سلمان المحمدي ابن دهقان(1) في فارس وابن الإسلام في المدينة... مِن المسلمين الأوَل حيث أسلم في أوائل الهجرة... هاجر من بلاده طالباً للحق، تحمل المصاعب الكبيرة والمشاق الكثيرة مهاجراً عن أهله ووطنه... تحمل ذلَّ الرِّق حتى يصل إلى ذلك النبي الأميِّ الذي يخرج آخر الزمان، نبي لا يأكل الصدقة ويأكل الهدية وبين كتفيه خاتم النبوة(2) فأسلم واعياً لا عن عاطفة أو مصلحة، وبهذا الإسلام كان سلمان قد أظهر إيمانه الذي كان يكتمه في قلبه المغطى بزبدٍ مجوسيّ سرعان ما زال ذلك الزبد ليظهر على السطح ما يكمن في النفس من صفاء.
عاش سلمان (رضي الله عنه) بين المسلمين خيِّراً فاضلاً عالماً زاهداً متقشفاً(3) وكان عبداً صالحاً حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين(4)، من خواص الرسول (صلّى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) قد أطلعه الرسول على علم البلايا والمنايا والأنساب.. فأدرك العلم الأول والآخر وكان بحراً لا ينزف(5) فبلغ ما بلغ حتى استحق وساماً يرغب كل واحد مِنَّا أن يحصل عليه وهذا الوسام هو «مِنَّا أهل البيت»(6) ومِن مَن؟ مِن أعظم مخلوق على وجه الأرض.
وفي هذه الصفحات نجيب عن عدة تساؤلات هي:
مَن أعطى سلمان هذا الوسام؟ ما معنى هذا الوسام؟ هل نال غير سلمان على هذا الوسام؟ هل يمكن أن يحصل غيرهم على هذا الوسام؟ ونسأله التسديد في ذلك.
أولاً: من أعطى سلمان هذا الوسام؟
المتداول هو أن النبي (صلّى الله عليه وآله) هو الوحيد الذي أطلق هذا الوسام على سلمان (رضي الله عنه)، وبالبحث يتضح أن الرسول (صلّى الله عليه وآله) هو مَن أعطى سلمان (رضي الله عنه) هذا الوسام ومِن بعده جرى هذا الإطلاق على لسان أربعة من المعصومين (عليهم السلام). أما الرسول (صلّى الله عليه وآله) فقد ذكر هذا الوسام في عدّة موارد:
منها: قوله (صلّى الله عليه وآله) المعروف المشهور: سلمان مِنَّا أهل البيت(7).
منها: قوله (صلّى الله عليه وآله) في غزوة الخندق عندما أشار سلمان على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بحفر الخندق استحسن الجميع هذه الفكرة فاحتج المهاجرون والأنصار في سلمان.. فقال المهاجرون: سلمان مِنَّا، وقالت الأنصار: سلمان مِنَّا، فقال النبي (صلّى الله عليه وآله): سلمان مِنَّا أهل البيت(8).
منها: ما ذكره سليم بن قيس الهلالي عن سلمان: لما ثقل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) دخلنا عليه فقال للناس: أخلوا لي عن أهل البيت، فقام الناس وقمت معهم، فقال (صلّى الله عليه وآله): اقعد، يا سلمان إنك مِنَّا أهل البيت(9). وهذا المورد كان آخر الموارد التي قال النبي (صلّى الله عليه وآله) فيها هذه العبارة.
أما المعصومون الثلاثة فهم:
1-الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) لما بويع خرج إلى المسجد متعمماً بعمامة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)... فصعد المنبر فجلس متمكناً ثم شبك بين أصابعه فوضعها أسفل بطنه ثم قال: سلوني قبل أن تفقدوني..-إلى أن سُئل من أحد الحاضرين عن سلمان- فقال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن سلمان الفارسي، فقال: بخ بخ سلمان مِنَّا أهل البيت(10).
2-والسيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) عندما زارها سلمان... يقول سلمان: فقرعت الباب قرعاً خفيفاً فأجابتني فضة جارية فاطمة (عليها السلام) فقالت: مَن هذا؟ فقلت: أنا سلمان ابن الإسلام... فقالت فاطمة (عليها السلام): يا فضة قولي لسلمان يدخل فإن سلمان مِنَّا أهل البيت وربِّ الكعبة(11)، ونلاحظ أن الزهراء (عليها السلام) تقسم برب الكعبة نافية بقسمها أي شك قد يطرق ذهن السامع.
3-والإمام علي بن الحسين السجاد (عليه السلام) -في حديث-: «وإنما صار سلمان مِنَ العلماء لأنه امرء مِنَّا أهل البيت فلذلك نسبته إلى العلماء»(12).
ثانياً: ما معنى هذا الوسام؟
لا يمكن القول بأن هذا الانتماء (مِنَّا) مقصوداً به الانتماء النسبي فواضح أن سلمان قد جاء من بلاد فارس وبالتحديد من أصفهان بينما النبي (صلّى الله عليه وآله) عربي، ولم يذكر التأريخ وجود تناسب بينهما بأيِّ صورة من الصور وبأي شكل من الأشكال ولا شك في تنزيه النبي (صلّى الله عليه وآله) عن الكذب... فعلى هذا ما هو هذا المعنى الآخر، هذا المعنى راجع للشرف والمجد كما يذكر المولى محمد صالح المازني(13) في شرحه وذلك لأن البيت في عرف اللغة يعبَّر به عن الشرف والمجد فإذا قيل البيت في بني فلان فإنَّ ذلك يعني أنَّ الشرف والمجد فيهم... فالنبي (صلّى الله عليه وآله) يوسع دائرة بيته لتشمل غير أنسابه فصارت رابطة تربطهم جميعاً هي السير سيراً حقيقياً على الخط الذي وضعه المولى (عزّ وجلّ) وبيَّنه النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله) فالارتباط هو ارتباط معنوي فيكون مثل سلمان قد صار منتميا لأهل البيت انتماءً معنوياً فصار البعيد قريباً والقريب بعيداً. وحقَّ لجبرائيل (عليه السلام) أن يفتخر على أهله وهو يقول من مثلي بخ بخ وأنا من أهل بيت محمد (صلّى الله عليه وآله)(14).
ثالثاً: هل نال غير سلمان هذا الوسام؟
قد لا يتبادر إلى الذهن هذا التساؤل؛ فسلمان والتصاق هذا الوسام به التصاقاً شديداً لا يجعل مجالاً لهذه الالتفاتة خصوصاً بعد أن بيَّنا ما لهذا الوسام من معنى، إلا أنه بالبحث والاستقراء الناقص استطعت بعونه تعالى أن أقف على أحد عشر شخصاً قد حصلوا على هذا الوسام غير سلمان نتعرَّض لذكرهم واحداً تلو آخر:
1-أبوذر:
عن الفضيل بن يسار عن وهب بن أبي ذُبَيِّ الهُنائيّ قال حدَّثني أبو حرب بن أبي الأسود الدُّؤلي عن أبيه أبي الأسود قال قدمت الرَّبَذة فدخلت على أبي جُنْدُب بن جُنادة فحدَّثني أبو ذر قال: دخلت ذات يوم في صدر نهاره على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فلم أرَ في المسجد أحداً من الناس إلا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وعليّ إلى جانبه جالس فاغتنمت خلوة المسجد فقلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي أوصني بوصية ينفعني الله بها، فقال (صلّى الله عليه وآله): نعم وأكرم يا أبا ذر إنك مِنَّا أهل البيت... الحديث(15).
أقول: إن صاحب اللهجة الصادقة والمعيشة المتواضعة والعلم الرفيع والفهم الدقيق صاحب الرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله) وعلي أمير المؤمنين (عليه السلام) المؤمن الزاهد المتَّقي العابد أول شاهر للسيف في وجه المشركين... لا شك في استحقاقه لهذا الوسام فقد بلغ أقصى مراتب الكمال رضوان الله عليه.
2-الزبير،
3-أسامة بن زيد،
4-عمر بن أبي سلمة:
قال سليم -في وصايا رسول الله لبني هاشم-: قلت لعبد الله بن العباس وجابر إلى جنبه شَهدتَ النبي (صلّى الله عليه وآله) عند موته؟ قال: نعم، لما ثقل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) جمع كل محتلم من بني عبد المطلب وامرأة وصبي قد عقل، فجمعهم جميعاً فلم يدخل معهم غيرهم إلا الزبير -إنما أدخله لمكان صفية- وعمر بن أبي سلمة وأسامة بن زيد ثم قال: إن هؤلاء الثلاثة مِنَّا أهل البيت(16).
أقول: قد استحق هؤلاء الثلاثة هذا الوسام من الرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله) إلا أن الزبير أُخرِج عنهم فكما في الحديث عن أبي بصير عن الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام) يقول: ما زال الزبير مِنَّا أهل البيت حتى نشأ ابنه عبد الله بن الزبير ولقد حلق رأسه وقال: لا نبايع إلا علياً قال: وأخذ عمر سيفه فكسره بين حجرين(17)، وهذا الحديث مروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في عدة مواضع(18) وروي كذالك عن الصادق (عليه السلام)(19)، وأما الابن -عبدالله- فكان أعدى عدو لأهل البيت (عليهم السلام) وهو صار سببا لعدول الزبير من ناحية أمير المؤمنين (عليه السلام)(20) حتى برز دارعاً في وجه الأمير مطالباً بدم عثمان.
وأما أسامة بن زيد بن الحارثة فأبوه زيد بن حارثة وأمه أم أيمن، كان شديد التواضع حادَّ الذكاء حاز على المكانة العالية في قلب الرسول (صلّى الله عليه وآله) كما حازها أبوه... حتى ولاّه إمرةَ الجيش قبل وفاته (صلّى الله عليه وآله) وقال كلمته المشهورة: لعن الله من تخلف عن جيش أسامة... وانتقل الرسول (صلّى الله عليه وآله) إلى جوار ربِّه وبقي أسامة ثابتاً على ما هو عليه... وهذا جوابه على أبي بكر بعد تولِّيه منصب الخلافة حيث أرسل له رسالة يدعوه للبيعة فقال أسامة في جوابه عليه قائلاً: من أسامة بن زيد عامل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) على غزوة الشام أما بعد فقد أتاني منك كتاب ينقض أوله آخره؛ ذكرتَ في أوله أنك خليفة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وذكرتَ في آخره أن المسلمين قد أجمعوا عليك فولَّوك أمرهم ورضوك، فاعلم أني ومن معي من جماعة المسلمين والمهاجرين فلا والله ما رضيناك ولا ولَّيناك أمرنا وانظر أن تدفع الحق إلى أهله وتخليهم وإيَّاه فإنهم أحق به منك فقد علمت ما كان من قول رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في عليّ يوم الغدير فما طال العهد فتنسى -الحديث-(21)، وهناك موقف آخر وهو عدم مبايعته لأبي بكر إلا بعد التحقق من مبايعة الإمام علي (عليه السلام) له كارهاً وإن مصلحة الإسلام والمسلمين كانت تقتضي ذلك(22) وفي هذين الموقفين وضوح في ثبات هذا الصحابي وبقاء أهليته لاستحقاق هذا الوسام. ولكن صدر من هذا الصحابي موقفاً قد يسقط استحقاقه هذا، وهو امتناعه عن دخول الحرب مع أمير المؤمنين (عليه السلام) في حرب البصرة محتجاً بمعاهدته لله تعالى بعدم قتاله أهل لا إله إلا الله(23) مع أنه مسلِّم للإمام علي (عليه السلام) بالبيعة والإمامة وهذا الامتناع ليس دليلاً على عدول أسامة عن دينه ومعتقده، ولا يبعد رجوع هذا الامتناع لأحد أمرين إما لشبهة عدم تمييز من يتظاهر بالتوحيد من غيره وإما لما عاشه من ظروف عاشها أسامة من تولية الرسول (صلّى الله عليه وآله) له على الجيش مما يعني جعله خليفة على المسلمين أنه أمير لهم فقد يقال بتوهمه بأنه هو الخليفة من بعد الرسول (صلّى الله عليه وآله) -وساعد على هذا الاحتمال هو تعزيز هذه الفكرة في ذهنه من قبل من يحتفون حوله- وهذا يظهر من جوابه على أبي بكر حيث قال: انظر بمركزك ولا تخالف فتعصي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وتعصي من استخلفه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عليك وعلى صاحبك ولم يعزلني حتى قبض رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وإنك وصاحبك رجعتما وعصيتما فأقمتما في المدينة بغير إذني(24)، وعلى أي حال لم أجد من نزع عنه هذا الوسام من المعصومين (عليهم السلام)، والله العالم بحقيقة الأمور.
وأما عمر بن أبي سَلَمَة وهو ابن أم سلمة إحدى زوجات الرسول (صلّى الله عليه وآله)، ولما تزوجته (صلّى الله عليه وآله) كان عمر لم يبلغ الحلم بعدُ(25) فصار ربيب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وتوفي الرسول (صلّى الله عليه وآله) وهو لا زال صغيراً... وفي عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) ولاه على فارس والبحرين ثم عزله عن البحرين ليرافقه إلى ظَلَمَة أهل الشام فأرسل له رسالة من جملة ما قال له فيها:... ونزعت يدك بلا ذم لك ولا تثريب عليك فقد أحسنت الولاية وأدَّيت الأمانة، فأقبل غير ظنين ولا ملوم ولا متّهم ولا مأثوم فقد أردت المسير إلى أهل الشام وأحببتُ أن تشهد معي فإنك ممن استظهر به على جهاد العدو وإقامة عمود الدين إن شاء الله(26). وهذا يدل على مكانة هذا الرجل عند أمير المؤمنين (عليه السلام) وبقيت هذه المكانة مستمرة حتى وفاته فإنه كان قريباً منهم (عليهم السلام) ويشهد على ذلك ما جاء في رواية عرض كتاب سليم بن قيس على الإمام الحسين (عليه السلام) من قبل أبان أن عمر بن أبي سلمة -ابن أم سلمة زوجة النبي- وعامر بن واثلة –المكنَّى بأبي الطفيل من أصحاب الرسول (صلّى الله عليه وآله) ومن خيار أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام)- كانا هما من قرأ كتاب سليم (رضي الله عنه) على الإمام طيلة ثلاثة أيام... أضف لذلك شهادته على ما في كتاب سليم حيث قال: ما فيه حديث إلا وقد سمعته من علي (عليه السلام) ومن سلمان وأبي ذر ومن المقداد.. هذه كلها تعطينا حالة وضوح من أن هذا الرجل له قرب من المعصوم (عليه السلام).
5-شمعون:
في طريق الإمام علي (عليه السلام) إلى صفين نزل في موضع يقال له البليخ على جانب الفرات فنزل راهب هناك من صومعته... فقال لعلي (عليه السلام) إن عندنا كتاباً توارثناه عن آبائنا -فعرض الكتاب على الإمام (عليه السلام) فصحب الإمام وقال بأنه لن يفارقه حتى يصيبه ما يصيبه- فبكى (عليه السلام) ثم قال: الحمد لله الذي لم أكن عنده نسياً منسياً، فمضى الراهب معه فكان فيما ذكروا يتغذى مع أمير المؤمنين (عليه السلام) ويتعشى حتى أصيب يوم صفين فلما خرج الناس يدفنون قتلاهم قال (عليه السلام): اطلبوه، فلما وجدوه صلى عليه ودفنه وقال: هذا مِنَّا أهل البيت(27).
أقول: تأمل في هذا الراهب(28) لم يكن معتنقاً للإسلام لكنه قد نفض عنه كل غرور وجهالة فلم يتمسك بدين آبائه لذا ينبغي مع تكشّف الحق الميلُ إليه على كل حال.
6-سعد بن عبد الملك (سعد الخير):
عن أبي حمزة دخل سعد بن عبد الملك -وكان أبو جعفر يسمّيه سعد الخير وهو من وِلد عبدالعزيز بن مروان- على أبي جعفر (عليه السلام) فبينما ينشج(29) كما تنشج النساء قال: فقال له أبو جعفر: ما يبكيك يا سعد؟ قال: وكيف لا أبكي وأنا من الشجرة الملعونة في القرآن فقال له: لست منهم أنت أموي مِنَّا أهل البيت أما سمعت قول الله (عزّ وجلّ) يحكي عن إبراهيم {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي}(30).
أقول: وكيف لا يكون منهم (عليه السلام) مَن دان بإمامتهم وعرف حقهم واتبع إمام زمانه منهم، فمن تولى إبراهيم (عليه السلام) كان منه، وسُنَّة إبراهيم سُنَّة محمد (صلّى الله عليه وآله) فمن تولى محمداً وآله كان منهم.
7-عيسى بن عبد الله القمي:
عن أبي محمد أخي يونس بن يعقوب عن أخيه يونس قال: كنت بالمدينة فاستقبلني جعفر بن محمد (عليه السلام) في بعض أزقتها فقال: اذهب يا يونس فإن بالباب رجلاً مِنَّا أهل البيت، قال: فجئت إلى الباب فإذا عيسى بن عبد الله جالس فقلت له من أنت؟ قال: رجل من أهل قم، قال: فلم يكن بأسرع من أن أقبل أبو عبد الله (عليه السلام) على حمار، فدخل على الحمار الدار، ثم التفت إلينا فقال: ادخلا، ثم قال: يا يونس أحسب أنك أنكرت قولي لك أن عيسى بن عبد الله مِنَّا أهل البيت؟ قلت: إي والله جعلت فداك، لأن عيسى بن عبد الله رجل من أهل قم فكيف يكون منكم أهل البيت؟ قال: يا يونس عيسى بن عبد الله رجل مِنَّا حياً وهو مِنَّا ميتاً(31).
أقول: نلاحظ هنا أن الإمام أثبت أن هذا الانتماء ليس نسبياً كما توهَّمه الراوي بل هو انتماء من نوع خاص وهو ما ذكرناه من معنى لهذا الوسام.
8-الفضيل بن يسار:
ذكر ربعي بن عبدالله قال: حدَّثني غاسل الفضيل بن يسار، قال: إني لأغسل الفضيل وإن يده لتسبقني إلى عورته فأخبرت بذلك أبا عبد الله (عليه السلام) فقال: رحم الله الفضيل بن يسار هو مِنَّا أهل البيت(32).
9-يونس بن يعقوب:
عن محمد بن عبد الحميد قال: قال لي يونس: ذكر لي أبو عبدالله (عليه السلام) أو أبو الحسن شيئاً أسْتَرُّ به، قال: فقال لي: لا والله ما أنت عندنا متَّهم إنما أنت رجل مِنَّا أهل البيت فجعلك الله مع رسوله وأهل بيته، والله فاعل ذلك إن شاء الله. وذكر أنه قال: انظروا إلى ما ختم الله به ليونس قبضه مجاوراً لرسوله (صلّى الله عليه وآله)(33).
أقول: قد يقال بإمكان ردِّ هذه الرواية وذلك لاحتوائها على مدحٍ، والراوي الممدوح هو نفسه الذي يرويها... ولكن لا يصار إلى هذا القول بعد معرفة هذا الراوي فهو إمامي ثقة قد ثبتت وثاقته عن طريق آخر غير هذه الرواية، فهو يونس بن يعقوب البجلي الكوفي فقد عدَّه الشيخ من أصحاب الصادق والكاظم والرضا (عليهم السلام) وهو واحد من الفقهاء الأعلام والرؤساء المأخوذ عنهم الحلال والحرام الذين لا يطعن عليهم ولا طريق إلى ذم واحد منهم(34) وأما فطحيته لا لأنه منتسب لعبدالله الأفطح -ولو كان فقد عدل عنه- بل لأنه كان أفطح الرجلين(35) والروايات دالة على قربه منهم (عليهم السلام) فعندما مات بالمدينة بعث إليه أبو الحسن الرضا (عليه السلام) بحنوطه وكفنه وجميع ما يحتاج إليه وأمر مواليه وموالي أبيه أن يحضروا جنازته... فكل هذه تجعل من صدور الخبر مطمئناً فعلى هذا لا ينبغي التوقف من جهته.. أضف لذلك أنَّا لا نحتمل الكذب مِن مثل هذا الراوي خصوصاً بعد ثبوت وثاقته فعندها يكون هذا الخبر شاهداً على فضله وجلالته.
10-عمر بن يزيد:
عن محمد بن عذافر عن عمر بن يزيد قال: قال أبو عبدالله (عليه السلام): يا ابن يزيد أنت والله مِنَّا أهل البيت. قلت: جعلت فداك، مِن آل محمد؟ قال: إي والله مِن أنفسهم، قلت: مِن أنفسهم جعلت فدالك؟ قال: إي والله من أنفسهم يا عمر أما تقرأ كتاب الله (عزّ وجلّ) {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ}(36) وما تقرأ قول الله عزّ اسمه {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}(37)(38).
أقول: قد يأتي الاشكال المتقدم في يونس بن يعقوب لكن يجاب عليه أيضا بأن المقصود هنا هو عمر بن يزيد بياع السابري الثقة الجليل كذلك.
11-أبا عبيدة الحذَّاء:
عن علي بن أسباط عن الحجال عن حماد أو داود سئل أبو الحسن الرضا قال: جاءت امرأة أبي عبيدة إلى [أبي] عبد الله بعد موته، فقالت: إنما أبكي أنه مات غريباً وهو غريب فقال: ليس هو بغريب إن أبا عبيدة مِنَّا أهل البيت(39).
أقول: صار واضحاً أنه لا يرد الإشكال المتقدم... وأبا عبيدة اسمه رجاء بن زياد أو زياد بن أبي رجاء الراوي الثقة -قد روى عن الباقر والصادق (عليهما السلام)- وليس زياد بن عيسى.
وبعد هذا الاستقراء الناقص نجد عشرة أشخاص(40) غير سلمان قد حازوا على هذا الوسام هم (أبو ذر، وأسامة بن زيد، وعمر بن أبي سلمة،وشمعون، وسعد بن عبد الملك، وعيسى بن عبدالله القمي، والفضيل بن يسار، ويونس بن يعقوب وعمر بن يزيد وأبا عبيدة الحذاء)، ولم يحصل واحدٌ منهم على هذا الوسام إلا لأنه قد سعى بكل ما يملك من طاقة ليرتقي بنفسه إلى أرقى المستويات ويصل إلى أعلى الكمالات فوصلوا رضوان الله عليهم وحصلوا على التقدير من المعصوم على ذلك.
رابعاً: هل يمكن أن يحصل غيرهم على هذا الوسام؟
بقي شيء واحد وهو أن هذا الوسام الذي حصل عليه سلمان وعشرة آخرون هل يمكن أن يتعداهم ليصل إلى غيرهم، وبعبارة أخرى هل يمكن لأحدنا أن يحصل على هذا الوسام إذ لم نعاصر إماماً حاضراً، وإمامنا غائب عن أعيننا؟
الجواب: نعم، ولكن ليس بالتعيين من المعصوم (عليه السلام) بشكل مباشر بل هناك عناوين لا بد من تحقيقها لنحصل على هذا الوسام أو قل بأن هناك ضابطة قد وضعها المعصوم على أساسها نستطيع معرفة حصولنا أو عدم حصولنا على هذا الوسام... وما وقفتُ عليه من ضوابط اذكر منها:
(عليه السلام)(التشيع الحقيقي): عن عمار بن ياسر قال: بينا أنا عند رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إذ قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): إن الشيعة الخالصة مِنَّا أهل البيت، فقال عمر: يا رسول الله عرِّفناهم حتى نعرفهم، فقال (صلّى الله عليه وآله): ما قلت لكم إلا وأنا أريد أن أخبركم، ثم قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): أنا الدليل على الله (عزّ وجلّ)، وعليٌّ نَصْرُ الدين، ومناره أهل البيت، وهم المصابيح الذين يستضاء بهم، فقال عمر: يا رسول الله فمن لم يكن قلبه موافقاً لهذا؟ فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): ما وُضع القلب في ذلك إلا ليوافق أو يخالف -أي ليُعلم به المخالف والموافق- فمن كان قلبه موافقاً لنا أهل البيت كان ناجياً، ومن كان قلبه مخالفاً لنا أهل البيت كان هالكاً(41).
وهذه الضابطة -التشيع الحقيقي- لا يكفي في تحققها التَّسمِّي وحسب بل لا بد من الطاعة لهم (عليهم السلام) في الأوامر والنواهي صغيرها وكبيرها وهذا ما يستدعي التسليم للإمام ونائبه.
(عليه السلام) (طاعة الله حق طاعته): عن الحسن بن موسى الوشاء البغدادي، قال: كنت بخراسان مع علي بن موسى الرضا (عليه السلام) -الحديث إلى أن قال-: من كان مِنَّا لم يطع الله عز وجل فليس مِنَّا وأنت إذا أطعت الله فأنت مِنَّا(42)، ونلاحظ هنا أن طاعة الله كما أنها مُدخلة في دائرة هذا الوسام فعدم طاعته موجبة للحرمان منه.
(عليه السلام) (التقوى وتحقيق الإصلاح): عن محمد الحلبي قال: سمعت أبا عبد الله جعفر بن محمد (عليه السلام) يقول: من اتقى الله [منكم] وأصلح فهو مِنَّا أهل البيت(43).
وخلاصة الكلام أن وسام (مِنَّا أهل البيت) هو وسام له ما له من المداليل العالية وهو وسام شرف يعتز به من يحصل علية ولم يُعط لسلمان المحمدي وحده بل أعطي لأحد عشر شخصاً غيره ويمكن أن يتعداهم إلى غيرهم عن طريق الضوابط التي وجدناها في روايات أهل البيت (عليهم السلام) وهذا دافع قوي لنا حتى نسعى جاهدين في تحقيق هذه الضوابط حتى نحصل على هذا الوسام.
تنبيه
تجدر الإشارة هنا إلى أن هذا الوسام وإن صح أن يصدق على أحد عشر رجلاً غير سلمان، وكذلك صح أن يطلق على غير هؤلاء استناداً إلى الضوابط العامة التي ذكرناها إلا أن ذلك لا يعني أن الجميع في مرتبة واحدة، ولا شك ولا ريب باختلاف درجاتهم وأن أعلاها لسلمان المحمدي فإنه قد حصل على هذا الوسام من النبي (صلّى الله عليه وآله) في عدَّة موارد ومن غير النبي (صلّى الله عليه وآله) أربعة من المعصومين (عليهم السلام)، مضافاً لكثرة الشهادات للمستوى الرفيع في الكمال الذي ليس له نظير والذي ناله سلمان (رضي الله عنه).. ويأتي بعده أبو ذر وهو مع ما له من مستوى كمالي إلا أنه لا يرقى إلى مستوى سلمان -وهذا ليس استنقاصاً من أبي ذر بل رفعة لسلمان ومقامة العالي-، وأبو ذر قد فاق في كماله بقية العشرة فليسوا بمستواه والبقية أيضاً لا بد من التفاضل في ما بينهم فمن ثبت إلى آخر عمره كعمر بن أبي سلمة أرقى بكثير ممن صدرت منه مواقف قد توصف بغير الاتّزان كأسامة بن زيد.. وكذا الحال في من يحصل على هذا الوسام عن طريق تحقيق الضابطة العامة... وباختصار نقول بأن هذا الوسام مفهوم مشكك في ما انطبق عليه.
والحمد لله رب العالمين.
* الهوامش:
(1) أمير الفلاحين.
(2) هذه العلامات تأكد منها سلمان بنفسه حيث إنه عندما التقاه (صلّى الله عليه وآله) في مسجد قُباء قدَّم إليه رطباً على أنه صدقة فأمر أصحابه أن يأكلوا ولم يأكل هو لأنها صدقة، والتقى به أخرى في المدينة فقدَّم إليه رطباً على أنه هدية فأكل منه (صلّى الله عليه وآله)، أما ختم النبوة فقد رآه سلمان أثناء تشييع جنازة في البقيع، فلما رأى كل هذه العلامات أسلم وأخبره بما جرى عليه.
(3) بحار الأنوار للمجلسي ج22: 390.
(4) كما روى عن منصور بزرج قال: قلت لأبي عبد الله الصادق (عليه السلام): ما أكثر ما أسمع منك يا سيدي من ذكر سلمان الفارسي، فقال: لا تقل الفارسي ولكن قُل سلمان المحمدي... الأمالي للطوسي: 133.
(5) الاختصاص للمفيد: 11.
(6) عيون أخبار الرضا للشيخ الصدوق ج1: 70، ح282.
(7) عيون أخبار الرضا للشيخ الصدوق ج1: 70، ح282، السيرة النبوية لابن كثير ج1: 49.
(8) بحار الأنوار للمجلسي ج22: 170.
(9) كتاب سليم بن قيس الهلالي: 489 -تحقيق محمد باقر الأنصاري-.
(10) الاحتجاج للطبرسي ج1: 385.
(11) دلائل الإمامة لمحمد بن جرير الطبري(الشيعي): 140.
(12) الكافي للكليني ج1: 401، باب فيما جاء أن حديثهم صعب مستصعب ح2.
(13) شرح أصول الكافي للمازندراني ج8: 346.
(14) تفسير العسكري:121، غاية المرام للسيد هاشم ج4: 183.
(15) الأمالي للطوسي مجلس (19):773،ح1.
(16) كتاب سليم بن قيس الهلالي:425، ح61.
(17) الأصول الستة عشر من الأصول الأوليّة:151، ح8.
(18) منها بحار الأنوار ج28: 347 وج34 : 289، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج2: 167.
(19) الخصال للصدوق: 157، ح199.
(20) بحار الأنوار ج71: 123.
(21) الإحتجاج للطبرسي ج1: 114.
(22) الإحتجاج للطبرسي ج1: 115.
(23) الجمل للمفيد: 45.
(24) الإحتجاج للطبرسي ج1: 114.
(25) الكافي ج5 باب التزويج بغير ولي: 391.
(26) نهج البلاغة، من كتاب له إلى عمر بن أبي سلمة.
(27) العقد النضيد والدر الفريد لمحمد بن الحسن القمي: 86، ح71.
(28) اسم هذا الراهب هو شمعون كما أفاد صاحب الخرائج والجرائع ج2: 865، وابن شهرآشوب في مناقب آل أبي طالب ج2: 123.
(29) ينشج الباكي إذا غصَّ بالبكاء في حلقه من غير انتحاب.
(30) الاختصاص للمفيد: 85.
(31) الأمالي للمفيد: 140 ح6.
(32) من لا يحضره الفقيه للصدوق ج4 : 441، اختيار معرفة الرجال للطوسي ج2 : 473 ح381.
(33) اختيار معرفة الرجال للطوسي ج2 : 686 ح724.
(34) معجم الرجال الحديث للخوئي ج21 : 245.
(35) يقال رجل أفطح الرأس أو الرجلين أي عريضهما.
(36) سورة آل عمران : 68.
(37) سورة إبراهيم: 36.
(38) الأمالي للطوسي: 45 ح22.
(39) بحار الأنوار ج47 : 345.
(40) ربما إذا بحثت -أخي القارئ- فإنك ستجد هذه العبارة ذكرت في حق (أبا بكر وجرير) أعرضت عن ذكرها لورودها في مصادر غيرنا وتحتاج إلى تنقيب عن مدى صحتها ولم يسعني الوقت لذلك. أما عن أبي بكر فقد ورد في تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر ج30: 339 هكذا (عن عبدالله بن حسن عن أبيه قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): إنما أبو بكر مِنَّا أهل البيت)، أما عن جرير فقد ورد في سير أعلام النبلاء للذهبي ج2: 534 هكذا ( أبو غسان النهدي حدّثنا سليمان بن ابراهيم عن جرير عن أبان بن عبدالله البجلي عن أبي بكر بن حفص عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): جرير مِنَّا أهل البيت ظهراً لبطن -قالها ثلاثاً-.) وأقول: إن المحشي ذكر ما يفيد ضعف السند أو التوقف عند سند هذا الحديث فإن في سنده أبي بكر بن حفص وهذا لم يدرك علياً حتى يروي عنه-وهذا يعني احتمال كذبه أو سقوط الواسطة بينه وبين علي بن أبي طالب وعلى تقدير الكذب يسقط الحديث بلا شك وعلى تقدير سقوط الواسطة فاحتمال عدم عدالتها وارد يوجب التوقف في السند وعدم قبول الحديث عندئذ- وسليمان بن جرير لم يرد في حقه توثيق، نعم بقية السند ثقاة وعلى هذا ترفع اليد عن الخبر لما عرفت ما فيه. وبقي الزبير لم أعدّه ممن حصل على الوسام لأنه فقده.
(41) الكافي للكيني ج8 : 333 ح518.
(42) معاني الأخبار للصدوق: 106 ح1.
(43) دعائم الإسلام للقاضي النعمان المغربي ج1 : 62.
0 التعليق
ارسال التعليق