عندما نتحدّث عن الإلحاد فإنّا نتحدّث عن رقعة واسعة في عالم اليوم لا سيّما في المجتمعات الغربية التي كانت تحت سيطرة الكنسية؛ فليس الإلحاد أمراً عابراً أو أنّه يشكّل حالة فرديّة حتى تسقط بالإقصاء أو ما شاكل.
والإلحاد منذ أن كان فإنّه لم يكن قويّاً بل كان ولا زال لا يُرى إلا كالموجة تجتاح المنطقة وتلقي بفكرها لينبت عند البعض ويموت عند آخرين.
والآن نحن أمام موجة إلحاديّة جديدة تجتاح العالم كلّه بالتشكيك والطرق المختلفة في الاستدلال بنحو وآخر عن الاستدلال من الملاحدة السابقين.
قد يقول البعض: لا تخافوا ولا تحزنوا فإنّ من يتحدّث في الإلحاد من العرب -مثلاً- ليسوا سوى مقلّدة لما يثيره علماء الإلحاد الذين عليهم المعتمد... وهؤلاء ليسوا متخصصين في الفلسفة ولا أصحاب رأي فيها، وليسوا متخصصين في العلوم التجريبية التي عليها يتّكئ الملحدون في كثير من إشكالاتهم.
لكن هذا القول ليس بسديد في أمر الخوف؛ فهؤلاء وإن لم يكونـوا مـن أهـل الاختصاص وأنّهـم ليسوا سوى مكرِّرين لما يُقال -وقد لا يحسن بعضهم حتى هذا التكرار-، إلا أنّهم يثيرون تلك الشبهات ويحسنون نفثها في عقول الشباب، ولا يخفى أنّ الشبهة تستقر في العقل سريعاً، فاليوم إن لم يفصح عنها صاحبها بحثاً عن الجواب الرافع لها فإنّه قد يدافع عنها غداً!
إضافة إلى هذا فإنّ المشكلة لا تقف عند بعض الملحدين العرب بل المشكلة أكبر من ذلك؛ إذ الكتب الإلحاديّة التي تكتب باللغات الأخرى من قبل المتخصصين وعلماء الإلحاد باتت تترجم إلى لغات مختلفة ومنها العربية ناهيك عن الأفلام الوثائقية والكارتونية وغيرها التي تصبّ في صالح الإلحاد فإنّها تترجم إلى اللغة العربية وغيرها من اللغات وهذا يسهّل الانتشار.
ولا بد من معرفة الإلحاد وأدواته وطرق استدلاله حتى يعرف الباحث والمتصدّي لهم كيف يتعامل معهم ومن أيّ باب يدخل منه إليهم، ولا يخفى أنّ هذا له أثره البالغ جداً في تطوير الخطاب معهم -بل الخطاب عموماً- كي يكون مواكباً لإثاراتهم ومتماشياً مع تصوّراتهم كي يسهل إقناعهم وعدم التعامل معهم بسطحيّة، ولا يصحّ القفز سريعاً إلى السعي نحو العلاج من دون فهم الفكر الإلحادي وفهم نظرياته ومعرفة شخصياته المؤثرة فيه.
لا بد من الإنصاف
ليس كلّ الملاحدة يمارسون الإلحاد لأنّهم من طالبي الشهرة،،
أو المرضى النفسيين الخائفين من عقاب الإله على الذنوب -مثلاً- فيطلبون التحرر لإراحة أنفسهم من عبئ المحاسبة والخوف،،
أو المحبّين للجنس والشهوة فيتخلّصوا من الإله ليمارسوا ما يشاؤون،،
بل فيهم من يحمل فكراً ومعتقداً ويستند في ذلك إلى أدلّة متينة في نظرهم وفيهم العلماء والمتخصصون.
ينبغي عدم تسطيح المشاكل والإشكاليات حتى تُعطى ردّة الفعل المناسبة لها.
لا تعجب
لا تعجب إن كثر التبشير بالإلحاد في أفلام الكارتون وقصص الأطفال وأمثالها من المطبوعات التي تحمل هذا الفكر وتحاول غرسه في عقول الأطفال بطرق فنّية ومؤثرة. ولا يخفى وجود القصور في مكتباتنا الإسلامية في هذا الشأن ودونك المكتبات فهي تخلو من هذا وإن وجد فهو قليل جداً لا يتيح لك السعة في الاختيار.
لا تعجب إنْ كان من ينادي بوصف المتدينين بالإرهاب فإنّه يروّج للإلحاد بصورة عاطفية؛ فيقول بأنّ الإرهاب جاء من الدين المعتقد أصحابه لزومَ قتل الآخر ويرجع ذلك كلّه إلى فكرة وجود إله فلولا ذلك لم يوجد إرهاب، أي لم توجد أحداث الرابع عشر من سبتمبر ولا القاعدة ولا داعش ولا غيرهم. وكثيرٌ هم الذين يتأثّرون بهذا الأسلوب، فإن لم ينكروا الله فإنّهم ينكروا أحكام القتل والقصاص الواردة كعقوبات في الدين لتكون هذه الخطوة الأولى في الطريق نحو الإلحاد.
لا تعجب إن وجدت بين أولادك وأهل بيتك ملحداً ولو بعد حين إن لم تساهم في تنمية الفكر العقدي وتأسيسه تأسيساً معرفياً وعلميّاً صحيحاً.
توصيات:
1) لذا نحن بحاجة إلى خلق كوادر متخصصة قادرة على التفاعل مع هذه الأفكار على صعيد تثبيت المتدينين على معتقداتهم وعلى مستوى المناظرات مع الملاحدة وأمثالهم.
2) وبحاجة إلى مؤلفات غير تقليدية في المجالات العقدية تتناسب مع تطور الإشكالات على التديّن والمتديّنين.
3) وبحاجة إلى التريث في ردّ الشبهات والإشكالات التي قد يتبنّاها بعض المتدينين وعدم وصفهم بالإلحاد والانحراف، فإن كان ثمّت همٌّ فلا بد من أن يكون منصبّاً على كيفية فهم إشكالاتهم وشبهاتهم وتقديم الردّ المقنع.
4) وبحاجة إلى الانتقال من الدفاع إلى الهجوم مع الملاحدة فإنّ بنيتهم الفكرية فيها ما فيها من الضعف وإن اعتمدوا على بعض التجريبيات التي يعتقدون بيقينيّتها، أو تفننوا في طرق عرض إشكالاتهم فإنّهم يحسنون التشكيك ويتحيّرون في التنظير إلى فكرهم تنظيراً فلسفياً رصيناً، بل قد يكون تنظيراً هشّاً من الناحية الفلسفية كما في من يعتقد بأنّ إنكاره للإله هو تعظيم للإله؛ لأنّ الذي يقدر على الخلق وهو معدوم أعظم من القادر على الخلق وهو موجود!! ولا يخفى في هذا حجم وجود الجمع بين النقيضين.
5) وبحاجة إلى تحرّي الدقّة في ما يتعلّق بالإعجاز العلمي إذ هو سلاح من الأسلحة التي يستخدمها الدينيون لإقناع الملاحدة بالإله، ولا بد من كون الاستدلال بها يخضع لضوابط الاستدلال العلمي.
6) وبحاجة إلى نشر ثقافة الثبات على المعتقد حتى الاقتناع التام، فقد تجد شاباً يجلس مع الملحد فيصير ملحداً لوجود بعض الإشكالات التي لم يقدر على ردّها وتستحكم عليه، فيرجع إلى المتديّن بنَفَس إلحادي وسرعان ما يرجع إلى التدين وهكذا عندما يلتقي مع الملحد فعيش حالة من الانفصام الفكري.
7) وبحاجة إلى استخراج الأدلّة العقلية وأمثالها من القرآن والروايات التي جاءت في مقابل الردّ على مثل هذه الشبهات الإلحادية وصياغتها صياغة عصرية مدعّمة بالحقائق -لا الافتراضات- وطرحها إلى الناس وفي ميادين النقاش والتماس المباشر مع الملحدين.
8) وبحاجة إلى إيجاد منتديات فكرية بين المتخصصين وورش عمل يقوم عليها المتخصصون ويحضرها المهتمّون ليناقش فيها أهم الإشكالات التي تطرح ليخرج الجميع بأجوبة تصاغ بصيغ ملائمة من حيث الهيئة والمادّة ينتفع بها الجميع.
ومع هذا كلّه لا يشكّل الإلحاد الخطاب العام المسيطر في العالم، لكنّه فكر له منظّروه.
رئيس التحرير
0 التعليق
ارسال التعليق