لا شك بأن أئمة الدين الذين ذكرهم القرآن هداة، بل أن قاعدة اللطف تكون تامة بجعل أئمة هداة إلى الدين، وما ذِكْرُ القرآن هداية الأئمة (ع)، واعتناءه بها إلا لمغزى ناشئ من وراء جعلهم أئمة بعد تحقق شرائط خاصة لديهم سلام الله عليهم، وليس المراد بحث خصائص الإمام بل الإشارة إلى أن هداية الإمام تختلف عن ما يظهر من هداية أو إراءة الطريق من قبل العلماء الذين لم يصلوا إلى درجة الإمام، ولذا خصهم القرآن بوصف الهداية، كما ذكره في قوله: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بِأايَاتِنَا يُوقِنُونَ}(1)
وفي قوله تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلواة وَإِيتَآءَ الزَّكَواةِ وَكَانُواْ لَنَا عَابِدِينَ}(2). فحتى يُعرف نوع هداية الأئمة(ع) وخصائصها لا بد من معرفة معنى بأمرنا المتقيدة الهداية به، وقد أختلف علماء المسلمين في معنى هداية الأئمة التي هي بأمر الله سبحانه، هذا مع غض النظر عن كون المراد من الإمام من هو؟ وأنه هل هو النبي كما عليه مشهور علماء الجمهور، أولا كما عليه السلفية وبعض السنة والإمامية.
الأقوال في تفسير بأمرنا:
1- يهدون الناس إلى أمر الله، وأختار هذا القول مقاتل بن سليمان في التفسير المنسوب إليه(3)، والسمرقندي(4)، وابن زمين(5)، وناصر الدين السعدي(6).
2- يهدون الناس إلى دين الله، وأختاره البغوي في تفسيره(7)، والشنقيطي(8)، لكن يحتمل رجوع هذا القول إلى القول السابق أي يهدون إلى أمر الله سبحانه وإن كانت الهدية إلى دين الله ظاهرها هداية إلى أصل الدين لا إلى مطلق أمر الله سبحانه، ويظهر هذا القول من ابن حيان الأندلسي أيضا(9)، والسيوطي(10).
3- يهدون بأمر الله إياهم بهداية الناس، أختار هذا القول قتادة(11)، ويظهر من الشيخ الطوسي الميل إلى هذا الرأي(12)، وأختاره الطبرسي(13)، والفيض الكاشاني(14)، والسيد عبد الله شبر(15)، والسمعاني في أحد قوليه(16)، وابن الجوزي(17)، والقرطبي في أحد قوليه(18)، والزمخشري(19)، والبيضاوي(20)، وأبي السعود(21)، والآلوسي(22)، والشوكاني(23)، وشرف الدين(24)، والشيخ مكارم الشيرازي(25).
4- يهدون الناس بإذن الله أختاره الطبري(26)، والغرناطي(27)، وابن كثير(28)، ولكن يحتمل رجوع هذا القول إلى أنهم يهدون بأمر الله إياهم كما يظهر هذا من الفخر الرازي قال: أي جعلناهم أئمة يدعون الناس إلى دين الله تعالى والخيرات بأمرنا وإذننا(29).
5- يهدون بوحينا أختاره السمعاني في قوله الثاني(30)، والقرطبي في قوله الآخر بعبارة صريحة قال: ومعنى {بِأَمْرِنَا} أي بما أنزلنا عليهم من الوحي والامر والنهي، فكأنه قال يهدون بكتابنا(31).
وهذه الأقوال الخمسة وإن وقع بينها اختلاف إجمالا إلا أنها ترجع إلى كون الأمر هو أمر تشريعي، وإلى أن هداية الأئمة (ع) هداية تشريعية، ولم تعتمد هذه الأقوال على دليل سوى الاستظهار من الآية وسياقها، وأما القول السادس الذي سيأتيك فهو رأي جديد في تفسير الأمر والهداية.
6- ما ذهب إليه العلامة الطباطبائي (ره) بأن الأمر في الآية يتعلق بالوجود والتكوين، وهو الأمر المبين في قوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}(32)، وأن هداية الأئمة المرادة في الآية الكريمة هي الهداية التكوينية لا الهداية التشريعية، بمعنى أن من أمتثل الشريعة فإن حصوله على الهداية التكوينية بتصرف تكويني من الإمام (ع)، كذلك حصول عمله على الهداية التكوينية بتصرف منه، قال في تفسير الآية:
أن هذه الهداية المجعولة من شؤون الإمامة ليست هي بمعنى اراءة الطريق لان الله سبحانه جعل إبراهيم (ع) إماما بعد ما جعله نبيا - كما أوضحناه في تفسير قوله: " إني جاعلك للناس إماما " فيما تقدم - ولا تنفك النبوة عن الهداية بمعنى إراءة الطريق فلا يبقى للإمامة إلا الهداية بمعنى الإيصال إلى المطلوب وهي نوع تصرف تكويني في النفوس بتسييرها في سير الكمال ونقلها من موقف معنوي إلى موقف آخر. وإذ كانت تصرفا تكوينيا وعملا باطنيا فالمراد بالأمر الذي تكون به الهداية ليس هو الأمر التشريعي الاعتباري بل ما يفسره في قوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ...}، فهو الفيوضات المعنوية والمقامات الباطنية التي يهتدي إليها المؤمنون بأعمالهم الصالحة ويتلبسون بها رحمة من ربهم(33).
وقال أيضا: الإمام هاد يهدي بأمر ملكوتي يصاحبه، فالإمامة بحسب الباطن نحو ولاية للناس في أعمالهم، وهدايتها إيصالها إياهم إلى المطلوب بأمر الله، دون مجرد إرائة الطريق الذي هو شأن النبي والرسول وكل مؤمن يهدي إلى الله سبحانه بالنصح والموعظة الحسنة.
ولأجل توضيح عمق ما يذهب إليه السيد الطباطبائي(قده) لابد من بيان أقسام الهداية، ثم علاقة هداية الأئمة بقوله تعالى:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}.
أقسام الهداية
تنقسم الهداية على الإجمال إلى ثلاثة أقسام(34) الهداية التكوينية العامة، والهداية التشريعية العامة، والهداية التكوينية الخاصة:
الهداية التكوينية العامة:
هي هداية جميع المخلوقات إلى مقاصدها التي خُلقت لها، فتسير نحو غاياتها بهداية من الله ، والله سبحانه فطر المخلوقات عليها، قال على لسان نبيه موسى(ع) :{رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}(35) وقال: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى، وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى}(36) فالله سبحانه خلق المخلوقات بتقدير معين، وبهداية عامة، وقال تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ، ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}(37). ففعل النحل بهداية تكوينية عامة.
ولما أودع الله سبحانه العقل عند الإنسان وجعله مكلفا شملت الهداية العامة للإنسان الصعيد المادي والمعنوي، قال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ، وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ، وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}(38) فالإنسان يبصر بالعينين أثار خلقه وحكمه، ويبين باللسان ويستعين بالشفتين لإبراز البيان، وهديناه النجدين أي ووضحنا للإنسان سبيل الخير والشر، فالإنسان بفطرته يدرك الخير والشر، أو الحسن والقبح.
الهداية التشريعية العامة
وهي الهداية التي تعم جميع المكلفين، ويحصل عليها الإنسان عن طريق الأنبياء والأوصياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}(39)، وقال تعالى:{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}(40) وقال:{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}(41) فالشريعة الإلهية هي الهداية الطريق الصحيح الموصل لسعادة المكلف في نشأة الدنيا والآخرة.
الهداية التكوينية الخاصة
وهي الهداية المترتبة على عمل الإنسان وإن حصلت له من غير اختيار، فهذه الهداية لا تشمل جميع المكلفين، وإنما من استنار بالهداية التشريعية وجسدها في واقعه العملي فتناله الهداية الخاصة بقدر سعيه لامتثال الشريعة، فكلما قوى تمسكه في الميدان العملي للتعاليم الإلهية كلما زادت هدايته الخاصة والمتمثلة بالفيوضات الإلهية والعناية الربانية، وسلوك روحه درجة ومقام أرفع فيفتح الله له أبوابا من نور هدايته، قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}(42) وقال: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى}(43) وقال: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى}(44) وقال: {اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ}(45) فإن هذه الهداية تحصل للإنسان بقدر إنابته لله سبحانه وتعاليمه واهتدائه بالهداية التشريعية، فلهذه الهداية مراتب كثيرة بقدر تفوات الناس واختلافهم في قوة التمسك بالشريعة.
فتختلف الهداية التشريعية عن الهداية التكوينية، في أن الهداية التشريعية هداية إلى المعارف الإلهية العامة، والعلوم الربانية، والأحكام التكليفية، من غير تصرّف تكويني في قلب المكلف ونفسه، ويكون المكلف باختياره العمل على وفق هذه الهداية، أما الهداية التكوينية فإنها تصرّف تكويني في النفس، ولا يكون حصولها للمكلف باختياره.
الأمر في مراتب الهداية والضلال
الإنسان الذي استفاد من نور الهداية العامة الفطرية يصل إلى مقام الاستعداد للتمسك بالهداية التشريعية، وإذا استنار الإنسان بالهداية التشريعية وعمل على وفقها انتقل إلى مقام أرقى في الفيوضات والألطاف الإلهية، لكن حصول بعض مراتب الهداية التكوينية أو الضلال التكويني الناتج عن سوء أختيار الإنسان وظلمه يعني استقرار الإنسان في تلك المرتبة والمقام، وليست جهة وجوده في ذلك المقام هي الجهة المادية إذ تَغيّر النفس في الاستعداد للطاعة ليس محسوسا، بل جهة وجوده في ذلك المقام هي جهة الوجود الباطني على تعبير السيد الطباطبائي، فإن المخلوقات كلها حتى الأفعال لوجودها جهتان، جهة الوجود المادي الخاضع لتحديد الزمان والمكان والقابل للتغير والتبدل، وجهة الوجود الباطني غير المتعين بالزمان والمكان والذي لا يقبل التبدل والتغير وهو الوجه الذي يواجه به الله سبحانه فإن المخلوقات بهذا الوجه تنسب إلى الله تعالى وتقوم به، وهذا الوجود الباطني هو الوجود الملكوتي وهو المراد من الأمر (كن) في قوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} وقول الله سبحانه فعله، وهو إيجاده للشيء وإيجاده للشيء هو وجود الشيء(46) لكن من جهة إسناده إلى الله تعالى، وإنما يطلق عليه أسم الملكوت حيث أن الله تعالى عبر عنه بذلك(47) في قوله تعالى: {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ}(48)، وذكر الله سبحانه أنه أرى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض قال: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ}(49) فإن إبراهيم الخليل سأل عن كيفية الإيجاد وتأثير السبب(50) فأطلع الله إبراهيم ملكوت الأشياء، وإدراك واقعها يلازم اليقين، وهذا ما يستفاد من كلام الطباطبائي، حيث قال:
وقد ذكر الله في تالي الآية إن هذه الكلمة - كلمة كن - هي ملكوت كل شئ إذ قال: {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} الآية، وقد ذكر الله تعالى انه ارى إبراهيم ملكوت خلقه إذ قال: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ}، ومن الملكوت إحياء الطيور المذكورة في الآية(51).
وقال في تفسير الأمر في آية {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}(52):
ان الامر الإلهي وهو الذي تسميه الآية المذكورة بالملكوت وجه آخر للخلق، يواجهون به الله سبحانه، طاهر مطهر من قيود الزمان والمكان، خال من التغير والتبدل وهو المراد بكلمة - كن الذي ليس إلا وجود الشيء العيني، وهو قبال الخلق الذي هو وجه آخر من وجهي الأشياء فيه التغير والتدريج والانطباق على قوانين الحركة والزمان(53).
وقال في مورد آخر يفسّر فيه الأمر:
وقد فسّر سبحانه أمره الذي يملكه من الأشياء بقوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ...} فبيّن أن أمره الذي يملكه من كل شيء سواء كان ذاتا أو صفة أو فعلا وأثرا هو قول: كن، وكلمة الإيجاد، وهو الوجود الذي يفيضه عليه فيوجد هو به، فإذا قال لشيء: كن فكان، فقد أفاض عليه ما وجد به من الوجود، وهذا الوجود الموهوب له نسبة إلى الله سبحانه وهو بذاك الاعتبار أمره تعالى وكلمة " كن " الإلهية، وله نسبة إلى الشيء الموجود، وهو بذاك الاعتبار أمره الراجع إلى ربه، وقد عبر عنه في الآية بقوله {فَيَكُونُ}(54).
وتحصل مما تقدم بأن نسبة مرتبة من الهداية التكويني أو الضلال التكويني إلى الإنسان أو فعله هو وجود الإنسان أو فعله في تلك المرتبة والمقام ولكن الوجود الباطني والملكوتي.
الانتقال والتغير في المراتب:
إن الانتقال والتغير للإنسان في المراتب التكوينية للهداية أو للضلال لا يكون إلا بعلة، أي بتصرف من الله سبحانه أو من يكل إليه تدبير ذلك، فإن الإنسان بعد عمله يصل إلى غايته بعلة وكذلك عمله الصادر منه يصل إلى غايته بعلة، والعلة هي الإمام (ع) الذي يسوق الناس والأعمال إلى غايتها من خلال ولايته التكوينية وإيكال أمر هداية الناس إليه، وفي ذلك يقول الطباطبائي:
فقوله تعالى: {يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا}، يدل دلالة واضحة على أن كل ما يتعلق به أمر الهداية - وهو القلوب والأعمال - فللإمام باطنه وحقيقته، ووجهه الأمري حاضر عنده غير غائب عنه، ومن المعلوم أن القلوب والأعمال كسائر الأشياء في كونها ذات وجهين، فالإمام يحضر عنده ويلحق به أعمال العباد، خيرها وشرها، وهو المهيمن على السبيلين جميعا، سبيل السعادة وسبيل الشقاوة... فالإمام هو الذي يسوق الناس إلى الله سبحانه يوم تبلى السرائر، كما أنه يسوقهم إليه في ظاهر هذه الحياة الدنيا وباطنها(55).
ويصف هداية الأئمة بقوله: هي نوع تصرف تكويني في النفوس بتسييرها في سير الكمال ونقلها من موقف معنوي إلى موقف آخر.... فالمراد بالامر الذي تكون به الهداية ليس هو الامر التشريعي الاعتباري بل ما يفسره في قوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ...}، فهو الفيوضات المعنوية والمقامات الباطنية التي يهتدي إليها المؤمنون بأعمالهم الصالحة ويتلبسون بها رحمة من ربهم.... فالإمام هو الرابط بين الناس وبين ربهم في إعطاء الفيوضات الباطنية وأخذها كما أن النبي رابط بين الناس وبين ربهم في أخذ الفيوضات الظاهرية وهي الشرائع الإلهية تنزل بالوحي على النبي وتنتشر منه وبتوسطه إلى الناس وفيهم، والإمام دليل هاد للنفوس إلى مقاماتها كما أن النبي دليل يهدي الناس إلى الاعتقادات الحقة والأعمال الصالحة، وربما تجتمع النبوة والإمامة كما في إبراهيم وابنيه(56).
وبعبارة سهلة إن الإنسان إذا دأب في رضا الله سبحانه من خلال التزام امتثال الشريعة فإن نفسه تحصل لها استعدادات للطاعة وللكمالات أكثر مما كانت عليه قبل الدأب في الالتزام، وحصول هذه الحالة بتصرف وإيجاد من الإمام (ع)، وإذا كان عمل الإنسان في المعاصي فإن النتيجة عكسية، وكذلك أفعال الإنسان تصل إلى غايتها بواسطة الإمام(ع)(57).
أدلة المدعى:
إن ما يدعيه العلامة من تعريف هداية الإمام (ع) ومعنى الأمر الذي تكون هداية الإمام به يحتاج إلى أدلة واضحة المعالم، والسيد لم يصرح بعرض الأدلة كأدلة على ما يراه، ولكن يحتمل من كلامه الاستدلال على أن الأمر أمر تكويني تارة وعلى أن الهداية هداية تكوينية تارة أخرى بعدة وجوه وهي:
الأول: إن إسناد الأمر إلى الله في قوله تعالى يهدون بأمرنا كإسناده في بعض الموارد الأخر، مثل قوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا} وقوله: {وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} فكما أن الأمر في هذه الموارد أمر تكويني كذلك في يهدون بأمرنا(58)، وذلك أن السيد الطباطبائي في عرضه لتفسير الأمر في {يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} أورد هاتين الآيتين(59).
الثاني: يستفاد من سياق الآية أن هداية الإمام بأمر الله تفسر إمامة الإمام، فيكون المراد من الهداية هداية تخص الإمام، وهداية الإمام ليست هي أراءة الطريق، إذ لا يختص ذلك بالإمام، فإن النبي الذي ليس بإمام يمكن أن يكون هاديا بل حتى الصالحين من الممكن أن يكونوا هادين للهداية التشريعية، بل المراد من هداية الإمام الهداية التكوينية، والمراد بالأمر هو الأمر التكويني، قال:
وظاهر قوله: {أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} أن الهداية بالأمر يجري مجرى المفسر لمعنى الإمامة،...أن هذه الهداية المجعولة من شؤون الإمامة ليست هي بمعنى اراءة الطريق لان الله سبحانه جعل إبراهيم (ع) إماما بعد ما جعله نبيا - كما أوضحناه في تفسير قوله: " إني جاعلك للناس إماما " فيما تقدم - ولا تنفك النبوة عن الهداية بمعنى إراءة الطريق فلا يبقى للإمامة إلا الهداية بمعنى الإيصال إلى المطلوب وهي نوع تصرف تكويني في النفوس بتسييرها في سير الكمال ونقلها من موقف معنوي إلى موقف آخر. وإذ كانت تصرفا تكوينيا وعملا باطنيا فالمراد بالأمر الذي تكون به الهداية ليس هو الأمر التشريعي الاعتباري بل ما يفسره في قوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ...}.
الثالث: يستفاد من سياق الآية أن هداية الإمام هي الهداية بالحق المراد في قوله تعالى: {أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى}(60) فهذه الآية تدل على أن المهتدي بذاته هو الهادي، وأما إذا كان مهتديا بغيره فهو ليس بهادٍ، ولا تكون هذه الهداية إلا الهداية التكوينية، قال:
إن هذا المعنى أعني الإمامة، على شرافته وعظمته، لا يقوم إلا بمن كان سعيد الذات بنفسه، إذ الذي ربما تلبس ذاته بالظلم والشقاء، فإنما سعادته بهداية من غيره، وقد قال الله تعالى: {أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى} وقد قوبل في الآية بين الهادي إلى الحق وبين غير المهتدي إلا بغيره، أعني المهتدي بغيره، وهذه المقابلة تقتضي أن يكون الهادي إلى الحق مهتديا بنفسه، أن المهتدي بغيره لا يكون هاديا إلى الحق البتة(61).
ثم إن السيد الطباطبائي استدرك على نفسه في المقام إشكالا وردَّه(62)، ومفاد الإشكال إنه لا يلزم على الهادي إلا أن يكون مهتديا بنفسه وهو معصوم، وهذا المعنى متحقق في الأنبياء فيلزم كون جميع الأنبياء أئمة، وردَّه بكون الهداية بالحق وهي هداية الإمام كاشفة على كون الإمام مهتديا بنفسه، ولكن لا تكشف عن كون كل مهتدي بنفسه فهو إمام، فيفهم من كلامه أن المراد من هذه الهداية في {أَفَمَن يَهْدِي...} هي الهداية الخاصة بالإمام وقد فسَّرها فيما مضى بالهداية التكوينية، فتكون هذه الآية شاهدا على ما يدعيه.
الرابع: قوله تعالى {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ، إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ}(63) كلام إبراهيم هذا قبل أن يجعله الله إماما، فأعلم قومه ببراءته مما يعبدون وأخبرهم بأن الله سوف يهديه في المستقبل، وهذه الهداية ليست الهداية التشريعية لأن الهداية التشريعية حاصلة له لأنه يتبرأ من أفعال قومه، بل المراد هو الهداية التي هي بأمر الله أي الهداية التكوينية المقترنة بالإمامة(64).
مناقشة الأدلة:
كلام العلامة (ره) يوجد عليه بعض الملاحظات:
أما الوجه الأول: ففيه إن إسناد الأمر إلى الله تعالى لا يعني الأمر التكويني والإيجادي دائما لا من الظهور العرفي ولا من الاستعمالات القرآنية، بل إن الظهور العرفي في تعليق عمل المكلف على أمر الله هو الأمر التشريعي، وأما في الاستعمالات القرآنية فقد جاء أمر الله بمعنى الأمر التشريعي مثل قوله تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}(65) وقال تعالى بعد أن بين حكم الطلاق والرجعة والعدة: {ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ}(66) والسيد الطباطائي يقرّ بأن أمر الله هنا يعني الحكم التشريعي(67) وهو متفق عليه عند المفسرين، فلا ينصرف إلى الأمر التكويني بمجرد إطلاق أمر الله في القرآن.
وأما قوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} فإن المراد من مادة الأمر في الآية الكريمة هو الشأن والسيد الطباطبائي (قده) يقر بذلك(68)، نعم السيد يرى بأن المراد من الأمر في {يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} هو صيغة الأمر (كن) في آية {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا...} ولذا فمن البعيد جدا أن يرى السيد الطباطبائي وجه الأمر التكويني في إسناد الأمر إلى الله تعالى.
الوجه الثاني: ويبدو أنه من أقوى الوجوه لكن مع ذلك يرد عليه:
أولا: لا مانع من أن تكون هداية الإمام تكميلية لهداية النبي والرسول، فبعد إتمام الرسالة بالنبي فلا بد من إمام يكون مرشدا إلى واقع الأمر وهاديا إليه دائماً، لما لديه من الاستعداد، ومفترض الطاعة على العباد، حتى لا يدخل عباد الله في ضلال ولا تيه، فتختلف وظيفة الإمام عن وظيفة النبي في أنها هداية تكميلية، ولا يبلغ هذا الإهداء العلماءُ المؤمنين إذا لم يكونوا أئمة من قبل الله، إذ إنهم غير معصومين فلا يؤمن من وقوعهم في الخطأ، ولا تتحقق الهداية الواقعية لطاعة الله بغير الإمام وخليفة الرحمن، والعلماء الذين يرشدون إلى الأحكام إنما يريدون أن يرشدون إلى ما يهدي إليه الإمام (ع).
وقد صرحت كثير من الروايات على خصائص هداية الإمام التشريعية منها:
منها صحيحة بريد العجلي، عن أبي جعفر(ع):
في قول الله : {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} فقال: رسول الله (ص) المنذر ولكل زمان منَّا هاد يهديهم إلى ما جاء به نبي الله (ص)، ثم الهداة من بعده علي ثم الأوصياء واحد بعد واحد(69).
ومنها صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر(ع) في خطبة(جاء فيها):
بلغ رسول الله (ص) الذي ارسل به فألزموا وصيته وما ترك فيكم من بعده من الثقلين كتاب الله وأهل بيته اللذين لا يضل من تمسك بهما ولا يهتدي من تركهما...الخ
وواضح بأن هداية القرآن الكريم هداية تشريعية، فكذلك هداية الأئمة (ع) حيث قرنوا بالقرآن.
ومنها ما يرويه الكلينى عن عبد العزيز بن مسلم في خطبة للإمام الرضا (ع) جاء فيها:
إن الأنبياء والأئمة صلوات الله عليهم يوفقهم الله ويؤتيهم من مخزون علمه وحكمه ما لا يؤتيه غيرهم، فيكون علمهم فوق علم أهل الزمان في قوله تعالى: {أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} وقوله تبارك وتعالى: {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا}(70).
ثانيا: لهداية الإمام التشريعية خصوصية أخرى لا تكون عند غيره من سوى الأنبياء والرسول، وهي ترتب الهداية التكوينية على طاعة أمره، ولا تترتب الهداية على طاعة غيره، ذلك إن الله سبحانه جعلهم الطريق إليه وبابه، ولا يقبل الله أن يؤتى إلا من بابه كما دلت على ذلك بعض الروايات منها رواية أبي ليلى عن الإمام الصادق(ع) في حديث جاء فيه:
إن الله تبارك وتعالى أخبر العباد بطرق الهدى وشرع لهم فيها المنار، وأخبرهم كيف يسلكون، فقال: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} وقال: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} فمن اتّقى الله فيما أمره لقي الله مؤمنا بما جاء به محمد (ص)، هيهات هيهات فات قوم وماتوا قبل أن يهتدوا وظنوا أنهم آمنوا، وأشركوا من حيث لا يعلمون، إنه من أتى البيوت من أبوابها اهتدى، ومن أخذ في غيرها سلك طريق الردى، وصل الله طاعة ولي أمره بطاعة رسوله، وطاعة رسوله بطاعته، فمن ترك طاعة ولاة الامر لم يطع الله ولا رسوله..الخ(71).
ومنها صحيحة إسحاق بن غالب، عن أبي عبد الله (ع) في خطبة له يذكر فيها حال الأئمة (ع) وصفاتهم:
أن الله عز وجل أوضح بأئمة الهدى من أهل بيت نبينا عن دينه، وأبلج بهم عن سبيل منهاجه، وفتح بهم عن باطن ينابيع علمه، فمن عرف من أمة محمد (ص) واجب حق إمامه، وجد طعم حلاوة إيمانه، وعلم فضل طلاوة إسلامه، لان الله تبارك وتعالى نصب الإمام علما لخلقه، وجعله حجة على أهل مواده وعالمه، وألبسه الله تاج الوقار، وغشاه من نور الجبار، يمد بسبب إلى السماء، ولا ينقطع عنه مواده، ولا ينال ما عند الله إلا بجهة أسبابه، ولا يقبل الله أعمال العباد إلا بمعرفته، فهو عالم بما يرد عليه من ملتبسات الدجى، ومعميات السنن، ومشبهات الفتن...الخ(72).
وفي مضمون هذه الروايات روايات متعددة.
ثالثا: إن مورد الآية وردت فيه رواية تدل على إرشادية الهداية عن الضلال والغواية، يرويها الكليني بسنده إلى طلحة بن زيد عن أبي عبد الله (ع) قال:
إن الأئمة في كتاب الله عز وجل إمامان قال الله تبارك وتعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} لا بأمر الناس يقدمون أمر الله قبل أمرهم، وحكم الله قبل حكمهم، قال: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} يقدمون أمرهم قبل أمر الله، وحكمهم قبل حكم الله، ويأخذون بأهوائهم خلاف ما في كتاب الله عز وجل(73).
قوله بأمر الله في مقابل أمر الناس يدل على أن الأمر أمر تشريعي، إذ لا أمر تكويني للناس، وكذلك ظهور يقدمون أمر الله ظاهر في أن الأمر أمر التشريعي، وكذلك مقابلة إمام الهداية لإمام الغواية، فإن إمام الغواية يدعو إلى النار لا بأمر تكويني وإنما تقديم الهوى وتزينه.
أما الوجه الثالث: فيرد عليه أولا: أن قوله تعالى {أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى} ليس فيه ظهور على أن من يهدي بهدي غيره لا يمكن أن يهدي، ولذا يرى الشيخ الطوسي والطبرسي والزمخشري أن معنى{أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى} لا يهدي إلا بعد أن يُهدى(74)، أي أنه بعد أن يُهدى يمكن أن يهدي، وإن رجع هديه إلى هدي من يهدي بنفسه، والظاهر أن الآية في مقام بيان أن الذي يهدي على كل حال أحق أن يتبع ممن لا يهدي، بل من لا يهدي في حاجة إلى الهداية فكيف يهدي غيره، وبيان الأولوية في الإتباع لجهة معينة يفترض أن هذه الجهة تختلف عن الجهة أو الجهات الأخرى، وأما من اهتدى بغيره فهو يمكن أن يهدي ولكن بهدي من يهدي على كل حال فلا يمكن أن يخالف هديه هدي من اهتدى به، وإلا لزم كونه غير مهتدي.
ثانيا: حتى لو قلنا بأن من اهتدى بغيره لا يمكن أن يهدي فإن الظاهر من الهداية في الآية هي الهداية التشريعية والهداية لبيان الأحكام والحقائق والواقعيات، لأن فرض الإتباع في الهداية يعني اختيار المكلف في الإتباع، ولا يكون المكلف مختارا في إتباع الهداية إلا إذا كانت الهداية تشريعية.
ثالثا: قد دل ظهور بعض الروايات المستعرضة للآية الكريمة على أن الهداية هي الهداية التشريعية منها ما تقدم من رواية عبد العزيز بن مسلم، فجاء فيها:
إن الأنبياء والأئمة صلوات الله عليهم يوفقهم الله ويؤتيهم من مخزون علمه وحكمه ما لا يؤتيه غيرهم، فيكون علمهم فوق علم أهل الزمان في قوله تعالى: {أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ}...الخ(75).
ومنها ما جاء في صحيحة إسحاق بن غالب من خبطة للإمام الصادق (ع) يبين فيها صفة الإمام الذي يهدي بالحق فجاء فيها:
كل ما مضى منهم(76) إمام نصب لخلقه من عقبه إماما، علما بينا، وهاديا نيرا، وإماما قيما، وحجة عالما، أئمة من الله، يهدون بالحق وبه يعدلون، حجج الله ودعاته ورعاته على خلقه، يدين بهديهم العباد وتستهل بنورهم البلاد، وينمو ببركتهم التلاد، جعلهم الله حياة للأنام، ومصابيح للظلام، ومفاتيح للكلام، ودعائم للإسلام، جرت بذلك فيهم مقادير الله على محتومها(77).
فيظهر بقرينة سياق الحديث أن هداية الإمام بالحق هي الهداية التشريعية وإراءة الطريق.
أما الوجه الرابع: وفيه: أولا: إن قول إبراهيم(ع) {إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} -على فرض أن المراد من الهداية هي الهداية التكوينية – لا يدل على أن الله سبحانه سوف يجعله هاديا بالهدي التكويني، فإن تلقي الهدي، غير هداية الخلق.
ثانيا: لا مانع من أن تكون له هداية في المستقبل على هدايته في الحال، ثم الهداية إلى المعارف الإلهية والحقائق الربانية على درجات ومراتب فلا مانع من تعدد الهداية، قال الفيض الكاشاني في تفسير سيهدين: هداية بعد هداية(78). وهناك بعض الأقوال الأخرى في تفسير الآية منها قول الشيخ الطوسي حيث قال في سيهدين: أنها بمعنى سيهديني إلى طريق الجنة بلطف من ألطافه، وهو داعي للتمسك بعبادته حتى يؤيده إلى الجنة، وإنما قال ذلك ثقة بالله تعالى، ودعاء لقومه حتى يطلبوا الهداية من ربه(79).
وأضاف الشيخ الطبرسي إليه قولا آخر وهو سيهدين إلى الحق بما نصب لي من الأدلة(80)، وقال الزمخشري جاء في آية أخرى{فَهُوَ يَهْدِينِ}(81) وفي هذه الآية سيهدين وكأنه قال يهدين وسيهدين فيدلان على إستمرار الهداية في الحال والإستقبال(82).
نور الأئمة والهداية الخاصة:
لربما يقال بأن الأئمة(ع) لهم تصرّف تكويني في هداية النفس ولذا يستشعر المؤمن نورا في كلامهم، وتنويرا في قلبه بهم، وهو عبارة أخرى عن القيادة التكوينية للنفوس إلى مقاماتها الإيجابية أو السلبية، وقد دلت روايات متعددة على أن الأئمة ينورون قلوب المؤمنين من قبيل: صحيحة أبي خالد الكابلي قال:
سألت أبا جعفر (ع) عن قول الله تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا} فقال: يا أبا خالد النور والله الأئمة (ع) يا أبا خالد لنور الإمام في قلوب المؤمنين أنور من الشمس المضيئة بالنهار وهم الذين ينورون قلوب المؤمنين، ويحجب الله نورهم عمن يشاء فتظلم قلوبهم ويغشاهم بها(83).
ومنها راية أبي الجارود، حيث جاء في روايته عن أبي جعفر الباقر (ع) أنه قال في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ} يعني إماما تأتمون به(84).
وكذلك قد يقال بأن مما يدل على أن هداية النبي (ص) بما هو نبي غير هداية الإمام بقرينة الروايات الواردة في تفسير قوله تعالى{إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} من قبيل صحيحة الفضيل، قال:
سألت أبا عبد الله (ع) عن قول الله عز وجل: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} فقال: كل إمام هاد للقرن الذي هو فيهم(85).
لكن يجاب على ذلك أولا: إن كلام الأئمة (ع) ينور القلوب في هداية الطريق وبيان الحقائق، أما الهداية التكوينية الخاصة التي يراها الطباطبائي للإمام(ع) فليست هي اراءة الطريق بل هي صرف تصرف تكويني وإيجاد تغيير في النفس ونقلها إلى مقام خاص.
وثانيا: الهداية التكوينية الخاصة بالمعنى المتقدم إنما تحصل تلقائيا بعد العمل بالشريعة وعلى حسب مقدار مجاهدة الإنسان لنفسه في طاعة الله تعالى، وأما نور الأئمة سلام الله عليهم يحصل من سماع كلامهم وإرادة الاهتداء به.
الهداية التكوينية بيد الله
إن الهداية التكوينية بيد الله ولا مانع أن تكون بواسطة الإمام (ع) ولكن ذلك إذا ثبت بالدليل فهو، والذي يظهر لي بأن الهداية التكوينية بالمعنى الذي ذكره السيد الطباطبائي غير ثابت في حق الأئمة سلام الله عيهم، بل يظهر من بعض الروايات أن هذه الهداية تكون من الله، وفي بعضها بواسطة ملك، منها صحيحة العلاء، عن أبي عبد الله (ع) قال:
إن الله عز وجل إذا أراد بعبد خيرا نكت في قلبه نكتة من نور فأضاء لها سمعه وقلبه حتى يكون أحرص على ما في أيديكم منكم وإذا أراد بعبد سوءا نكت في قلبه نكتة سوداء، فأظلم لها سمعه وقلبه، ثم تلا هذه الآية {فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء}(86).
ومنها صحيحة محمد بن مسلم: عن أبي عبد الله (ع) قال :
إن الله عز وجل إذا أراد بعبد خيرا نكت في قلبه نكتة بيضاء وفتح مسامع قلبه ووكل به ملكا يسدده وإذا أراد بعبد سوءا نكت في قلبه نكتة سوداء وسد مسامع قلبه ووكل به شيطانا يضله(87).
ومنها صحيحة سليمان بن خالد، عن أبي عبد الله (ع) قال :
قال: إن الله عز وجل إذا أراد بعبد خيرا نكت في قلبه نكتة من نور وفتح مسامع قلبه ووكل به ملكا يسدده، وإذا أراد بعبد سوءا نكت في قلبه نكتة سوداء وسد مسامع قلبه ووكل به شيطانا يضله، ثم تلا هذه الآية: {فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء}(88).
منها صحيحة كليب بن معاوية، قال: قال لي أبو عبد الله (ع) :
إياكم والناس، إن الله عز وجل إذا أراد بعبد خيرا نكت في قلبه نكتة فتركه وهو يجول لذلك ويطلبه، ثم قال: لو أنكم إذا كلمتم الناس قلتم: ذهبنا حيث ذهب الله واخترنا من اختار الله، واختار الله محمدا واخترنا آل محمد (ص)(89).
ومنها صحيحة الفضيل: قال: قلت لأبي عبد الله (ع) :
ندعوا الناس إلى هذا الأمر؟ فقال: يا فضيل إن الله إذا أراد بعبد خيرا أمر ملكا فأخذ بعنقه حتى أدخله في هذا الأمر طائعا أو كارها(90).
فإن هذه الأحاديث تدل بأن التصرف التكويني في نفس المكلف لجعله أكثر استعدادا تكون من الله سبحانه وبتوكيل ملك من الله في تسديد العبد والمكلف، وإن كان بعض الأحاديث يتعلق بمورد الاهتداء إلى ولاية الأئمة سلام الله عليهم، ولكن يستفاد منها العموم، والله العالم.
مراتب هداية الأئمة
إن هداية الأئمة (ع) وتنويرهم لنا الطريق بعلومهم سلام الله عليهم على درجات ومراتب، فإنهم يخاطبون الناس على قدر عقولهم، وقد أولوا عناية خاصة لصفوة أوليائهم، وهذه المراتب في الهداية لا يعني كون الهداية هي الهداية تكوينية التي يراها السيد الطباطبائي، لأن هداية الأئمة (ع) لا تخرج عن إراءة الطريق، والله العالم.
والحمد لله رب العالمين.
* الهوامش:
(1) سورة السجدة: 24.
(2) سورة الأنبياء: 73.
(3) تفسير مقاتل بن سليمان، ج3، ص30.
(4) تفسير السمرقندي، ج3، ص37.
(5) تفسير ابن زمين، ج3، ص153.
(6) تفسير السعدي، ص527.
(7) تفسير البغوي، ج3، ص252.
(8) أضواء البيان، ج4، ص166.
(9) تفسير البحر المحيط، ج6، ص305.
(10) تفسير الجلالين، ص427.
(11) جامع البيان للطبري، ج17، ص136.
(12) التبيان في تفسيرالقرآن، ج8، ص307.
(13) جامع الجوامع، ج2، ص532.
(14) الأصفى، ج2، ص786، وتفسير الصافي، ج3، ص347، وج4، ص159.
(15) تفسير السيد عبد الله شبر، ص396.
(16) تفسير السمعاني، ج2، ص392.
(17) زاد المسير، ج5، ص365.
(18) تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن الكريم، ج14، ص109.
(19) الكشاف، ج2، ص587.
(20) تفسير البيضاوي، ج4، ص101.
(21) تفسير أبي السعود،ج6، ص77.
(22) تفسير الآلوسي، ج17، ص71.
(23) فتح القدير، ج3، ص416.
(24) تأويل الآيات، ج2، ص445.
(25) تفسير الأمثل،ج13، ص139.
(26) جامع البيان، ج21، ص136.
(27) التسهيل في علوم التنزيل للغرناطي،ج3، ص29.
(28) تفسير ابن كثير، ج3، ص194.
(29) تفسير الفخر الرازي، ج22، ص191.
(30) تفسير السمعاني، ج3، ص252.
(31) تفسير القرطبي، ج11، ص305
(32) سورة يس: 82.
(33) تفسير الميزان ج14، ص304.
(34) وقد ذكر الشيخ الطبرسي أن الهداية المرادة في القرآن الكريم على خمسة أقسام، وكذلك تبعه العلامة المجلسي، لاحظ والأقسام الخمسة مجمع البيان، ج1، ص138؛ وبحار الأنوار، ج5، ص171، بعضها متداخل فيما نحن فيه وإن اختلفت التسمية، والمهم في المقام بيان ثلاثة الأقسام.
(35) سورة طه: 50.
(36) سورة الأعلى: 2-3.
(37) سورة النحل: 68.
(38) سورة البلد: 8-10.
(39) سورة الحديد: 25.
(40) سورة الشورى: 52.
(41) سورة الإسراء: 9.
(42) سورة العنكبوت: 69.
(43) سورة محمد: 17.
(44) سورة الكهف: 13.
(45) سورة الشورى: 13.
(46) قال السيد الطباطبائي: أن أمره هو قوله للشئ: " كن " وهو كلمة الايجاد التي هي الايجاد والايجاد هو وجود الشئ لكن لا من كل جهة بل من جهة استناده إليه تعالى وقيامه به فقوله فعله. الميزان، ج8، ص348
(47) قال السيد الطباطائي: أن الملكوت في عرف القرآن على ما يظهر من قوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} [يس: 83] هو الوجه الباطن من الأشياء الذي يلي جهة الرب تعالى، وأن النظر إلى هذا الوجه واليقين متلازمان كما يفهم من قوله: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الانعام: 75] تفسير الميزان، ج8، ص348.
(48) سورة يس: 83.
(49) سورة الأنعام: 75.
(50) لاحظ ما أفاده العلامة في الميزان، ج2، ص367.
(51) تفسير الميزان، ج2، ص370.
(52) سورة يس: 83.
(53) تفسير الميزان، ج1، ص272.
(54) الميزان، ج8، ص151.
(55) تفسير الميزان، ج1، ص273.
(56) تفسير الميزان، ج14، ص304
(57) وهذا ما يفهم من كلام العلامة الطباطبائي.
(58) هذا الوجه أخبرني به أحد الأساتذة الأفاضل، ولكن يبدوا لي عدم إرادة السيد الطباطبائي لهذا الوجه وسف جوابه.
(59) تفسير الميزان، ج1، ص272
(60) سورة يونس: 35.
(61) تفسير الميزان، ج1، ص273- 274.
(62) قال السيد الطباطبائي: فان قلت: لو كانت الإمامة هي الهداية بأمر الله تعالى، وهي الهداية إلى الحق الملازم مع الاهتداء بالذات كما استفيد من قوله تعالى: (أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع الآية ) كان جميع الأنبياء أئمة قطعا، لوضوح أن نبوة النبي لا يتم إلا باهتداء من جانب الله تعالى بالوحي، من غير أن يكون مكتسبا من الغير، بتعليم أو إرشاد ونحوهما، حينئذ فموهبة النبوة تستلزم موهبة الإمامة، وعاد الاشكال إلى أنفسكم. قلت: الذي يتحصل من البيان السابق المستفاد من الآية أن الهداية بالحق وهي الإمامة تستلزم الاهتداء بالحق، وأما العكس وهو أن يكون كل من اهتدى بالحق هاديا لغيره بالحق، حتى يكون كل نبي لاهتدائه بالذات إماما، فلم يتبين بعد. تفسير الميزان، ج1، ص275.
(63) سورة الزخرف: 26-27.
(64) لاحظ تفسير الميزان، ج1، ص276.
(65) سورة الحجرات: 9.
(6) سورة الطلاق: 5.
(67) تفسير الميزان، ج19، ص316.
(68) لاحظ تفسير الميزان، ج17، ص114- 115.
(69) أصول الكافي، ج1، ص192.
(70) أصول الكافي، ج1، ص202، معاني الأخبار، ص100؛ تحف العقول، ص441.
(71) أصول الكافي، ج1، ص182.
(72) أصول الكافي، ج1، ص203.
(73) أصول الكافي، ج1، ص216.
(74) التبيان، ج5، ص376؛ الكشاف، ج2، ص237؛ مجمع البيان، ج5، ص187.
(75) أصول الكافي، ج1، ص202، معاني الأخبار، ص100؛ تحف العقول، ص441.
(76) من الأئمة سلام الله عليهم.
(77) أصول الكافي، ج1، ص203.
(78) تفسير الصافي، ج4، ص387.
(79) التبيان، ج9، ص193.
(80) مجمع البيان، ج9، ص76.
(81) سورة الشعراء: 78.
(82) تفسير الكشاف، ج2، ص484.
(83) أصول الكافي، ج1، ص192، ح4.
(84) أصول الكافي، ج1، ص194- 196، ح3.
(85) الكافي، ج1، ص191
(86) الكافي، ج2، ص214.
(87) الكافي ج2، ص214.
(88) أصول الكافي، ج1، ص166.
(89) أصول الكافي، ج2، ص212.
(90) الكافي ج2، ص213
0 التعليق
ارسال التعليق