نظر صاحب الحدائق (رحمه الله) في أصالة البراءة (القسم الثاني)

نظر صاحب الحدائق (رحمه الله) في أصالة البراءة (القسم الثاني)

 (هذا هو القسم الثاني للكاتب في أصالة البراءة التي يبحث فيها الأدلة التي ناقشها صاحب الحدائق (رحمه الله) ومناقشة العلماء لكلامه، وقد بحث في القسم الأول تاريخ أصالة البراءة ودور صاحب الحدائق (رحمه الله) في إنضاج هذه المسألة، ثم ذكر الدليل القرآني، ثم الأدلة الروائية ذكر منها ثلاثة أحاديث، وهنا يكمل البحث من الحديث الرابع).

 

الحديث الرابع:

ما جاء ضمن رواية يرويها الكليني عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن محبوب، عن عبد الله بن سنان، عن عبد الله بن سليمان عن أبي جعفر (عليه السلام)«.. كل ما كان فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه»(1)، وعبد الله بن سليمان لم يرد في حقه توثيق(2).

وفي عوالي اللئالي: مرسلا عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «كل شيء يكون فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبداً حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه»(3).

وفي موثقة مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: «كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه»(4).

وتقريب الاستدلال أن يُقال: إن أفعال المكلف تتصف بحل تارة وبالحرمة أخرى، كالأعيان الخارجية التي يتعلق بها فعل المكلف قد توصف بالحليَّة وقد توصف بالحرمة، وإذا شك في حكم فعل أو في العين الخارجية أنَّها من أفراد الحلال أو الحرام فيُبنى على الحلية سواء في الفعل المشكوك حكمه أو العين المشكوك فيها، فمعنى أن كل شيء فيه حلال وحرام هو أن المكلف يستطيع أن يقسم ما يشك فيه إلى قسمين؛ قسم الحلال وقسم الحرام، وحكم المشكوك الحلية للمكلف، فكما يشمل العين الخارجية كذلك يشمل أصل الحكم الشرعي(5).

وتقريب آخر لمفاد الرواية وهو جعل الحلية مع افتراض وجود حرام وحلال واقعي، وتضع لهذه الحلية غاية، وهي تمييز الحرام، فهذه الحلية ظاهرية وهي تعبير آخر عن الترخيص في ترك التحفظ والاحتياط(6).

مناقشته لدلالة الحديث:

الحديث خاص بالشبهة الموضوعية وذلك لأن ظاهر «ما كان فيه حلال وحرام» هو الطبيعة التي تنقسم إلى قسمين بالفعل مع العلم بحكم كلا القسمين قسم حلال وقسم حرام، كاللحم لا يعلم أنه من المذكى الحلال أو من الميتة الحرام، هذا ما ظهر من قوله: "لا دلالة للحديث على حجية الأصل(7) في نفس الأحكام الشرعية، لأن مدلوله مخصوص بما يكون نوعاً ينقسم إلى قسمين، وحكم كل منهما معلوم شرعاً، إلا أنه حصل اشتباه أحدهما بالآخر مع عدم الحصر في أفرادها، كاللحم الذي منه مذكى وميتة، والجبن الذي منه ما عمل من لبن طاهر، ومنه ما عمل من لبن نجس، وكجوائز الظالم، والشارع لعموم البلوى بذلك، وحصول الحرج المنافي لسعة الدين المحمدي، وسهولة الحنفية السمحة، حلل جميع ما في الأسواق، وما في أيدي الناس من ذلك وإن علم دخول الحرام فيه مع مجهوليّته، حتى يعلم الحرام بعينه. وقد ورد التصريح بهذا المضمون في عدة أخبار(8) كما لا يخفى على من جاس خلال تلك الديار(9).

وقد سار على هذه المناقشة جملة كبار علماء الأصول كالشيخ الأنصاري حيث صرَّح أن مفاد الرواية هو أن كل جزئي خارجي في نوعه القسمان المذكوران فذلك الجزئي فهو لك حلال حتى تعرف القسم الحرام من ذلك الكلي في الخارج فتدعه(10)، وكذلك المحقق النائيني، والشيخ محمد طاهر آل الشيخ راضي، والسيد الإمام الخميني، والسيد الخوئي(11).

وحاول المحقق العراقي دفع الإشكال الذي أورده صاحب الحدائق وأن الرواية تشمل الشبهة الحكمية حتى مع ظهورها في التقسيم الفعلي حيث يمكن فرض الشبهة الحكمية مقترنة مع التقسيم الفعلي كأن يشك في قطعة اللحم التي رآها هل هي من القسم المحرم مثل لحم الأرنب أو أنها من القسم المحلل مثل لحم الغنم، أو أنها من القسم المشكوك الحلية مثل لحم الحمار على فرض عدم ثبوت الحرمة فيه، فيبني على الحلية، ومع الحكم بحلية المشكوك في حكمه في هذا المورد الذي اقترن بالشبهة الموضوعية لمعلوم الحلية والحرمة يُتعدى إلى غير هذا المورد في الشبهات الحكمية للقول بعدم الفصل(12).

إلا أن هذا الجواب غير تام لظهور الرواية في كون المشكوك مشكوكا في اندراجه تحت أحد قسمين فعلا إما الحلال أو الحرام فحسب، لا اندراجه إلى أحد أقسام ثلاثة إلى الحلال أو الحرام أو مشكوك الحكم، وإلا لكان لسان الرواية كل شيء فيه حلال أو حرام أو ما لا يُعلم حكمه فهو لك حلال.

ولربما يُقال بأن هذا الإشكال لا يرد على الرواية التي لم يرد فيها التقسيم كرواية موثقة مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: «كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه..الخ»(13).

ولذا لم يستدل صاحب الكفاية بالأحاديث التي فيها التقسيم واستدل بنص راوية مسعدة بن صدقة، والذي يفهم من صاحب الحدائق أن رواية مسعدة بن صدقة وإن لم يُذكر فيها التقسيم غير أن سياقها على نسق الروايات التي فيها التقسيم(14).

وكيف كان في موثقة مسعدة تشتمل على قرائن تدل على اختصاصها بالشبهة الموضوعية:

القرينة الأولى: قوله (عليه السلام)«بعينه» فإنه ظاهر بالشبهة الموضوعية، فإن معرفة الحرام بعينه غير معرفة أصل الحرام، فالحكم بالحلية لعدم تشخص عين الحرام خارجاً في عين معروفة فإذا عرفت عينه حينئذ ينتفي حكم الحلية، ولو كانت الشبهة حكمية لما صح أن يُقال تعرف الحرام بعينه؛ لأن أصل الحرمة غير معروفة وليس عينها خارجاً، وحمل عينه على التأكيد على خلاف الظاهر ويحتاج إلى قرينة.

القرينة الثانية: ما جاء من أمثلة في الرواية فنص الرواية هو «كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك، وذلك مثل الثوب يكون قد اشتريته وهو سرقة، أو المملوك عندك ولعله حر قد باع نفسه أو خدع فبيع أو قهر، أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك، والأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك، أو تقوم به البينة»(15). فإنها أمثلة على الشبهة الموضوعية فيتفق مع القرينة السابقة على أن المراد من عينه ليس هو التأكيد وإنما هو عدم تشخص العين المحرمة خارجاً.

القرينة الثالثة: قوله (عليه السلام): «أو تقوم به البينة» فإن المعهود من الأدلة الشرعية اعتبار البينة في تحديد الموضوعات الخارجية(16).

فهذه القرائن الثلاث تكفي لصرف الحديث إلى نفس معنى الحديث الذي فيه التقسيم الذي وضح صاحب الحدائق ومن جاء بعده من كبار الأصوليين على أنه خاص في الشبهات الموضوعية.

الحديث الخامس:- حديث الرفع:

ما رواه الشيخ الصدوق عن أحمد بن محمد بن يحيى العطار، عن سعد بن عبد الله، عن يعقوب بن يزيد، عن حماد بن عيسى، عن حريز بن عبدالله السجستاني عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «رفع عن أمتي تسعة: الخطأ، و النسيان، وما أكرهوا عليه، وما لا يطيقون، وما لا يعلمون، وما اضطروا إليه، و الحسد، والطيرة، والتفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة»(17). ومحل الشاهد رفع ما لا يعلمون، وسند الحديث صحيح بناء على توثيق أحمد بن محمد بن يحيى العطار، وقد اعتمد علمائنا على الحديث في الفقه(18).

وفي الكافي عن الحسين بن محمد، عن محمد بن أحمد النهدي، رفعه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «وضع عن أمتي تسع خصال: الخطاء، والنسيان، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون، وما اضطروا إليه، وما استكرهوا عليه، والطيرة، والوسوسة في التفكر في الخلق، والحسد ما لم يظهر بلسان أو يد»(19).

وتقريب الاستدلال على ما ذكره بعض الأصوليين هو: أن رفع ما لا يعلمه المسلمون يعني رفع المؤاخذة على التكاليف التي لا تعلم بها الأمة، أو رفع الاحتياط بالتكاليف الواقعية غير المعلومة(20)، أو رفع الحكم الواقعي غير المعلوم في مرحلة الظاهر(21).

وأشكل صاحب الحدائق على هذا الحديث بإشكال الورود، قال: "فغاية ما يستفاد من هذا الخبر... معذورية الجاهل بالحكم الشرعي، ونحن لا ندفعه بل نقول به إلا أنا نقول: كما يجب الخروج عن مضمون هذه الأخبار بالعلم بسائر الأحكام من وجوب أو تحريم أو نحوهما، وترتفع بذلك المعذورية، كذلك ترتفع بالعلم بوجوب التوقف والاحتياط المستفاد من الأخبار.. فإن التوقف والاحتياط أحد الأحكام الشرعية(22)".

ولربما يُجاب على إشكال الورود بأن العلم بوجوب الاحتياط لا يرفع عدم العلم بالحكم الذي تجري في مورده البراءة، لأن الظاهر أن المراد من الحكم المجهول هو الحكم النفسي، وحكم الاحتياط وجوبه طريقي، ولا يترتب على العمل بالحكم الطريقي إلا امتثال الواقعي المجهول، وحديث الرفع يرفع لزوم امتثال الحكم الواقعي المجهول(23).

لكن من الممكن أن يُقال ما لا يعلمون من الأحكام أعم من الأحكام النفسية أو الطريقية، واختصاصه بالأحكام النفسية ليس ظاهراً.

المراد هو الجهل المركب:

ومن ناحية أخرى نرى أن صاحب الحدائق يقرر أن حديث الرفع أجنبي عن محل البحث ولا يثبت البراءة المصطلحة، فهو وإن كان يرى أن معنى الرفع أو الوضع هو رفع المؤاخذة والعقاب أو بمعنى عدم التكليف على الجملة(24)، غير أنه يرى أن المراد من «ما لا يعلمون» هو عدم حصول العلم مع عدم الالتفات وعدم حصول الشبهة بالتكليف في المورد الذي خالف المكلف تكليفه، أي أن المراد من (رفع ما لا يعلمون) هو معذورية الجاهل الذي لا يعلم أنه جاهل (جهله جهل مركب) والمعبر عنه بالجهل الساذج أو الغافل عن الحكم بالكلية(25).

فيختلف صاحب الحدائق عن الأصوليين في معنى الجهل المشار إليه في حديث الرفع الذي يُعذر صاحبه مع تخلفه عن التكليف الواقعي وهو التكليف الذي تعلق به الجهل، فصاحب الحدائق يراه الجهل المركب سواء كان الجهل بجزئيات الواجبات أو بجزئيات المحرمات، وأما الجهل البسيط فيراه موضوعاً لأدلة الاحتياط في الشبهات التحريمية، بينما يرى الأصوليون أن الجهل المشار إليه في حديث الرفع هو الجهل البسيط سواء كان في الشبهة الوجوبية أو التحريمية.

بل إن صاحب الحدائق قرر حمل قوله (عليه السلام): «الناس في سعة ما لم يعلموا»(26)، وقوله (عليه السلام):«ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم»(27)، وقوله (عليه السلام): «إن الله يحتج على العباد بما آتاهم وعرفهم»(28) على معذورية خصوص الجاهل بالجهل المركب(29).

واعتمد صاحب الحدائق على قرينتين في حمله هذه الأحاديث على الجاهل بالجهل المركب:

الأولى: ما دل من الأحاديث على الاحتياط في موارد الشبهات، فإنها خاصة بالجاهل بالجهل البسيط، فإن المورد لا يكون مورد شبهة لدى المكلف إلا إذا حصل له الشك في حكمه الواقعي، فأخبار الاحتياط تقيد الأخبار المتقدمة وتخصصها بالجاهل بالجهل المركب(30).

الثانية: صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي إبراهيم (عليه السلام) قال: «سألته عن الرجل يتزوج المرأة في عدتها بجهالة أهي ممن لا تحل له أبداً؟ فقال: لا، أما إذا كان بجهالة فليتزوجها بعد ما تنقضي عدتها وقد يعذر الناس في الجهالة بما هو أعظم من ذلك، فقلت: بأي الجهالتين يعذر؟ بجهالته أن يعلم أن ذلك محرم عليه أم بجهالته أنها في عدة؟ فقال: إحدى الجهالتين أهون من الأخرى، الجهالة بأن الله حرم ذلك عليه، وذلك بأنه لا يقدر على الاحتياط معها..الخ»(31).

فإن جهله بحكم الحرمة المعذور فيه جهل مركب لأنه لا يقدر معه على الاحتياط، أما إذا كان شاكاً فجهله بسيط ويمكن الاحتياط، بينما صرح الإمام (عليه السلام) بأنه لا يمكنه الاحتياط فدلَّ ذلك على أن جهله مركب، فيعلم بذلك أن الجهل بالحكم إذا كان جهلا مركباً فإن صاحبه معذور بخلاف الجهل البسيط بالحكم فإن عليه الاحتياط لأخبار الاحتياط، فهذه الصحيحة شاهد جمع بين أخبار الاحتياط والأخبار التي تعذر الجاهل(32).

وقد يؤيد كلام صاحب الحدائق أن بعض الأصوليين ومنهم الشيخ الأنصاري استظهروا معنى الجهل المركب من لفظ الجهالة في قول الإمام الصادق (عليه السلام): «أي رجل ركب أمرا بجهالة فلا شيء عليه»(33) قال الشيخ: "الظاهر من الرواية ونظائرها من قولك: «فلان عَمِلَ هكذا بجهالة» هو اعتقاد الصواب أو الغفلة عن الواقع، فلا يعم صورة التردد في كون فعله صواباً أو خطأ»(34).

فيقُال أن هذه الرواية شاهد جمع بين روايات الاحتياط والروايات التي تعذر الجاهل، غير أن هاتين القرينتين وأغلب المناقشات المتقدمة لصاحب الحدائق حول ما أستدل به على البراءة متوقفةً على صحة دلالة روايات الاحتياط على لزوم الاحتياط عند الشك في التكليف، ولذا يتحتم عرض تقريب استدلال صاحب الحدائق بروايات الاحتياط على لزوم الاحتياط وعرض المناقشات حولها.

أدلة الاحتياط

استدل صاحب الحدائق على لزوم الاحتياط بالآيات وكثير من الروايات، ولم يستدل بالدليل العقلي ولا بالإجماع، وإن استعرض الدليل العقلي للشيخ الطوسي في إثبات أصالة الوقف عند الشك في إباحة الشيء أو حظره عندما تعرض لرأيه دون أن يعلق عليه مما يشعر بقبوله؛ إذ أنه عادة إذا رأى الدليل العقلي غير صحيح يرده، ومن ناحية أخرى فإن صاحب الحدائق حين ذكره لدليل الشيخ في سياق الدفاع عن القول بالاحتياط مما يُشعر بتلقيه الدليل العقلي على الاحتياط بالقبول في الجملة، وعلى كل حال سنقتصر على ما تعرض له صاحب الحدائق من الدليل العقلي والنقلي من القرآن والأحاديث وتوضيح تقريب استدلاله بها على الاحتياط، ثم نستعرض لجواب الأصوليين على الاستدلال بها.

الدليل العقلي:

فيدعى أن العقل يرى قبح الإقدام على أمر مع احتمال قبحه، وقيل في تقريبه:

إنه قد ثبت في العقول أن الإقدام على ما لا يؤمن المكلف كونه قبيحاً، مثل إقدامه على ما يعلم قبحه، ألا ترى أن من أقدم على الإخبار بما لا يعلم صحة مخبره، جرى في القبح مجرى من أخبر مع علمه بأن مخبره على خلاف ما أخبر به على حد واحد، وإذا ثبت ذلك وفقدنا الأدلة على حسن هذه الأشياء قطعاً ينبغي أن يجوز كونها قبيحة، وإذا جوزنا ذلك فيها قبح الإقدام عليها(35).

وبعبارة أوضح أن محتمل الحرمة يحتمل الضرر لاحتمال المفسدة فيه، ودفع الضرر المحتمل واجب، فالإقدام على ما لا يؤمن المفسدة فيه كالإقدام على ما يُعلم المفسدة فيه (36).

مناقشة الاستدلال:

إن قاعدة دفع الضرر المحتمل قاعدة عقلية، وكذا قاعدة قبح العقاب بلا بيان ولا يُتصور تعارض قاعدتين عقليتين، وذلك أن مورد كل من القاعدتين يختلف عن الآخر، وذلك لأن الضرر المحتمل في قاعدة دفع الضرر المحتمل الواجب دفعه إما أن يكون ضرراً أخروياً أي العقاب أو ضرراً دنيوياً أو هو المفسدة التي تقتضي الحرمة. فإن كان هو العقاب فوجوب دفعه إما أن يكون نفسياً أو طريقياً أو إرشادياً.

فأما النفسي فلا يصح لأن العقاب يترتب على مخالفته نفسَه لا على مخالفة الحكم الواقعي المجهول والمفروض في الاستدلال العقلي بدفع العقاب المحتمل هو دفع العقاب المحتمل المترتب على احتمال مخالفة الواقع المجهول، بل الواقع المجهول في المقام مؤمن بقاعدة قبح العقاب.

وأما الطريقي فهو أيضا غير صحيح في المقام لأنَّ ترتب العقاب المحتمل في الوجوب الطريقي إنما ينشأ مع مخالفة التكليف الواقعي المجهول، والمفترض أن العقاب المحتمل موضوع لوجوب دفع الضرر فهو موجود قبل حكمه، والحال أنه إنما يتحقق بعد حصول المخالفة للحكم الواقعي، وهذا دور حيث يتوقف موضوع القاعدة على نفسه.

وأما الإرشادي فهو صحيح لا يترتب عليه غير ما يترتب على نفس احتمال العقاب من لزوم التحرز والاجتناب، لكن ليس مورده احتمال مخالفة الحكم الواقعي في الشبهة البدوية مع عدم وجود طريق لمعرفته، وتوضيح ذلك: أن التكليف مهما بلغ من الأهمية لا يكون محركاً للعبد وإنما المحرك له هو العلم أو الاحتمال بترتب العقاب، وهنا يستقل العقل بحسنه وصحته وقبح تركه، واحتمال العقاب منفي في مورد الشبهة البدوية للحكم بعد الفحص لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، فقاعدة قبح العقاب واردة على دفع الضرر المحتمل في هذا المورد(37).

وأما إذا كان المراد من الضرر المحتمل هو احتمال الضرر الدنيوي فلا يستقل العقل بوجوب دفعه بل لربما أقدم العقلاء على مضار كبيرة لبعض المصالح، على أن ترتب الضرر الدنيوي على فعل الحرام ممنوع، بل يقع في المفسدة، ولا تلزم منها الضرر الدنيوي، بل قد يكون بارتكاب بعض المحرمات حصول المنافع الدنيوية كما هو الحال بالنسبة إلى ما يغتصبه حكام الجور.

وأما لو أريد بالضرر المحتمل هو المفسدة المحتملة فلا دليل على وجوب دفع المحتمل منها، ولذا تجري البراءة في الشبهة الموضوعية مع وجود هذا الاحتمال(38).

هذا كله على مسلك المشهور من جريان قاعدة قبح العقاب، أما على مسلك الشهيد الصدر من عدم جريانها بل الذي يجري قاعدة حق الطاعة فإن القاعدة الأولية الاحتياط، لكن لكونه لا يرى دلالة الأدلة الشرعية على الاحتياط، ويرى دلالة الأدلة الشرعية على البراءة فهو يرى ورود البراءة الشرعية على ما يدل عليه العقل من الاحتياط.

من القرآن:

ولم يستدل صاحب الحدائق في المقام على الاحتياط إلا بصنف واحد من الآيات وهي ما دل على عدم القول بغير علم كقوله تعالى: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقّ}(39)، وقوله تعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا}(40).

بتقريب أن الآيتين ونظيراتهما يدلان على عدم القول بغير علم، ومع عدم معرفة الحكم الواقعي في مورد الشبهة كيف يحكم بالإباحة؟! فإنه قول بغير العلم(41).

ولكن صاحب الحدائق لم يحتج في ردِّ أدلة البراءة بمعارضتها لكتاب الله، ولم يستدل بالآيات على الاحتياط ضمن ما عقده لأدلة القائلين بعدم حجية البراءة(42) بل استدل بها في موارد أخرى في تضاعيف كلامه(43)، وربما كان ذلك لأنه يرى أن الاستدلال بالآيات الدالة على حرمة العمل بالظن إنما يصح في صورة عدم ثبوت البراءة من الروايات وأن أدلة البراءة لو تمت دلالتها تكون حاكمة على دلالة الآيات الكريمة، وبما أنه لا يرى ثبوت دلالة الروايات على البراءة، بل يرى أن أدلة الاحتياط تُعد قرينة في تحديد مفاد ما استدل به على البراءة، أو مخصصة لها -كما تقدمت الإشارة إلى ذلك- فعلى هذا يصح استدلاله على الاحتياط بالآيات الكريمة.

نعم هو يرى أن الأخبار الناهية عن القول بلا علم  تدل على الاحتياط وتعارض مفاد أدلة البراءة -على فرض صحة دلالتها على البراءة- وذلك لاقتران الأخبار الناهية عن القول بغير علم بمفاد التوقف في الشبهة، أو احتفافها بما يدل على ذلك(44).

مناقشة الاستدلال بها:

أجاب الأصوليون أن حرمة القول بغير علم مما لا خلاف فيها بين الأخباريين والأصوليين، فالأصولي يعترف بأن القول بالترخيص إذا لم يكن مستنداً إلى دليل فهو تشريع محرم، ولكنه يدعي قيام الدليل على ذلك، فالاستدلال بحرمة القول بغير العلم للقول بالاحتياط أجنبي عن المقام.

من الأحاديث:

والأحاديث هي العمدة في استدلال صاحب الحدائق على الاحتياط، ولذا لم يتعرض إلا للأخبار فيما خصصه لأدلة القائلين بعدم حجية البراءة الأصلية(45)، وأشار بعد أن عرض عدمها إلى أنها على ثلاثة طوائف، طائفة تثليث الأحكام، وطائفة الرد والتوقف، وطائفة القول بغير علم(46).

الطائفة الأولى:- أخبار التثليث:

منها ما رواه الصدوق قال: وخطب أمير المؤمنين (عليه السلام) الناس فقال: «إن الله تبارك وتعالى حد حدوداً فلا تعتدوها، وفرض فرائض فلا تنقصوها، وسكت عن أشياء، لم يسكت عنها نسياناً لها فلا تكلفوها، رحمة من الله لكم فاقبلوها. ثم قال علي (عليه السلام): حلال بيِّن وحرام بيِّن وشبهات بين ذلك، فمن ترك ما اشتبه عليه من الإثم فهو لما استبان له أترك، والمعاصي حمى الله  (عزّ وجلّ) فمن يرتع حولها يوشك أن يدخلها»(47).

ومنها ما رواه الصدوق بإسناده إلى علي بن مهزيار، عن الحسين بن سعيد، عن الحارث بن محمد بن النعمان الأحول صاحب الطاق، عن جميل بن صالح عن الإمام الصادق (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) قال: «قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): الأمور ثلاثة أمر تبين لك رشده فاتبعه، وأمر تبين لك غيه فاجتنبه، وأمر اختلف فيه فرده إلى الله  (عزّ وجلّ)»(48).

ومنها ما ورد في مقبولة عمر بن حنظلة عن الإمام الصادق (عليه السلام): «إنما الأمور ثلاثة، أمر بيِّن رشده فمتبع، وأمر بيِّن غيه فمجتنب، وأمر مشكل يرد حكمه إلى الله (عزّ وجلّ) قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): حلال بيِّن، وحرام بيِّن، وشبهات بين ذلك، فمن ترك الشبهات نجى من المحرمات، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات، وهلك من حيث لا يعلم»(49).

فقد رتب الإمام (عليه السلام) ارتكاب المحرمات بالأخذ بالشبهات، فلا بد من التوقف والاحتياط في الشبهات حتى لا يتم ارتكاب المحرمات.

فهذه الأخبار دالة على التثليث الأحكام وأنها على ثلاثة أقسام؛ قسم الحلال البيِّن، وقسم الحرام البيِّن، وقسم الشبهات وحكمها الوقوف عندها والاحتياط فيها، ولو كان حكم الشبهات هو البراءة والإباحة لكانت ضمن القسم الأول ولما كانت الحاجة إلى التثليث في التقسيم، فالقول بالبراءة يستلزم حذف القسم الثالث وقد أكدت الروايات على ثبوته وأن الأحكام على ثلاثة أقسام(50).

الطائفة الثانية: ما دل على التوقف أو الاحتياط في الشبهة

وأخبار هذه الطائفة بعضها يدل على التوقف فقط والآخر يدل عليه مع رد أمر المشبوه إلى الأئمة (عليهم السلام) ولا ضير في المقصد، إذ ما دام الأمر مشتبه فتدل على التوقف والاحتياط وأشار الشيخ الأنصاري إلى أن أخبار هذه الطائفة لا تحصى(51).

فمن هذه الطائفة ما جاء في حديث يرويه شيخ الطائفة عن أبي عبد الله محمد بن محمد، قال: أخبرني أبو القاسم جعفر ابن محمد، قال: حدثنا محمد بن يعقوب، قال: حدثنا علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن محمد بن عيسى، عن يونس بن عبد الرحمن، عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر محمد بن علي (عليهما السلام)، قال: «ما جاءكم عنا، فإن وجدتموه للقرآن موافقا فخذوا به، وإن لم تجدوه موافقا فردوه، وإن اشتبه الأمر عليكم فيه فقفوا عنده وردوه إلينا حتى نشرح لكم من ذلك ما شرح لنا»(52).

ومنها ما جاء في كتاب سليم بن قيس أن علي بن الحسن (عليه السلام) قال لأبان بن أبي عياش: «اتق الله يا أخا عبد القيس، فإن وضح لك أمر فاقبله وإلا فاسكت تسلم، ورد علمه إلى الله، فإنك في أوسع مما بين السماء والأرض»(53).

ومنها ما رواه الشيخ الطوسي بسند له إلى النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: «إن لكل ملك حمى، وإن حمى الله حلاله وحرامه والمشتبهات بين ذلك، كما لو أن راعيا رعى إلى جانب الحمى لم تثبت غنمه أن تقع في وسطه، فدعوا المشتبهات»(54).

فالأمر بترك المشتبهات هو التوقف في البث في حكمها والاحتياط في العمل بها.

ومنها ما جاء في مقبولة عمر بن حنظلة بعد ذكر المرجحات: «إذا كان كذلك فأرجه حتى تلقى إمامك فإن الوقوف في الشبهات خير من اقتحام الهلكات»(55).

ونحوها صحيحة جميل بن دراج، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، وزاد فيها: «إن على كل حق حقيقة، وعلى كل صواب نوراً، فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فدعوه»(56).

ومنها ما يرويه الشيخ الطوسي بإسناده عن محمد بن أحمد بن يحيى عن هارون بن مسلم عن مسعدة بن زياد عن جعفر عن آبائه (عليهم السلام) أن النبي (صلّى الله عليه وآله) قال: «لا تجامعوا في النكاح على الشبهة -وقفوا عند الشبهة- إلى أن قال: فإن الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة»(57).

وتوهم ظهور هذا الخبر المستفيض في الاستحباب، مدفوع بملاحظة أن الاقتحام في الهلكة لا خير فيه أصلاً، مع أن جعله تعليلا لوجوب الإرجاء في مقبولة عمر بن حنظلة، وتمهيداً لوجوب طرح ما خالف الكتاب في صحيحة جميل قرينةٌ على المطلوب. فمساقه مساق قول القائل: «أترك الأكل يوما خير من أن أمنع منه سنة»، وكذا مساق قوله (عليه السلام) في مقام وجوب الصبر حتى يتيقن الوقت: «لأن أصلي بعد ما يمضي الوقت أحب إلي من أن أصلي وأنا في شك من الوقت، وقبل الوقت»(58).

ومنها: ما جاء ضمن حديث يرويه الصدوق عن أبيه ومحمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد، عن سعد بن عبد الله، عن محمد بن عبد الله المسمعي، قال: حدثني أحمد بن الحسن الميثمي عن الإمام الرضا (عليه السلام) قال: «وما لم تجدوه في شيء من الوجوه فردوا إلينا علمه؛ فنحن أولى بذلك، ولا تقولوا بآرائكم وعليكم بالكف والتثبت والوقوف وأنتم طالبون باحثون حتى يأتيكم البيان من عندنا»(59).

ومنها ما رواه الصدوق أيضا عن محمد بن الحسن بن الوليد، عن محمد بن الحسن الصفار، عن إبراهيم بن هاشم عن محمد بن أبي عمير عن حمزة بن حمران قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «إن من أجاب في كل ما يسأل عنه لمجنون»(60).

أي أنه يجيب حتى في موارد الشبهة لديه من غير أن يتوقف في ذلك.

ومنها: ما رواه البرقي عن محمد بن إسماعيل بن بزيع، عن منصور بن يونس، عن عمر بن أذينة، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): إنما أهلك الناس العجلة ولو أن الناس تثبوا لم يهلك أحد»(61).

ومنها: ما رواه الشيخ المفيد من وصية أمير المؤمنين (عليه السلام) لابنه الحسن (عليه السلام) جاء فيها: «وأنهاك عن التسرع بالقول... والفعل والزم الصمت تسلم»(62).

ومنها ما رواه الصدوق عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «أورع الناس من وقف عند الشبهة»(63).

الطائفة الثالثة:- الناهية عن القول بغير علم الدالة على الوقوف عند الشبهة:

منها ما رواه الكليني بسند له عن زرارة بن أعين قال: «سألت أبا جعفر (عليه السلام) ما حق الله على العباد؟ قال: أن يقولوا ما يعلمون ويقفوا عند ما لا يعلمون»(64)، ومثلها موثقة هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام)(65).

منها ما رواه هو أيضا عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن يونس بن عبد الرحمن عن أبي يعقوب إسحاق بن عبد الله، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «إن الله خصَّ عباده بآيتين من كتابه: أن لا يقولوا حتى يعلموا ولا يردوا ما لم يعلموا وقال (عزّ وجلّ): {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ}(66) وقال: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ}(67)»(68).

ومنها: ما رواه عن محمد بن يحيى العطار، عن أحمد، عن ابن فضال، عن ابن بكير، عن حمزة بن الطيار أنه عرض على أبي عبد الله (عليه السلام) بعض خطب أبيه حتى إذا بلغ موضعا منها قال له: «كف واسكت، ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): لا يسعكم فيما ينزل بكم مما لا تعلمون إلا الكف عنه والتثبت والرد إلى أئمة الهدى حتى يحملوكم فيه على القصد ويجلوا عنكم فيه العمى، ويعرفوكم فيه الحق، قال الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}(69)»(70).

ومنها ما ورد في نهج البلاغة من وصايا أمير المؤمنين (عليه السلام) لابنه الحسن (عليه السلام): «ودع القول فيما لا تعرف والخطاب فيما لم تكلف. وأمسك عن طريق إذا خفت ضلالته فإن الكف عند حيرة الضلال خير من ركوب الأهوال»(71).

وفي خطبة له قال: «فيا عجبي -ومالي لا أعجب- من خطأ هذه الفرق على اختلاف حججها في دينها، لا يقتصون أثر نبي، ولا يقتدون بعمل وصي.... يعملون في الشبهات ويسيرون في الشهوات، المعروف عندهم ما عرفوا، والمنكر عندهم ما أنكروا. مفزعهم في المعضلات إلى أنفسهم. وتعويلهم في المبهمات على آرائهم كأن كل امرئ منهم إمام نفسه قد أخذ منها فيما يرى بعرى وثيقات(72) وأسباب محكمات»(73).

ومنها: ما رواه البرقي عن الحسن بن علي بن فضال، عن ابن بكير، عن محمد بن الطيار، قال: «قال لي أبو جعفر (عليه السلام): تخاصم الناس؟ قلت: نعم، قال: ولا يسألونك عن شيء إلا قلت فيه شيئا؟ قلت: نعم، قال: فأين باب الرد إذاً؟!»(74).

فهذه الطوائف الثلاث دالة على الاحتياط عند مدرسة صاحب الحدائق وأن بعضها ينطق بالبعض الآخر فهي متناغمة في مضامينها، فبعضها يدل على أن الأحكام على ثلاثة أقسام قسم واضح في الحلية وقسم واضح في الحرمة وقسم مشكل، وهو القسم الذي يرد علمه إلى الله سبحانه وإلى الرسول وأولي الأمر من بعده، وبعضها يدل على التوقف في الشبهة وهو في نفس ذلك المشكل وإرجاع أمره إلى الإمام، وبعضها يدل على عدم بيان الحكم مع عدم العلم بل لا بد من التوقف فيه أي التوقف في نفس الحكم المشكل والمشتبه فيه وإرجاع أمره للإمام(75).

والذي يُفهم من صاحب الحدائق أنه لا فرق في التوقف في المشتبه فيه بين زمن الحضور وزمن الغيبة لإطلاق التوقف، وإطلاق الغاية وهي لقاء الإمام سواء كان في حضوره قبل غيبته أو حضوره بعد غيبته، وتعذر الرجوع في زمن الغيبة لا يوجب تقييد الأخبار بكونها في زمن الحضور، وإنما يتعذر معرفة الحكم الواقعي في ذلك الزمن فيبقى المكلفون على العمل بالاحتياط حتى ظهور الإمام (عجّل الله تعالى فرجه الشريف).

مناقشة الأصوليين:

ناقش الأصوليون ما استدل به على الاحتياط بمناقشات شافية ووافية وملخصها:

أن أخبار الطائفة الثالثة الدالة على عدم القول بلا علم فقط، فالجواب عنها كجواب الاستدلال بالآيات الناهية عن العمل بالظن(76).

وأما أخبار الطائفة الأولى والثانية فإن بعضها مختص فيما إذا كان المضي في الشبهة اقتحاما في التهلكة ولا يكون ذلك إلا مع عدم العذر للفاعل لأجل القدرة على إزالة الشبهة بالرجوع إلى الإمام (عليه السلام) أو إلى الطرق المنصوبة منه والفحص فيها، كما هو ظاهر المقبولة وموثقة حمزة بن الطيار، ورواية جابر، ورواية المسمعي(77).

فإن تعليل وجوب التوقف فيها بأن الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة ظاهر في كون الأمر بالتوقف إرشادياً لا مولوياً، فإنه ظاهر في ثبوت الاحتياط مع قطع النظر عن هذه الأخبار حتى يصح تعليل وجوب التوقف باحتمال الاقتحام في الهلكة، ولا وجه للتعليل لو أريد إثبات وجوب الاحتياط بنفس تلك الأخبار، فيختص موردها بالشبهة قبل الفحص، أو المقرونة بالعلم الإجمالي التي يجب فيها الاحتياط من غير جهة أخبار التوقف(78).

وكذا الأخبار الدالة على لزوم الاحتياط فإن حسن الاحتياط مما استقل به العقل خصوصاً إذا كان الحكم في مقام الامتثال، فالأمر فيها إرشادياً فيكون تابعاً للمرشد إليه من حكم العقل بالاحتياط(79).

وبعضها ظاهر في الاستحباب، مثل قوله (عليه السلام): «أورع الناس من وقف عند الشبهات»(80).

ومما استدل به على عدم دلالة أخبار الاحتياط على وجوب الاحتياط أنها تعم الشبهة الوجوبية والموضوعية، مع أن الاحتياط فيهما غير واجب قطعاً، فلا بد من رفع اليد عن ظهورها في الوجوب، أو الالتزام فيها بالتخصيص، وحيث أن لسانها يأبى عن التخصيص، يتعين حملها على الاستحباب، أو على مطلق الرجحان الجامع بينه وبين الوجوب، وعليه فلا يستفاد منها وجوب الاحتياط فيما هو محل الكلام هو الشبهة البدوية بعد الفحص(81).

ثم أنه لو سلم دلالة أخبار التوقف أو الاحتياط على لزوم الاحتياط في الشبهة التحريمية، فهي لا تعارض أدلة البراءة، بيان ذلك: أن أخبار البراءة لا تعم الشبهة قبل الفحص، ولا المقرونة بالعلم الإجمالي، إما في نفسها، وإما من جهة الإجماع وحكم العقل، بل بعضها مختصة بالشبهات التحريمية كقوله (عليه السلام): «كل شيء مطلق»، بخلاف أخبار الاحتياط والتوقف، فإنها شاملة لها قطعاً، فيتخصص بها(82).

وبهذه المناقشة نختم البحث في البراءة، واتضح من خلاله أن صاحب الحدائق وإن اختلف عن الأصوليين في النتيجة غير أن صاحب الحدائق له الدور البارز في بلورة مبحث البراءة ورقيه، كما يتضح ذلك جليَّا بملاحظة اختلاف نحو وسعة مبحث البراءة في كتب الأصول التي ألفت بعد صاحب الحدائق واختلافها الكبير عن كتب الأصول التي ألفت قبل عصره.

 

* الهوامش:

(1) الكافي، ج6، باب الجبن، ص339، ح1؛ وسائل الشيعة، ج25 باب61 من أبواب الأطعمة والأشربة، ص118، ح1؛ بحار الأنوار، ج62، ص152، وص156؛ مستدرك سفينة البحار، ج2، ص33.

(2) انظر معجم الرجال، ج11، ص215.

(3) عوالي اللئالي، ج3، ص465.

(4) الكافي، ج5، ص313؛ تهذيب الأحكام، ج7، ص226؛ جامع أحاديث الشيعة، ج17، ص434.

(5) انظر فرائد الأصول، ج1، ص329.

(6) دروس في علم الأصول للشهيد الصدر، ج1، ص346.

(7) يقصد أصالة البراءة.

(8) وسائل الشيعة، ج25، أبواب الأطعمة المباحة ب61، ص117- 120.

(9) الدرر النجفية، ج1، 174- 175.

(10) فرائد الأصول، ج1، ص330.

(11) فوائد الأصول، ج3، ص363؛ بداية الوصول في شرح كفاية الأصول للشيخ محمد طاهر آل الشيخ راضي ج6، ص326؛ تهذيب الأصول، تقرير بحث السيد الإمام الخميني للسبحاني، ج2، ص313- 315؛ مصباح الأصول، ج2، ص276.

(12) نهاية الأفكار، ج3، ص233- 234.

(13) الكافي، ج5، ص313؛ تهذيب الأحكام، ج7، ص226؛ جامع أحاديث الشيعة، ج17، ص434.

(14) الحدائق الناضرة، ج1، ص141- 142؛ الدرر النجفية، ج1، 174- 175.

(15) الكافي، ج5، ص314.

(16) ذكر السيد الخوئي أربعة قرائن من نص الرواية على أنها في مورد الشبهة الموضوعية، ذكرتُ منها هنا أثنتين، دراسات في علم الأصول تقريرات درس الخوئي للسيد علي الشاهرودي، ج3، ص249- 250.

(17) التوحيد للصدوق، ص353؛ الخصال، ص417؛ من لا يحضره الفقيه، ج1، ص59؛ تحف العقول، ص50.

(18) زبدة الأصول، ج3، ص201.

(19) الكافي، ج2، باب ما رفع عن الأمة، ص463، ح2.

(20) فرائد الأصول، ج2، ص28- 31.

(21) مصباح الأصول، ج2، ص258؛

(22) الدرر النجفية، ج1، ص175.

(23) انظر دراسات في علم الأصول، ج3، ص282.

(24) الدرر النجفية، ج3، ص139.

(25) الدرر النجفية، ج1، ص97 و103، وج3، ص146؛ الحدائق الناضرة، ج1، ص82.

(26) عوالي اللئالي، ج1، ص424، ح109.

(27) توحيد الشيخ الصدوق، باب التعريف والبيان، والحجة والهداية، ص413، ح9.

(28) المحاسن، ج1، ص236؛ الكافي، ج1، باب حجج الله على خلقه، ص164، ح4؛ التوحيد للصدوق، ص413.

(29) الدرر النجفية، ج1، ص91- 93؛ الحدائق الناضرة، ج1، ص81- 82.

(30) انظر الحدائق الناضرة، ج1، ص82؛ الدرر النجفية، ج1، ص91.

(31) الكافي، ج5، ص427؛ تهذيب الأحكام، ج7، ص306؛ الاستبصار، ج3، ص186؛ وسائل الشيعة، ج20، باب17 من أبواب ما يرحم بالمصاهرة، ص451، ح4.

(32) انظر الحدائق الناضرة، ج1، ص83؛ الدرر النجفية، ج1، ص93.

(33) تهذيب الأحكام، ج5، ص73؛ وسائل الشيعة، ج8، ص248.

(34) فرائد الأصول، ج1، ص327، ط جماعة المدرسين، ج2، ص42، ط مجمع الفكر، واستظهر ذلك بعض الأصوليين أنظر: منتهى الأصول، ج2، ص191؛ منتقى الأصول للسيد الروحاني، ج4، ص434.

(35) عدة الأصول، ج2، ص742؛ الدرر النجفية، ج1، ص161.

(36) فرائد الأصول، ج1، ص355؛ منتقى الأصول، ج4، ص492؛ وانظر عدة الأصول ج2، ص747.

(37) انظر دراسات في علم الأصول للشاهرودي، ج3، ص61-63.

(38) انظر دراسات في علم الأصول، ج3، ص263؛ زبدة الأصول، للسيد الروحاني، ج3، ص244.

(39) الأعراف، آية 169.

(40) يونس، آية 36.

(41) الدرر النجفية، ج1، ص101.

(42) الدرر النجفية، ج1، ص176- 183؛ الحدائق الناضرة، ج1، ص48- 51.

(43) الدرر النجفية، ج1، ص102.

(44) الحدائق الناضرة، ج1، ص49؛ الدرر النجفية، ج1، ص179-181.

(45) الدرر النجفية، ج1، ص176.

(46) نفس المصدر، ص181.

(47) من لا يحضره الفقيه، ج4، ص75، ح5149.

(48) أمالي الصدوق، ص382؛ الخصال، ص153؛ معاني الأخبار، ص196؛ من لا يحضره الفقيه، ج4، ص400، ح5858؛ وسائل الشيعة، ج27، باب وجوب التوقف والاحتياط، ص162.

(49) من لا يحضره الفقيه، ج3، ص10-11، ح3233؛ تهذيب الأحكام، ج6، ص302- 303.

(50) انظر الدرر النجفية، ج1، ص181.

(51) فرائد الأصول، ج2، ص64، نشر مجمع الفكر.

(52) أمالي الشيخ الطوسي، ص232.

(53) كتاب سليم بن قيس، ص129.

(54) أمالي الشيخ الطوسي، ص381، ح818.

(55) من لا يحضره الفقيه، ج3، ص10-11، ح3233؛ تهذيب الأحكام، ج6، ص302- 303.

(56) وسائل الشيعة، ج27، باب وجوه الجمع بين الأحاديث، ص119، ح35.

(57) وسائل الشيعة، ج27، باب العاشر من أبواب كتاب القضاء، ص159، ح15.

(58) من لا يحضره الفقيه، ج1، ص223؛ وسائل الشيعة، ج4، باب 13 من أبواب المواقيت، ح11، وانظر دفع التوهم في فرائد الأصول، ج2، ص196، نشر مجمع الفكر.

(59) عيون أخبار الإمام الرضا (عليه السلام)، ج1، ص24.

(60) معاني الأخبار، ص238.

(61) المحاسن، ج1، ص215، ح100؛ وسائل الشيعة، ج27، ص169.

(62) أمالي الشيخ المفيد، ص221-222؛ أمالي الشيخ الطوسي، ص7؛ وسائل الشيعة، ج27، ص168.

(63) الخصال، ج1، باب الواحد، ص16.

(64) الكافي، ج1، ص43.

(65) الكافي، ج1، ص50، ح12، باب نوادر كتاب فضل العلم.

(66) الأعراف: 169.

(67) يونس: 40.

(68) الكافي، ج1، ص43؛ أمالي الصدوق، ص506.

(69) النحل: 42.

(70) الكافي، ج1، ص50.

(71) نهج البلاغة، ج3، ص39؛ وسائل الشيعة، ج27، ص160.

(72) في كتاب نهج البلاغة «بعرى ثقات». ولكن في البحار، ج:«بعرى وثيقات» وكذا في وسائل الشيعة، ج27، ص160، وفي الدرر النجفية، ج1، ص181.

(73) نهج البلاغة، ج1، خطبة88، ص156.

(74) المحاسن، ج1، ص213؛ بحار الأنوار، ج2، ص307،

(75) انظر الدرر النجفية، ج1، ص176.

(76) انظر فرائد الأصول، ج1، ص340، نشر جامعة المدرسين.

(77) انظر فرائد الأصول، ج1، ص342.

(78) انظر دراسات في علم الأصول، ج3، ص277.

(79) انظر دراسات في علم الأصول، ج3، ص280

(80) الخصال، ج1، باب الواحد، ص16؛ فرائد الأصول، ج1، ص342.

(81) انظر دراسات في علم الأصول، ج3، ص280

(82) نفس المصدر، ص281.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا