مكانة الدعاء في الإسلام

مكانة الدعاء في الإسلام

بسم الله الرحمن الرحيم.

مقدمة

يتطرق هذا البحث إلى مكانة الدعاء في الإسلام بإشارات خاطفة إلى نصوص من القرآن الكريم وكلام العترة (عليهم السلام).

ومن المناسب البدء ببيان الفرق بين النداء والدعاء والمناجاة فإنها جميعاً داخلة تحـت عنوان الدعـاء بالمعنى الأعمّ، ولا ينـافي

ذلك أن واقع الدعاء يباين واقع المناجاة وواقع النداء. بل الدعاء الصادر من المعصوم (عليه السلام) يباين دعاء غيره حقيقة، وكذا الدعاء الصادر من أهل اليقين، بل إن لكل نفس هداها ولكل دعاء واقعاً مبايناً لغيره حقيقة؛ أن قوام الدعاء كما سيتضح في هذه المقالة ليس فعل العبد بأن يطلب، فإن صورة الطلب مشتركة بين الدعاء النافذ ودعاء القلب اللاهي الذي يخرج الفعل عن مسمى الدعاء، بل هو الطلب نفسه، ومن كل وعاء يصدر ما يحكيه.

الفرق بين النداء والدعاء والمناجاة

النداء رفع للصوت لإيجاد معنى لم يكن ليتأتى بغير هذا الأسلوب وبهذا الاختصار، كأن يقصد التنبيه على العجلة أو فداحة الأمر أو شدة الفاقة. وهذا المعنى تارة يوقع في كلام مفهوم، وتارة يوقع في صوت لا في معنى، فيكون الصوت بمثابة كلام مستقل له معناه الذي يشهد به حال الإيقاع من علو أو هدوء، في جمع من الناس أو في غير جمع من الناس، وغير ذلك من شواهد الحال. والنداء أسلوب فطري تستعمله جميع الأمم وحتى أهل النار {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ}(1)، وفي دلالة النداء على فداحة حالهم ما لا يدل عليه بغيره من الأوصاف. ويستعمل النداء للبعيد، والبعد أمر نسبي. فكما أن المنادى قد يكون بعيدا فإن المنادي قد يكون هو البعيد مع قرب المنادى بحسب الاعتبار. فالبعد والقرب لا ينبغي تقييده بالبعد الزماني أو المكاني أو غير ذلك، بل بحسب المقام. وذلك لكي لا يقال: إن النداء قد يستعمل لغير البعيد كما في قوله تعالى: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}(2)، بل نقول إن النداء لا يستعمل إلا في البعيد ولكن في الآية الشريفة استعمل النداء لاعتقاد العبد، وهو ذو النون، بأن مخالفته لما يحبه الله أردته في غياهب الظلمة النفسانية وجعلته محجوباً تحت ركام خطيئته وعظيم زلته فرأى نفسه بعيداً في غلظة الحجب وعمق الحفيرة التي أوقع فيها نفسه رغم قرب الله سبحانه من عباده، فما كان منه إلا أن نادى بصوت مرتفع وكأنه مزج النداء بالاعتراف والتعبير عن عدم تحمله للبعد عن ساحة قربه تعالى مع اعتقاده بفداحة ما ارتكبه وإن لم يكن ذنباً على التحقيق. فهذا كما ترى أبلغ تعبير عن الخطيئة وقوامه الاعتقاد بالبعد فبطل ما قيل إن النداء استعمل لغير البعيد، بل نقول إن البعد أعم من البعد المكاني أو الزماني أو غير ذلك من الاعتبارات.

أما الدعاء فهو طلب واستدراج في محاولة لنيل تجاوب من المدعو في تحقيق المأمول، وربما رفع فيه الصوت وربما خفض، إذ ليس الملحوظ في كون الدعاء دعاء التعبير عن حال من أحوال الداعي كما هو الحال في النداء، وإن حصل من خلال تعبيراته، بل الملحوظ فيه ما يريده الداعي من الطلب الناشيء غالبا عن الفقر والحاجة، أو تقريب المدعو إلى ما فيه الخير له أو ما يظهر منه ذلك، أو ما فيه الشر، أو غير ذلك. فبهذا يظهر الفرق بين الدعاء والنداء.

أما المناجاة فهي كالنداء ولكن بخفض الصوت لا برفعه ذلك بأن النداء مقصود فيه كلا الوجهين: الوجه الناشيء عن مضمون الكلام موقعاً فيه الوجه الناشيء عن حدة الكلام. كذلك المناجاة فإنها خطاب مقصود فيه الوجه الناشيء عن مضمون الكلام موقعاً فيه الوجه الناشيء عن إخفاءه. وكأن المتكلم بإخفاء الكلام قد صانه عن غير مخاطبه. وفي النجوى ما لا يوصف من شآبيب المحبة والتودد لأنها تناسب الهدوء والإطالة، فكأن المناجي يلفت المناجى إلى أنه حاضر عنده في جميع الأحوال وأن هذه المناجاة لا يراد لها أن تصير إلى ختام، وأنه لا يريد أن يتعب نفسه بالصراخ فيرهق نفسه عن النجوى فيكون انتهاؤها ملحوظاً في آفاق الخيال. فالمائز الأساس في النداء هو رفع الصوت وفي الدعاء الاستدراج وفي المناجاة خفض الصوت. أما المائز في الغرض فالنداء فيه بيان لحال المنادي عن طريق غير الكلام بل برفع الصوت، وكذلك المناجاة ولكن بالعكس، أما الدعاء فهذه المعاني تقصد فيه بالعرض.

الفرق بين الاستجابة والإجابة

الاستجابة هي تحقيق المدعو للأمل الذي أظهره الداعي على وجهه الذي أظهره أو على وجه أحسن منه من غير إذلال ولا منة بغير وجه حق. أما الإجابة فهي مطلق التفاعل مع السائل سواء بالسلب أو بالإيجاب أو بإعطاءه غير الذي سأل رعاية لمصلحته. وربما استعملت الإجابة في مورد الاستجابة لأن المدعو حقيق بألا يجيب إلا أن يستجيب لداعيه، فكان اللازم إلغاء مفردة الاستجابة من الخطاب معه لئلا يتوهم أنه يحتمل في حقه أن له استجابة وإجابة فيتقابلان فيحتمل في حقه الإجابة بالسلب، بل يحذف لفظ الاستجابة ويبقي الإجابة لأنها أقل كلفة. قال الإمام السجاد (عليه السلام) في دعاء أبي حمزة الثمالي: «الحمد لله الذي أدعوه فيجيبني» أي: يستجيب لي، فلا داعي للتكلف بإظهار أنه يستجيب والحال أنه لا يحتمل في حقه إلا أن يستجيب، مع ما في معنى الاستجابة من كلفة زائدة على الإجابة لأنها إجابة مقيدة، والإجابة مطلقة. وكذلك في قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}(3). فقد جعل الله تعالى الإجابة من جانبه والاستجابة من جانب العبد. والسبب في ذلك أن المعتبر الأهم في الداعي الإخلاص له سبحانه وتعالى، فعبرت عن ذلك بأوجز بيان وهو الاستجابة. هذا في مقام العبد. ولكن في مقامه تعالى عُبّر بالإجابة.

وهناك محاولة أخرى للجواب عن سبب العدول عن الاستجابة للإجابة في هذه الآية في حقه سبحانه وتعالى، مع أن النظر البدوي يقتضي نسبة الاستجابة إليه لأنها أليق بساحته. بيان المحاولة أن المولى أعلم بمصلحة عبده فاقتضى حسن التفاعل مع السؤال أن يجازيه بما هو خير له فعدل إلى لفظ الإجابة لأنها أعم من أن يجيبه بحسب مقتضى السؤال أو على مقتضى المصلحة. ولو قال أستجيب لما أفاد هذا المعنى؛ لأن الاستجابة نص في الإيجاب لأنها جواب بليغ وهو لا يناسب أن يكون على خلاف السؤال ووفق المصلحة. فكان من اللازم تحقق هذا العدول لكي يتم المعنى المذكور.

ولكن يرد على هذا الجواب إيرادان:

أولاً: إن المعنى المذكور وإن كان صحيحاً في نفسه، لكن الآية ليست مسوقة لشرح معنى في متعلق الإجابة لكي نقول بأنه عدل من الاستجابة للإجابة بقصد الدلالة على التعميم، بل سياقها لبيان أصل اهتمام المولى وتفاعله مع عبده مع قلة خطر العبد وصغر شأنه وعدم المقتضي منه لأن يُصغى إليه فضلاً عن أن يجاب على شيء من كلامه. فهذا المولى الغني ما كانت حيلة العبد لو لم يلتفت المولى إلى كلامه وتركه وشأنه، سيكون ضائعاً هائماً لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً. وما كان يفعل لو أورده المولى مسالك المهالك وجعله عنده أهون هالك ولم ينعم عليه بسمع ولا بصر ولا أمل. هذا والعبد ليس مستحقاً لشيء من ذلك، ولا المولى محتاج لأن يسمع كلامه، فضلاً عن أن يحسن إليه. ومع ذلك، فعرّف نفسه بأنه قريب يجيب دعوة الداع إذا دعاه. فلو كان العدول لما ذكره هذا المجيب لاشتغل القارئ بنكتة جانبية تجعله بعيداً عن هذا المعنى الذي هو الأصل، ومعلوم أن التشويش على المعنى بآخر في عرضه مما لا يصح صدوره في هذا المقام وأمثاله.

وثانيا: لو تنازلنا عن القرينة السياقية، نقول إن الاستجابة لا تنافي أن الله يجازي عبده وفق مصلحته لا وفق دعائه، بل هي أبلغ في ذلك لما فيها من معنى الجواب الحثيث. أما الإيجاب فهو أعمّ من الإعطاء على مقتضى السؤال أو على مقتضى المصلحة. فكأن المجيب خلط بين الإيجاب الذي يتصوره العبد والإيجاب في نفس الأمر. توضيح ذلك: إن العبد يتصور أن الإيجاب كامن فيما طلبه، ولو أجابه المولى بغير ما طلبه لكان مظنة أنه لم يستجب له وإن كان في مصلحته. أما الإيجاب الواقعي والذي ربما لا يدركه الداعي فهو الإجابة بحسب المصلحة. ففي قوله تعالى {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ} لو كان المراد من الاستجابة ذلك المفهوم القاصر الذي يتصوره العبد، وهو أن ما وافقه سؤاله فهو استجابة وما خالفه فهو إعراض، لكان هناك وجه لتصور أن العدول من الاستجابة للإجابة إنما حصل للتعميم لكي يشمل أن يستجيب للعبد وفق مصلحته أيضاً. أما لو كان المراد من الاستجابة مفهومها الحق، وهو أنها إجابة بليغة وفق مصلحة العبد، لما كان حاجة للعدول لأجل التعميم لأن المعنى حينئذٍ عام وبأوجز بيان.

والخلاصة: أن المجيب خرّج العدول من الاستجابة إلى الإجابة لكي يفيد أن المولى يجازي العبد وفق مصلحته لا وفق مسألته. والجواب أن هذا المعنى تشاغل بنكتة في متعلق وكيفية الإجابة عن النكتة المهمة في الآية وهي أن الله يتفاعل مع عبده رغم ضعفه، وهذا التشويش مما لا ينبغي. وثانيا، لو غضضنا النظر عن ذلك، نقول إنما يصح هذا الجواب لو حملنا الاستجابة على الإيجاب الذي في نظر العبد، أما لو ألبسنا الاستجابة لباس الإيجاب الواقعي فلا داعي حينئذ للعدول بل يكفي أن يأتي بلفظ الاستجابة. فاتضح أن سبب العدول هذا غير تام لا من جهة الغرض ولا في نفسه.

فالسبب الصحيح للعدول هو ما ذكرنا، وهو أنه لا شك بأن مقتضى الحال أن يجاب بلفظ الاستجابة لا الإجابة لما مرّ، ولكن لما كان المولى لا يحتمل في حقه أن لا يستجيب عند رفع العبد رأسه إلى السماء داعياً، صارت مفردة الاستجابة لا حاجة لها بالنسبة إليه؛ لأن الحاجة إليها منحصرة في استفادة أن هناك معنى في مقابل الإجابة وهو الاستجابة. فلما وجدنا فيها اعتباراً زائداً، مع ما في ذلك من الكلفة، لأنها إجابة وزيادة، فكأنما حذفها المولى مما يصح إسناده إليه وأقام الإجابة مقامها لأن الشق الثاني مما تشمله الإجابة وهو الجواب بالسلب لم يعد له وجود. وبذلك انتفى أن هناك متقابلين، فلم يبق في حقه إلا أن يكون عند حسن ظن عبده، فكانت إجابته استجابة لا غير، فحذف الاستجابة عن معجم ما يسند إليه لأن فيها اعتباراً زائداً لا حاجة له.

وأما ما نزل في سورة آل عمران {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى}(4)، فلا ينافي ما ذكر، لاختلاف المعنى المسوق له الكلام. وإنما عُبّر بالاستجابة هناك لأنه كان في مقام بيان شي من آلاءه سبحانه، وذلك المقام أجدر بأن يستعمل فيه ما هو أدل على الجواب الأكيد، بينما في مقامنا كان الكلام لبيان تفاعله في علو شأنه مع عبده المتوغل في الضعف وقلة الحيلة، فلم يحتج لذلك الاعتبار الزائد، بل كان ذكره مضراً لأنه سيحرف الالتفات إلى المعنى الأهم بالمعنى المهم.

مكانة الدعاء في القرآن والسنة

للدعاء شأن رفيع فهو يستبطن معانٍ كثيرة لأنه إذعان عملي بتوحيد الله سبحانه، واعتراف بالفقر والذل، وفيه إيكالُ الأمر إلى الله سبحانه وإعراضٌ عمن سواه وتمجيدٌ لمقامه وتعدادٌ لآلاءه وشوقٌ للقاءه إذ كلُّ كامل يشتاق إليه وإظهارٌ لمحبته. فكون الداعي في مقام الدعاء يعني تجلله بأعلى مراتب التوحيد وتعرضه لأقوى مظان الرحمة واكتسابه نوراً في القلب ونوراً في العقل. فإن الداعي لا يخيب أبداً. ومما ورد حول مكانة الدعاء:

المورد الأول:

أصول الكافي: عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن فضالة بن أيوب، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): الدعاء سلاح المؤمن وعمود الدين ونور السماوات والأرض»(5).

أما كون الدعاء سلاح المؤمن فلأن السلاح هو ما يدفع به الإنسان الشر عن نفسه وما يحصل به على الغنائم. وعند شدة الوطيس وتطاير الأعناق فالوهم يعتبر السلاح القائد المنجي، وقد لاموا ذلك السائل الذي سأل أمير المؤمنين (عليه السلام) عن التوحيد أثناء شدة المعركة وهم يرون الموت بأعينهم، ولكن أمير المؤمنين (عليه السلام) تقبل ذلك السؤال بقبول حسن، وكانوا غافلين عما قاله (عليه السلام): «إن الذي يريده الأعرابي هو الذي نريده من القوم»(6)، ولما كان المؤمن أول نظره إلى الله ويصول به في الشدة وفي الرخاء كان الله عنده بمثابة السيف عند المحارب. والذين آمنوا أشد حباً لله.

وأما كونه عمود الدين فالصلاة عمود الدين أيضا والظاهر من هذا الحديث وقول النبي (صلّى الله عليه وآله): «الصلاة عمود الدين» أن العمود واحد فهذا إشكال، ولكن الأمر يسير فكون الدعاء عموداً يناسب كون الصلاة عموداً؛ لأن الصلاة عمود الدين من جهة كونها أهم الفرائض العبادية لا تقبل الأعمال إلا بها. أما الدعاء فكونه عمود الدين لأن الغرض من الخلقة هو العبادة { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}(7)، والدعاء أصرح الأفعال في العبادية إذ فيه تصريح بالفقر والفاقة ممزوجاً بكون العبد في موقف هو اختاره لنفسه بمحض إرادته لأن وقوفه للدعاء ليس لأجل أداء فريضة واجبة عليه كالصوم والصلاة بل هو واقف ووقوفه حاصل بدافع أنه محتاج. فهذا موقف عظيم حتى قال الله تعالى: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ}(8) ولا شك أن الجامع بين الصلاة والدعاء هو التضرع الناشيء عن العبودية والتوغل في الحاجة.

وأما كونه نور السماوات والأرض قال المازندراني: "لعل المراد أنه لصاحبه فيها يعرفه أهلها كما يعرف الشمس والقمر وسائر الكواكب بأنوارها أو المراد أنه منورها كما قال تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}(9).."(10). والنور ينفذ في منافذ دقيقة وكذلك الدعاء ينفذ في عالم الإبرام حتى ينقض القضاء. قال الصادق (عليه السلام): «إن الدعاء أنفذ من السنان الحديد»(11)، وقال: «الدعاء يرد القضاء بعد ما أبرم إبراما، فأكثر من الدعاء فإنه مفتاح كل رحمة ونجاح كل حاجة ولا ينال ما عند الله عز وجل إلا بالدعاء»(12).

وها هنا سؤال وهو هل استعمل النور صفة للدعاء من باب الحقيقة أم من باب المجاز؟

قال المازندراني: "وحمل النور عليه (على الدعاء) إما من باب التشبيه والوجه في المشبه به حسي وفي المشبه عقلي، أو من باب الحقيقة لأن الدعاء نور ساطع عند أهل التجريد وضوء لامع عند أصحاب التوحيد"(13).

والأقرب أنه من باب الحقيقة لأنه لا دليل على كون لفظ النور موضوعاً للنور المحسوس مع وجود الجامع بين النور المحسوس والنور عند أهل التجريد كما عبر عنه المازندراني، وهو إظهار المحسوسات وإظهار الحقائق، أو رفع البهمة سواء المحسوسة أم الحجب النورانية والظلماتية. فإن قيل: إن الدليل على كونه موضوعا للمحسوس هو التبادر فالجواب أن التبادر بخلاف ذلك لأن المتبادر من النور هو الوصفية للضوء ولا يتبادر منه الضوء نفسه، وعند استعماله في الضوء يستعمل فيه لا من جهة كونه ضوءا بل بلحاظ كونه كاشفا لأن الكاشفية من آثار الضوء وليست الضوء بذاته. فتبين أن التبادر علامة على كون النور حقيقة في الكشف الثاقب فيكون في الحديث من باب الحقيقة لا من باب المجاز.

استطراد

وقد ورد في ما لا يحصى من النصوص أن النبي (صلّى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) هم نور الله، ولا يبعد حصول التواتر المعنوي بهذا المضمون، ولا يضره لو لم يكن كذلك كما هو واضح عند أهل البصائر. ففي الزيارة الجامعة أنهم صراطه ونوره وبرهانه وأنهم نور الأخيار وهداة الأبرار وحجج الجبار وأن الأرض أشرقت بنورهم وفي موضع آخر خلقكم الله أنواراً فجعلكم بعرشه محدقين.

وفي التوحيد (باب تفسير قول الله عز وجل الله نور السماوات) بإسناد متصل إلى الفضيل بن يسار قال: "قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} قال: «كذلك الله (عزَّ وجلَّ). قال: قلت: {مَثَلُ نُورِهِ} قال: «محمد (صلّى الله عليه وآله)» قلت: {كَمِشْكَاةٍ} قال: «صدر محمد (صلّى الله عليه وآله)» قال: قلت: {فِيهَا مِصْبَاحٌ} قال: «فيه نور العلم يعني النبوة» قلت: {الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ} قال: «علم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) صدر إلى قلب علي (عليه السلام)» قلت: {كَأَنَّهَا} قال: «لأي شيء تقرأ كأنها» قلت: فكيف جعلت فداك؟ قال: «كأنه كوكب دري» قلت: {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ} قال: «(ذاك) أميرالمؤمنين (عليه السلام) لا يهودي ولا نصراني»، قلت: {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} قال: «يكاد العلم يخرج من فم العالم من آل محمد (صلّى الله عليه وآله) من قبل أن ينطق به» قلت: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} قال: «الإمام في إثر الإمام»"(14).

ولا توجد منافاة بين كون الدعاء نور السماوات والأرض وهذه الأحاديث، فإن نور السماوات والأرض يهتدى به إلى الله لأن الدعاء أفضل العبادة، ولكن الوارد عن الأئمة (عليه السلام) أنهم نور الله لا نور السماوات والأرض، وكم من فرق بين النسبتين. والأئمة نور لا يهتدى به وحسب، بل يهتدى إليه. فهذا النور ليس في متناول الأيدي قال تعالى في ذيل تلك الآيات: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}(15)، فمن لم يشأ الله أن يهديه إلى نور الولاية فإنه لن يهتدي إليه.

وفي بصائر الدرجات عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «إن أمركم هذا عرض على الملائكة فلم يقر به إلا المقربون وعرض على الأنبياء فلم يقر به إلا المرسلون وعرض على المؤمنين فلم يقر به إلا الممتحنون»(16). وفيه أيضا عنه (عليه السلام): «إن الله يقول: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}(17). قال: «هي ولاية علي بن أبي طالب (عليه السلام)»(18). وفي نفس الكتاب أيضا عنه (عليه السلام): «خالطوا الناس مما يعرفون ودعوهم مما ينكرونه ولا تحملوا على أنفسكم وعلينا إن أمرنا صعب مستصعب لا يحتمله إلا ملك مقرب أو نبي مرسل أو عبد مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان»(19).

هذا، والدعاء يتأثر بقدر المعرفة، وكيف تكون له شأنية أن يستجاب ولا معرفة للداعي؟ نعم إن استجيب فلشأنية المولى لا لتوفر الدعاء على شروطه. وأهم الشروط الولاية. ففي الكافي عن جابر عن الإمام أبي جعفر الباقر (عليه السلام) إنه قال: «إنما يعرف الله عز وجل ويعبده من عرف الله وعرف إمامه منّا أهل البيت، ومن لا يعرف الإمام منّا أهل البيت فإنما يعرف ويعبد غير الله»(20). وهو صريح في الترتب الطولي بين معرفتهم وتحقق الدعاء.

المورد الثاني:

أصول الكافي: بنفس إسناد الحديث السابق قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «الدعاء مفاتيح النجاح ومقاليد الفلاح، وخير الدعاء ما صدر عن صدر نقي وقلب تقي، وفي المناجاة سبب النجاة، وبالإخلاص يكون الخلاص، فإذا اشتد الفزع فإلى الله المفزع»(21).

في هذا الحديث لفتة إلى تعدد مراتب الدعاء لقوله (عليه السلام) وخير الدعاء إلخ...

الدعاء متقوم بالداعي ولا تحقق للدعاء مستقلا عن الداعي، فكانت مراتب الدعاء متفاوتة، وخيره ما صدر عن صدر نقي وقلب تقي. فهل تشترك هذه المراتب في حقيقة واحدة من قبيل التشكيك والتفاوت في الدرجات أم أن حقيقة الدعاء تختلف عما هي عليه بين مرتبة ومرتبة؟

الأظهر أن واقع الدعاء لا مشترك فيه بين دعاء ودعاء. برهان ذلك أولا: أن صورة الدعاء لا تختلف بين دعاء القلب اللاهي ودعاء القلب النقي التقي الأبلج، مع أن اللهو قد يوصل الدعاء إلى مرتبة يصح أن يقال له أنه ليس دعاءاً بالحقيقة. فإذا كان شدة اللهو تخرج الدعاء عن كونه واقعاً، كانت درجات اللهوية المائز بين الحقيقة واللاحقيقة. فإذا تقرر أن اللهوية شأنها التمييز بين الحقيقة واللاحقيقة، كان تفاوت مراتبها موجباً لتفاوت الواقعيات لأن شأنها التمييز، فثبت المطلوب.

وثانيا: الدعاء إن كان المقصود به "أن يرفع يده بالدعاء" فلا شك أنه بمعنى واحد لتحقق ذات الفعل عند جميع الداعين، ولكن في هذا المقام لا نريد تحقيق ذلك لأن هذا الفعل ليس نور السماوات كما هو واضح، بل المقصود هو الحقيقة المتقررة المتقومة بقلب الداعي بما له من نور الإيمان وبما سطع فيه من المعرفة، والإضافة إلى الله عز وجل، فالدعاء بهذا اللحاظ معنى متقوم بطرفين وفلتة من فلتات القلب لا تصدر إلا عن هذا المقدار المتشخص من المعرفة وليس ما ينفثه قلب يشترك مع ما ينفثه قلب آخر وقد قيل إن الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق.

وفي المناجاة سبب النجاة

النجاة أن يخرج سالماً من الشر المحدق، وحصر سبب النجاة في المناجاة، وإن كان حصراً بنحو المبالغة، إلا أنه إشارة إلى أن الإنسان يحتاج إلى الله لكي ينجو كما في قوله تعالى {إن الإنسان لفي خسر} وفي الكلام إشارة إلى أنه ليس النجاة بيد المخلوقين بل ظن ذلك من قلة العقل ففي الكافي عن أبي عبدالله (عليه السلام) "قال: «ليس بين الإيمان والكفر إلا قلة العقل» قيل: وكيف ذاك يا ابن رسول الله؟ قال (عليه السلام): «إن العبد يرفع رغبته إلى مخلوق فلو أخلص نيته لله لأتاه الذي يريد في أسرع من ذلك»"(22).

المورد الثالث:

قال تعالى: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا}(23).

قيل في معنى الآية إن الله لم يكن ليبالي بكم لولا أنكم تدعونه. أي إنكم إذا لم تكونوا من الداعين فإن الله عز وجل لا يبالي بكم، فعلى هذا المعنى هناك وجه لإستفادة وجوب الدعاء ووجوب أن يكون العبد كثير الدعاء لكي يكون ممن يعبؤ بهم الله سبحانه وتعالى.

ولكن يشكل على هذا المعنى بأن عدم المبالاة من قبل الله إعراض عظيم لا يتناسب مع عدم الفعل الذي هو عدم الدعاء بل يتناسب مع الفعل الذي هو المعصية، وبينهما فرق لأن عدم الدعاء لا يعني النسيان بل هو أعم من النسيان والأمن أو الغفلة كما هو حال الكثير من المسلمين الذين لا يدعون الله ولا يذكرونه، ثم إن الله صرّح في آية أخرى أنه ينساهم إذا نسوه، وهذا صريح في أن سبب إعراضه هو فعلهم النسيان بناء على أن النسيان يرجع إلى معنى وجودي، هذا، ولكن يرد عليه أن هذا تفسير بالرأي لو كان مدلول الآية هو ذلك، مع أن مضمونها لو كان هو ذلك فهو غير مانع الجمع مع الآية الأخرى لتغاير مفهوم عدم الدعاء ومفهوم النسيان حتى لو أرجعنا النسيان إلى أمر وجودي.

إذن يبقى المعنى المستفاد خالياً من الإشكال. هذا ما قيل، ولكن في الميزان رفض أن هذا هو مدلول الآية لعدم تناسب التفريع في قوله فقد كذبتم مع صدر المعنى. قال في الميزان: "(قيل: {دُعَاؤُكُمْ} من إضافة المصدر إلى المفعول وفاعله ضمير راجع إلى {رَبِّي} وعلى هذا فقوله: {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ} من تفريع السبب على المسبب بمعنى انكشافه بمسببه، وقوله: {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} أي سوف يكون تكذيبكم ملازما لكم أشد الملازمة فتجزون بشقاء لازم وعذاب دائم.

والمعنى: قل لا قدر ولا منزلة لكم عند ربي فوجودكم وعدمكم عنده سواء لأنكم كذبتم فلا خير يرجى فيكم فسوف يكون هذا التكذيب ملازما لكم أشد الملازمة، إلا أن الله يدعوكم ليتم الحجة عليكم أو يدعوكم لعلكم ترجعون عن تكذيبكم. وهذا معنى حسن.

وقيل: {دُعَاؤُكُمْ} من إضافة المصدر إلى الفاعل، والمراد به عبادتهم لله سبحانه والمعنى: ما يبالي بكم ربي أو ما يبقيكم ربي لو لا عبادتكم له.

وفيه أن هذا المعنى لا يلائم تفرع قوله: {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ} عليه وكان عليه من حق الكلام أن يقال: وقد كذبتم! على أن المصدر المضاف إلى فاعله يدل على تحقق الفعل منه وتلبسه به وهم غير متلبسين بدعائه وعبادته تعالى فكان من حق الكلام على هذا التقدير أن يقال لو لا أن تدعوه فافهم"(24). فتأمل في كلامه.

خاتمة

كانت هذه مقتطفات من شجرة القرآن والنبوة والإمامة مع بعض التأملات والهدف الرئيس لهذه المقالة لم يكن تحقيق ما تم تناوله بشكل نهائي بل يكفي أن أوردت بعض النقاط الجديرة بالتفكير. والحاصل أن الدعاء بالمعنى الأعم كثيراً ما يستعمل في الدعاء والنداء والمناجاة ولكن يمكن القول بأن هذه المفاهيم إذا اجتمعت افترقت وإذا افترقت اجتمعت. ثم إنه غير خفي ما للدعاء من مكانة عظمى تشهد بها الفطرة قبل أن تشهد بها النصوص. وللدعاء شروط من أهمها معرفة الإمام، فمن لم يعرف الإمام فإنما يعرف ويعبد غير الله. والحمد لله رب العالمين.

 

* الهوامش:

(1) الأعراف: 50.

(2) الأنبياء: 87.

(3) البقرة: 186.

(4) آل عمران: 195.

(5) الكافي، ج2، ص468.

(6) التوحيد للشيخ الصدوق (رحمه الله)، ص83.

(7) الذاريات، ص56.

(8) الفرقان: 77.

(9) النور: 35.

(10) شرح أصول الكافي، ج10، ص233.

(11) الكافي، ج2، ص469.

(12) الكافي، ج2، ص470.

(13) شرح أصول الكافي، ج10، ص233.

(14) التوحيد، ص158.

(15) النور: 35.

(16) بصائر الدرجات، ص87.

(17) الأحزاب: 72.

(18) نفس المصدر، ص96.

(19) نفس المصدر، ص46.

(20) الكافي، ج1، ص181.

(21) الكافي، ج2، ص468.

(22) الكافي، ج1، ص28.

(23) الفرقان: 77.

(24) الميزان، ج15، ص246.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا