه أديب الله سبحانه والتكرم ونبل الشخصية يمنعان من ذلك وهذا حسان يصفه:
وأكمل منك لم تر قط عيني
وأفضل منك لم تلد النساء
خُلِقْتَ مبرءاً من كل عيبٍ
كأنك خُلِقْتَ كما تشاء
الآيات ومقام الخاتمية:
بمعرفة مقام النبي الخاتم(ص) يمكن أن ندفع أي منقصةٍ وأي قشة مذمةٍ وأي صفةٍ تنسب إلى نبينا (أرواحنا لتراب مقدمه الفداء) من صفات عامة الناس بل الأنبياء والمرسلين(ع).
إن لخاتم الأنبياء مكانةً وعظمةً لا يعرفها إلا الله سبحانه وتعالى ومن أعلمه الله بذلك، قال رسول الله بأبي هو وأمي:(يا علي لا يعرف الله إلا أنا وأنت، ولا يعرفني إلا الله وأنت، ولا يعرفك إلا الله وأنا)(40). فلذلك كانت فاجعة الأمة بفقد النبي(ص) فاجعةً لا يعلم عظمها إلا الله وعلي(ع)، فلا عجب حينئذٍ إذا تصفحنا التاريخ ووجدنا بأن العارفين الكمل مذ أن يذكر في محضرهم رسول الله(ص) ينصهر الحزن ويذوب دموعاً تحت آماقهم، كما نقل لنا عن سيدة النساء (بأبي وأمي) ومما قالته في رثاء أبيها:
نفسي على زفراتها محبوسةٌ
يا ليتها خرجت مع الزفرات
لا خير بعدك في الحياة وإنما
أبكي مخافة أن تطول حياتي(41)
وقال الإمام الباقر(ع) لعمرو بن سعيد الثقفي:(إن أصبت بمصيبةٍ في نفسك أو في مالك أو في ولدك، فاذكر مصابك برسول الله، فإن الخلائق لم يصابوا بمثله قط)(42).
ويقول الشيخ الوحيد الخراساني تعليقاً على هذه الرواية (والذي يحير العقل هنا هو تعليله ووصفه(ع) للمصاب بالنبي(ص) بأن الخلائق لم تصب بمثله! والخليقة عنوانٌ عامٌّ يشمل كل مخلوقٍ، فكيف بجمعه الخلائق؟ وهو محلى بأل، فهو يشمل حتى الملائكة المقربين والأنبياء والمرسلين(ع)، وما يُرَى وما لا يُرَى، فكل هؤلاء لم يصابوا بمثل رسول الله(ص)، وهو تعليلٌ لا يفهمه إلا خواص العلماء، الذين يدركون من هو النبي(ص) وماذا فعل، وما هي مصيبة فقده، ومن الذين أصيبوا به(ص)؟!
هذا بحرٌ محيطٌ لا يمكننا التوصل إلى قعره، فخوضه مقصورٌ على الأنبياء والأوصياء(ع)، فهم يدركون أي أمواجٍ انطلقت من بحره(ص)؟!)
وإذا كان لا يعرف النبي(ص) إلا الله والإمام علي(ع)، فلا سبيل لمعرفة مقام النبي الخاتم(ص)، ولكن بالرجوع إلى كلام الله والروايات قد تترشح علينا شذراتٌ قليلةٌ من مقامه السامي، والقرآن الكريم إذا تكلم عن مقام الخاتم يقف العقل حائراً أمام هذا المقام الشامخ، قال تعالى:{وَرَحمَتيْ وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}(43)، {وَاللهُ أَرْحَمُ الرَّاْحمِينَ}(44)، وعندما يأتي إلى رسولنا الكريم نجد أن نفس هذه الرحمة ينسبها إلى رسوله {وَمَاْ أَرْسَلْنَاْكَ إِلاَّ رَحمَةً لِّلْعَالَمِينَ}(45).
من أهم الصفات لله سبحانه وتعالى هي صفة الغنى قال تعالى:{أَنْتُمُ الْفُقَرَاْءُ إِلىَ اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنيُّ الحَمِيْدُ}(46)، وعندما نأتي إلى سورة التوبة نجد أن الغنى يعطيه لنبيه {وَمَاْ نَقَمُوْا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاْهُمُ اللهُ وَرَسُوْلُهُ مِنْ فَضْلِهِ}(47).
وأيضاً صفة الرأفة {إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوْفٌ رَّحِيْمٌ} يصف بها نفسه تارةً ويصف رسوله بأنه {بِالمُؤْمِنِينَ رَؤُوْفٌ رَّحِيْمٌ}.
وإذا أتينا إلى مقام جبرئيل(ع){إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُوْلٍ كَرِيْمٍ}(48)، هذا الموجود العظيم يأتي إلى الإنسان الكامل ويخضع له ففي ليلة المعراج حين دنى نبينا الكريم فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى دنواً واقتراباً من العلي الأعلى، قال له جبرئيل(ع):(تقدم يا رسول الله ليس لي أجوز هذا المكان ولو دنوتُ أنملةً لاحترقتُ)، وفي روايةٍ أخرى قال:(ما وطأ نبيٌّ قطُّ مكانك)، فإنه(ص) قد بلغ من القرب ما لم يبلغه أحدٌ من الأولين والآخرين، وأصبح فانياً في الله لا يريد إلا ما أراده الله، ولا يكره إلا ما كرهه الله، ولا يفعل إلا ما يحبه الله، فانياً في إرادة الله، وترك الأولى هو التفاتٌ للأدنى بمعنى أنه منشغلٌ بشيء آخر غير الله، وهذا لا يتناسب مع مقام الفناء الذي بلغه نبينا الكريم، فكمالية النبي تقتضي أنه دائماً الفاعل للأفضل، فهو مرتبطٌ بجانب الملكوت، ومطلع على أسرار الأعمال وحقائقها، ويعرف منافع ومضار الأعمال والمصالح والمفاسد الواقعية، ثم إن موجبات ترك الأولى ثلاثة:إما نقصٌ في العلم، وإما الغفلة من سهوٍ أو نسيانٍ، وإما التربية الخاطئة، ولا يمكن أن ننسب واحدةً من هذه الصفات للنبي الخاتم، أما الأولى والثانية فواضحةٌ لما تقدم من أنه مطلع على حقائق الأشياء بعلمه الحضوري، وأما الثالثة فقد ثبت أن النبي الكريم هو تربية الله سبحانه وتعالى، قال الصادق الأمين(ص):(أدبني ربي فأحسن أدبي)(49)، وفي روايةٍ (أنا أديب الله وعليٌ أديبي)(50)، وهل هناك مربٍّ أفضل من الله تبارك وتعالى؟
قال تعالى حكايةً عن إبليس:{فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجمَعِينَ، إِلاَّ عِبَاْدَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ}(51).
تركز هذه الآية المباركة على مقام المخلَصين، فقد استثنى الشيطان مجموعةً من البشر لا يتمكن من غوايتهم وهم المخلَصون، فالمانع الذي بسببه لا يتمكن إبليس من الغواية هو أنهم مخلَصون.
فالإخلاص على قسمين:
1- الإخلاص في العمل:وهو أن يخلص في أعماله ووظائفه الدينية إلى خالقه وسيده ومولاه في قبال الشرك الأصغر وهو الرياء أو أي غرضٍ غير أخروي، وذلك كما في قوله تعالى {فَإِذَاْ رَكِبُوْا فيِ الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مخْلِصِينَ لَهُ الدِّيْنَ فَلَمَّا نجَّاهُمْ إِلىَ الْبَرِّ إِذَاْ هُمْ يُشْرِكُوْنَ}(52).
2- الإخلاص في الذات:هو أن النفس في ذاتها بلغت مقام المخلَصين، ولذلك نجد في الرواية (من أخلص لله أربعين يوماً فجر الله ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه)(53)، وهذا لا يعني الانفكاك بين الإخلاص في الذات والإخلاص في العمل لأن الإنسان لن يصل إلى مرحلة الإخلاص في الذات إلا إذا أخلص في العمل، فكل مخلَصٍ مخلِصٌ ولا عكس، إذ أنه قد يخلص الإنسان في عمله بأن يقصد الله سبحانه ولكن لا يطرق ذاته الإخلاص، فالإخلاص في الذات قليلٌ جداً، وبالجملة إن هناك أناسٌ قد خلصت أنفسهم لا يتمكن الشيطان من غوايتهم ولا إشكال ولا ريب أن سيدهم وأعلاهم نبينا محمد وآله الأبرار(ع)، ولا يمكن القول بأن نفسه هي التي وسوست له العبوس وليس الشيطان، إذ أن نفس المخلَص قد بلغت إلى مرتبةٍ من الطهارة والعلو بحيث أصبحت مخلَصةً، وهذا خُلْفُ كون النفس موسوسةً، إذ هي رذيلةٌ لا طهارةٌ، والخلاصة أن طرق الغواية والوسوسة منفيةٌ عن الإنسان الكامل، وهل هناك أكمل من سيد البشر محمد(ص)؟
فالنبي فد وصل إلى مقامٍ قال عنه الباري {عَسَىْ أَنْ يَّبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاْماً مَّحْمُوْداً}(54)، فنسبة مثل هذه الأفعال إلى من بلغ هذا المقام قد يكون أذيةً لرسول البشرية(ص)، وبمعرفة المقام تنتفي كل شبهةٍ وأي منقصةٍ قد تنسب لمقام الخاتمية، وبمعرفة المقام بل طيف من هذا المقام يكون حبنا وتعاملنا مع الإنسان الكامل مختلفٌ، فهذا أحد أصحاب الرسول يتمنى أن يفدي النبي من الشوكة.
ولذلك أي فجيعةٍ هذه، وأي مصيبةٍ أعظم مما حدث في حياته قبل موته، وفي وجهه دون ظهره حتى بكى ابن عباس وقال:(إن الرزية كل الرزية يوم أحيل بين رسول الله وكتابه)، بل إن مما يفطر ناموس الطبيعة ويهتز له عرش الجبار هو ما قيل في حقه وفي حضرته المقدسة وكلها بمعنى واحدٍ وهو الهذيان والعياذ بالله(55)، وقد بلغ من الأذى الذي تلقاه النبي الخاتم ما بلغ، حتى قال(ص):(ما أوذي نبيٌّ مثلما أوذيت)، ومن العجيب أن البعض في هذه الأيام يقول في تأويل هذه الرواية أن إيذاء النبي ههنا لا بلحاظ إيذائه هو، فكثيرٌ من الأنبياء قد أوذوا أكثر مما أوذي نبي الإسلام، وإنما المقصود بالإيذاء ههنا الإيذاء بلحاظ إيذائه في أهل بيته(ع)، كما قال النبي:(فاطمة بضعةٌ مني من آذاها فقد آذاني)، ولعمري إن هذا المشكل قد تناسى قدر الإيذاء الذي لاقاه نبي الإسلام في حياته وبعد مماته، وتناسى القاعدة الفلسفية(كلما ازدادت المظهرية ازداد البلاء)، فنبي الإسلام أكبر مظهرٍ من مظاهر أسماء الله تعالى، وبالنتيجة فالبلاء الذي لاقاه أكبر بلاءٍ، وإذا أحب الله عبداً غتَّه في البلاء غتّاً، وكلما ازداد العبد إيماناً ازداد بلاءً.
وحتى لو سلمنا جدلاً أن النبي لم ينل من الأذى الظاهري الكثير فيبقى إيذاءه أعظم من إيذاء بقية الأنبياء، فإن الجناية الحقيرة تعظم مع عظم المجني عليه، وليس أعظم من نبي الإسلام(ص).
مع أن ما لاقاه أهل بيته(ع) ليس بالشيء اليسير، فالأمة لم ترعَ حرمته في أهل بيته(ع)، ولكن نجد التاريخ يذكر لنا أنواع البلايا والمصائب التي نزلت على نبينا(ص)، سواءً على المستوى النفسي أو البدني، فهذا يستهزئ به، وهذا يغري الصبيان بمحاربته، وذاك يتهمه بالجنون والسحر، وآخر يلقي على ظهره الشوك والأوساخ وهو ساجدٌ، إلى غير ذلك من الأمور التي ذكرت في التاريخ، وقد قاتل(ص) ومعه علي(ع)، حتى جرح في جبهته الشريفة وكسرت مقدمة أسنانه، وهذا ما لم يحدث له في كل حياته، فأي جبهةٍ جرحت يومئذٍ؟ وأسنان أي فمٍ كسرت؟ لقد تزلزلت أركان العالم، فالعالم قشرٌ والنبي لبه، وإذا تضرر اللب فما قيمة القشر؟
في ذلك الظرف قالوا له:يا رسول الله ادعُ عليهم، فرفع يديه إلى السماء وقال:(اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون!)
وأختم الكلام بكلامٍ للعارف الواصل الميرزا جواد الملكي التبريزي(ره) حيث قال:(إن الذي عليه عقيدة أهل الإسلام كافةً أن نبينا(ص) أشرف خلق الله كافةً، وأنه سيد خلق الله، وأنه حبيب الله، وورد في المعتبرة عنه(ص) أنه أول خلق الله، وأنه دنا في معراجه من ربه مقاماً لم يقدر جبرئيل(ع) أن يصاحبه، وأنه(دنى فتدلى، فكان قاب قوسين أو أدنى، دنواً واقتراباً من العلي الأعلى)، وأنه اسم الله الأعظم، وأنه صاحب الوسيلة والحوض، والشفاعة الكبرى، وأنه المثل الأعلى، وأنه واسطةٌ بين الله تعالى وجميع الممكنات، وأنه الحجاب الأقرب، وطرف الممكن بالجملة يعرف أنه من الله تعالى بمكانةٍ يغبطه بها الأولون والآخرون، من الأنبياء والمرسلين(ع)، والملائكة المقربين(ع)، وأنه لا يمكننا أن نصل إلى كنه معرفته، وأما معرفة حقه فيكفي في ذلك حديث لولاك(56)، وأنه علةٌ غائيةٌ لجميع الخليقة، وأنه رحمةٌ للعالمين...)(57).
اللهم عرفني نفسك فإنك إن لم تعرفني نفسك لم أعرف رسولك، اللهم عرفني رسولك فإنك إن لم تعرفني رسولك لم أعرف حجتك، اللهم عرفني حجتك فإنك إن لم تعرفني حجتك ضللت عن ديني، برحمتك يا أرحم الراحمين وصلِّ اللهم على أشرف خلقك أجمعين وآله الطيبين الطاهرين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
* الهوامش:
(1) تفسير الميزان 20 :219.
(2) أعلام القرآن / عبد الحسين الشبستري ص 42.
(3) شرح نهج البلاغة 4 : 68.
(4) صحيح البخاري عن أبي هريرة ج7 ص157،وصحيح مسلم ج8 ص25 عن أبي هريرة أيضا.ومثلها في مسند ابن راهويه ج1 ص 275. ح 247 جرير عن إبراهيم الهجري عن أبي عياض عن أبي هريرة.
(5) راجع : فيض القدير للمناوي 2:278،وطبقات المحدثين 2:34،ورواه ابن أبي شيبة في المصنف 7/486و487،والطبراني في الأوسط: 6/242،والكبير : 12/48،ومجمع الزوائد : 9/69،وفي كنز العمال : 10 / 365 عن مصادر متعددة بروايات كثيرة.
(6) مسند أحمد بن حمبل ج3 ص 435.
(7) راجع شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي ج 12 ص 178.
(8) التسجيل الصوتي له مشهور ومتواجد بكثرة في المواقع الحوارية بل إنه قد قال هذه الكلمة في شريط أصدره هو.
(9) القيامة: 31-32.
(10) النجم: 8-9.
(11) تفسير العياشي 1/10 والكافي : 2/631 حديث 14 معتبرة عبد الله بن بكير،ثم قال الكليني: وفي رواية أخرى عن أبي عبد الله (ع) قال : معناه ما عاتب الله عز وجل به نبيه (ص)فهو يعني به ما قد مضى في القرآن مثل قوله ( ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً ) عنى بذلك غيره.
(12) الزمر: 65.
(13) يس: 22.
(14) المائدة: 67.
(15) القيامة: 32.
(16) الدخان: 49.
(17) الدر المنثور : ج 8/418 نقلا عن الحاكم وابن مردويه.
(18) قال ابن العربي الفقيه : أما قول علمائنا إنه الوليد بن المغيرة فقد قال آخرون أنه أمية بن خلف والعباس، وهذا كله باطل وجهل من المفسرين الذين لم يتحققوا، ذلك أن أمية بن خلف والوليد كانا بمكة وابن أم مكتوم كان بالمدينة ما حضر معهما ولا حضرا معه وكان موتهما كافرين أحدهما قبل الهجرة والآخر ببدر ولم يقصد قط أمية المدينة ولا حضر عنده مفرداً ولا مع أحد الثلاثة راجع تفسير القرطبي : ج 19/212.
(19) مجمع البيان : 664.
(20) تفسير القمي ج2 ص 398.
(21) الحجرات: 17.
(22) تفسير القمي ج2 ص 323.
(23) الكافي : 1/55.
(24) الكافي : 1/56.
(25) الإسراء: 74.
(26) تفسير العياشي، ورواه الكليني.
(27) السيرة النبوية لابن هشام الحميري ج3 ص 818.
(28) الحجرات: 6.
(29) مفردات ألفاظ القرآن الكريم للراغب الأصفهاني ص544.
(30) الوسائل،باب 6،من أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما،حديث 1،وقد ورد في الأحاديث إذا لقيت الكافر فالقه بوجه مكفهر،قيل : المكفهر،المتعبس الذي لا طلاقة فيه،وقد اكفهر الرجل إذا عبس،يقول : لا تلقه بوجه منبسط،تاج العروس،ج3 فصل الكاف من باب الراء،ص 528.
(31) تفسير الميزان: ج20 ص 219
(32) المصدر السابق: ص220.
(33) الجمعة: 2.
(34) الدر المنثور للسيوطي ج6 ص 269.
(35) منية المريد 272.
(36) آل عمران: 159.
(37) التوبة: 128.
(38) تفسير الميزان: ج20 ص 223.
(39) الشعراء: 215.
(40) مختصر بصائر الدرجات.
(41) حياة فاطمة الزهراء(ع) للقرشي ص 306.
(42) الحق المبين ص96.
(43) الأعراف: 156.
(44) الأعراف: 151
(45) الأنبياء: 107.
(46) فاطر: 15.
(47) التوبة: 74.
(48) الحاقة: 40.
(49) مصباح المتهجد للشيخ الطوسي ص 202.
(50) مستدرك الوسائل ج 7 ص 32.
(51) الحجر: 40.
(52) العنكبوت: 65.
(53) عدة الداعي لابن فهد الحلي ص 218.
(54) الإسراء: 79.
(55) راجع صحيح البخاري ( كتاب المغازي،باب مرض النبي ووفاته ) وصحيح مسلم (كتاب الوصية،باب ترك الوصية) والروايات في هذه الحادثة قد وصلت إلى حد التواتر الإجمالي لا أقل.
(56) إشارة منه(ره) إلى ما في الصحيح من أن الله قال مخاطبا ً نبيه ( لولاك لما خلقت الأفلاك) بحار الأنوار ج15،ص28،ح48،وج57،ص 199،ح 145.
(57) المراقبات ص 257.
0 التعليق
ارسال التعليق