قال تعالى في كتابه الحكيم: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ}(1) يتكفل الإسلام النقي بتربية الإنسان في جميع أبعاده- الظاهرية والباطنية- وبما أن للإنسان ثلاثة أبعاد في وجوده(2) كل منها يحتاج إلى كمال خاص يناسبه، فقد تكفل الإسلام بالعلوم التي تربي هذه الأبعاد(3) في الإنسان، وهذه الأبعاد هي البعد السلوكي العلمي الظاهري، والبعد الذي يتحلى بالصفات، والبعد العقائدي، لذا ورد عن النبي الأكرم(ص)أنه قال: «إنما العلم ثلاثة: آية محكمة، أو فريضة عادلة، أو سنة قائمة، وما خلاهن فهو فضل»(4) فالآية المحكمة هو علم العقائد الذي يكمل البعد الاعتقادي في الإنسان، والفريضة العادلة هو علم الأخلاق الذي يكمل البعد الذي يحمل الصفات في الإنسان، والسنة القائمة هو البعد العملي الظاهري الذي يحدد سلوك الإنسان المصطلح عليه في زماننا بعلم الفقه(5).
والنبي الأكرم وأهل بيته(ع) عالمون علما لدنّيا بكل العلوم، فهم محيطون بعلم العقائد والأخلاق والفقه(6) وكل ما يحتاجه الإنسان للوصول إلى الله سبحانه وتعالى، فالله يعطيهم العلم إعطاء تكوينياً، ويفهمون هذا العلم فهما معصوماً مطابقاً للواقع، ولهم القدرة على تطبيق علمهم تطبيقاً لا يجانب الصواب، فهم معصومون في العلم فلا خطأ في علمهم، ومعصومون في الفهم والتطبيق(7).
فالمعصوم لا يحتاج إلى منهج خاص لفهم الدين- عقائداً وفقهاً وأخلاقاً-لأنه محيط بكل تفاصيله بالعلم اللدنّي، ولذا فهو قادر على تلبية كل الحاجات الاجتماعية المعاصرة مهما تطور الزمان والمكان.
أما غير المعصوم(ع)فيحتاج لكي يفهم الدين القيّم الخالص إلى عدة أمور:
أ- المنهج الصحيح الخاص الذي يعتمد عليه في طريقة البحث العلمي للوصول إلى النتائج – العقائدية، الأخلاقية، الفقهية- النهائية التي تمثل الدين الذي يعتنقه.
ب- القدرة العملية على تطبيق هذا المنهج لكي يصل إلى النتائج، فلا يكفي وجود المنهج مع عدم الكفاءة على تطبيق هذا المنهج والسير على خطاه الدقيقة(8).
ج- الصفاء النفسي لقبول الحق مهما كان مخالفاً لأهوائه وميوله، فالدين هو الذي يحدد مسير الأهواء وليست الأهواء هي التي تحدد مسير الدين، وإلا صارت الأهواء هي المشرّعة، لذا ورد في النهج عن مولى الموحدين(ع) في ذكر بعض الملاحم: «يعطف الهوى على الهدى إذا عطفوا الهدى على الهوى، ويعطف الرأي على القرآن إذا عطفوا القرآن على الرأي»(9) نعم ما كان مخالفا للعقل القطعي أو الفطرة السليمة فلا يمكن أن يكون صادراً من الشارع، لأن الدين الإسلامي دين الفطرة والعقل(10)، فلا يمكن أن يأتي الوحي بما يتعارض مع الفطرة أو العقل، وكيف يفعل ذلك! وهو خلاف الحكمة؟ فكيف يقوم الحكيم بإعطاء العقل للإنسان- الذي وظيفته إصابة الواقع والإدراك- ثم يأتي له بما يتنافى معه؟ هذا خلاف الهدف الأساس من الهداية والرحمة.
هذه أهم الشروط الأساسية لفهم الدين، وتعتبر مسألة تحديد المنهج الذي يرسم طريقة التفكير للوصول إلى النتائج من أهم المسائل الفكرية والعلمية، وهي أهم سبب للاختلاف في النتائج العلمية في الدين، فاختلاف المنهج يؤثر تأثيراً بالغاً في اختلاف النتائج المعرفية الدينية، وفي هذا السياق تطرح مسألة التجديد في الفهم الديني، وهي من أخطر المسائل، فقد سلك البعض منهجاً تجديدياً يقضي على الكثير من الثوابت الأساسية في الدين كالمنهج الحداثي المسمى- بتعدد القراءات - الذي جعل الحجاب القلبي عوضا عن الحجاب الظاهري، وسلك الآخر منهجاً لا يقبل أي تغيير في فهم النصوص خلافاً لما جاء به علماء الدين، بيمنا سلك أكثر فقهاءنا الأجلاء - حفظ الله الباقين ورحم الماضين منهم- المنهج المعتدل الصائب، فقد وفقوا بين الحفاظ على الثوابت الأساسية، وبين التجديد والترقي في فهم الدين، فقد تكاملت- تعمقت- المعارف العقائدية بشكل كبير جداً، وكذلك القواعد الفلسفية التي تعين العالم على الوصول إلى الحقائق، هذا فيما يرتبط بالمعارف، وكذلك فيما يرتبط بالأحكام، فقد تطورت القواعد الأصولية مما انعكس على فهم بعض الأحكام الشرعية فهماً أعمق، وتكامل فهم النصوص بشكل أكبر مما كان عليه، وهذه مسألة طبيعية جداً فتكامل العلم أمر طبيعي في التكامل البشري، إلا أن المهم أن لا يكون التجديد في الفهم على حساب الثواب القطعية التي قامت عليها البراهين البيّنة، وإصابة المنهج المعتدل الذي يوفق بين الأمرين من أصعب الأمور، ولتوضيح فكرة اختلاف المنهج والنتائج بشكل أكبر، نبين بعض موارد الاختلاف المنهجي بشكل أكثر تفصيلاً.
المنهجية العقائدية:
من الواضح أن أهم ركيزة في حياة الإنسان المؤمن هي معتقداته وإيمانه، فهو القطب الذي يحدد المسيرة الإنسانية، لذا فقد اهتم أهل البيت (ع) اهتماماً ملفتاً فيما يرتبط بمسألة التوحيد ورد الشبهات المطروحة حول مسألة التوحيد، ومسألة الإمامة والعصمة والنبوة والمعاد... وتبعهم العلماء في ذلك، وأهم عنصر فيما يرتبط بالمسائل العقائدية هي مسألة المنهجية التي يجب على الباحث سلوكها لكي يصل إلى النتائج الحقّة، وقد تعددت المناهج عند المسلمين التي تتبع في طريقة البحث العلمي، فنشأت عدة مدارس في علم العقائد، فمثلا نشأت المدرسة الحشوية(11) التي تعتمد على ظواهر النصوص مهما كانت مخالفة للعقل البديهي، لذلك ذهبوا إلى الاعتقاد بجسمانية الله سبحانه، وأن له يدا مادية و... وما هذه النتاج إلا نتاج المنهجية التي اتبعوها، القائلة أن ظاهر النص الديني لابد من التعبد به وقبوله مهما كان مخالفا للعقل والبرهان، وفي قبال هذه المدرسة، المنهجية التي تتعامل مع النصوص الدينية معاملة محكمة فترجع المتشابهات من النصوص إلى المحكمات، وتفهم النصوص وفق القواعد العقلية القطعية(12)، وهذا هو المنهج المتبع عند مدرسة أهل البيت(ع).
وقد دخل إلى الدائرة الإسلامية منهج جديد تأثر بالفكر الغربي الأوربي، وهو المعروف بمنهج- تعدّد القراءات- الذي يرى أن كل إنسان يفهم النص الديني بحسب ما يحمل من ثقافة، وكل ما يفهمه صحيح وصائب وله التعبد به، حتى لو فهم النص الديني الواحد مئات الأشخاص أفهاما متناقضة فيما بينها، فكلها صحيحة، ولا يستطيع أحد أن يقول أن الحق عندي، وهذا سار في جميع المعارف الدينية في الأصول والفروع، وهذه النظرية في الواقع تعتمد بشكل أساسي على نظرية نسبية المعرفة الدينية.
هذا في الإطار الديني أما إذا وسعنا الدائرة فلابد أن ندخل المنهجية المادية، التي تعتمد الطريق الحسي لإثبات حقائق هذا الوجود، وأن كل ما لا يمكن أن يحس بالحواس المادية فلا طريق لنا لإثباته، وهذا الاختلاف في المنهجية للوصول إلى المعارف سبب اختلافاً كبيراً في النتائج.
المنهجية الفقهية(13):
كما اختلفت المناهج المتبعة للوصول للنتائج العقائدية، كذلك الحال في النتائج الفقهية، فالمناهج مختلفة في الوصول إلى الأحكام الشرعية، فالمدرسة السنية تذهب إلى القول بأن من قواعد الاستنباط القياس والاستحسان، بخلاف المدرسة الشيعية فإنها ترفض ذلك رفضاً باتاً وتعتبره من أكبر المخاطر و التي تؤذن بمحق الدين، فقد ورد عن الإمام الصادق(ع)أنه قال لأبي حنيفة: «اتق الله ولا تقس الدين برأيك، فإن أول من قاس إبليس»(14) وهذا الاختلاف في المنهجية الفقهية سبب اختلافاً كبيراً في الأحكام الشرعية.
المنهجية التفسيرية:
ومن أهم المباحث فيما يرتبط بالمناهج المعرفية، مسألة المنهج الصحيح في تفسير القرآن الكريم، فهل المنهج الصحيح هو تفسير القرآن بالقرآن؟ أو تفسير القرآن بالسنة؟ أو بالعقل؟ أو بالجميع، وهل نحن مخاطبون بظواهر القرآن الكريم أو أنها مختصّة بمن خوطب به وهو المعصوم(ع)حيث ورد عن أبي جعفر(ع): «لا يعرف القرآن إلا من خوطب به»(15)؟ هذه المسألة من أهم المسائل العلمية التي لها تأثير خطير على طريقة التعاطي مع القرآن الكريم ومحوريته في الإسلام.
فقد ذهب البعض إلى أن فهم القرآن مختص بالمعصوم (ع)، ولا يمكننا فهمه مطلقا إلا من خلال الروايات، فعلينا أن نقف عند كل آية على الروايات التي جاءت في ذيل الآية ونكتفي بما فيها من تفسير، وما لم يبيّن ليس لنا طريق لفهمه، بينما ذهبت مدرسة أخرى إلى اتباع أقوال السلف من الصحابة حيث لا تعتقد هذه المدرسة بالمعصوم بعد النبي(ص)، وهناك منهج يقوم على تفسير القرآن بالقرآن بالإضافة إلى تفسير بالنقل والعقل كذلك.
هذه نبذه بسيطة حول اختلاف المناهج المعرفية في فهم الإسلام، من هنا فإن أول مسألة على طالب الحق أن يتحصل عليها هي المنهج الصحيح الذي يسير عليه لفهم الدين الإسلامي الأصيل، وقبل الدخول في هذه المسألة نخلص إلى تعريف واضح لنظرية المعرفة لندخل بعدها في صلب الموضوع، فإنه من خلال ما مر يمكن أن نقول أن نظرية المعرفة هي: (المنهجية المتبعة للوصول إلى النتائج المعرفية).
ملاحظة:
سوف نحاول في هذا البحث أن نجمع بين طرح الأفكار وطرح الأدلة باختصار بما يتناسب مع البحث، حيث أن نظرية المعرفة وإن كانت هي المنهج للوصول إلى المعارف ولكن تأسيسها يعتمد على الأدلة المعتمدة على البديهيات العقلية الأولية، وسوف نخص البحث بالمنهجية المعرفية في العقائد، وإن كان الكثير مما سيرد في طيات البحث شامل لعلم الفقه والأخلاق.
المنهجية العقائدية:
الهدف الأول والأساس من خلق الإنسان هو المعرفة الحقيقية بخالقه، يقول تعالى في الحديث القدسي: «كنتُ كنزاً مخفياً فأحببتُ أن أعرف فخلقتُ الخلق لأعرف»(16) وهي-المعرفة بالله- المنطلق الرئيسي للحركة والفاعلية على خط الله، يقول أمير المؤمنين(ع) في بيان هذه الحقيقة: «أول الدين معرفته»(17) وكل العبادات والأفعال التي كلف بها العبد إنما جاءت لترفع من مستوى المعرفة القلبية، والمحبة للخالق عز وجل فقد جاء عنهم (ع) في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}(18) أي إلا ليعرفون(19)- فالعبادة تنور القلب بالمعرفة دون أن يشعر بذلك الإنسان.
لذا فإن الدقة والتمحيص الدقيق في المعتقدات الدينية أخطر مسألة في الحياة الإنسانية، من هنا نفهم أهمية المنهج المتبع للوصول للنتائج العقائدية، فالحشوية عندما سلكوا منهج الأخذ بظاهر الروايات ومن دون أي ضوابط، حتى أنهم جعلوا العقل والقرآن طيعين لها ومنقادين لظاهرها، وصلوا إلى العقائد التي ينكرها حتى الأطفال بفطرتهم، وبعض الحداثيين عندما أسس إلى نظرية - تعدد القراءات- في منهجيّته العلمية وصل إلى نتيجة تعدد صراط الحق، في الحال الذي يصرخ القرآن ليل نهار بأن الصراط إلى الحق واحد لا غير.
حقيقة الدين:
وقبل الدخول في بيان المنهج السليم لفهم الدين، علينا أن نفهم حقيقة الدين، فما هو الدين؟ وما هي حقيقته؟ ويبحث هذا الموضوع عادة تحت عنوان فلسفة الدين، ويمكن تلخيص البحث بالقول أن الدين (مجموعة من المعارف القلبية والأحكام العملية) فالدين الإسلامي يحوي المعارف القلبية التي تمثل كمال الإنسان، بمعنى أن الكمال في الاعتقاد بها ومعرفتها، وأحكام عملية صادرة من مقام الربوبية الإلهية يحقق الإنسان بالسير على خطاها السعادة الحقيقية في النشأتين الدنيا والآخرة، فالدين الإسلامي في الواقع هو التسليم(20) {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ}(21) والتسليم تارة يكون للحق والواقع الموجود أي الاعتقاد بما هو حق وهي العقائد الحقة،وتارة يكون تسليما للعمل الحق، والعمل الحق هو العمل الذي ينتج الكمال المطلوب منه، فالأحكام الإلهية هي أحكام تمثل الطريق لتحقيق الكمال الإنساني، بحيث يكون إنساناً إلهياً، إذن حقيقة الدين هي التسليم للحق.
والدين في بعديه العقائدي والعملي ثابت لا تغير فيه، وهذه المسألة غير مسألة فهم الدين، فالدين شيء وفهم الدين شيء آخر، فالدين في بعديه ثابت لا تغير فيه، نعم فهم الدين متغير في بعض الجزئيات، وسيأتي الحديث حول مسألة الفهم الديني بالتفصيل، نعم هناك مساحة أعطاها الدين- وهذا الإعطاء من الثوابت- للحاكم الإسلامي لينظم فيها المجتمع بحسب ما يراه صالحا له(22)، ويصب في مصلحة الدين والدنيا، وهذه المساحة التي أعطاها الإسلام للحاكم الإسلامي المستجمع للشروط من الضمانات لمواكبة الدين لجميع الأزمنة والأمكنة وعلى مر العصور، والضمانة الأساس لمواكبة الإسلام لجميع الأزمنة والأمكنة هي موافقة جميع الأحكام الإسلامية للفطرة الإنسانية، فالإسلام دين الفطرة والعقل، دين يضمن للإنسان السائر تحت ظله المعيشة السعيدة، قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}(23) ومعنى ذلك أن الذي لا يعرض عن ذكر الله ويكون ذاكراً مطيعاً لله سبحانه وتعالى فإن له معيشة سعيدة هانئة مطمئنة ويحشر يوم القيامة بصيراً متنعماً.
وإذا قيل إن الحقيقة الأساسية للدين هي البعد المعرفي المتجسد بشكل أول في التوحيد، أما الأحكام العملية فهي وسائل لتحقيق الهدف، فلماذا الإصرار على الوسائل والجمود عليها، ولماذا لا تتغير الوسائل بتغير الزمن وفقاً لمقتضيات الزمان والمكان؟ فما الداعي للجمود على الحج والحجاب و.... هذه وسائل كانت مناسبة في ذلك الزمان- زمن المعصوم (ع)- لتحقيق هدف التوحيد، والآن توجد وسائل أخرى أكثر مناسبة من تلك لتحقيق الهدف الأساس- التوحيد- فلا داعي للجمود على تلك الوسائل ولا مبرر عقلائي لذلك.
كان الجواب:
أولاً :نحن نلحظ أن كثيراً من الأحكام العملية كانت موجودة منذ زمن آدم (ع) إلى زمن نبينا (ص)، فإنه رغم الفاصلة الزمنية بين آدم(ع) ونبينا (ص)، إلا إنه لم يطل الكثير من الأحكام العملية أي تعطيل أو تغيير- في أصل العبادة- على يد النبي الخاتم (ص)، كالحج والصلاة مثلاً.
ثانياً: إذا حصرنا الحديث حول الدين الإسلامي المحمّدي فمنذ زمن النبي الأكرم(ص) وبيانه للأحكام الشرعية إلى زمن آخر معصوم ظاهر- الإمام الحسن العسكري (ع)- بقيت الأحكام الشرعية ثابتة ولم ينقل أن حكماً شرعياً- غير الأحكام الولائية- بُدّل وغيّر إلى حكم آخر، نعم مسألة النسخ أمر آخر وهي من مختصات المعصوم(ع)، وفي زمن الغيبة لا يوجد نسخ حيث لا معصوم ظاهر- عجل الله لمغيّبنا الفرج والسرور- وهذا دليل بيّن على ثبات الأحكام الشرعية.
ثالثاً: لا يوجد دليل على الرخصة لتغيير الأحكام الشرعية تبعاً للمكان أو الزمان، بحيث يمكن للإنسان الاعتماد عليه، والركون إليه، نعم لو وجد دليل قطعي يقول لنا أن هذه الأحكام إنما جاء بها الوحي والمعصوم(ع) بلحاظ الزمن الذي كان فيه، حيث إن هذه الأحكام كانت في ذلك الوقت هي المحقق للهدف التوحيدي، بل الدليل على خلاف ذلك، فكيف يسمح لنا الشارع بذلك وهو يصدح بأن دين الله لا يقاس بالعقول وأنه لا يمكن لغير المعصوم(ع)أن يحيط بملاكات الأحكام؟!
رابعاً: هناك روايات كثيرة تحمل مضمون الثبات للأحكام الشرعيّة بنحو لا يقبل التأويل، ومن ضمن هذه الروايات ما جاء عن زرارة، قال: «سألت أبا عبدالله(ع) عن الحلال والحرام فقال: حلال محمد حلال أبدا إلى يوم القيامة، وحرامه حرام أبدا إلى يوم القيامة لا يكون غيره ولا يجيء غيره، وقال: قال علي (ع): ما أحد ابتدع بدعة إلا ترك بها سنة»(24).
خامساً: لا أحد يعرف الإنسان بحقيقته غير الله والمعصوم(ع) فأنى لغيرهما أن يأتي بما هو مناسب لكمال هذه الحقيقة الإنسانية؟! هذا أمر مستحيل، وهذا من الأدلة التي يذكرها العلماء على انحصار الربوبية التشريعية في الله سبحانه وتعالى ولمن نصبه الله لذلك.
سادساً: دل الدليل النقلي والعقلي والشهودي-عند أهل المعرفة- على أن هذه الأحكام الإسلامية هي الوسيلة الوحيدة التي تحقق الكمال الإنساني التوحيدي وأن هناك علاقة تكوينية بين العمل والهدف الذي خلق من أجله الإنسان، ولا توجد أحكام أخرى تحقق هذا الهدف الأسمى.
بيان المنهج السليم لفهم الدين:
ولبيان المنهج المعرفي الصحيح - في العقائد- نشير إلى بعض النقاط الأساسية في البحث:
العقل: أساس الاختلاف في المدارس المختلفة في المنهجية العقائدية هو مسألة دور العقل في الوصول إلى النتائج، فهل دوره ينحصر في فهم النصوص الدينية والجمع بينها، ورفض ما يخالف البديهيات؟ أم أن للعقل دورا تأسيسيا في مسائل ربما لم يصرح النقل بها، وربما أشار إليها بنحو لم يلتفت إليها العقل الإنساني؟ ولو اختلف الظاهر اللفظي مع النتيجة العقلية البرهانية النظرية(25) فماذا نقدم؟ من هنا لابد من الوقوف عند دور العقل البشري بشكل بين.
أ- العقل من أعظم مخلوقات الله، ووظيفته الأساسية الوصول إلى الحق والواقع، وإدراك الصواب من الخطأ سواء في المسائل النظرية أم المسائل العملية، وهذه الوظيفة يشعر بها الإنسان بالوجدان، دون أن يلفته إلى ذلك أحد، والطرق التي أعطاها الخالق للإنسان كأدوات للمعرفة، هي العلم الحسي- بالحواس، والعلم الخيالي- بالخيال، والعلم الوهمي- بقوة الوهم، والعلم بالكليات، وهي القوة العقلية المفكرة، ثم إن القوة الأساسية التي تعتبر المحور بين هذه القوى هي قوة العقل، فهي التي تحكم على القوى الأخرى وتصحح مسيرها، وأخطر ما يواجه الإنسان في مسيره المعرفي تغلب بعض القوى على القوة العاقلة، مثل غلبة الوهم للقوة العاقلة.
ب- النتائج العقلية المعتمدة-في الفهم أو التأسيس- هي النتائج القطعية المعتمدة على البديهيات التي يدركها الإنسان من دون حاجة إلى دليل، وما سوى ذلك من النتائج العقلية فلا قيمة علمية لها، فالنتائج العقلية الظنية لا قيمة لها، ووجودها وعدمها على حد سواء، وهذه مسألة واضحة جدا، فما دام الإنسان يحتمل خطأ النتيجة العقلية التي وصل إليها، فلا قيمة لهذه النتيجة، نعم إذا علم بنحو قطعي لا يقبل الخلاف كالقطع بأن الله لا يمكن أن يكون محدوداً، فلابد(26) من التعويل على هذه النتيجة، لأن الخالق إنما خلق العقل ليدرك الواقع والحق، ولا معنى لأن يخلقه لذلك ثم يقول له - عندما يصل إلى نتيجة قطعية وفق المنهج الصحيح المعتمد على البديهيات التي فطره الله على إدراكها - لا تتبع ما وصلت إليه بعقلك، هذا خلاف الحكمة.
ج- النصوص الدينية- القرآن والروايات- صادرة من منبع العقل وخالق العقل، والذي أعطى العقل القدرة على إصابة الواقع، وكما أن النص صادر من حاق الواقع، كذلك العقل خلق قادراً على إصابة الواقع، ولا ندّعي بذلك العصمة لكل من سلك الطريق العقلي، ولكن نريد أن نقول أن الإنسان إذا وصل إلى نتيجة قطعية معتمداً في ذلك على العقل والبديهيات، فهو بشكل بديهي يقبل تلك النتيجة، لأنه حين وصل إليها لا يحتمل خلافها ويراها هي الواقع، من هنا نقول أن النص الظاهر(27) في معنى ما، إذا خالف العقل القطعي، فهذه أمارة قطعية- قرينة لبّية- على أن الظاهر غير مراد، بل مراده ما وصل إليه العقل القطعي، لأنه لا يمكن أن يختلف النص- الصادر من مصدر العقل- مع النتيجة القطعية البرهانية.
د- العقائد عبارة عن أمور يؤمن بها الإنسان بقلبه دون أن يخالج هذا الإيمان أي ريب، وهذا النحو من الإيمان واليقين القلبي لا يمكن أن يؤسس على الظن، من هنا نقول أن النصوص الدينية الظنية لا يمكن الاكتفاء بها لوحدها لتأسيس عقيدة ما لأنها ظنية، والظن لا يمكن أن يورّث يقيناً عقلياً أو قلبياً، وهذا من الفوارق الأساسية بين الأحكام العملية والمعارف القلبية، حيث أنه يمكن التعبد في العمل حتى مع عدم العلم- اليقين- بخلاف المعارف فإنه لا يمكن التعبد فيها، والمراد بالنصوص الدينية الظنية في المقام أحد أمرين، إما النصوص غير المتواترة، أو المتواترة ولكنها ليست نصاً، وإنما ظاهرة في المراد والظاهر ظني وليس بقطعي، من قبيل أكثر الآيات القرآنية.
هـ- الوصول إلى اليقين في المعارف العقائدية يكون بأحد طرق أربعة(28)، إما أن تكون النتيجة بديهية أو فطرية مثل أصل الإيمان بوجود الخالق، أو أن تكون المسألة نظرية- ليست بديهية أو فطرية- ثبتت بالبرهان التام المعتمد على البديهيات مثل مسألة العصمة المطلقة لأهل البيت(ع)، أو من خلال النص المتواتر القطعي الدلالة، مثل قوله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا}(29) أو أن يكون النص ظني الدلالة ولكن من خلال جمع النصوص-الظواهر- وحشد القرائن بعضها مع بعض نصل إلى نتيجة قطعية مثل حقيقة الإمامة في القرآن الكريم مثلاً، فإننا من خلال جمع الآيات نصل إلى معنى معيّن للإمامة يمكن اليقين به(30).
و- لفهم النصوص الدينية لابد من الاعتماد على الظواهر لكي يحصل جمع بين هذه الظواهر للوصول إلى نتيجة يقينية- في العقائد- والدليل على أن الظاهر هو الحجة هي السيرة العقلائية الموجودة منذ خلق البشر، ولم يردع عنها المعصوم(ع)، والمسألة أوضح في النص.
ي- بالنسبة إلى حجية النتائج البديهية فهي أمر مسلم بين جميع الناس إلا من خالف وجدانه، أما النتائج العقلية البرهانية فهي حجة لما قدمنا، وأما حجية النصوص فإن كانت هي القرآن فلأنه ثابت بالقطع- للإعجاز- أنه من الله، وبذلك تثبت النبوة وحجية كلام النبي وأهل البيت(ع).
ك- في فهم النصوص الدينية لابد من الاعتماد على أمرين أساسيين، الأول، أن النصوص جاءت وفقاً للمحاورات العقلائية بين الناس، وثانياً الالتفات إلى القطعيات العقلية، لأنه كما قدمنا أن النص الظاهر المخالف للعقل غير مراد للشارع.
إذا اتضحت هذه النقاط الأساسية لابد من الوقوف قليلا لمناقشة بعض الأطروحات في هذا الشأن تتميما للفائدة.
خطأ العقل:
من أكبر الإشكاليات المطروحة على الطريقة العقلية، والنتائج النظرية، هي مسألة خطأ العقل، نعم فيما يرتبط بالبديهيات يمكننا الاعتماد عليها لأنها بيّنة واضحة لا خلاف فيها، أما النتائج العقلية النظرية فكثيراً ما يقع فيها الخطأ، وأدل دليل على ذلك اختلاف الفلاسفة في النتائج العقلية مع أن كلاً من الطرفين يدعي البرهان على ما ذهب إليه، إذاً فالطريق العقلي طريق غير مأمون النتائج، في الوقت الذي نملك فيه النصوص الدينية العقائدية التي تصدت إلى بيان المعارف الحقة، فالصحيح أن نبذل الجهد في فهم النصوص الدينية بالاعتماد على البديهيات فحسب، دون إدخال البراهين النظرية في فهم النص، أو الوصول إلى نتيجة جديدة.
وإذا قيل في مقام الجواب أن القرآن الكريم قد استخدم هذه الطريقة البرهانية، ومن أمثلة ذلك برهان التمانع في قوله تعالى:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا}(31) وكذلك أهل البيت(ع)، كما جاء في الخطبة الأولى في النهج، مثلاً.
أجاب أصحاب هذا الأشكال أن البرهان إذا كان صادراً من المعصوم فإنه لا يحتمل الخطأ، أما إذا كان صادراً من غيره فهو عرضة لذلك.
الجواب: ويمكن أن نجيب على هذا الإشكال بعدة أمور، بعضها أجوبة حلّية وأخرى نقضية.
1- من الواضح أننا نعتمد على العلم الحسّي التجريبي، مع أنه كثيراً ما يقع فيه الخطأ، فلو كان مجرد وقوع الخطأ في علم ما يوجب سد باب ذلك العلم وعدم الاعتماد عليه، لكان سد باب العلم الحسي أوجب وألزم، مع أن الكل متفق على أن العلم الحسي علم له مكانته الخاصة والمعتمدة مثل علم الطب(32).
2- أن الاختلاف في استظهار المعاني من النصوص الدينية- غير النص- ليس أقل- إن لم يكن أكثر- من الاختلاف في النتائج العقلية المستفادة من البراهين العقلية، لذا نجد الاختلاف بين الفتاوى الفقهية بين الفقهاء، وفي كثير من الأحيان السبب في هذا الاختلاف هو فهم الظاهر المعبر عنه بالاستظهار، ومن الواضح أن أحد هذه المعاني هو الصحيح إذا لم تكن في طول بعض، إذاً فعلينا وفق إشكالكم أن نترك هذا الطريق لأنه طريق خطر يؤدي إلى نتائج غير مأمونة، كما هو الحال في الطريق البرهاني.
3- من البعيد جداً أن يكون الاستدلال بالأدلة العقلية من مختصات المعصوم (ع) - القرآن والسنة- حيث إن في القرآن الحث الأكيد على مسألة التفكر والتعقل للوصول إلى النتائج الصحيحة، وكذلك بالنسبة لأهل البيت (ع)، فقد علموا أصحابهم طريقة الاستدلال بالأدلة الدامغة العقلية، وهذا ما نراه في سيرة هشام بن الحكم مثلاً، فهل من المعقول أن يعلم الإمام(ع) هشام مثلاً الأدلة العقلية ويقول له كلما أردت أن تثبت مسألة بالدليل البرهاني عليك أن ترجع إلي؟ هذا من البعد بمكان، وخلاف ما جاء في سيرة أصحابهم (ع) وبمرأى منهم سلام الله عليهم.
4- في كثير من المواضيع لا يمكن الوصول إلى نتيجة قطعية في المسألة العقائدية من خلال الاكتفاء بالنص، وهذا فيما إذا كان ظاهراً ولم تكن هناك نصوص أخرى توصلنا إلى نتيجة قطعية بمراد هذا النص، فكيف يمكن الاعتقاد القلبي من خلال الظن، فلابد من الاستعانة بالدليل البرهاني، أو التوقف.
5- الاعتماد على النتائج البرهانية المنتهية إلى البديهيات أمر وجداني لا يمكن لسوي الفطرة أن يخالفه، فالإنسان يرى نفسه مضطراً بالوجدان إلى اتباع النتائج البرهانية العقلية، لأنه لا يحتمل خلاف ما وصل إليه البرهان.
نظرية تعدد القراءات:
الإشكال الآخر الذي يطرح في الشأن المعرفي، هو مسألة عدم القدرة على الجزم بمعرفة معيّنة دون أخرى، وهذه النظرية معروفة بعنوان نظرية تعدد القراءات، ومنشأ هذه النظرية أوربا- الغرب- وقد جاءت هذه النظرية كحل لمشكلة تعارض الدين مع العلم، حيث أن النتائج العلمية كانت تتعارض مع الدين الرسمي- المسيحي المحرّف- وكذلك لمشكلة الاختلاف بين ذات الأديان نفسها، حيث نشأ اختلاف أدى إلى كثير من المشاكل والصدامات، من هنا جاءت فكرة تعدد القراءات القائلة بأن النصوص الدينية تحتمل عدة معاني وكل يفهم النص بحسب ما يحمل من خلفيات علمية، وكل القراءات صحيحة حتى لو كان بينها تناقض، ولا يمكن لأحد أن يدعي أن قراءته هي الصحية وما سواه مخطئ، ثم شيئا فشيئا سرت هذه النظرية إلى بعض المنتسبين إلى الإسلام، فطبقوا المسألة على الإسلام الحنيف، وقالوا أن النصوص- بل مطلق المعارف بما فيها التوحيد- قابلة لتعدد القراءات وليس لأحد أن يدعي أنه هو المحق دون غيره، فكل يفهم النص بحسب ثقافته وتربيته، وكل الأفهام صحيحة.
ويمكن أن نرد على هذه الإشكالات بعدة نقاط:
أ- يوجد عند كل واحد منا مجموعة من المسائل البديهية، مثل مسألة استحالة اجتماع النقيضين، واستحالة وجود المعلول من غير علة... ولا يمكن لأي عاقل أن يخالف حكم هذه البديهيات إلا أن يكون مكابراً، من هنا نقول أن المسائل البديهية، والمسائل المعتمدة على البديهيات مثل مسألة وجود الخالق لهذا العالم المعلول لا يمكن أن تتغير وتتبدل إلا أن تتبدل هذه البديهيات- وهذا مستحيل- التي عند الإنسان والتي خلق عليها، لذا فلا يمكن أن يأتي إنسان ويقول: أنا لي قراءة أخرى في أصل التوحيد ووجود الخالق، وأن المراد بالله هو الرمز الأخلاقي مثلاً، هذا ما لا يقبله عاقل، إذاً عندنا مسائل بديهية واضحة ومسائل معتمدة على هذه البديهيات الواضحة لا يمكن تعدد القراءة فيها، نعم يمكن التعمق في مضمونها مع الثبات على أصل المضمون الواحد، هذا فيما يرتبط بالنتائج العقلية، وكذلك في المسائل الفقهية اليقينية، كمسألة وجوب الصلاة، فإنها من الأمور المقطوع بها، وكذلك عدد الركعات في الصلاة مثلاً، فلا يمكن لأحد أن يقول أن لي قراءة جديدة في معنى الصلاة وأنها مثلاً رمز للعمل الرياضي القربي، أو أن الصلاة كانت محددة بذلك الزمان الذي كان فيها الناس قساة قلوب وبعيدين عن الله سبحانه وتعالى، فالنتيجة أن اليقينيات في أصلها أو مضمونها لا يمكن أن يكون هناك مجال لتعدد القراءة فيها مطلقاً.
ب- نعم في الأمور الظنية مثل بعض الأحكام الشرعية مثلاً، يمكن أن يكون هناك اختلاف في قراءة- الفهم- النص فيها، وهذا فيما إذا كانت الدلالة ظنية، أو السند ظني، أما عندما يكون كل من السند والدلالة قطعيين فلا مجال لتعدد الأفهام، نعم في حالة كون النص ظني الدلالة مثلاً يمكن أن يحصل خلاف في هذه المسالة، بل يمكن أن تصل المسألة في الخلاف إلى عدم إمكان الجمع مثل الحكم في صلاة الجمعة- فمن قائل بالوجوب وآخر بالحرمة- ولكن هذا الاختلاف أولاً في دائرة المعارف الظنية وهذا أكثر ما يكون في الأحكام- دون العقائد- وثانياً لا أحد يقول أن كل هذه الأفهام- مع عدم إمكان الجمع- صحيحة بل كل من الطرفين يرى أنه على الحق، من هنا لا يلزم القول بإمكان اجتماع النقيضين لهذا السبب، أما أصحاب نظرية تعدد القراءات يرون أن جميع الأفهام صحيحة، وثالثا فإن هذه الأفهام لابد أن لا تتعارض مع البديهيات العقلية والقطعيات النظرية، مثل استحالة التكليف بغير المقدور، وهذا الضابط مما لا يعوّل عليه أصحاب هذه النظرية.
ج- يرى أصحاب هذه النظرية أن فهم النص وإعطاء الرأي- المعتمد- في الدين شرعة لكل وارد، إلا أن هذا أولاً ليس عقلائياً(33)، وثانياً خلاف الدليل، فإن أهل البيت (ع) كانوا يعتمدون أشخاصا محددين للتصدي للفتوى أو بيان العقائد الحقة، مثل زرارة وهشام بن الحكم، ولو كان الأمر كما يرى أصحاب هذه النظرية لما كان داع لهذا الفعل من المعصوم (ع).
تأثير العلوم البشرية في فهم الدين:
وهنا توجد مسألة مهمة جداً فيما يرتبط بنظرية المعرفة، وهي هل أن العلوم البشرية لها تأثير على فهم النصوص الدينية، أو لا؟ طبعاً نقول العلوم البشرية، لأن العلوم الدينية تؤثر في فهم النصوص بلا أدنى تأمل، فكلما ازداد الإنسان معرفة بالدين، صار أكثر قدرة على فهم النصوص الدينية الأخرى التي لم يطلع عليها، فإنه توجد علاقة تبادلية بين فهم الدين والتأثير على فهم النصوص الأخرى، فمثلاً الذي اطلع على القرآن بأكمله وفهمه فهماً جيداً، له القدرة على فهم الروايات بشكل أكبر من غير المطلع.
إذن السؤال الذي ينبغي أن يكون محل البحث والتساؤل هو تأثير العلوم البشرية على فهم الدين، فهل فهم و تطور علم الطب والرياضيات والفيزياء والكيمياء والحساب والفلك والاقتصاد(34)...إلخ له مدخلية في فهم الدين أو لا؟
في مقام الجواب لابد أن نذكر عدة أمور:
أ- نحن نلحظ بأن علماءنا يركزون على علمي الأصول والفلسفة كقواعد أساسية لفهم الدين الإسلامي، فالفقه يعتمد بشكل أساسي على علم الأصول كقواعد لفهم أدلة الأحكام، وعلم أصول الدين يعتمد بشكل أساسي على القواعد العقلية التي تنقح في علم الفلسفة، ولا نرى منهم هذا الاهتمام بالعلوم الأخرى- كعلم الطب والهندسة والكيمياء- لفهم الدين الإسلامي، فما هو السبب في ذلك يا ترى؟ كل من درس علم الأصول والفقه والفلسفة وأصول الدين بشكل متقن، وكان مطلعاً على العلوم الأخرى يرى الفارق واضحاً في مدخيلة العلمين في فهم الدين بشكل مباشر وأساسي وخطير جداً، دون العلوم الأخرى، فهذا فارق وجداني بيّن، فالعلوم العقائدية مثلاً تحتاج إلى قواعد عقلية يقينيّة ثابتة ليعتمد عليها الباحث في الوصول إلى النتائج الصحيحة، وكذلك فيما يرتبط بعلم الفقه، فإنه يحتاج إلى قواعد متيقّنة ليتعمد عليها في معرفة الأحكام الشرعية، ولا يوجد ارتباط بين العلوم البشرية والمعارف والأحكام كما هو بين القواعد اليقينية في الفلسفة والأصول، بالإضافة إلى أن الوصول إلى نتائج يقينية ثابتة يمكن التأسيس عليها في العلوم البشرية غير ممكن، لأن أكثرها مرتبط بالطبيعيات التي تحكمها قوانين الطبيعة، ولا يمكن الجزم في الطبيعيات بنحو اليقين بالمعنى الأخص لأن قوانينها يمكن أن تخرم بالمعجزة، بخلاف القواعد العقلية المطلقة.
ب- بعض النصوص الدينية- التي جاءت بغرض تأكيد مسألة التوحيد والخالقية لله سبحانه وتعالى- تتحدث عن أمور تكوينية حسية يمكن اكتشاف جانب كبير منها بالحس والتجربة، مثل الآيات التي تتحدث عن خلق السماء في قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}(35) فإن الباحث في الطبيعة يمكن أن يكتشف بعض الأمور التي تساعده على فهم هذه الآية أكثر من غيره، ولكن لا يمكنه الجزم أن ما وصل إليه هو مراد الآية، وكذلك ما جاء في الروايات من استحباب شرب الماء في الليل من جلوس، فقد وصل العلم الحديث إلى أن شرب الماء في الليل من قيام يسبب بعض الأمراض، ومع ذلك لا يمكن القول أن هذه العلة التامة لهذا الاستحباب-الحكم- في كثير من الموارد. إذا بالنسبة للنصوص الدينية التي تتحدث عن أمور حسية طبيعية يكون المطلع على هذه الموضوعات أكثر قدرة من غيره على فهمها لأنه يملك الأدوات التي تساعده على الفهم، فالمطلع على حقائق الأجسام المادية بشكل دقيق وبتركيبتها يكون أكثر قدرة على فهم قوله تعالى:{وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ}(36) من غيره ممن لم يطلع، ولذا نرى علماءنا الأبرار عندما يأتوا ليقفوا على مثل هذه الآيات يبذلون جهداً كبيراً في الاطلاع على ما وصل إليه العلم البشري في الموضوع المبحوث، ليساعدهم ذلك على فهم النص الديني(37).
ج- تطور العلوم البشرية يوجد موضوعات جديدة للأحكام الشرعية، مثلاً تطور العلوم أوجد لنا صنع الدبابة والصاروخ، فيأتي الحكم الشرعي ليحدد نظر الشارع في مثل هذه الأمور، هل يجوز صنعها أولا؟ وكذلك لو أعاننا العلم على إدراك أمر معين، كتسبيب بعض الأطعمة لمرض معين، هنا يأتي الشارع ليصب الحكم ويقول للمكلَّف إذا كان هذا الإضرار بالغاً فيحرم عليك أكل هذا الطعام، وإن لم يكن كذلك فمن الحسن أن تتجنب أيضاً، وإيجاد الموضوع بهذا النحو ليس له مدخلية في فهم الدين.
د- تطور العلم البشري يساعد على تشخيص الموضوعات، فمثلاً مسألة إسقاط الجنين، يقول الفقهاء إذا علقت النطفة فلا يجوز، أما أن تستخدم مادة تمنع من أصل العلوق فلا بأس بذلك لأنه لا يصدق عليه عنوان الإسقاط المحرّم، هنا يأتي التطور البشري في علم الطب ويحدد لنا هل حصل علوق ليحرم أو لم يحصل، فنرتب الأثر، وهل هذا الدواء يقتل بعد العلوق أم أنه يمنع أصل علوق النطفة.
الخلاصة:
ومما مر نصل إلى هذه النتيجة الواضحة للمنهجية الصحيحة في الوصول إلى المعارف العقائدية الدينية، وذلك بالاعتماد على الطرق اليقينية التي يمكن على أساسها تأسيس عقيدة راسخة، وتتلخص هذه الطرق بالتالي:
1- الطريق العقلي البرهاني، المعتمد على البديهيات.
2- الاعتماد على الأمور الفطرية.
3- النصوص القطعية سنداً ودلالة.
4- النصوص القطعية سنداً الظنية دلالة إذا وجدت قرائن تورث اليقين بمضمونها فتكون حينئذ بحكم القطعية من حيث الدلالة.
أما الطرق العقلية غير البرهانية، أو الأدلة النقلية غير القطعية إما من حيث السند أو الدلالة، فلا يمكن الاعتماد عليها لتأسيس عقيدة راسخة.
نكتفي بهذا المقدار ونسأل الله سبحانه أن يوفقنا لفهم دينه وتجسيده في الدنيا ونيل كرامته في الآخرة إنه ولي حميد والحمد لله رب العالمين.
* الهوامش:
(1) سورة النحل: 89.
وقد فسرت الآية الكريمة بتفسيرين: الأول: تبيانا لكل شيء يصب في هداية الناس. والتفسير الآخر تبيانا لكل شيء من حقائق العالم, والبحث موكول إلى محله.
(2) كما هو محقق في محله. (تدل على ذلك الروايات والأدلة الفلسفية).
(3) وهذا لا يعني أن الإسلام أهمل العلوم الأخرى التي لا ربط مباشر لها في تربية الإنسان كالاقتصاد والهندسة والتجنيد.
(4) الكافي: باب صفة العلم وأهله وفضله وفضل العلماء: وقوله (فضل) فيه أحد احتمالين, الأول أنه زائد لا فائدة فيه كما هو الظاهر من السياق والحدث الذي صدرت منه الرواية, وقوله (هذا علم لا يضر من جهله...) والاحتمال الثاني الذي ذهب إليه بعض العلماء أن الفضل بمعنى أن العلوم الثلاثة هي الواجبة والأساسية وما سواها فضل بمعنى نافلة وأمر حسن, وهذا خلاف الظاهر.(راجع الأربعون حديثا للإمام الخميني).
(5) أما في اصطلاح الآيات والروايات فالفقه يشمل العقائد والأخلاق أيضا بل مصداقه الأكمل هو علم العقائد لأنه أشرف علم وفقه ومعرفة.
(6) بل بكل عالم الإمكان من أعلاه إلى أسفله.
(7) وهناك من ادعى أن (ص) معصوم في أصل نزول الوحي أي أن الوحي النازل عليه حق بلا شك, لكنه ليس معصوما في الفهم, بل هناك من ذهب إلى أن الوحي إنما هو من إبداعات النبي الشخصية, وهذان الرأيان لا يتبناهما أحد من علمائنا فهما مقولتان لبعض العلمانيين الحداثيين.
(8) ولذا نرى بعض الفقهاء أعلم في تأسيس المنهج لكنه ليس كذلك على مستوى التطبيق, فربما هناك من هو أقدر منه على تطبيق المنهج.
(9) نهج البلاغة: الخطبة 138.
(10) وهذا من مميزات الدين الإسلامي, لذا نرى الأديان الأخرى في الأغلب تتعارض مع الفطرة أو العقل(ص) فمثلا الغيرة أمر فطري في الإنسان بينما المجتمع الغربي يسلك المنهج الذي يحطم كل أنواع الغيرة في نفس الإنسان, ونرى أن المسيحية المتحجرة تتعامل مع مسألة معاشرة الزوجة على أنها من القذارات الدنيوية, وهذا خلاف الفطرة الإنسانية التي جبل عليها الإنسان من الحاجة إلى المعاشرة, وأما مصادمة الأديان الكثيرة لبديهات العقل فلا حصر لها, كذهاب الحشوية إلى القول بالتجسيم مثلا.
(11) مدرسة من المدارس السنية التي تعتمد جعل المحورية للروايات وقبولها مطلقا من دون أي معيار سندي أو مضموني.
(12) طبعا ليس عندنا نص ديني يخالف العقل حتى مع إرجاعه إلى محكمات النصوص الأخرى.
(13) وربما يرد سؤال: أين موقع المنهجية في معرفة المبادئ الأخلافية؟ الجواب: سوف يتضح الحال فيها بعد الإنتهاء من البحث لأنها لا تخلوا إما أن تكون سلوكيات عملية فتدخل تحت المنهجية الفقهية أو أمور يدركها العقل لوحده أو هي من لوازم بعض المعارف كما سيتضح.
(14) ميزان الحكمة: باب القياس.
(15) مستدرك الوسائل:ج17/335.
(16) شرح أصول الكافي للمازندراني:ج1/24.
(17) نهج البلاغة: الخطبة:1.
(18) سورة الذاريات: 56.
(19) مصدر16:ج4/211.
(20) راجع الميزان في تفسير الآية.
(21) سورة آل عمران: 19.
(22) وهذه الأحكام التي تصدر من الولي الفقيه ليست داخلة في الدين ليقال أنه متغير بل هي صلاحية بحكم ثابت ليحدد فيها الفقيه القوانين المناسبة للمصالح العامة.
(23) سورة طه: 124.
(24) أصول الكافي 1: 58، باب البدع والرأي...حديث19.
(25) أما النتيجة البديهية فلا خلاف في قبولها وهو المسمى بالعقل القطعي.
(26) وهذه اللابدية قهرية وجدانية لا يجد الإنسان مخلصا من قبولها والإذعان لها.
(27) والظاهر ظن.
(28) من المناسب الإشارة إلى الأدلة على صحة هذه الطرق.
(29) سورة البقرة: 257.
(30) أيضا عندنا طريق الكشف والشهود القلبي الذي ينشأ من العبادة والتفكر.
(31) سورة الأنبياء: 22.
(32) راجع تفسير الميزان: ج1/ بحث فلسفي ص 45.
(33) فإن من الأمور العقلائية أن لكل علم أدواته الخاصة لفهمه.
(34) في غير جانبه الديني المقتبس من النصوص.
(35) سورة فصلت: 11.
(36) سورة الأنبياء:30.
(37) ولوضوح المسالة بشكل أكبر راجع شروح نهج البلاغة في الخطب التي تتحدث عن خلق السماء والأرض وأمثالها.
0 التعليق
ارسال التعليق