الضروري تارة يتعلق بالأصول الاعتقادية التي ينبغي أن يعتقد بها المسلمون قاطبة، مضافاً إلى الأحكام الشرعية التي ينبغي أن يلتزموا بها، وأخرى يتعلق بمسائل عقدية وأحكام شرعية تختص بمذهب من المذاهب الإسلامية، كالاعتقاد بالنص في خلافة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) للنبي (صلَّى الله عليه وآله) بالتعيين الإلهى، ووجوب الخمس في غير غنائم الحرب كأرباح المكاسب عند الإمامية، أو القول بالشورى في خلافة النبي (صلَّى الله عليه وآله) والميراث بالتعصيب عند غير الإمامية من المذاهب الإسلامية.
المستفاد من كلمات الأعلام -المتقدمين والمتأخرين- أنّ مشهور المتقدمين هو الحكم بكفر ونجاسة من أنكر ضرورياً من ضروريات المذهب، بينما مشهور المتأخرين هو الحكم بخروجهم عن الإيمان والمذهب لا الإسلام، فحكموا بطهارتهم وإحقان دمائهم وحرمة أعراضهم وأموالهم طالما لم يكونوا من النواصب والغلاة.
قال العلامة في منتهى المطلب: "الإمامة من أركان الدين وأصوله، وقد علم ثبوتها من النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) ضرورة، فالجاحد بها لا يكون مصدّقاً
للرسول (عليه السلام) في جميع ما جاء به، فيكون كافرا"(1).
وقال المازندراني في شرحه على الكافي: "مَن أنكرها -أي الولاية- فهو كافر، حيث أنكر أعظم ما جاء به الرَّسول وأصلاً من الأصول. ومَن لم يعرفها ولم ينكرها، بل هو ساكت متوقّف فهو ضالٌّ"(2).
وقال المحدث البحراني في حدائقه: "المشهور بين متأخري الأصحاب هو الحكم بإسلام المخالفين وطهارتهم، وخصوا الكفر والنجاسة بالناصب، وهو عندهم من أظهر عداوة أهل البيت (عليهم السلام)، والمشهور في كلام أصحابنا المتقدمين هو الحكم بكفرهم ونصبهم ونجاستهم، وهو المؤيد بالروايات الإمامية"(3).
وجاء في الأنوار النعمانية: "أما من أنكر ما علم من دين الشيعة بالضرورة لا من دين الإسلام؛ كتقديم أمير المؤمنين (عليه السلام) بالخلافة والفضيلة، وتكفير من تخلّف محله، فهو ليس بمؤمن، لكنّه لا يخرج عندهم عن الإسلام الذي عليه المناكحات والطهارات وإحقان الدماء والأموال"(4).
وقال كاشف الغطاء في كشف الغطاء: "منكر ضروري المذهب يحكم عليه بالخروج من المذهب"(5).
وقال صاحب القوانين: "اعلم أنّ ضروري الدين كما يستلزم انكاره الخروج عن الدين فضروري المذهب أيضاً يستلزم انكاره الخروج عن المذهب، وهنا دقيقة لا بد أن ينبّه عليها وهي أنّ ضروري الدين قد يختلف باعتبار المذهب فيشتبه ضروري الدين بضروري المذهب، كما لو صار عند الشيعة وجوب مسح الرجلين ضرورياً عن النبيّ (صلَّى الله عليه وآله)، فإنكاره من الشيعة إنكار لضروري الدين، بخلاف مخالفيهم"(6).
وقال السبزواري في مهذب الأحكام: "إنكار ضروري المذهب إن رجع إلى إنكار الرسالة أو الألوهية أو التوحيد يوجب الكفر، وإن لم يرجع إليها ففي إيجابه له إشكال"(7).
واستُدل على كفر منكر ضروري المذهب بأمور، منها:
الإجماع المحكي عن ابن إدريس في السرائر(8).
وفيه: "إن كان المراد من الكفر المدعى عليه الإجماع ما يقابل الإسلام فهو معلوم الانتفاء، فإنّ المعروف بين أصحابنا إسلام المخالفين، وإن كان المراد به ما يقابل الإيمان -كما هو الظاهر- لم يجدِ في إثبات النجاسة، لأنّ الكافر الذي انعقد الإجماع ودلّت الأدلة على نجاسته ما كان بالمعنى الأول، كما تشهد به الفتوى بالطهارة هنا من كثير من نقلة الإجماع على نجاسة الكافر(9).
إنكار ما ثبت بالضرورة من الدين، وهو ولاية أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، حيث بيّنها النبي (صلَّى الله عليه وآله) وأمر القوم بقبولها ومتابعتها، فمن أنكر ما أمر به النبي (صلَّى الله عليه وآله) فهو كافر"(10).
وفيه: "إن الضروري من الولاية إنما هي الولاية بمعنى الحب والولاء، وهم غير منكرين لها بهذا المعنى، بل قد يظهرون حبّهم لأهل البيت (عليهم السلام)، وأمّا الولاية بمعنى الخلافة فهي ليست بضرورية بوجه وإنما هي مسألة نظرية، وقد فسّروها بمعنى الحب والولاء ولو تقليداً لآبائهم وعلمائهم، وإنكارهم للولاية بمعنى الخلافة مستند إلى الشبهة، وإنكار الضروري إنّما يستتبع الكفر والنجاسة فيما إذا كان مستلزماً لتكذيب النبي (صلَّى الله عليه وآله) كما إذا كان عالماً بأنّ ما ينكره مما ثبت من الدين بالضرورة وهذا لم يتحقّق في حق أهل الخلاف، لعدم ثبوت الخلافة عندهم بالضرورة لأهل البيت (عليهم السلام)، نعم الولاية بمعنى الخلافة من ضروريات المذهب لا من ضروريات الدين"(11).
الأخبار، منها:
أ- ما رواه الصدوق في الفقيه عن الحسن بن محبوب، عن أبي أيوب، عن محمد بن مسلم عن أبي -جعفر (عليه السلام) قال في حديث: «ومن جحد نبياً مرسلاً نبوته وكذبه فدمه مباح، قال: فقلت له: أرأيت من جحد الإمام منكم ما حاله؟ فقال: من جحد إماماً برأ من الله وبرأ منه ومن دينه فهو كافر مرتد عن الإسلام، لأنّ الإمام من الله، ودينه دين الله، ومن برأ من دين الله فهو كافر، ودمه مباح في تلك الحال، إلا أن يرجع ويتوب إلى الله (عزَّ وجلَّ) مما قال»(12).
ب- ما رواه الكليني في الكافي عن علي بن إبراهيم، عن صالح بن السندي، عن جعفر بن بشير، عن أبي سلمة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «سمعته يقول: نحن الذين فرض الله طاعتنا، لا يسع الناس إلا معرفتنا ولا يعذر الناس بجهالتنا، من عرفنا كان مؤمناً، ومن أنكرنا كان كافراً، ومن لم يعرفنا ولم ينكرنا كان ضالاً حتى يرجع إلى الهدى الذي افترض الله عليه من طاعتنا الواجبة، فإن يمت على ضلالته يفعل الله به ما يشاء»(13).
ج- ما رواه في الكافي أيضاً عن علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن فضيل بن يسار، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «إنّ الله عزّ وجلّ نصب علياً (عليه السلام) علماً بينه وبين خلقه، فمن عرفه كان مؤمناً، ومن أنكره كان كافراً، ومن جهله كان ضالاً، ومن نصب معه شيئاً كان مشركاً، ومن جاء بولايته دخل الجنّة، ومن جاء بعداوته دخل النّار»(14).
وفيها: "الذي يظهر منها أنّها في مقام إثبات الكفر للمخالفين بالمعنى المقابل للإيمان، كما يظهر من المقابلة فيها بين الكافر والمؤمن(15)، أو بمعنى الكفر الباطني وذلك لما ورد في غير واحد من الأخبار من أنّ المناط في الإسلام وحقن الدماء والتوارث وجواز النكاح إنّما هو شهادة أن لا إله إلَّا الله وأنّ محمداً رسوله، وهي التي عليها أكثر الناس، وعليه فلا يعتبر في الإسلام غير الشهادتين، فلا مناص معه عن الحكم بإسلام أهل الخلاف وحمل الكفر في الأخبار المتقدِّمة على الكفر الواقعي وإن كانوا محكومين بالإسلام ظاهراً"(16).
بعبارة أخرى: "بانتفاء الولاية ينتفي الإسلام واقعاً، إلَّا أنّ منكر الولاية إذا أجرى الشهادتين على لسانه يحكم بإسلامه ظاهراً، مضافاً إلى السيرة القطعية الجارية على طهارة أهل الخلاف، حيث إنّ المتشرِّعين في زمان الأئمة (عليهم السلام) وكذلك الأئمة بأنفسهم كانوا يشترون منهم اللَّحم ويرون حلية ذبائحهم ويباشرونهم، وبالجملة كانوا يتعاملون معهم معاملة الطهارة والإسلام من غير أن يردع عنه ردع"(17).
فالمتحصل: أنّه لا دليل في المقام على كفر من أنكر ضروري المذهب من المخالفين، وغاية ما يمكن أن يستدل بذلك هو الكفر في مقابل الإيمان أو الكفر الواقعي، إذ إنّ المستفاد من الروايات هو أنّ الإسلام يتحقق بالنطق بالشهادتين، فبهما تحقن الدماء، وتحرم الأعراض والأموال، وإنكار ضروري المذهب إنّما يوجب الخروج عن الإيمان لا الإسلام.
***
* الهوامش:
(1) العلامة الحلي، الحسن بن يوسف، منتهى المطلب، ج8، ص260.
(2) المازندراني، محمد صالح، شرح أصول الكافي، ج5، ص156.
(3) البحراني، الشيخ يوسف، الحدائق الناضرة، ج5، ص175.
(4) الجزائري، السيد نعمة الله، الأنوار النعمانية، ج3، ص70.
(5) كاشف الغطاء، جعفر بن خضر، كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغراء، ج2، ص18.
(6) القمي، الميرزا أبو القاسم، قوانين الأصول، ص208.
(7) السبزواري، السيد عبد الأعلى، مهذب الأحكام في بيان الحلال والحرام، ج1، ص376.
(8) ابن إدريس، محمد بن منصور الحلي، السرائر، ج3، ص583.
(9) الحكيم، السيد محسن، مستمسك العروة الوثقى، ج1، ص394.
(10) العلامة الحلي، الحسن بن يوسف، منتهى المطلب، ج1، ص522.
(11) الخوئي، أبو القاسم، التنقيح في شرح العروة الوثقى، الطهارة، ج3، ص82.
(12) الصدوق، محمد بن علي، من لا يحضره الفقيه، ج4، ص14، ح236.
(13) الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج1، ص187، ح11.
(14) المصدر السابق، ج2، ص389، ح7.
(15) الحكيم، السيد محسن، مستمسك العروة الوثقى، ج1، ص394.
(16) الخوئي، أبو القاسم، التنقيح في شرح العروة الوثقى، الطهارة، ج3، ص78.
(17) المصدر السابق، ص79.
0 التعليق
ارسال التعليق