نبينا (ص) مبادئ وقيم

نبينا (ص) مبادئ وقيم

لبّيكَ يا وليّ أمر المسلمين، امتثالاً لواجب الإطاعة لوليّ أمر المسلمين سماحة آية الله العظمى الإمام الخامنائي (دام ظله) للاستفادة وللاستنارة بوعيٍ بأهداف السيرة النبويّة المباركة، رأى قلمي القاصر أن يلبّي هذا الأمر العظيم راجياً من العليّ الجليل الموفّقيّة والسداد.

تعريف السيرة النبويّة:

لا شكّ ـ لقارئي الكريم ـ أنّ المراد من سيرة الإنسان هي طريقته ونهجه في الحياة أو تأريخ حياته، وسيرة الرسول(ص) وأهل بيته الطاهرين(ع) هي المنهجيّة والتحرّك وفق برامج حدّدتها لهم الديانة الإلهيّة الخاتمة، والمتمثّلة بالإسلام العظيم، حيث إن الله جعله القانون النهائيّ الشامل في مرحلة بلوغ البشريّة ونُضْجها، فهو من حيث العقائد بلغ درجة الكمال في محتواه، ومن حيث التشريع بلغ أعلى مراحل التنظيم بحيث إنّه يُلبّي حاجات الإنسان في كلّ عصرٍ وزمانٍ(1).

وتتجلّى سيرة الرسول(ص) وأهل بيته الطاهرين(ع) في مجموع أقوالهم وأفعالهم ومواقفهم تجاه الأحداث والظواهر المختلفة الّتي عاصروها وعاشوا معها خلال ثلاثة قرونٍ وأربعة عقودٍ تقريباً. أي: منذ بعثة الرسول(ص) حتّى انتهاء الغيبة الصغرى للإمام الثاني عشر المهديّ المنتظر(عج)، وقد اهتمّ القرآن الكريم ببيان سيرة الأنبياء والصلحاء، ودعا إلى الاستهداء بسيرتهم، والاعتبار بسيرة الغابرين والاتّعاظ بها، كما أكّد على الاهتمام بسيرة خاتم الأنبياء وسيّدهم محمّد بن عبد الله(ص) في خطابٍ وجّهه إلى رسوله الكريم بقوله عزّ من قائلٍ {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}(2).

بلى، هي الحقيقة من هدفيّة السيرة النبويّة الخالدة، فالاقتداء والاستهداء بها يعني السير والاتجاه نحو الصراط المستقيم، وهو الصراط الموصل إلى السعادة والفلاح، وقد تمثّل هذا الصراط في الأنبياء الّذين أنعم الله عليهم بنعمة هدايته، حيث إنّهم(ع) يشكّلون خطّ الرسالة الّذي لا انحراف فيه أبداً، وقد حافظ الله على سلامته واستقامته ليكون قدوةً للناس، قال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}(3).

ومن هنا كانت دراسة أهداف السيرة النبويّة المباركة بشكلٍ صحيحٍ عاملاً من عوامل تحقّق التربية الإسلاميّة للنفوس الّتي لم تعاصرهم، وطريقاً لتعلّم النهج الصحيح للحياة(4)، لهذا يتجلى من خلال قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ}(5) الحاجة الضروريّة إلى القيادة الإلهيّة لسلوك هذا الطريق الطويل المحفوف بالمخاطر المخيفة؛ إذ بدونها ـ أي بدون القيادة الإلهيةـ سيقع الإنسان بلا أدنى شكٍّ في دوّامة الضلال والضياع.

بعد هذه الإشارة العابرة تتّضح لنا هدفيّة الرسالة المحمّديّة الّتي سنبحثها بالاستعانة بالقرآن الكريم.

عوداً على ما تقدّم نسأل سؤالاً إيضاحيّاً، وهو: هل يمكن أن يُتْرَكَ الإنسان بلا هدايةٍ ولا إرشادٍ؟

الجواب: نقول: إذا آمن الإنسان بعدالة الله في أجزاء الكون، فإنه لا بدّ أن يؤمن بعدالته أيضاً في الهداية والإرشاد؛ ذلك لأن العدالة تأبى أن يخلق الخلق بالملايين ويتركهم يتيهون في ظلام الجهل والضلالة، خاصّةً بعد أن نجد أنّ الله قد أرشد حتّى الحيوانات إلى ما فيه خيرها، فجعل لها غرائزها الّتي تهديها إلى صوابها، قال تعالى: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}(6)، فالله تعالى الّذي خلق الأشياء، ثمّ هداها في طريقة تنفسها، وأكلها، وشربها، والحماية عن نفسها وغير ذلك، فالله حينما خلق الأشياء علم أنهّا تحتاج إلى وسائل تغذيةٍ وحمايةٍ وتمتّعٍ وغيرها، فهداها إلى كلّ ذلك بفضله وعدالته الّتي أبتْ على الكون إلا أن يسير ضمن خطوطٍ متّزنةٍ هي الّتي أرسلتْ إلى الأرض مَنْ يقود الإنسان إلى ما فيه خيره، ويضع له البرامج الكفيلة بإسعاده، وهم الأنبياء(ع).

ومن خلال هداية الله للأشياء ينبغي أن يهتدي الإنسان بهدى العقل ورسالة الربّ إلى منافعه ومصالحه الحقيقيّة، ومعنى هذا: أنّ الله أبى في الإنسان أن يجبره على اتّباع العدل كما أجبر الشمس والقمر وباقي الكواكب أن تجري في مداراتٍ عادلةٍ، وأجبر الأشجار والحيوانات أن تتّبع أنظمةً معيّنةً، وأراد العدل فأجبر جسم الإنسان أن يتّبع نظاماً معيّناً، فالقلب يعمل ما دام الدم يجري في العروق، والمعدة تعمل ما دامت تحصل على الطعام السليم، وهكذا بقية الأجهزة الحيوية في جسم الإنسان، بل أراد سبحانه العدل في الإنسان وترك له أن يعمل بوحي وجدانه الّذي زرعه فيه من عالم الذرّ؛ لأنّ إجباره على اتّباع العدل يعني سلبه أهمّ ميزاته، وهي: الاختيار.

غير أنّ الله تعالى تفضّل على الإنسان بوسائل توعيةٍ عظيمةٍ، حيث خلق فطرته على سنّته، وزوّده بالعقل والعلم، ومع ذلك أرسل إليه الأنبياء والرسل وأنزل معهم المناهج والشرائع ليذكّروا الإنسان بوجدانه، ويحسّنوا سريرته، وينظّموا حياته ويهدوه سواء السبيل، من هنا كان إرسال الرسل مسألةً تقتضيها عدالة الله، كما تقتضيها حاجة الإنسان إلى الدين والرسالة بعد أن أثبتت التجارب البشرية حتّى الآن عجز الإنسان عن التوصّل إلى النظام الأفضل، والشريعة الأحسن لحياته، فالله تعالى لحكمته وعدله ولطفه أرسل الأنبياء لهداية خلقه، حتى بلغ عدد الأنبياء مئةً وأربعةً وعشرين ألف نبيّ، أرسلهم الله في مناطق مختلفةٍ، وعلى فتراتٍ متفاوتةٍ زمنياً، وكان آدم(ع) بداية سلسلة الأنبياء، وكان محمّد بن عبد الله(ص) ختام هذه السلسلة.

أهداف البعثة:

أهداف البعثة وفلسفة إرسال الرسول(ص) من خلال القرآن الكريم:

قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ}(7)، في هذه الآية المباركة يدور الحديث حول أعظم نعمةٍ إلهيةٍ، ألا وهي نعمة «بعثة الرسول(ص) والهدف من بعثته»، ولخّصت هذه الآية الهدف من بعثة الرسول(ص) في ثلاثة أمور:

الهدف الأوّل: تلاوة آيات الله على مسامعهم ليتدبروا فيها بعد بيانها لهم آيةً تلو آيةٍ، وهذا الهدف ـ أي التلاوة ـ يعتبر مقدّمةً للهدفين الآخرين؛ حيث يُعتَبَران الهدف النهائيّ الكبير، وهما:

الهدف الثاني: التهذيب وتزكية النفس.

الهدف الثالث: تعليمهم الكتاب والحكمة، بمعنى إدخال هذه الحقائق ـ المستوحاة من الكتاب والحكمةـ في أعماق ضمائرهم وقلوبهم.

توضيح الهدف الأوّل لبعثة النبيّ(ص):

إنّ الّذين يبتعدون عن الحقائق الإنسانيّة بالمرّة، ليس من السهل إخضاعهم للتربية، فلا بدّ أوّلاً من إسماعهم آيات الله مدّةً من الزمن حتّى تذهب عنهم الوحشة الّتي وقعوا فريسةً لها من قبل؛ ليتسنّى حينئذٍ إدخالهم في مرحلة التعليم، ثمّ يمكن اقتطاف ثمار التربية بعد ذلك(8).

من هنا كان الهدف الأوّل من بعثة النبيّ(ص) هو بثّ الآيات القرآنية بينهم وبيانها لهم آيةً بعد آيةٍ، والّذي من شأنه بثّ الوعي والإدراك وتفجير الطاقات الخيّرة الكامنة داخل النفس البشريّة، ومن أهمها استثارة العقل في البحث عن الطريق؛ لأنّ الآيات تبيّن معالم الطريق وهي أساس الهدى، ومن هذا نستفيد ونهتدي إلى أنّ أوّل ما يجب على الواعين والجمعيّات الإسلاميّة القيام به هو بثّ الثقافة الصحيحة بين الناس لكي يقتنعوا بالإصلاح ويتحسّسوا ضرورته، ويتحصّنوا بها من الدعايات المغرضة، والانسياق وراء كلّ قَوّالٍ لا يعرف غير صناعة الكلمة الكاذبة والقول الباطل كما هو ديدن الطغاة والحكّام الظلمة، حيث يستخدمون الكلام الباطل لتبرير ظلمهم للناس، ومحاربتهم لدعاة الإصلاح.

المعنى الجليّ للهدف الثاني:

إنّ المراد من الهدف الثاني ـ أي قوله تعالى: {وَيُزَكِّيهِمْ} هو تطهير المجتمع من عُقَد النفس وأغلالها الّتي تمنع انطلاقهم نحو الهدى، ولا يمكن لأمّةٍ مثقلةٍ بعُقَد الأحقاد والأضغان، والأغلال والحسد والاستئثار، وأُصر الخوف والتهيّب والانطواء، لا يمكن لمثل هذه الأمّة أن تنهض بمسؤوليّة الإصلاح والتقدّم، أو أن تكون أهلاً لوحي الله وهداه؛ لذلك عمد الرسول(ص) ـ وهو ينشد النهضة بذلك المجتمع ـ إلى تطهيره من أدران الشرك والتخلّف والجاهليّة.

المراد من الهدف الثالث للبعثة المباركة:

طبعاً إنّ المراد من الهدف الثالث لبعثة النبيّ محمّدٍ(ص) هو تعليم الكتاب والحكمة للمجتمع بعد ما تفاعل مع الآيات، واهتدى بها إلى غاياتها، وتزكّى بها، وبتوجيهاتٍ من النبيّ(ص) فقد كان الرسول(ص) أوّل مفسّرٍ ومؤوّلٍ لمعانيه، من هنا تصبح لدى الإنسان القابليّة العقليّة والنفسيّة لتلقّي تعاليم الرسالة والتفاعل معها، ولعلّه ـ كما يقول المفسرون ـ لذلك تقدّمت تلاوة الآيات والتزكية على التعليم، وما أحوجنا ـ وبالذات مجاميعنا العلميّةـ أن نتعلّم ونعلم كتاب الله الّذي يرشدنا للهدى والفلاح، إنّ الرسول(ص) طهّر النفوس والعقول من الأغلال والعُقَد، ثمّ قام بتعليم الأُمّة معاني الكتاب بعد تلاوته عليهم، ويستخرج لهم منها مناهج الحياة، سواء كانت في الأمور السياسيّة أو الاقتصاديّة أو الاجتماعيّة أو العسكريّة، حتّى أصبح القرآن بديلاً حضاريّاً شاملاً عن المناهج الجاهليّة الضالّة، وقد عبّرت عن هذا التحول التأريخي السيّدة فاطمة بنت محمّدٍ(ع) بقولها عن أبيها: «ابتعثه الله إتماماً لأمره، وعزيمةً على إمضاء حكمه، وإنفاذاً لمقادير حكمته، فرأى الأُمم فرقاً في أديانها، كفّاً على نيرانها، عابدةً لأوثانها، منكرةً لله مع عرفانها، فأنار الله بأبي محمّدٍ(ص) ظلمها، وكشف عن القلوب بهمها، وجلّى الأبصار غممها، وقام في الناس بالهداية، فأنقذهم من الغواية، وبصّرهم من العماية، وهداهم إلى الدين القويم، ودعاهم إلى الصراط المستقيم»(9).

وقالت(ع): «وكنتم على شفا حفرةٍ من النار، مذقة الشارب، ونهزة الطامع، وقبسة العجلان، وموطئ الأقدام، تشربون الطَّرَق، وتقتاتون القدّ، أذلّةً خاسئين، تخافون أن يتخطّفكم الناس من حولكم»(10).

المراد من (الأمّيّين)  في الآية الشريفة:

قال كثيرٌ من المفسّرين: إنّ «الأمّيّين» جمع أُمّيٍّ، وهو الّذي لا يعرف القراءة والكتابة، ونسبته إلى الأُمّ باعتبار أنّه لم يتلقّ تعليماً في معهدٍ أو مدرسةٍ غير مدرسة الأُم، والأظهر أنّ المراد من «الأُمّيّين» هم الجهلة، إلا أنّه ينبغي القول بأنّ الأمّيّ والجاهليّ ليس الّذي لا يقرأ ولا يكتب؛ فإنّ ذلك هو المعنى الحرفيّ الظاهر للكلمة، فقد يُنْسَبُ العالم الّذي يقرأ ويكتب إلى الجاهليّة والأمّيّة؛ لأنّه لا يتفاعل مع معارفه، قال الإمام الصادق(ع): «كانوا يكتبون ولكن لم يكن معهم كتابٌ من عند الله، ولا بُعِثَ إليهم رسولٌ، فنسبهم الله إلى الأُمّيّين»(11).

وعدم القراءة والكتابة مظهرٌ واحدٌ من مظاهر التخلّف والجهل، وللجاهليّة مظاهر شتّى تصدق جميعاً على كلمة الأُمّيّ، وهذا ما تؤكّد عليه الآية الشريفة، على أنّ نبيّ الإسلام بُعِثَ من بين هؤلاء الأُمّيّين الّذين لم يتلقّوا ثقافةً وتعليماً؛ وذلك لبيان عظمة الرسالة وذكر الدليل على حقّانيّتها؛ لأنّ من المحال أن يكون هذا القرآن العظيم ـ وبذلك المحتوى العميق ـ وليد فكرٍ بشريٍّ، وفي ذلك المحيط الجاهلي، ومن شخصٍ أُمّيٍّ أيضاً، بل هو نورٌ أشرق في الظلمات، ودوحةٌ خضراء في قلب الصحراء، وهي بحدّ ذاتها معجزةٌ باهرةٌ وسندٌ قاطعٌ على حقّانيّته(12).

هناك شبهةٌ حاول البعض أن يدسّها عند قول الله عن الرسول(ص): {مِنْهُمْ}؛ إذ نسبوا إلى النبيّ الأكرم(ص) الأمّيّة والجهل!! فما هو الجواب على هذه الشبهة؟

سعى أئمّة الهدى(ع) لدفع هذه الشبهة بصورةٍ منطقيّةٍ، فقد قيل للإمام الباقر(ع) إنّ الناس يزعمون أنّ الرسول لم يكتب ولم يقرأ، فقال(ع): «كذبوا لعنهم الله، أنّى يكون ذلك وقد قال(عزّ وجل): {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}، فيكون يعلّمهم الكتاب والحكمة وليس يحسن أن يقرأ أو يكتب؟!

فسُئِلَ: فلِمَ سمّي النبيّ الأُمّيّ؟

قال(ع): «نُسِبَ إلى مكّة، وذلك قوله (عزّ وجل): {وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} فأمّ القرى مكّة، فقيل أُمّيٌّ»(13).

وقد جاء في حديثٍ مأثورٍ عن الإمام الصادق(ع): أن تسمية العرب بالأُمّيّين كان بسبب حرمانهم عن كتابٍ إلهيٍّ، وعلى هذا فإنَّ نسبة الرسول إلى ذلك كان بسبب انتمائه إلى أولئك القوم جغرافيّاً ونسبيّاً، وليس لأنّه شخصيّاً لم ينزل عليه الكتاب، فقد نزل عليه أحسن الكتب فكيف يكون أُمّيّاً بهذا المفهوم؟! طبعاً هذا التفسير ـ الّذي يذهب إلى أنّ المراد من «الأُمّيّين» هم الّذين ينتسبون إلى أهل مكّة أمّ القرىـ نستفيد منه أنّ ذلك تجلٍّ لحكمة الله؛ حيث يبعث رسله في مركز البلاد وأكبر مدنها وأهمها، وحيث بؤرة الفساد والضلال، فإِنّ ذلك أكبر أثراً في التغيير.

الحكمة في القرآن الكريم:

في الحقيقة ذُكِرَ لكلمة الحكمة معانٍ وتفاسير كثيرةٌ منها:

ـ المعرفة والعلم بأسرار العالم.

ـ ومنها: العلم بحقائق القرآن.

ـ والوصول إلى الحقّ بالقول والعمل.

ـ ومعرفة الله تعالى.

ـ وأنهّا النور الإلهيّ الّذي يميّز بين وساوس الشيطان وإلهامات الرحمن.

والظاهر هو أنّ الحكمة تأتي بالمعنى الواسع حيث تشمل جميع هذه الأُمور بما فيها النبوّة الّتي هي نوعٌ من العلم والاطّلاع والإدراك، فهي في الأصل أُخِذَتْ من مادّة (حَكْم) ـ على وزن حَرْف ـ بمعنى المنع، وبما أنّ العلم والمعرفة والتدبير تمنع الإنسان من ارتكاب الأعمال الممنوعة والمحرّمة، فلذا يُقال عنها إنهّا حكمةٌ(14).

وجاء في تفسير الحكمة في ميزان الحكمة ـ أنقلها بتصرّفٍ ـ :

أوّلاً: أنّ المراد من الحكمة الواردة في الآية الكريمة هي المعرفة، كما جاء عن الإمام الباقر(ع)(15).

ثانياً: أنّ المراد منها: هي طاعة الله ومعرفة الإمام(ع)(16).

ثالثاً: وأحسن كلمة حكم جامعة أن تحبّ للناس ما تحبّ لنفسك، وتكره لهم ما تكره لها(17).

وغيرها من الأحاديث والروايات والحِكم الّتي تحثّ المؤمنين على الاتّصاف بالحكمة؛ لهذا أراد النبيّ محمّدٌ(ص) من تعليمه للحكمة بعد الآيات القرآنيّة ليحسنوا فهمه وتطبيقه على الواقع حسب اختلاف الظروف وتقدّم الحياة وتطوّرها، فبالحكمة تستنبط الحلول لمشاكل الحياة ومفرداتها.

توضيحٌ آخر للمراد من الحكمة من خلال التفاسير القرآنيّة:

يقولون: يبدو أنّ الحكمة الإلهيّة تُسْتَوْحى من الآيات المحكمة الّتي يردّ إليها كلّ آيات القرآن وكلّ الحوادث الواقعة في الحياة؛ ذلك لأنّ محكمات القرآن هي الّتي تذكّر الإِنسان بالقيم الفطريّة المتمركزة في ضميره، وتثير دفائن عقله بالحقائق الكبرى الّتي يعرفها بذاته بعد التبصير بها.

وبكلمةٍ: المحكمات القرآنيّة هي مرتكزات العقل الإِنسانيّ، كالتوحيد والعدل والحرّيّة والمسؤوليّة وما أشبه، وهي الّتي تعتبر مصدراً للتشريع الإِلهيّ، كما يزعم الحكّام الظلمة والمشرّعون الوضعيّون ـ كما في دساتيرهم ـ أنهّم يعتمدونها في تشريعاتهم، وحينما بلغ الإِنسان درجةً متقدّمةً من الوعي بهذه المرتكزات، ويعقلها عقل درايةٍ، ويتعمّق في معرفتها، هنالك يصبح فقيهاً قد أُوتي الحكمة، وحينئذٍ يستطيع أن يستنبط سائر أحكام الشريعة منها، كما يتمكّن من اعتمادها في مواقفه السياسية والاجتماعية المتغيّرة، وأعرف الناس بالحكمة، وأقدرهم على استنباط الأحكام الفرعيّة منها، وأوعاهم لبصائرها، هو الجدير بحكم الأُمّة؛ لأنّه أقرب إلى القرآن من غيره؛ ولأنّ القرآن هو الحاكم الأوّل في الأُمّة الإسلاميّة، وإنمّا يمثّله أوعى الناس له وأقرب الناس إليه.

لذلك فإِنّ الحكمة هنا تعني الولاية الإلهيّة والقيادة الشرعيّة؛ لأنهّا وعاء الحكمة والمعارف الربّانيّة، ومرتكز البصائر القرآنيّة، من هنا جاءت النصوص المأثورة عن أئمّة أهل البيت(ع) تفسّر من جهةٍ الحكمةَ بالولاية كما تقدم، وتبيّن من جهةٍ أخرى أنّ الحكمة هي التفقّه في الدين، قال الإمام الصادق(ع): «إنّ الحكمة المعرفة والتفقه في الدين، فمن فقه منكم فهو حكيم»(18).

وهكذا تتواصل تفسيراتهم للحكمة لتوضح أنهّا بلوغ مستوىً من علم الدين يمكّن الإنسان من معرفة متغيّرات الشرائع، وهو الفقه، نعم، لا يمكن فقه الإسلام بعمقٍ من دون فقه الزمن؛ لأنّ حكم الله يختلف من حادثةٍ لأُخرى وواقعةٍ وثانيةٍ، وإنمّا أصبح الفقهاء مرجعاً لأحكام الدين لأنهّم يعرفون الدين، ويعرفون شروط الزمن ومتغيرات الحوادث، فيستنبطون أحكامها منه؛ ولذلك جاء في مقدّمة الرسائل العمليّة للمراجع هذا الحديث الشريف: «وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا».

وهكذا كانت الحكمة هي العقل المزكّى بالدين، وهي لا تتأتّى عادةً إلا بعد الإلمام بسائر أحكام الشريعة وقيم الوحي، ولأنّ القرآن آخر رسالةٍ بعثها الربُّ إلى عباده، وهي تستمرّ حتّى قيام الساعة برغم تطوّر الظروف، فإنّ البشريّة احتاجت إلى الحكمة المرتكزة في أئمّة الدين لملاحقة المتغيّرات، وهكذا دعا إبراهيم(ع) ربّه أن يبعث في العرب من يعلّمهم الحكمة والكتاب، فقال هو وابنه إسماعيل(ص): {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ}.

واستجاب الله لإبراهيم وبعث النبيّ محمّداً(ص) إلى أُولئكَ الأُمّيّين فجعلهم الله به في مستوىً رفيعٍ، حتّى قال في بعضهم الرسول(ص): «علماء حكماء، كادوا أن يكونوا من الفقه أنبياء»(19).

أذكر قولاً لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(ع) بالنسبة لفلسفة بعثة الأنبياء(ع): «فَبَعثَ فِيهمْ رُسُلَهُ، وَوَاَترَ إِلَيْهِمْ أَنْبِياءَهُ، لِيَسْتَأْدوهُمْ مِيثَاقَ فِطرَتِه، وَيُذَكِّروُهُمْ مَنْسيَّ نِعْمَتِهِ، وَيَحْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بالتَّبْلِيغِ، وَيُثِيرُوا لَهُمْ دَفَائنَ العُقَُول»(20).

أوّلاً: توضيح وتفسير كلمتين من الخطبة الشريفة:

أ) معنى واتر من مادة «وتر»، بمعنى الفرد في مقابل الشفع بمعنى الزوج، وجاءت هنا بمعنى الواحد، أي أنّ الأنبياء قد أتوا الواحد تلو الآخر من أجل هداية الناس.

وقال البعض معناها الموالاة مع الفاصلة، كأن يُقال: واتر ما عليه من الصوم، أي صام يوماً وأفطر آخر، في مقابل متدارك الّذي يعني الموالاة دون تخلّل الفاصلة.

ب) المراد مِنْ ليستأدوهم أي: ليطلبوا الأداء.

وإجابةً على السؤال نقول: لقد أشار أمير المؤمنين(ع) في خطبته الشريفة إلى أربعة أهدافٍ رئيسيّةٍ تقف وراء فلسفة بعثة الأنبياء، وهذا ثانياً من الجواب.

الهدف الأوّل: طلب أداء ميثاق الفطرة.

الهدف الثاني: تذكير الناس بنعم الله.

الهدف الثالث: إتمام الحجة على الناس من خلال الأدلّة العقليّة والفطريّة.

الهدف الرابع: إثارة دفائن العقول.

المراد من طلب أداء ميثاق الفطرة:

في الحقيقة حينما خلق الله الإنسان خلقه وأودع المعارف التوحيديّة في فطرته ـ ما لم تدنّس وتلوّث وتتعرّف على الانحراف، ودون نشأة صحابها وولادته على الشرك بفعل انحداره من والدين مشركين ـ إلى عبادة الواحد الأحد، وسوف يتطلّع إلى الصالحات فيتطلّع إلى الخير وينبذ الشر ويعشق الحق والعدل في ظلّ هذه الفطرة السليمة الموحّدة، ولو بقيت هذه الفطرة السليمة على حالها لحفّت العنايات الإلهيّة الإنسانيّة جمعاء ولهدتها إلى السموّ والكمال، ولسهّل لهم الأنبياء السبل إلى ذلك الكمال، ولقلّ حجم المسؤوليّة الّتي نهض بعبئها هؤلاء العظام، غير أنّ الانحراف عن الفطرة ـ سواء على مستوى المعارف التوحيديّة لينتهي بالنزوع نحو الشرك والوثنيّة أو على المستوى العمليّ ليقود الاستسلام إلى الأهواء والشياطين ـ قد أدّى إلى بعث الله للأنبياء وتحملهم لتلك المسؤوليّات الخطيرة بغية إعادة البشريّة إلى فطرتها الأصليّة، وبقولٍ أجلى: جاء الأنبياء(ع) ليعيدوا الأفراد المنحرفين إلى هذه الفطرة التوحيديّة المودعة لديهم(21).

فلسفة البعثة:

إنّ المراد من فلسفة البعثة هو تذكير الناس بنعم الله تعالى، تذكير الناس بنعم الله الّتي اعترتها الغفلة والنسيان، فالإنسان ينطوي على نعمٍ مادّيةٍ ومعنويّةٍ جمّةٍ، ولو استغلّها كما ينبغي فإنّه سيشيّد صروح سعادته وفلاحه، في حين سيفقد مثل هذه السعادة إذا ما نساها وتجاهل استعمالها واستغلالها، ومثله كمثل الفلاّح الّذي لا يستفيد من المياه لسقي أشجار حديقته ولا يقطف ثمار أشجاره عند الحصاد، فإذا ما جاء أحدهم وذكّره بهذه النعم المنسيّة فإنّه يكون قد أسدى له أعظم خدمةٍ، وهذا ما ينهض به الأنبياء(22).

فلسفة إتمام الحجّة على الناس من خلال الأدلّة العقليّة والفطريّة:

طبعاً المراد من ذلك هو: إتمام الحجّة على الناس من خلال الأدلّة العقليّة ـ إلى جانب المسائل الفطريّةـ وإرشادهم إلى الكمال في ظلّ التعاليم السماويّة والأوامر والأحكام الشرعية(23)، ولتوضيح هذا التعريف نحتاج إلى تفكيكه لاستخراج بعض المصطلحات لنبيّنها، ومن ثمَّ نصل للمراد وذلك من خلال طرح النكات التالية:

المراد من مصطلح الحجّة هنا:

يتّضح معناه ـ لقارئي الكريم ـ من خلال ما يلي:

أوّلاً: قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}(24)، إنّ التأريخ يحدّثنا بأنّ العذاب لم ينزل على أمّةٍ ما إلا من بعد أن يرسل الله إليهم هادياً ينذرهم، ويبلّغهم ببيان التكليف وإلقاء الحجّة، طبعاً يوجد في أبحاث الحوزة العلميّة بحثٌ باسم بحث البراءة ـ الّتي تعتبر قاعدةً أصوليّةًـ استدلّوا بقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} على أنّ فهم الآية يُوَضِّح أنَّ المسائل الّتي لا يمكن للعقل إِدراكها أو القطع بها، ولا يُعاقب عليها الإنسان حتى يبعث الله الرسل والأنبياء ليبيّنوا الأحكام والتكاليف والوظائف، وهذا بحدّ ذاته دليلٌ على عدم العقاب في الأُمور الّتي لم تُقَم الحجّة عليها، وقاعدة «أصل البراءة» لا تعني شيئاً غير هذا، أي لا عقاب بدون حجّةٍ من العقل أو النقل.

كلمة «الرسول» الواردة في الآية الكريمة تعتبر عامّةً؛ حيث تشمل كلّ من حمل رسالة التوحيد بصورةٍ مباشرةٍ كرسول الله(ص) أو غير مباشرةٍ مثل الأئمّة المعصومين(ع) أو الفقهاء المجتهدين، قال الإمام المهديّ(عج): «أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رُواة حديثنا، فإنهّم حجّتي عليكم، وأنا حجّة الله»(25).

ثانياً: قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}(26)، تشير هذه الآية الشريفة إلى بُعدٍ خاصٍّ، وهو أنّ دعوة الأنبياء وكتبهم السماوية نزلت من أجل إتمام الحجّة بلسان أوّل قومٍ بُعثوا إليهم، وكون الله(عزّ وجل) عزيزاً فإنّه حميدٌ أيضاً، لا يعذّب الناس إلاّ بعد أن يتمّ حجّته عليهم، ولكن كيف؟! قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ}؛ لأنّ الأنبياء يرتبطون في الدرجة الأُولى مع قومهم، وأوّل نور الوحي يشعّ من بينهم، وأوّل الصحابة والأنصار يُنتخبون منهم؛ لذلك فإنّ الرسول يحبّ أن يحدّثهم بلغتهم وبلسانهم {لِيُبَيِّنَ لَهُمْ}، أي: بكلّ وضوحٍ وبعباراتٍ مفهومةٍ وأمثلةٍ وقصصٍ، وفي الحقيقة فإنّ هذه الجملة تشير إلى أنّ دعوة الأنبياء لا تنعكس في قلوب أتباعهم بأسلوبٍ مرموزٍ وغير معروفٍ، بل كانت توضّح لهم من خلال التبيين والتعليم والتربية وبلسانهم الرائج.

ثمّ يضيف القرآن الكريم بعد أن بيّن لهم الدعوة الإلهيّة: {فَيُضِلُّ اللهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء}(27).

الموجّه والهادي الحقيقي لعباده:

طبعاً ليست الهداية والضلال من عمل الأنبياء، بل عملهم الإبلاغ والتبيين، الله هو الموجّه والهادي الحقيقيّ لعباده ولا يضلّ أحداً أو يهديه إلاّ بحكمته البالغة، ولكي لا يتصوّر أحدٌ أنّ هذا القول بمعنى الجبر وسلب الحرّيّات، يضيف القرآن مباشرةً {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}، وبمقتضى عزّته وقدرته فإنّه قادرٌ على كلّ شي‏ءٍ، ولا أحد له قدرةٌ على المقاومة في مقابل إرادته تعالى، ولكن بمقتضى حكمته لا يهدي ولا يضلّ أحداً بدون سببٍ ودليلٍ، بل الخطوة الأُولى تبدأ من قِبَلِ العباد وبكامل الحرّيّة في السير إلى الله، ثمّ يشعّ نور الهداية وفيض الحقّ في قلوبهم، كما في سورة العنكبوت في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}(28).

فيُستفاد من هذه الآية المباركة أنّ شرط الهداية هو الجهاد؛ لأنّ الجهاد يبعد الإنسان عن حبّ الذّات والأنانيّات المقيتة، وعندما يكون الإنسان مجاهداً فإنّ أبواب العلم والمعرفة ستكون مشرعةً أمامه، وما عليه سوى الجدّ والاجتهاد.

وكذلك حال الّذين تاهوا في وادي الضلالة وحُرِموا من فيض الهداية، فهو نتيجةٌ لتعصّبهم الأعمى ومحاربتهم للحقّ، وغرقهم في الشهوات، وتلوّثهم بالظلم والجور، كما يقول الله تعالى: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ}(29).

حيث تكشف هذه الآية عن سبب موقفهم المنحرف من الحقّ، وهو إسرافهم من الناحية العمليّة، فلا يقنعون بما عندهم من الخير والنعمة، وارتيابهم من الناحية النظريّة والنفسيّة، فلا يسلّمون للحقّ والبيّنات، وإذا أمعنّا النظر لوجدنا كلتا الصفتين تنتهيان إلى صفةٍ واحدةٍ، وهي عدم التسليم للحقّ، وعدم الاكتفاء بما أعطاهم الله، وطلب المزيد، المزيد من النعم إلى حدّ الإسراف، والمزيد من الأدلّة إلى حدّ الجدل في الآيات الواضحات.

بناءً على ذلك كلّه لم تشملكم الهداية الإلهيّة بسبب أعمالكم ومواقفكم.

الآية الثالثة ومصطلح الحجّة هنا:

هذه الآية الشريفة تشير إلى حقيقة إتمام الحجّة، وهي واحدةٌ من نماذج إرسال الأنبياء في مقابل طواغيت عصرهم؛ ليخرجوهم من الظلمات إلى النور، فعندما أرسل الله(عزّ وجل) موسى(ع) بآياته الّتي تستجلي الفطرة، وتبهر العقل، بعصاته ويده البيضاء، وأمره الله بأن يذكرهم بأيّام الله حين ينتصر المظلوم على الظالم في الدنيا والآخرة، لعلّه يخرجهم بهذه التذكرة من ظلمات الإرهاب والعذاب وعبادة الطاغوت إلى نور الحريّة والرفاه وعبادة الرحمن، {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}(30).

وبالرجوع إلى الآية الأُولى من هذه السورة المباركة نرى أنّ خلاصة دعوة رسول الإسلام النبيّ محمّدٍ(ص) هي إخراج الناس من الظلمات إلى النور، وهذه دعوة كلّ الأنبياء، بل جميع القادة الروحيّين للبشر، كما جمعت في هذه الجملة ـ الخروج من الظلمات إلى النورـ، أي الخروج من ظلمات الجهل إلى المعرفة، ومن ظلام الكفر إلى نور الإيمان، ومن ظلم الظالمين إلى نور العدالة، ومن الفساد إلى الصلاح، ومن الذنوب إلى الطهارة والتقوى، ومن التفرقة والنفاق إلى نور الوحدة.

ومن الطريف أنّ «الظلمات» هنا ـ كما في بعض السور الأُخرىـ جاءت بصيغة الجمع، و«النور» بصيغة المفرد، وهذه إشارةٌ إلى أنّ كلّ الحسنات والطيّبات والإيمان والتقوى لها حالةٌ واحدةٌ في ظلّ التوحيد ونوره، فهي مترابطةٌ ومتّحدةٌ فيما بينها، فتصنع مجتمعاً واحداً متّحداً وطاهراً من كلّ جهةٍ، بينما الظلمات تعني التشتّت وتفرقة الصفوف، وحتّى الطواغيت والمذنبين والمفسدين والمنحرفين في مسيرتهم الانحرافية نراهم غير متوحّدين غالباً، وفي حالة حربٍ فيما بينهم.

وهنا توجد نقطتان وملاحظةٌ:

إنّ التعبير في الآية المباركة {أَنْ أَخْرِجْ} يشير إلى نقطتين:

الأُولى: بما أنّ القرآن الكريم كتاب هدايةٍ ونجاةٍ للبشر، لكنّه بحاجةٍ إلى من يطبّقه ويجريه، فيجب أن يكون هناك قائدٌ كالرسول لكي يستطيع أن يخرج الضالّين عن الحقيقة من ظلمات الشقاء وهدايتهم إلى نور السعادة؛ ولهذا فالقرآن الكريم بعظمته لا يمكن له أن يحلّ جميع المشاكل بدون وجود القائد والمنفّذ لهذه الأحكام.

الثانية: إنّ صيغة الإخراج ـ في الواقع ـ دليلٌ على التحرّك المشفوع بالتغيّر والتحوّل، وكأنّ غير المؤمنين موجودون في محيطٍ مُغْلَقٍ ومظلمٍ، والرسول ـ أو القائدـ يأخذ بأيديهم ويدخلهم إلى جوٍّ واسعٍ ومنيرٍ.

أما الملاحظة فهي:

إنّه لمن الملفت للنظر أنّ بداية هذه السورة شرعت بمسألة هداية الناس من الظلمات إلى النور، ونهايتها خُتِمَت بمسألة إبلاغ وإنذار الناس، وهذه توضّح أنّ الهدف الأصليّ في كلّ الأحوال هو الناس ومصيرهم وهدايتهم، فإنزال الكتب السماويّة وبعْث الأنبياء في الواقع هو الوصول إلى هذا الهدف(31).

إهلاك الله للأقوام:

طبعاً ـ كما يعلم قارئي الكريم ـ إنّ الله لا يسلب حضارة قومٍ أو يهلكهم هلاكاً مادّيّاً، إلاّ بعد تحقّق أمرين:

الأمر الأوّل: إقامة الحجّة:

{وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا}(32)، وقال تعالى في آيةٍ أخرى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}(33).

إنّ التأريخ يحدّثنا بأنّ العذاب لم ينزل على أمّةٍ ما إلا من بعد أن يرسل الله إليهم هادياً ينذرهم، ويبلّغهم رسالات ربهم، وكما تقدّم إنّ المراد من كلمة الرسول هنا هو العموم؛ حيث تشمل كلّ من حمل رسالة التوحيد بصورةٍ مباشرةٍ كرسول الله(ص) أو غير مباشرةٍ مثل الأئمّة(ع)، أو الفقهاء المجتهدين(دام ظله)، أو المؤمنين الواعين المخلصين.

الأمر الثاني: ممارسة الظلم:

فبالإضافة إلى أنّ سنن الله تقتضي زواله، ودمار مرتكبيه، فالطاغوت الّذي يظلم الآخرين ويسلب حقوقهم لا يسلم من ردّة الفعل إن لم ينزل عليه عذابٌ مباشرٌ من الله كالمرض وأمثاله، قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ}، أجل، لا يعذّب الله قوماً حتّى يتمّ عليهم حجّته ويرسل إليهم رسله، وحتّى بعد إتمام الحجّة، فما لم يصدر ظلمٌ يستوجب العذاب فإنّ الله سبحانه لا يعذّبهم، وهو يراقب أعمالهم.

والتعبير بـ{مَا كُنَّا} أو {وَمَا كَانَ رَبُّكَ} دليلٌ على أنّ سنّة الله الدائمة والأبديّة الّتي كانت ولا زالت، هي أن لا يعذّب أحداً إلا بعد إتمام الحجّة الكافية(34).

وهل يلزم من قوله تعالى: {حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً} ـ كما ذكرنا فيما سبق ـ إرسال الرسل إلى جميع المدن؟

الحقيقة تفيد أنّ التعبير هنا بـ{حَتَّى يَبْعَثَ فيْ أُمِّهَا رَسُولاً} إشارةٌ إلى عدم لزوم إرسال الرسل إلى جميع المدن والأماكن، بل يكفي أن يبعث في مركزٍ من مراكزها الّتي تنشر العلوم والأخبار رسولاً يبلّغهم رسالاته؛ لأنّ أهل تلك المناطق في ذهابٍ وإيابٍ مستمرٍّ إلى المركز الرئيسيّ لحاجتهم الماسّة، وما أسرع أن ينتشر الخبر الّذي يقع في المركز إلى بقيّة الأنحاء القريبة والبعيدة، كما انتشرت أصداء بعثة النبيّ محمّدٍ(ص) الّتي كانت في أمّ القرى «مكّة» لمناسبتها مع هدف إقامة الحجّة، وكانت مركزاً روحانيّاً في الحجاز، كما كانت مركزاً تجاريّاً أيضاً، فانتشرت أخبار النبيّ(ص) ووصلت جميع المراكز المهمّة في ذلك الحين، وفي فترةٍ قصيرةٍ جداً، فهي المكان الأنسب حين تصل أصداء الرسالة منها إلى أوسع رقعةٍ من الأرض(35).

فعلى هذا تبيّن الآية حكماً كلّيّاً وعامّاً، وما يدّعيه بعض المفسرين من أنهّا إشارةٌ إلى «مكّة» لا دليل عليه، والتعبير بـ{فيْ أُمِّهَا} هو تعبيرٌ عامٌّ كلّيٌّ أيضاً؛ لأنّ كلمة «أم» تعني المركز الأصليّ، ولا يختصّ هذا بمكّة فحسب(36).

من هنا تأتي النكتة التالية: هل تخلو الأرض من حجّةٍ؟!

لقد أكّد الإمام أمير المؤمنين(ع) على حقيقةٍ أُخرى، وهي عدم خلوّ الأرض من الحجّة الإلهيّة الظاهريّة أو الباطنيّة، «وَلَمْ يُخلِ الله سُبْحانَهُ خَلقَهُ مِنْ نَبِيٍّ مُرْسَل‏ٍ، أَوْ كِتابٍ مُنزَلٍ، أو حُجَّةٍ لازِمَةٍ، أَوْ مَحَجَّةٍ قائِمَةٍ»، والطريف في كلام الإمام(ع) أنّه قَرَنَ الكتب السماويّة بالأنبياء والحجج الإلهيّة والسيرة المعتبرة، نعم، وراء كلّ كتابٍ سماويٍّ نبيٌّ من أنبياء الله يكشف أسراره، ويوضّح معالمه، ويبيّن أحكامه إلى جانب إجرائه وتنفيذ مفاهيمه، كما يواصل نهجه بواسطة سنّته واستخلافه للوصي والإمام من بعده ليحفظ رسالته ويواصل نهجه، وهذه من أهمّ عقائدنا في هذا المجال، حيث ورد عن إمامنا الصادق(ع) أنّه قال: «لو لم يبقَ في الأرض إلاّ اثنان لكان أحدهما حجّة»(37)، هذا الأمر الّذي أكّده أمير المؤمنين(ع) في قصار كلماته، «اللهم بلى، لا تخلو الأرض من قائمٍ لله بحجّةٍ، إمّا ظاهراً مشهوراً، وإمّا خائفاً مغموراً، لئلاّ تبطل حجج الله وبيّناته»(38).

دور الدين في الحياة بوجود الأنبياء(ع):

الحقيقة كلّ الحقيقة إنّه لو لا وجود الأنبياء لتاهت البشريّة في غياهب الشرك والوثنيّة وعبادة الأصنام، ولاستحوذتْ عليها الشياطين وحالتْ دون عبوديّتها ومعرفتها بالله؛ وذلك لأنّ العقل بمفرده لا يسعه الأخذ بيد الإنسان إلى السعادة بعد تجاوز موانع الطريق ومعوّقاته، صحيحٌ أنّ العقل نورٌ خالدٌ، إلاّ أنّ شعاعه باهتٌ خافتٌ ما لم يستند إلى ضياء الوحي الّذي يخترق المكان ولا يقف عند حدودٍ فيهديه في اجتياز ظلمات الطريق، ومن هنا تتّضح جسامة الخطأ الّذي أصاب البراهمة الّذين تنكّروا لبعثة الأنبياء وإرسال الرسل، ولو كان العقل يدرك كافّة أسرار الإنسان الباطنيّة والظاهريّة، ويحيط بالعلاقة الّتي تحكم الماضي والحاضر والمستقبل، ولا يخطئ في تشخيصه للأحداث، لأمكن القول بالاكتفاء بإدراكه وفهمه لكافّة وقائع الحياة في هذا العالم والعالم الآخر، غير أنّ محدوديّة هذا الفهم والإدراك وضالّة المعاليم مقارنةً بالمجاهيل ـ وهي المعاليم الّتي تتّسم بالسعة والشموليّةـ لا تجعل من الصواب الاستناد إليها بمفردها.

طبعاً لا ننكر أنّ العقل هو حجّة الله الّتي أكدها الإمام(ع) في هذه الخطبة، حيث قال(ع): «وَيُثِيُروا إليهمْ دَفائِنَ العُقُولِ»، أي: ليكشفوا للناس كنوز العلوم والمعارف الكامنة في عقولهم، فقد أودع الله هذه العقول كنوزاً عظيمةً قيّمةً لو ظهرت واسْتُغِلَّتْ لشهدت العلوم والمعارف نهضةً عظيمةً وجبّارةً، غير أنّ هذه الكنوز اختفت واستترت إثر هذه الغفلة والتعاليم الفاسدة والذنوب والمعاصي والتلوّث الأخلاقيّ، ومن هنا فإنّ إحدى وظائف الأنبياء تكمن في إزالة هذه الحجب وإثارة تلك الكنوز المفعمة بالعلوم والمعارف؛ لهذا تواترت الروايات الشريفة الّتي صرّحت بأنّ العقل هو رسولٌ باطنيٌّ، حيث ورد في الحديث المرويّ عن الإمام الكاظم(ع) أنّه قال: «إنّ لله على الناس حجّتين: حجّةٌ ظاهرةٌ، وحجّةٌ باطنةٌ، فأمّا الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمّة، وأمّا الباطنة فالعقول»(39)، مع ذلك فرسالة هذا الرسول الباطن محدودةٌ، بينما ليست كذلك رسالة الرسول الظاهر الّذي يستند إلى الوحي والعلم الإلهيّ المطلق، وبناءً على ما تقدّم فقد اتّضح الردّ على البراهمة للسوفسطائيّين الّذين يقولون ما يأتي به الأنبياء لا يخرج عن حالتين، إمّا أن تدرك العقول ما يقولونه أو لا يدرك، فإن أدركه العقل فلا حاجة للأنبياء، وإن لم يدركه فهو ليس بمعقولٍ، ولا يمكن قبوله لأنّ الإنسان لا يقبل قطّ ما لا يُعْقَلُ.

والإشكال الّذي يرد على هذا الاستدلال هو أنّ هؤلاء لم يفرّقوا بين اللاّمعقول والمجهول، وكأنهّم تصوّروا أنّ العقل يدرك جميع الأشياء، والحال أن لدينا تصنيفاً ثلاثيّاً بشأن المواضيع المطروحة، فالمواضيع الّتي تعرض علينا إمّا أن تكون موافقةً لحكم العقل أو مخالفةً له أو مجهولةً، ولا يسعنا هنا إلاّ أن نقول بكل تأكيد أنّ أغلب الموضوعات من قبيل القسم الثالث، أي هي من قبيل المجاهيل الّتي كرّست رسالة الأنبياء وظيفتها في هذا المجال، أضف إلى ذلك فغالبنا ما يعترينا هاجس الخطأ والزلل في إدراكاتنا العقليّة، ومن هنا برزتْ حاجتنا الملحّة للأنبياء، وبعبارةٍ أُخرى: إلى تأييد العقل بالنقل الّذي يسعه منحنا السكينة والاطمئنان في إدراكاتنا العقليّة، ويزيل الوساوس والهواجس، ويأخذ بأيدينا إلى السبيل القويم(40).

إلهي نوّر قلوبنا دائماً بنور القرآن وسنّة النبيّ(ص) وأبنائه المعصومين(ع)، والحمد لله ربّ العالمين.

 

* الهوامش:

(1) سلسة دروس في العقائد الإسلامية، ص 125، بتصرّفٍ.

(2) سورة الشورى، الآية: 52.

(3) سورة الأنعام، الآية: 90.

(4) بتصرّفٍ من قبسات من سيرة القادة الهداة، ج 1، ص 18.

(5) سورة الانشقاق، الآية: 6.

(6) سورة طه، الآية: 50.

(7) سورة الجمعة، الآية: 2.

(8) تفسير الأمثل، ج 2، ص 511، بتصرّفٍ.

(9) الاحتجاج، ج 1، ص 99.

(10) نفس المصدر، ص 100.

(11) نور الثقلين، ج 5، ص 322.

(12) بتصرّفٍ من تفسير الأمثل، ج 18، ص 233.

(13) نور الثقلين، ج 5، ص 322.

(14) تفسير الأمثل، ج 2، ص 216، بتصرّفٍ.

(15) ميزان الحكمة، رقم الحديث 4222.

(16) نفس المصدر، رقم الحديث 4223.

(17) نفس المصدر، رقم الحديث 4234.

(18) ميزان الحكمة، ج 2، رقم الحديث 4225.

(19) نور الثقلين، ج 1، ص 288.

(20) نهج البلاغة، أنصاريان، ج 1، ص 20.

(21) نقلاً عن نفحات الولاية، بتصرّفٍ، ج 1، ص 141.

(22) نفس المصدر، بتصرّفٍ.

(23) نفس المصدر.

(24) سورة الإسراء، الآية: 15.

(25) ميزان الحكمة، ج 2، حديث رقم 3325.

(26) سورة إبراهيم(ع)، الآية: 4.

(27) بتصرّفٍ من تفسير الأمثل، ج 7، ص 324.

(28) سورة العنكبوت، الآية: 69.

(29) سورة غافر، الآية: 34.

(30) سورة إبراهيم(ع)، الآية: 5.

(31) بتصرّفٍ من تفسير الأمثل، ج 7، ص 323، وتفاسير أخرى.

(32) سورة القصص، الآية: 59.

(33) سورة الإسراء، الآية: 15.

(34) بتصرّفٍ من تفسير الأمثل، ج 12، ص 198.

(35) بتصرّفٍ من نفس المصدر.

(36) نفس المصدر.

(37) الكافي، ج 1، ص 179.

(38) من الكلمات القصيرة في نهج البلاغة، 147،  بتصرّفٍ من نفحات الولاية، ج 1، ص 146.

(39) ميزان الحكمة، ج 6، حديث رقم 13058.

(40) من نفحات الولاية بتصرّفٍ.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا