بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف الخلق والمرسلين محمد وآله الطيبين الطاهرين المنتجبين الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، واللعنة الدائمة المؤبدة على أعدائهم أجمعين من الآن حتى قيام يوم الدين.
مقدمة البحث:
إن مفهوم الإمامة في عقيدة الشيعة يعتبر من المفاهيم الأساسية في المذهب، وله مرتبة ومقام كبير في المذهب، ويكتسب الإمام هذا المقام والقدسية من خلال مقامه وقربه لله تبارك وتعالى، ويعتبر الإمام هو الخليفة لمقام النبي الأكرم (ص) وعلى عقيدة الإمامية بأن كل ما للرسول فهو للإمام الذي بعده إلى أن تقوم الساعة إلا مسألة الوحي فهي خاصة بالنبي، والأمور التي تثبت للرسول وتثبت للإمام من قبيل:
تبيين الأحكام الإلهية وتعاليم السماء(1)
فهو أمر ثابت للنبي الأكرم (ص) بصريح قول الله تبارك وتعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}(2)،وكذلك قوله تبارك وتعالى : {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى، إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى}(3). وفي مفاد الآيتين المباركتين أن ما يبينه النبي من أحكام ويبلغه من تعاليم، قد جاء به من عند الله، أي أن النبي لا يملك في هذا الموقع إلا أن يكون مبيّناً لما أوحي إليه.
تولي منصب القضاء
والقاضي هو الذي يفصل ويقضي في الخصومات والاختلافات بالعدل، فقد كان النبي (ص) قاضياً بين المسلمين. وليس القضاء أمراً اعتباطياً من وجهة نظر الإسلام، بحيث يكون بمقدور أي شخص أن يتصدى له ويفصل بين المتخاصمين، إنما القضاء في الرؤية الإسلامية هو شأن إلهي، وهذا منصب فوّض إليه (ص) بنص القرآن الكريم: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً}(4).
قيادة المجتمع ورئاسته
فقد كان النبي الأكرم (ص) قائداً ورئيساً للمجتمع الإسلامي، وهذا من أوضح الواضحات لمن يتصفح التأريخ وسيرة النبي الأكرم (ص)، وينص عليه قوله تبارك وتعالى : {أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ}(5).
خلاصة الوظائف:
لو تأملنا بدقة في هذه الأمور الثلاثة نستطيع أن نقول بأن من أهم وظائف النبي الأكرم (ص) هي إقامة الحكومة الإسلامية على وجه الأرض. وذلك لكي يحقق العدل الإلهي ونشر مبادئ الشريعة الإسلامية وتنفيذ حكم الله عز وجل، وهي الوظيفة أيضاً ثابتة للأئمة الأطهار (ع).
فالشريعة الإسلامية حينما جاء بها النبي الأكرم (ص) جاء ليطبقها على وجه الأرض، وإلا ما فائدة شريعة ونظام يكون على المستوى النظري وحسب، بل لابد من تطبيق الشريعة على النحو الخارجي والعملي، كما أشار إلى ذلك الإمام الخميني (قده) في كتابه : الحكومة الإسلامية(6).
ومن هنا نستطيع أن نقول بأن إقامة الحكومة الإسلامية أمر ضروري ومهم في الإسلام، وذلك لتطبيق الأحكام الإلهية، ولهذا نرى أن النبي الأكرم (ص) في بداية دعوته لهذا الدين اتخذ مرحلتين للدعوة الإسلامية(7):
المرحلة الأولى : وهي التي تسمى بمرحلة الدعوة السرية والتي استمرت لمدة ثلاث سنين في مكة المكرمة.
المرحلة الثانية : وهي مرحلة الدعوة العلنية والتي استمرت لمدة عشرين سنة، عشرة منها في مكة المكرمة و عشرة أخرى في المدينة المنورة.
ففي المرحلة الثانية توجَّه النبي (ص) إلى تأسيس الحكومة لتكون طريقاً لتنفيذ الأحكام الإلهية، وأثناء تأسيسه للحكومة أخذ يقوم بوظائف الحاكم الشرعي، من قبيل إعداد القوى العسكرية وتجهيز الجيش للدفاع عن راية الإسلام، وكذلك أرسى دعائم العلم والمفاهيم القرآنية في المجتمع الإسلامي الفتيّ.واستخدم الأساليب السلمية والحربية لتثبيت الحكومة من قبيل الجهاد في سبيل الله والقتال ضد المشركين.
يتلخص مما تقدم أن:
(من ضمن وسائل إقامة الحكومة الإسلامية هو الجهاد ضد الظلم والاستكبار والثورة ضدهم، ونشر الأمن والأمان في الأرض، فتكون مقدِّمةً لتنفيذ الأحكام). فالجهاد والثورة ضد المستكبرين من الأساليب المهمة لإقامة الحكومة الإسلامية، وإلا فكيف يمكن أن تقوم دولة تدعو للحق وترفض الباطل من غير أن تُواجه هذه الدولة الباطلة، فلابد أن تمر بظروف سياسية عصيبة وشديدة، كما مرّت على رسول الإسلام (ص) في أوائل دعوته وإلى آخرها.
وأكبر شاهد على هذا الأمر هو جميع الأديان في كل الأزمنة والقرون، فقد كان ولا يزال في الأرض فئتين ؛ فئة تدعـو للحق وأخرى تدعـو للباطل. فهذه من السنن الكونية في الأرض.
وإذا أراد أي شخص أن يقوم بالجهاد أو الثورة فلابد أن تتوفر حركته التغييرية على أمور مهمة من أجل نجاح الجهاد والثورة، ولو اختل أمر واحد، فإن مصير هذه الثورة إلى زوال، حتى لو نجحت لفترة معينة، فإن مآلها إلى السقوط والفشل، كما هو في كثير من البلدان والحكومات، ولو تأملنا جيداً في تأريخ الإسلام لكان أوضح، فنلاحظ أن حكومة بني أمية لما تأسست بالمكر والخديعة استمرت ألف شهر كاملة(8)، وحكم بني العباس، وكذلك حكم العثمانيين، فإن مصيرها إلى زوال وإن استمرت مدة من زمن.
فالسؤال الذي قد يتراود في أذهان البعض، هو: هل سعى الأئمة الأطهار (ع) لإقامة الحكومة الإسلامية؟ فما دامت الشريعة الإسلامية جاءت لتنفيذ هذا الأمر، كما قام النبي الأكرم (ص) بإقامة الدولة الإسلامية في المدينة المنورة. فهل واصل الأئمة (ع) دور النبي الأكرم (ص)؟
قبل أن نُجيب على هذا التساؤل الذي قد يرد على الأذهان، نقدم مقدمة بسيطة، وهي إن على كل من يريد أن يُقيم حكومة العدل في الأرض لابد أن تتوفر مقومات الجهاد والثورة ضد أهل الباطل.
حول شرائط نجاح الجهاد والثورة(9).
الشرط الأول: القيادة.
فمن أراد أن يقوم بالجهاد والثورة، لابد من وجود قيادة صالحة، لها الأهلية لتصدي القيادة والكفاءة العالية وغيرها من المواصفات التي لابد أن تتوفر في القائد.
وما دام كلامنا حول الإمام، فلا داعي للتعرض إلى هذا الشرط، لأن الإمام -بحسب العقيدة الشيعية - يمثل الإنسان الكامل في الأرض، والذي يعبر عنه بالحجة في العصر. فهو الإمام المعصوم الذي لا يخطأ ولا يسهو.
أمَّا إذا كان كلامنا حول غير المعصوم، فلابد من التعرض للشروط كالكفاءة العلمية والسياسية والتقوى والورع والشجاعة وغيرها من الأمور التي يشترط فيها القائد غير المعصوم، وهو ليس محل بحثنا.
الشرط الثاني: المنهج.
فمن المهم جداً أن يكون هناك نهج يسير عليه القائد، ويعتمد على مصدر رئيسي لحركته الثورية.
وهذا الشرط أيضاً متوفر ما دام كلامنا عن قيادة الإمام المعصوم (ع)، لأن العقيدة الشيعية تؤمن بأن ما يأتي به الإمام المعصوم (ع) لا يخالطه خطأ أوشك وما شابه ذلك من الأمور التي تُعد نقصاً في المنهج، فالمنهج المتبع عند الإمام المعصوم (ع) هو القرآن وسنة الرسول (ص) الصحيحة.
أمَّا لو كان كلامنا في القائد غير المعصوم فلابد أن نتعرض للمنهج، لأن القائد - مهما كان نصيبه العلمي - فقد يكون المنهج الذي اتخذه غير صحيح أو فيه بعض النقاط غير الصحيحة، وهو ليس محط كلامنا.
الشرط الثالث: الشعب.
في هذا الشرط يجب أن نفصل كثيراً في الأمور التي لابد أن تتوفر في الشعب أو القاعدة الشعبية، فلابد أن يؤمن بالقيادة وتسليم الطاعة له بحكم كونه قائد، ولا يشكك في قدراتها ولا في علمها.
نتطرق إلى بعض الأمور التي لابد أن تتوفر في القاعدة الشعبية:
الوعي ورسوخ العقيدة :
فلابد أن يكون الشعب واعياً، وذا عقيدة راسخة بالإمام المعصوم، وجميع تحركات الإمام، ولابد من الانقياد والطاعة المطلقة للإمام.
لا يكفي أن أؤمن بأن هذا القائد هو الإمام المعصوم وأنه مفترض الطاعة وأنه حجة الله في أرضه، وغيرها من المعتقدات في الإمام والقيادة ولكن لو تُعرض له أدنى شبهة يتزلزل، لابد أن يكون صامداً في وجه الشبهات التي قد يتعرض العدو لطرحها ليزلزل المعتقد الصحيح، كما سيأتي في معركة صفين والتحكيم.
وكذلك موقف أتباع الإمام أبي محمد المجتبى (ع) بعد كتابة الصلح، حيث أنهم وقفوا أمام الصلح ولم يرضوا بما اتخذه الإمام (ع).
هذا من جانب، ولو نظرنا من جانب آخر إلى الثلة الصالحة والمؤمنة بقيادة الإمام، ومواقفهم المشرِّفة والطاعة والانقياد المطلق لقول الإمام، ومن أوضح الأمثلة مالك الأشتر حينما وصل إلى خيمة معاوية ولم يبقى له إلا بضع أمتار لكي يقتل معاوية، إلا أن الأمر جاء إليه أن الأمير (ع) يأمرك بالرجوع وإلا قُتل الإمام(ع)، وكذلك أصحاب الإمام الحسين (ع).
الجهل بمقام الإمام:
وهناك الكثير ممن كانوا يجهلون قيمة الإمام المعصوم(ع) ولا يقدّرونه حق قدره. مما يجعلهم يفشلون في الطاعة والتسليم للإمام. ولا يرون أنفسهم ملزمين بالاتباع. بل على العكس من ذلك فهناك من كان يسخر بالإمام الحسين (ع)، وحينما أراد الإمام أن يقيم صلاة الخوف في يوم عاشوراء(10)، يستهزأ أحدهم بالإمام ويقول له : صلِّ،(إنها لا تُقْبَل)! - القائل هو الحصين بن تميم-. إن هذا يحصل من خلال جهل الناس بالإمام المعصوم، وإلا فلو كان يعرف قيمة الإمام المعصوم لا يتفوه بهذه العبارات ساخراً من الإمام (بأبي هو وأمي).
أو كما حصل في معركة صفين حينما رفعوا المصاحف وقالوا : لا حكم إلا لله. مما اضطر الإمام (ع) للتنازل عن الحرب واختيار التحكيم، فإن موقفهم كان ينبأ عن عدة ثغور في الرعية، كعدم الانقياد بالإمام القائد، وتزلزل العقيدة في قرارات القيادة، مما يؤدي إلى الجهل بمقام الإمام القائد، ولذلك حكم الخوارج بكفر أمير المؤمنين (ع) حينما أرادوا فرض رأيهم عليه بعد خدعة التحكيم وبعد أن عرفوا مكر معاوية وعمرو بن العاص، حيث طلبوا منه العودة إلى محاربة معاوية، في حين أنه رفض نقض العهد وألزمهم بتبعات مخالفة القيادة.
الزهد في الدنيا وعدم الركون لها :
والبعض منهم يعلم بأن هذا القائد هو الإمام المعصوم ويعتقد بذلك ولكنه يركن إلى الدنيا ولا يقدم نفسه لطعنات السيوف والرماح، وإلا فما معنى أن يسمعوا الإمام الحسين (ع) ينادي يوم العاشر من المحرم : ألا من ناصر ينصرني. ولا يجد من ينصره.
والبعض منهم يخاف الموت في سبيل الله فيهرب من الغزوة كما حصل في غزوة أحد، حتى أوشك أن يُقتَلَ النبي (ص)، أما الصحابة الكرام فقد هربوا خوفاً من السيف، بل بعضهم قال : ما دام النبي قد قُتل فلماذا أبقى على الإسلام.
الحب بدون بذل المهج:
ولا يكفي مجرد الحب والمودة للإمام مع عدم الالتزام بطاعته. فالكثير الذين كانوا يحبون الإمام الحسين (ع) ويعلمون بأنه ابن رسول الله وأنه على الحق، ولكن لم تأتهم الجرأة والموقف الصارم لنصرته، والوقوف بجانبه في ثورته.
والنبي الأكرم (ص) كان يذكر المسلمين بأن الحسين (ع) سيقتل في يوم العاشر من محرم، ولكن مع أن النبي (ص) قد أخبر بمقتل الحسين (ع) وأنه يُقتل مظلوماً،لا نجد من يهب لنصرة الحسين (ع)يوم العاشر.
ولذا كان رسول الله (ص) يخاطب الباكين معه لبكائه على الحسين (ع) خطاباً مباشراً،فيقول لهم : (أيها الناس، أتبكونه ولا تنصرونه؟!)(11).
ويُخاطب علي (ع) البراء بن عازب قائلاً : (يا براء، يُقتل ابني الحسين وأنت حي لا تنصره فلمّا قُتل الحسين (ع) كان البراء بن عازب يقول : صدق والله علي بن أبي طالب، قُتِلَ الحسين ولم أنصره، ثم أظهر على ذلك الحسرة والندم)(12).
كما كان موقف عمر بن سعد لما عُرض عليه وَلاية الري(13).
وإليكم المحاورة التي دارت بين الإمام الحسين (ع) وعمر بن سعد
قال الإمام له: ويحك يا ابن سعد! أما تتقي الله الذي إليه معادك أن تقاتلني، وأنا ابن من علمتَ يا هذا من رسول الله (ص)!؟ فاترك هؤلاء وكنْ معي، فإني أقربك إلى الله عز وجل.
فقال عمر بن سعد: يا أبا عبد الله، أخاف أن تُهدم داري.
فقال الإمام: أنا أبنيها لك.
فقال: أخاف أن تؤخذ ضيعتي.
فقال الإمام: أنا أخلف عليك خيراً منها من مالي بالحجاز.
فقال: عندي عيال أخاف عليهم.
فقال الإمام: أنا أضمن سلامتهم.
قال الراوي: لم يُجب عمر إلى شيء من ذلك، فانصرف عنه الحسين رضي الله عنه وهو يقول: مالك! ذبحك الله على فراشك سريعاً عاجلاً! ولا غفر الله لك يوم حشرك ونشرك، فوالله إني لأرجو أن لا تأكل من برّ العراق إلا يسيراً.
فقال له عمر بن سعد: يا أبا عبد الله، في الشعير عوض عن البرِّ!! ثم رجع عمر إلى معسكره(14).
صورة أخرى من صور كربلاء، وشخصية عظيمة نالت العظمة والتقدير والاحترام الكبير، هي شخصية الحر بن يزيد الرياحي (رضوان الله تعالى عليه)، فقد انتقل من معسكر الباطل إلى معسكر الحق، حيث أنه لم يُغلّب هواه على عقله في اتخاذ الموقف الحاسم.
وكذلك ننقل صورة أخرى من صور كربلاء، وهي شخصية نالت الفخر والعظمة والتقدير أيضاً، وهي شخصية زهير بن القين (رضوان الله تعالى عليه)، الذي لم يكن يعتقد العقيدة الصحيحة في الإمام الحسين (ع)، كما يُعبّرون بأنه كان عثماني الهوى.
نماذج من أصحاب الحسين (ع):
قال العريان بن الهيثم : كان أبي يتبدّى (أي يخرج إلى البادية) فينزل قريباً من الموضع الذي كان فيه معركة الحسين (ع)، فكنا لا نبدو إلا وجدنا رجلاً من بني أسد هناك. فقال له أبي: أراك ملازماً هذا المكان؟!
قال: بلغني أن حسيناً يُقتل هاهنا، فأنا أخرج إلى هذا المكان لعليّ أصادفه فأُقْتَلَ معه!!
قال ابن الهيثم: فلمّا قُتِل الحسين (ع) قال أبي: انطلقوا بنا ننظر هل الأسدي فيمن قتل مع الحسين (ع)؟
فأتينا المعركة، واطوّفنا، فإذا الأسدي مقتول!!(15).
عن الإمام السجاد (ع) قال:(جمع الحسين أصحابه بعدما رجع عمر بن سعد، وذلك عند قرب المساء، فدنوت منه لأسمع وأنا مريض، فسمعت أبي وهو يقول لأصحابه:... أما بعد، فإني لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيتٍ أبرَّ ولا أوصل من أهل بيتي، فجزاكم الله عني جميعاً خيراً، ألا وإني أظن يومنا من هؤلاء الأعداء غداً، ألا وإني قد أذنت لكم فانطلقوا جميعاً في حلّ، ليس عليكم مني ذمام وهذا الليل غشيكم فاتخذوه جملاً.
فقال له إخوته، وأبناؤه وبنو أخيه وأبناء عبد الله بن جعفر: لِمَ نفعل؟ لنبقى بعدك؟ لا أرانا الله ذلك أبداً.
فقال الحسين (ع): يا بني عقيل، حسبكم من القتل بمسلم، اذهبوا قد أذنت لكم!
فقال عبد الله بن مسلم بن عقيل : فما يقول الناس؟ يقولون إنا تركنا شيخنا وسيدنا وبني عمومتنا خير الأعمام، ولم نرمِ معهم بسهم؟ ولم نطعن معهم برمح، ولم نضرب معهم بسيف، ولا ندري ما صنعوا؟ لا والله لا نفعل، ولكن تفديك أنفسنا وأموالنا وأهلونا ونقاتل معك حتى نرد موردك، قبّح الله العيش بعدك.
- وقول مسلم بن عوسجة (رضوان الله عليه): أنحن نخلي عنك؟ وبم نعتذر عند الله من أداء حقك؟ لا والله حتى أكسر في صدورهم رمحي هذا، وأضربهم بسيفي ما ثبت في قائمه في يدي، ولا أفارقك، ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة ولم أفارقك حتى أموت معك)(16)
- وقول زهير بن القين (رضوان الله عليه) لما أذن له الحسين (ع) بالانصراف: (لا والله لا يكون ذلك أبداً، أترك ابن رسول الله أسيراً في يد الأعداء وأنجو؟! لا أراني الله ذلك اليوم(17). وقال أيضاً: والله لوددت أني قتلت ثم نُشرت ثم قتلت حتى أقتل كذا ألف قتلة وأن الله يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتية من أهل بيتك).
- وقول سعد بن عبد الله الحنفي:(والله لا نخليك حتى يعلم الله أنَّا قد حفظنا غيبة رسول الله (ص) فيك، والله لو علمت أني أُقتل ثم أُحرق حيَّاً ثم أُذر، يُفعل بي ذلك سبعين مرة، ما فارقتك حتى ألقى حِمامي دونك، فكيف لا أفعل ذلك وإنما هي قتلة واحدة ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً )(18).
هذه بعض النماذج لمواقف أصحاب الإمام الحسين (ع) ولمن أراد المزيد فعليه أن يُراجع : إبصار العين في أنصار الحسين (ع).
نهاية المطاف:
وبعد هذا البيان، نستطيع أن نردّ أغلب الإشكالات التي قد تُوجّه ضد أئمة أهل البيت (ع) من عدم قيامهم للثورات.
فإن الظروف التي مرّ بها الأئمة الأطهار (ع) لم تسمح لهم للتحرّك ضد الطغاة والظلمة، والجهاد مباشرة، وإلا فإن إقامة الحكومة العادلة أمر ضروري وبديهي، وكذلك سعي الأئمة (ع) للحكومة.
خلاصة الكلام:
إن هدف الأئمة الأطهار (ع) في كافة العصور : هو إقامة الحكومة الإلهية العادلة(19).
وتتمة البحث في الحلقة القادمة إن شاء الله، ولا يسعنا في المقام إلا التوجه إلى الإمام صاحب العصر والزمان (ع) والدعاء له بتعجيل الفرج والنصر، ونسأله أن يجعلنا من أنصاره وأتباعه ومن مقوية دولته وسلطانه، اللهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة، تُعزُّ بها الإسلام وأهله، وتذل بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة. وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.
* الهوامش:
(1)هذه الوظائف ذكرها الشهيد مرتضى مطهري في كتابه الإمامة39شؤون النبي الأكرم(ص).
(2)سورة الحشر، الآية 7.
(3)سورة النجم، الآية 3-4.
(4)سورة النساء، الآية 65.
(5)سورة النساء، الآية 59.
(6)ننقل كلام الإمام الخميني (قده) إتماماً للفائدة : (بديهي أن ضرورة تنفيذ الأحكام التي أوجبت تشكيل حكومة الرسول الأعظم(ص) " لم تكن خاصة بعصر النبي(ص) "،بل الضرورة مستمرة، لأن الإسلام لا يُحد بزمان أو مكان، لأنه خالد فيلزم تطبيقه وتنفيذه والتقيد به إلى الأبد... وبما أن تنفيذ الأحكام بعد الرسول الأكرم(ص) وإلى الأبد من ضروريات الحياة، لذا كان ضرورياً وجود حكومة فيها مزايا السلطة التنفيذية المدبرة، إذ لو لا ذلك لساد الهرج والمرج والفساد الاجتماعي والانحراف العقائدي والخلقي،فلا سبيل إلى منع ذلك إلا بقيام حكومة عادلة تدير جميع أوجه الحياة ). (الحكومة الإسلامية ص 47).
(7)الدليل على أن النبي(ص) شكّل الحكومة واضح، ومن أراد الاطلاع فليراجع : الحكومة الإسلامية – للإمام الخميني(قده) ص 46. تحت عنوان : طريقة الرسول الأعظم(ص).
(8)كما ذكره صاحب مروج الذهب المسعودي :ج3 /284. حيث يقول : كان جميع ملك بني أمية إلى أن بويع أبو العباس السفاح ألف شهر كاملة لا تزيد ولا تنقص، لأنهم ملكوا تسعين سنة وأحد عشر شهراً وثلاثة عشر يوماً. ومن أراد التفصيل في ملكهم فليراجع الكتاب.
(9)هذا التقسيم مقتبس من كتاب (آراء السيد القائد).
(10)الإرشاد للمفيد: 2/105، اللهوف :165، تاريخ الطبري:3/328، الكامل في التاريخ :3/292، مقتل الحسين(ع) للخوارزمي :2/20.
(11)بحار الأنوار:4/248،عن مثير الأحزان.
(12)الإرشاد :192.
(13)وله الأبيات المعروفة :
أأترك ملك الري والري منيتي أم أصبح مأثوماً بقتل حسين
حسين ابن عمي والحوادث جمة ولكن لي في الري قرة عين
يقولون أن الله خالق جنة ونار وعذاب وغلُّ يدين
فإن صدقوا مما يقولون إنني أتوب إلى الرحمن من سنتين
وإن كذبوا فزنا بدنيا عظيمـة وملك عقيم دائم الحجلين
وإن إله العرش يغفر زلتي ولو كنت فيها أظلمُ الثقلين
ولكنها الدنيا بخير معجّل وما عاقل باع الوجود بدين
المصدر: اللهوف في قتلى الطفوف :192.
(14)مع الركب الحسيني:4 /116، نقلاً عن مقتل الحسين للخوارزمي.
(15)مع الركب الحسيني: 1 :208 نقلاً عن تاريخ ابن عساكر (ترجمة الإمام الحسين (ع)).
(16)البحار: 45/ 69-70.
(17)البحار: 45/71.
(18)مع الركب الحسيني : 4/133-135 بتصرف.
(19)من محاضرة سماحة الإمام القائد تحت عنوان : عنصر الجهاد في حياة الأئمة (ع)الدروس العظيمة من سيرة أهل البيت (ع).
0 التعليق
ارسال التعليق