نشأت في الأزمنة المتأخرة أقلامٌ وأفكارٌ تزرع في نفوس القارئ لها قناعات بأنّ ما يأتي ويدلو به هو الصحيح، وأنّ المخالف لها واضح البطلان، فالقارئ لكلامهم قد تنطلي عليه مغالطاتهم بحيث يصل إلى قناعة بأنّ من يخالفهم كلامه مخالف للفطرة، فيتصوّر أنّه لا يعقل أن يصدر كلام من صغار المتعلّمين يخالف أفكار هؤلاء الكتّاب وأن يقولوا بالقول الآخر فضلاً عن جهابذة الدين وفقهائه، ولكن بالتدقيق في كلامهم نجد أنّ كلامهم لا يعدو سوى كونه سراباً.
بعضُ الكُتّاب قد يكون ما يكتبه واضح البطلان والاشتباه وأنّ كلامه كلّه حشوٌ ولغوٌ وهراء، فهذا الكلام لا غرو أن يكون منبوذاً فكرياً وعقلائياً، ولكن مَن يحاول خداع العقول الشبابية الطريّة فكلامه لا يكون كسابقه، بل يكون كلامه جميلاً في تنسيقه، وأنيقاً في سبكه، ورصيناً في عباراته، ويضع بين تلك العبارات عباراتٍ تكونُ سموماً فكريةً، وقد لا يلتفت القارئ لمثل هذه العبارات المدسوسة، بل قد يعتقد بصحتها على الرغم من بطلانها.
من مشاكل عصرنا هذا هي المغالطات الكثيرة[1] التي تكون -من قصد أو من غير قصد- مؤثّرةً على عقول المخاطَبين، وهذا أمرٌ لا يختلف فيه اثنان، بل نشعر به بالوجدان، ونتحسّسه بمعاشرة الآخرين، هذا والأمْـرُ يكون أدهى وأمَرّ فيما لو كان التأثير بسبب هذه المغالطات تؤدي لنشوء معتقدات دينية، وآراء مذهبية تُغلِّط مَن يخالفها، وإذا وجَدت هذه المغالطات أرضيّةً شبابيةً خصبةً فستكون المشكلة في أوج قوّتها.
ولكي نقرّب فكرة المغالطة، أذكر بعض الأمثلة التقريبية التمهيديّة:
* عندما طلب معاوية بن أبي سفيان من عقيل أن يَسُبَّ أخاه عليّ بن أبي طالبg فصعد عقيلٌ المنبرَ وقال: "أمرني معاوية أن أسبّ عليّاً، ألا فالعنوه!"[2] وهذا الإيهام والمغالطة جاء من جهة اشتراك عود الضمير.
* استدلال بعضهم على أنّ الباري يحتاج إلى علّة في إيجاده، وذلك عبر هذا القياس: [الله موجودٌ]، و[كل موجودٍ يحتاج إلى علّة]، فتكون النتيجة [أنّ الله يحتاج إلى علّة]. وهذه المغالطة ناشئة من توهّم تكرّر الحدّ الأوسط، والحال أنّ الحدّ الأوسط لم يتكّرر في المقدمتين، إذ إنّ صياغة الحدّ الأوسط في الكبرى فيها قيدٌ ناقص، فحقُّ القضية أن تكون [كل ممكن الوجود يحتاج إلى علّة]، لذا فلا تكون النتيجة صحيحة؛ لأنّه ثبت في محلّه أنّ الله واجب الوجود وليس ممكن الوجود.
وهناك أمثلة كثيرة وحالات متعدّدة للمغالطة، ولستُ في صدد تبيين كلّ حالاتها، وإنّما أردتُ أن أبيّن فكرة المغالطة وكيفية صياغتها عبر تطبيق بعض الأمثلة البسيطة والقريبة من الأذهان.
ويمكنك أيّها القارئ العزيز أن تقف على نموذجين من نماذج هذا الفكر التشويشي، إذ إنّ الأفكار هذه قد تكون مكتوبةً وقد تكون مسموعة، فهناك مواقع لهذه الأقلام وهناك قنوات إعلامية ترعى مثل هذا الفكر، ولكن اقتصرتُ على القسم الأول في هذا الرد.
هذه المقالة التي بين يديك هي محاولة للوقوف على الملاحظات التي ذُكِرت في مقالةٍ لأحد الكُتّاب، وقد نال فيها من قضية الحجاب بالنسبة إلى المرأة[3]، فتلك المقالة وإن كان ظاهرها برّاقاً إلا أنّها تحوي مضامين مخالفة لما تبتني عليه المدرسة الإمامية من أفكار وآراء ثابتة وواضحة.
والمقالة التي أحاول تسليط الضوء عليها قد قارنت بين تفكيرين وهما فرض لبس الحجاب من جهة الدول التي تجبر رعاياها على ارتدائه وفرض ترك الحجاب في الدول التي تجبر رعاياها على تركه، فالجامع بين القسمين هو حالة (الفرض) التي ركّز عليها الكاتب، ولي مع تلك المقالة عدّة وقفات[4].
الوقفة الأولى
قال الكاتب: "لتنامي ظاهرة "النقاب" بمصر، أصدرت الأوقاف المصرية كتاباً بعنوان "النقاب عادة وليس عبادة"، لكنْ ثمّة دُوَل يُفرض فيها ليس "الحجاب" فحسب (كغطاء للشعر)، ولا النقاب (كغطاء للوجه)، بل أشبه بخيمةٍ تُسربل كامل جسم المرأة وتمشي بها!
ثمّة فتاوى شاذّة تُوجب استعمال عينٍ واحدة فقط وستر الأخرى درءاً للفتن! وجماعات -كما بالصومال- يرشق بعضهم الفتيات غير "المنقبات" بالمواد الكيميائية، أوضاع لخّصتها منظمة العفو الدولية بتعرّض قرابة مليار امرأة في العالم للاضّطهاد وللعنف، من متحرّرين ودينيّين.
حديثنا اليوم ليس عن "النقاب"، بل عن إشكالية مزمنة بمسألة "الحجاب"، والأصحّ تسميته "الخمار"، حسب الدلالة القرآنية، أمّا "الحجاب" قرآنيّاً فلم يكن إلاّ "ستراً" على باب بيوت (غُرَف) زوجات النبيّ|، لفرض الاحتشام على زوّارهنّ بعدم التعامل المبتذل المكشوف، ولئلا يشفّ عمّا بداخل البيت مباشرة".
هناك بعض الألفاظ القرآنية قد استُخدمت في معنى عام، ولكن هذا المعنى قد هُجِرَ وتُرِكَ واستعمل في زماننا الحالي استعمالاً أخصّ وأضيق دائرةً من الاستعمال القرآني، فلا ينبغي الإشكال على الاستعمال الحالي ولا على الاستعمال القرآني، وذلك لأنّ الحيثية المنظور لها في كلا الاستعمالين مختلفة.
ولكي تتضح الفكرة لا بأس بهذا المثال التقريبي:
كلمة >الفَرْج<: إذ أشكل بعض الحداثيين على القرآن بأنّه يحوي ألفاظاً لا تليق بكونه عفيفاً ومترفِّعاً ومتنزهاً عن قول الألفاظ التي تخدش الحياء، ولكننا نجد القرآن قد اشتمل على خلاف ذلك، فمثلاً لفظة "الفَرْج" هي لفظة يستهجن الشرفاء عن التلفّظ بها، فكيف بالقرآن؟!
الجواب: إنّ القرآن استعمل هذه اللفظة بمعناها الأوّلي، وليس بمعناها بعد النقل للمعنى المخصوص، وبيان ذلك: لو رجعنا إلى قواميس اللّغة فإننا نجد المعنى الأصلي لها.
قال ابن فارس: الفاء والراء والجيم. أصلٌ صحيحٌ يدل على تفتحٍ في الشيء. من ذلك: الفُرجة في الحائط وغيره والشقّ. والفروج: الثغور التي بين مواضع المخافة[5].
قال: والجيب، جيبُ القميص[6] وهو خرق مستطيل في قدامه. يقال: جِبتُ القميص، قَوَّرْتُ جَيْبَهُ وهو خَرْقُهُ مِنْ وَسَطِهِ خَرَقْاً مُسْتَديراً. وفي القرآن {وَليَضْرِبْنَ بخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ}[7] وهو خرق في صدر القميص. ويقال: فلانٌ ناصح الجيب، أي: أمينه[8]. ويقال: طَاهرُ الجَيبِ، أي: نَزيهَهُ.
فالفَرْج في مثل هذه التعابير هي فُرجة القميص، أي: جيبه، وهو عبارة عن خرق مطوّق في أسفله، حسب العادة في قُمصان العرب. فإحصان الفرج عبارة عن طهارة الذيل، أي: نزاهته عن دنس الفحشاء[9].
وهو استعمال على الأصل العربي القديم والذي جرى عليه القرآن الكريم على المصطلح الأول، أمّا أخيراً فغلب استعماله في سَوْءة المرأة وهو استعمال مستحدث، لا يحمل القرآن عليه. قالa: {وَالحافِظينَ فُرُوجَهُم وَالحافِظات}[10]. وقال أيضاًd: {قُل لِلمُؤمِنينَ يَغُضّوا مِنْ أبْصارِهِمْ ويَحْفَظوا فُروجَهُم... وَقُلْ لِلْمؤمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُروجَهُنَّ}[11] كلّ ذلك كناية عن التحفّظ على نزاهة الذيل عن دنس الفحشاء، وليس اسماً خاصّاً للسَوْءة ولا سيما سَوْءة المرأة.
إذا اتّضح هذا أقول: إنّ قول الكاتب: "حديثنا اليوم ليس عن "النقاب"، بل عن إشكالية مزمنة بمسألة "الحجاب"، والأصحّ تسميته "الخمار"، حسب الدلالة القرآنية، أمّا "الحجاب" قرآنيّاً فلم يكن إلاّ "ستراً" على باب بيوت (غُرَف) زوجات النبيّ|، لفرض الاحتشام على زوّارهنّ بعدم التعامل المبتذل المكشوف، ولئلا يشفّ عمّا بداخل البيت مباشرة"، هذا خلطٌ واضحٌ بين الاستعمال القديم والمستحدث لنفس اللّفظة وهي لفظة الحجاب، فلا يصحّ استهجانه من استعمال لفظة الحجاب. وتعبيره بـ >الأصح<:
ـ إن كان يريد به ما يقابل الصحيح، فلا مشكلة، إذ كلا الاستعمالين جائزين.
ـ إن كان يريد به ما يقابل الخطأ والاشتباه، فلا نسلّم كلامه. إذ في العرف السائد حالياً هو نقل مفردة الحجاب إلى ما يستر المرأة عن الرجل الأجنبي.
الوقفة الثانية
قال الكاتب: "(الفرض) لونٌ من الإكراه، فكلا السياستيْن تقييدٌ لاختيار الناس...".
إنّ استعمال الألفاظ البرّاقة ذات المعاني الفضفاضة هي من الأساليب التي ينتهجها بعض أصحاب المصالح من أجل أن يقنعوا الآخرين بصحّة معتقداتهم وأفكارهم.
فإذا وقفنا مع عبارة الكاتب في هذا المقطع هو يتمسّك برفض فكرة >الفرض< وي
0 التعليق
ارسال التعليق