تمهيد
حركة الأئمة الأطهار(ع) حركة متكاملة متناسقة لا تجد فيها تخلّفاً أو اختلافاً على مستوى هدف هذه الحركة وشعارها، ونستطيع القول بأنّها تشِّكل منظومة إلهية كلّ إمام يقوم فيها بدوره الذي يوصل فيه هذه المنظومة لساحل الرضا الإلهي، فليس هناك فصل بين حركة أيِّ إمام عن إمام آخر، فالثورة الحسينيَّة ما هي إلا امتداد للثورة التي قادها الرسول الأعظم(ص) في نشر الإسلام وتبيين حقائقه، والثورة المهدويّة تكون أيضاً امتداداً للثورة الحسينيِّة، وهذا ما تشير له روايات أهل البيت(ع)، فقد روي عن إمامنا الصادق(ع) أنّه قال: «لمَّا ضُرِبَ رأسُ الحسينِ بن علي(ع) بالسيف، ثمَّ ابتُدِرَ ليقطع رأسه نادى منادٍ من قبل ربِّ العزة تبارك وتعالى من بطنان العرش فقال: ألا أيَّتها الأمَّة المتحيّرة الظالمة بعد نبيّها، لا وفقكم الله لا ضحى ولا فطر. ثمّ قال أبو عبد الله(ع): لا جرم والله ما وفقوا ولا يوفقون أبداً حتى يقوم ثائر الحسين(ع)»(1).
ولكي يتَّضح لنا وجود الانسجام بين ثورة الإمام الحسين(ع) وبين الثورة المهدوية، نبيِّن باختصار عوامل كلّ من الثورتين مع بيان الهدف الذي تنطلق على أساسه كلٌّ من الثورتين.
أولاً: عوامل النهضة الحسينيّة:
النهضة الحسينية المباركة نهضة إلهية محمدية أصيلة، لم تحطْ بها الأهواء المادية والشهوات النفسية والإغراءات المختلفة، وإنّما كانت تحت اللطف الإلهي والحراسة الملكوتيّة، هذه النهضة نشأت عن عوامل مبدئية، عن عوامل تحمل بين جنبيها رفع راية الإسلام الأصيل، وتنكس كلَّ رايةِ ضلال وظلم وجور وعدوان آثم.
ولو جئنا لنقف على هذه العوامل، لوجدنا أنّها ترجع لواحد، ولكن لتعدّد الزوايا التي ينظر منها للنهضة الحسينيّة تعدّدت العوامل، و في هذه المقالة نقف لبيان أهمّ ثلاثة عوامل، أحدها العامل الرئيس و الأساس:
أولاً: العامل الدفاعي:
هذا العامل هو أحد العناصر المهمّة التي ولَّّدت لنا النهضة العاشورائية الخالدة، فدفاع الإمام الحسين(ع) عن المبدأ وعن القضية وعدم اكتراثه بعظم ما سيلاقيه جزاءً لدفاعه كان عاملاً في نشأة نهضته وثورته.
الإمام(ع) منذ أنْ علم بأنَّ معاوية ابن أبي سفيان بدأ في تنصيب ابنه يزيد خليفة على المسلمين وحاكماً عليهم، لم يهدأ له بال لعظم ما سيحلُّ على الإسلام والمسلمين إن وَلِيَ أمورهم رجل فاجر فاسق، شارب للخمور، هاتك للحرمات، ومكاتباته إلى معاوية كانت واضحة في بيان هذا الأمر، حيث يقول(ع) في إحداها: «... وقلتَ فيما قلتَ: لا تردَّ هذه الأمّة في فتنة، وإنّي لا أعلم فتنة أعظم من إمارتك عليها، وقلتَ فيما قلتَ: انظر لنفسك ولدينك ولأمّة محمد، وإنّي والله ما أعرف أفضل من جهادك، فإن أفعل فإنّه قربة إلى ربِّي وإن لم أفعله فأستغفر الله لديني وأسأله التوفيق لما يحبُّ ويرضى...» (2).
ولكنّه(ع) لم ينهض أثناء فترة حكم معاوية، لأنَّ الهدف الذي كان بين عيني الإمام الحسين(ع) ومن قبله أخوه الإمام الحسن(ع) لا يتحقق في ظلِّ حكومة مثل حكومة معاوية، فالإمام الحسين(ع) في ظلِّ حكومة معاوية لن يتمكن من أن يضحِّي التضحية التي توقظ الأمة من سباتها، وتبدي لها حقيقة زيف النظام الأمويِّ الجائر، وترجعها إلى الإسلام المحمديّ الأصيل. فإنَّ معاوية لا يسمح لأيِّ أحد مهما كان أن ينازعه في ملكه وسلطانه، فسمّه للإمام الحسن المجتبى(ع) وغيره من الذين حاولوا أن يفضحوه ويسقطوا حكمه دليل على أنّه بمستوى من الدهاء والخبث بحيث لو قام الإمام الحسين(ع) بثورته لقضى عليها قبل أن تتم، وتأخذ صداها في أوساط الأمّة.
واستمر صبر الإمام(ع) حتى انقضت حقبة معاوية التي كان لها ما لها من التأثير السلبي على الأمّة، ولكن بعد أن تسلَّم يزيد الرجل الفاجر مقاليد الحكم، تهيأ الإمام(ع) ليواجه هذه الأزمة التي ستقضي على دين الله في أرضه، إلى أن وقع اللقاء بين الإمام(ع) وبين الوليد، اللقاء الذي دُعي فيه الإمام(ع) ليبايع فيه رجل الفسق والفجور، فأعلنها صرخة مدوّية في وجه الظلمة: «... إنّا أهل بيت النبوّة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، ومحلّ الرحمة، وبنا فتح الله وبنا ختم، ويزيد رجل فاسق، شارب الخمر، قاتل النّفس المحترمة، معلن بالفسق، مثلي لا يبايع مثله، ولكن نصبح وتصبحون، وننظر وتنظرون أيّنا أحقّ بالخلافة والبيعة»(3).
هذا الموقف الصامد من الإمام(ع) ظلَّ ثابتاً على طول المسيرة الحسينيّة، فحتى لو أنَّ يزيدَ لم يطلب بيعة الإمام(ع)، فإنَّ الإمام الحسين(ع) سيستمر في مواقفه الرافضة لهذا الحكم الأمويّ الجائر، ولن تطمئنَّ نفسُه حتى يعيد الإسلام إلى أصله ومنابعه، لأنَّه يعلم أنَّ التهاون والتساهل في هذه المرحلة الحساسة يعني القضاء على كلمة التوحيد في هذه الأمّة، لذا فهو كان يؤكد على أخيه محمّد ابن الحنفيّة بقوله: «يا أخي والله لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى لما بايعت والله يزيد بن معاوية أبداً»(4).
ثانياً: العامل التعاوني:
حينما وصلت أنباء موت معاوية إلى أهل الكوفة، وأنَّ يزيدَ صار خليفة المسلمين، والإمام الحسين(ع) قد رفض مبايعته، عزم أهل الكوفة على دعوة الإمام(ع) لديارهم ليحكم فيهم كما كان أبوه أمير المؤمنين(ع) قد حكم فيهم من قبل، فتقاطرت رسائل أهل الكوفة على الإمام(ع) تدعوه فيها للقدوم إليهم فينصروه ويعزِّروه. يا ترى ما هو الموقف الذي كان على الإمام(ع) أن يتخذه من هذه الرسائل، فهو(ع) يعلم ما وراء هذه الرسائل وأنَّ أصحابها ليسوا أصحاب مبدأ وعقيدة راسخة، وأنَّهم رجال غرَّتهم شهوات هذه الدنيا وملذاتها؟!
ولو تأمّلنا في موقفٍ مشابهٍ لهذا الموقف في زمن الإمام الصادق(ع)، حينما بعث له أبو سلمة الخلال -وزير الدولة العباسيّة- رسالة للإمام(ع) يدعوه فيها للقيام ضد العباسيّة وأنّه سيسانده ويعاونه في ذلك، فأخذ الإمام(ع) الرسالة من دون أن يرى محتواها وألقى بها في النار، وقال لرسول الخلال هذا جوابي على رسالتك، سنلاحظ شدّة الإمام(ع) في التعامل مع مثل هذه الرسائل التي يعلم أنَّ أصحابها ليسوا طلاب الحق والعدالة، بل طلاب الباطل والظلم، ولكن هل يجب أن يكون موقف الإمام الحسين(ع) هو نفس هذا الموقف الشديد والحازم؟!
طبعاً ظروف فترة الإمام الحسين(ع) تختلف عن فترة الإمام الصادق(ع)، فرفض الإمام الحسين(ع) لرسائل أهل الكوفة لن يكون في موازاة رفض الإمام الصادق(ع) لرسالة أبي سلمة الخلال، لاختلاف الظروف الموضوعية المحيطة بكلا الموقفين.
كان وضع الأمّة في عهد إمامة سيد الشهداء(ع) وضع مرير ومؤلم جداً، فبنوا أميَّةَ اضطهدوا الناس وآذوهم واستعبدوهم بشراء دنياهم بآخرتهم، والأمّة كانت تنتظر المخلِّص الذي يأخذ بيدها من الظلمات إلى النّور، فكانت تريد التعلَّق بأيّ خشبةٍ تخلِّصها من بحر بني أميّة الغادر. ولكن مع وجود هذا الأمل والارتباط بالمنقذ كانت الأمّة تعاني من الضعف والوهن أمام الحكم الأموي، فمن يجرؤ في ذاك الوقت أن يعارض النظام الأموي الظالم أو يساند الثوّار الذين يخرجون ضد هذه الدولة الجائرة، فعدم تحرُّك الإمام(ع) بعد أن أتته العهود والمواثيق قد يجعل الأمّة تعتب عليه لذلك، حيث كان أملهم الذي يطمحون أن يمحق الله تعالى ظلم بني أميّة على يديه.
فالإمام الحسين(ع) إثر ذلك استقبل رسائل أهل الكوفة ومبعوثيهم، ولكنّه في نفس الوقت لم يحسم أمره بالذهاب للكوفة قبل أن يطمئنَّ بأنَّ هناك من ينصره في أمره فيها، فأرسل إليهم رسوله الخاص وهو مسلم ابن عقيل، ليتأكد فعلاً من وجود أنصار للإمام(ع)، وأنَّ من كاتَبَ الإمام(ع) كلّهم على استعداد لنصرته وتعزيره.
وقبل أن يصل خبر أهل الكوفة من مسلم ابن عقيل تحرّك الإمام(ع) من مكّة المكرّمة قاصداً الكوفة، وهذا دليل على أنَّ الحسين(ع) لم يعلِّق مسيرته على أهل الكوفة، فحتى لو أنَّهم نقضوا البيعة والعهد فهو سائر لإحياء دين الله(عزّ وجلّ)، وفي الطريق من مكّة إلى العراق وصل نبأ استشهاد مسلم ابن عقيل وجرّه في أسواق الكوفة، فعدل الحسين(ع) عن مقصده الذي كان يعلم بأنَّه لن يتحقق وصوله إليه.
قد يرى البعض أنَّ العامل التعاوني انتهى أثره في الثورة الحسينيّة حين جاء خبر استشهاد مسلم ابن عقيل، في حين أنَّ هذا العامل استمر إلى يوم عاشوراء وإلى ما بعد يوم عاشوراء، فهذا العامل لا ينحصر في أهل الكوفة المتخاذلين عن نصرة ابن نبيهم (ع) بل يشمل كلَّ من أبدى الاستعداد والنصرة لأبي عبد الله(ع)، سواء الذي وفِّق لحضور عاشوراء وصار من الثلَّة المؤمنة التي ضحّت بالنّفس والدم من أجل أبي عبد الله(ع)، أو الذي لم يوَّفق لعلَّةٍ ومانعٍ حقيقي.
ونؤكّد هنا على نقطة مهمة جداً، وهي أنَّ الإمام(ع) اهتمَّ بدور تعاون الأمّة والتحامها في مواجهة الظلم، بيد أنّه لم يجعل ثورته معلّقة عليه، فهو ماضٍ في مسيرته، تحقق هذا العامل أم لم يتحقق. والإمام(ع) كان عازماً على ردِّ المنكر مهما كانت الظروف والأوضاع، فالمصيبة التي ستحلُّ بدين الله تعالى أكبر من أيِّ ظرف موضوعيّ خاص، لذا فإنَّ دور العامل التعاوني كان دوراً مهماً لكنَّه ليس العامل الرئيس، فلو لم يوجد هذا العامل فلن يتوقف الإمام(ع) عن مواصلة المسيرة ضد الظلم والظالمين.
ثالثاً: العامل الشرعيّ:
قد تقدَّم أنَّ العامل الدفاعي والعامل التعاوني لا يمثلان العامل الحقيقي للثورة الحسينيّة، بل يوجد عامل أساس بُنيَ عليه قوام الحركة الحسينيّة، هذا العامل هو «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، وقد لا يدرك بعضنا أهمّية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الدّين الإسلامي -خصوصاً في وقتنا الحاضر- حيث تواترت الروايات عن النبي(ص) وأهل بيته(ع) في كون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة واجبة على كلِّ مسلم ومسلمة، ونكتفي في المقام بذكر حديث لإمامنا محمد الباقر(ع) حيث قال: «يكون في آخر الزمان قوم ينبغ فيهم قومٌ مراؤون -إلى أن قال:- ولو أضرّت الصلاة بسائر ما يعملون بأموالهم وأبدانهم لرفضوها كما رفضوا أسمى الفرائض وأشرفها، إنَّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة عظيمة بها تقام الفرائض، هنالك يتمُّ غضب الله(عزّ وجلّ) عليهم فيعمّهم بعقابه فيهلك الأبرار في دار الأشرار، والصغار في دار الكبار، إنَّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء، ومنهاج الصلحاء، فريضة عظيمة بها تقام الفرائض وتأمن المذاهب، وتحلّ المكاسب، وتردّ المظالم، وتعمر الأرض، وينتصف من الأعداء ويستقيم الأمر»(5).
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو أحد أركان الدين، وهجرانه والابتعاد عنه يكون مساهماً في محق دين الله تعالى من الأرض، لذلك فعندما يكون العامل الحقيقي والرئيس للثورة الحسينيّة هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنّ ذلك يعني بتعبير آخر أنّ العامل الحقيقي للثورة الحسينيّة هو إحياء الدين وإرجاع معالمه -الذي طالته الأيدي الخبيثة وعبثت فيه وشوّهته طيلة عشرات من السنين-.
وقد تعدّدت عوامل الثورة الحسينيّة فتصل إلى أكثر من ثلاثة عوامل -فما ذُكر هو أهمّ ثلاثة عوامل-، ولكنّ جميع هذه العوامل ترجع للعامل الحقيقي وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو أحد سبل إعلاء كلمة الله(عزّ وجلّ) وإحياء دينه في الأرض، وتعدّد العوامل كائن بلحاظ الظروف الموضوعيّة التي حاطت بالإمام الحسين(ع).
فلو تأملنا بدقّة في كلمات الإمام الحسين(ع) منذ خروجه من مدينة جده(ص) إلى قبل ساعات من مصرعه نجد أنَّه يؤكد على أنَّ خروجه ونهضته ليست طلباً للمال أو الجاه وإنّما لأجل إحياء الدين وإرجاع سنّة النبي المصطفى(ص) التي غُيِّبت عن النّاس أمداً بعيداً، وهنا نستعرض مجموعة من كلماته(ع) الدالة والمؤكدّة على اهتمام الإمام ببيان حقيقة ثورته ونهضته:
1- جاء في رسالته إلى أشراف البصرة حين بعث إليهم لنصرته: «...وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه(ص) فإنّ السنّة قد أُميتت، وإنّ البدعة قد أُحيِيَت وإن تسمعوا قولي وتطيعوا أمري أهدكم سبيل الرشاد والسلام عليكم ورحمة الله»(6).
2- ومن ضمن كلامه(ع) للفرزدق حين لاقاه في طريقه لكربلاء: «يا فرزدق! إنّ هؤلاء قوم لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد في الأرض، وأبطلوا الحدود، وشربوا الخمور، واستأثروا في أموال الفقراء والمساكين، وأنا أولى من قام بنصرة دين الله وإعزاز شرعه والجهاد في سبيله، لتكون كلمة الله هي العليا»(7).
3- وفي كلامه لعمر بن سعد وجنوده قال(ع): «لا تعْجَلوا والله! ما أتيتكم حتّى أتتني كتب أماثِلكم بأنّ السنّة قد أُميتت، والنِّفاقَ قدْ نَجِمَ، والحدود قد عطِّلت؛ فأقْدِم لعلَّ الله يصلح بك...» (8).
* الهوامش:
(1) أمالي الصدوق، صفحة 142، المجلس 31، حديث 5.
(2) الإمامة والسياسة، ج 1، ص182.
(3) تاريخ الطبري، ج4، ص 252.
(4) الفتوح، ج 5، صفحة 21.
(5) وسائل الشيعة، جزء 16، باب (1) وجوب الأمر والنهي، حديث 6، صفحة 119.
(6) بحار الأنوار، جزء 44، صفحة 340.
(7) تذكرة الخواص، صفحة 217.
(8) تذكرة الخواص، صفحة 227.
0 التعليق
ارسال التعليق