المفاهيم والسنن الإلهية في الكتاب الكريم هي عبارة عن قواعد كلية صالحة للانطباق في جميع العصور التي تتوفر على تلك الشروط والأسباب المهيئة لانطباقها، فالقرآن ليس كتاب قصص ومفردات متناثرة بل هو دستور وأساس لفهم حياتنا المعاصرة عبر الأحداث التي جرت للأقوام السابقين وما تجري لنا أيضاً. أحـد المفاهيم القرآنية التي أكَّـد عليها الباري (عزَّ وجلَّ) في كتابه العزيز والتي حثَّ عليها المسلمـين باتباعها، هو مفهوم الهجرة، فالكـلام
يقع في عدة محاور، نحاول فيها أن نلم هذا الموضوع من جميع جوانبه ونتطرق للآيات التي تصبُّ في هذا الجانب لنفهم هذا المصطلح فهماً قرآنيا:
أولاً: المقصود من الهجرة
جاء في تفسيرها اللغوي عدة تفسيرات منها: الترك -الخروج في أرض إلى أخرى(1)- والهَجْرُ: ضد الوصل. هَجَرَه يهجره هجراً وهجراناً. هَجرتُ الشيء هجراً إذا تركته وأغفلته(2).
والمهاجرون: هم الذين ذهبوا مع النبي (صلّى الله عليه وآله)، مشتقٌ منه، سميَّ المهاجرون مهاجرين لأنهم تركوا ديارهم ومساكنهم التي نشؤوا بها ولَحِقوا بدارٍ ليس لهم بها أهل ولا مال حين هاجروا إلى المدينة فكل من فارق بلده من بَدَويٍّ وحضريٍّ أو سكن بلداً آخر، فهو مهاجر والاسم منه الهجرة(3).
وجاء في الشرع أن الهجرة هي: ترك ما نهى الله عنه (ابن حجر) - عند الحنفية، والحنابلة: ترك الوطن الذي بين الكفار، والانتقال إلى بلاد الاسلام(4).
وما نريد بحثه وتسليط الضوء عليه التعريف الاصطلاح الشرعي لأنَّه هو ما أفاده القرآن الكريم، وقبل أن نتعمق في التعريف الشرعي، نلاحظ من خلال التعريفين (اللغوي والشرعي) أنَّ هناك عدة مقومات لذلك المصطلح وهذه المقومات تتلخص في:
1- وجود المبدأ والمُنطلق: الأرض الأولى -كما في التعريف اللغوي-، وترك المنهي عنه -كما في تعريف الشرعي.
2- وجود المسار أو الطريق: وهو من الأمور البديهية؛ إذ أنّ المهاجر لا بدَّ أن يتخذ مسلكاً ومنهجاً في سفره وهجرته.
3- المنتهى والمقصد: الأرض الأخرى أو ما يُطاع الله به.
ويمكن إضافة قسم رابع، ولكن هذا القسم يعتبر ميزةً لتعريف الهجرة في الشرع عن الهجرة اللغوية إذ قد تكون الهجرة اللغوي مجرد تحرك شخص من نقطة ألف الى باء دون هدف أو غاية معينة، بينما الهجرة الشرعية لا بدَّ أن تُحدث تغييراً في من يبتغيها، وليس مُطلق التغيير، بل لا بدَّ أن يكون التغيير ارتقائيا في جميع جوانب الشخص المهاجر.
علاوةً على ما ذُكر فإنَّ من بين جميع الموجودات الحيّة، حين تتعرض حياة أي واحد أو مجموعة منها إلى الخطر، نراها تضطر إلى ترك مكان تواجدها والهجرة منه إلى مأوى وملجأ أمن آخر، والكثير من أبناء البشر الأقدمين عمدوا إلى الهجرة من مكان ولادتهم -بسبب تغير الظروف الجغرافية فيه- إلى نقاط أخرى من العالم من أجل مواصلة الحياة، وليس البشر وحدهم الذين مارسوا الهجرة، بل هناك من بين الحيوانات أنواع كثيرة عرفت بالحيوانات المهاجرة، مثل الطيور التي تضطر أحيانا إلى الدوران حول الأرض تقريبا من أجل إيجاد مأوى تواصل فيه حياتها، وبعض هذه الطيور تهاجر من القطب الشمالي إلى القطب الجنوبي، وأحيانا تقطع مسافة حوالي (18) ألف كيلومتر للوصول الى المكان الذي تريد العيش فيه.
وهذه الشواهد هي خير دليل على أنّ الهجرة هي إحدى القوانين الخالدة للحياة، فهل يصحّ أن يكون الإنسان أقل حظاً من الحيوان في هذا المجال؟
ثانياً: أقسام الهجرة
الهجرة وإن كانت ذات محور واحد إذ أنها انتقال وتغير حالة شخصٍ ما من موقع ألف إلى باء، إلا أننا نستطيع تقسيمها بعدة لحاظات:
أ- بلحاظ المُنطلق والمبدأ: قد يهاجر شخصٌ من بيئة فاسدة ومرتكبة لشتى أنواع الفساد إلى بيئة أرقى منها، بينما قد يهاجر آخر من بيئة راقية إلى ما هي أرقى منها، فكلاهما يصح تسميتها بالهجرة ولكن الأولى تعتبر أكثر تأثيراً من الثاني، إذ الأول وكأنه قد فرَّ من جحيم موقعه الأول إلى جنة الموقع الثاني.
ب- بلحاظ المنتهى: قد ينتقل اثنان من نفس البيئة الى بيئتين، ولكن الأول يتميز عن الثاني بأنَّ مقصده أفضل على الرغم من وحدة المنطلق ومستوى التزامه أو انحطاطه إلا أنّ المميز هنا هو المقصد والمنتهى.
ج- بلحاظ الغاية والهدف: قد يهاجر شخصان من نفس الموقع الى نفس الموقع إلا أنّ أحدهما قد يتفوق على الآخر إذ أنّ هدفه قد يكون أشرف وأسمى وأرقى من الآخر.
لذا نفهم فهماً أوليَّاً لماذا قد تؤثر الهجرة تأثيراً كبيراً على شخصٍ بينما تؤثر في الآخر تأثيراً سطحياً وربما لا تؤثر فيه البته، وهناك تقسيمات أخرى سنتطرق إليها لاحقا في طيّات الحديث.
ثالثاً: أسمى أنواع الهجرات:
إنَّ القرآن الكريم الذي أكّد على الهجرة قد بيّنها بالشكل الذي يرتضيها ويطمح للعبد أن يكون من روّادها، ليس المطلوب أيَّ هجرةٍ كانت، إذ قد تكون بعضها مبغوضة لديه كما لو هاجر شخصٌ لارتكاب معصية، فالقرآن قد وضَّح الهجرة المطلوبة؛ لأنَّ كل شخصٍ منّا مطالبٌ بهجرة في حياته هذه، وبعبارة أخرى: فالهجرة برنامج عام لكلّ مؤمن عندما يشعر في وقت من الأوقات أنّ الجو الذي يعيش فيه غير متناسب مع أهدافه المقدّسة، ويبدو كأنّه مستنقع عفن يفسد كلّ ما فيه، فتكليفه الهجرة، وعليه أن يحزم حقائب السفر، وينتقل إلى مناطق أفضل، فأرض الله واسعة. والآية الأولى التي نتكلم حولها عن الهجرة والتي حكاها القرآن هي قول الله تعالى: {فَآَمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}(5).
هذه الآية تحكي عن أسمى الهجرات الربانية وهي الهجرة الى الله سبحانه وتعالى وليس من أجل تحصيل أمرٍ دنيوي أو أخروي -وإن كان مُحصلاً في طيّات هذه الهجرة- ولكن الهدف والغاية أسمى من شيءٍ اسمه مال أو منصب بل وحتى من الجنة نفسها.
وقع الخلاف بين المفسرين في هذه الآية الشريفة حول فاعل(قال)؛ فبعض المفسرين قال إنَّ الضمير يعود إلى نبي الله لوط (عليه السلام)؛ وذلك لوجود قرينة سياقية على ذلك، وهذا الرأي يتماشى مع القاعدة القائلة بأنّ الضمير يرجع إلى أقرب الأسماء المذكورة.
ولكن ما ينفي هذا الرأي هو وجود آيةٍ أخرى تنص على أنَّ القائل هو نبي الله إبراهيم (عليه السلام)، والآية هي قوله (عزَّ وجلَّ): {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ}(6)، وبمراجعة سياق هذه الآية نجد أنها تتكلم عن نبي الله إبراهيم وكيف أنه ترك ملة قومه واتجه لعبادة الله عبر مفهوم الهجرة الربانية.
البعض يتصوّر أنَّ هجرة الأنبياء (عليهم السلام) كانت مقتصرةً على الجانب المادي؛ أي تحرك البدن من نقطة الى نقطة، ولكن الهجرة قبل أن تكون ذات طابع ذاتي خارجي، فهي ذات طابع ذاتي داخلي، ففي بداية الأمر يجب على القلب والروح هجر الفساد إلى الطهارة، وهجر الشرك إلى الإيمان، وهجر المعاصي إلى طاعة الله العظيم. فالهجرة الداخلية هي بداية تغيّر الفرد والمجتمع، ومقدّمة للهجرة الخارجية.
في الحقيقة، إنّ أولياء الله عندما كانوا يتّمون مهام رسالتهم في إحدى المناطق، أو أنّهم كانوا يحسّون بأنّ المجتمع لا يتقبّل رسالتهم، كانوا يهاجرون كي لا تتوقّف رسالتهم.
وهذه الهجرة كانت مصدر بركات كثيرة على طول تاريخ الأديان، حتّى أنّ تاريخ الإسلام من الناحيتين الظاهرية والمعنوية يدور حول محور هجرة الرّسول (صلّى الله عليه وآله)، ولولا الهجرة لكان الإسلام قد غرق -وإلى الأبد- في مستنقع عبدة الأصنام في مكّة. فالهجرة هي التي أعطت روحاً جديدة للإسلام والمسلمين، وغيّرت كلّ شيء لصالحهم، وخطت للبشرية طريقاً جديداً للسير عليه.
والجزاء في الهجرة المعنوية مضمون بصريح الآية الشريفة حيث أنّ النبي إبراهيم (عليه السلام) قد نصَّ على أنَّ هجرته هذه غايته الباري والجزاء عليه هو الهداية وذلك بقوله (عزَّ وجلَّ): {... سيهدين}، وما أعظمها وأسماها من جائزة يحوزها من يهاجر لله.
وبالإضافة إلى الهداية المضمونة من الباري (عزَّ وجلَّ) لنبيه فإنه في آخر آية من هذا المقطع يقع الكلام على المواهب الأربع التي منحها الله لإبراهيم (عليه السلام) بعد الهجرة العظيمة:
الموهبة الأولى: الأبناء الصالحون، من أمثال إسحاق ويعقوب، ليسرجوا مصباح الإيمان والنّبوة في بيته وأسرته ويحافظوا عليه، إذ يقول القرآن: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ}(7)، وهما نبيّان كبيران واصل كلّ منهما السير على منهاج إبراهيم (عليه السلام) محطم الأصنام.
الموهبة الثّانية: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} ولم تكن النّبوة في إسحاق بن إبراهيم ويعقوب حفيده فحسب، بل استمر خط النّبوة في ذريّة إبراهيم (عليه السلام) وأسرته حتى نبوّة خاتم الأنبياء محمّد (صلّى الله عليه وآله) متعاقبون من ذرية إبراهيم، نوّروا العالم بضياء التوحيد.
الموهبة الثّالثة: {وَآَتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا} فما هو هذا الأجر الذي لم يوجهه القرآن؟ لعله إشارة إلى أُمور مختلفة مثل الاسم الحسن، ولسان الصدق والثناء بين جميع الأُمم، لأنّ الأُمم كلها تحترم إبراهيم (عليه السلام) على أنّه نبي عظيم الشأن، ويفتخرون بوجوده ويسمونه "شيخ الأنبياء".
عمارة أرض مكّة كانت بدعائه، وجذب قلوب الناس جميعاً نحوه، لتتذكر ذكريات التجلي والإيمان كل سنة في مناسك الحج، كل ذلك من هذا الأجر المشار إليه في القرآن.
الموهبة الرّابعة: هي {وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ}، وهذه هي أُسُّ المواهب وأهمها؛ إذ لا فائدة في ذرية صالحة والأجر في الدنيا والأولاد دون آخرة صالحة. فلو خلت الهبات من الله (عزَّ وجلَّ) من النهاية الصالحة لكانت جميع الهبات الأخرى عبئاً على صاحبها، ولكنّ الله ضمن له هذه الخاتمة المميزة، وهكذا تشكّل هذه المواهب مجموعة كاملة من المفاخر(8).
الآية الثانية التي نبحثها قوله تعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}(9).
هذه الآية الشريفة صريحة في أنّ الجزاء في الهجرة فيما يرضي الله عظيم جداً، فليس المطلوب هو الهجرة بما هي هجرة، وإنما المطلوب هو الهجرة في سبيل الله، وهذا النوع لا يجب فيه الانتقال من مكان إلى آخر، إذ قد يكون الإنسان في نفس الوطن ولكنه يكون مهاجراً في سبيل الله، وذلك بأنّ يهجر أفعال قومه الرذيلة إلى سمو الذات، ويكون إنساناً رسالياً في كل حركاته وسكناته، فهو -وإن لم يهاجر أرضه- إلا أنه هجر بأفعاله أفعال قومه أي هاجر في سبيل الله، فليست أقسام الهجرة تختص بالهجرة المادية.
فمثلاً من يذهب إلى حج بيت الله الحرام، هو يهاجر قومه وأفعالهم لفترةٍ ما، فهذه الهجرة هجرة مادية؛ لأن المهاجر يركب وسيلة مادية إلى أرض مكة المكرمة وقصده أداء مناسك الحج من أفعال وأقوال معينة، فكل هذه أمورٌ مادية، ولكن هذا الحاج يستطيع أن يجعل سفره المادي هذا سفراً معنوياً أيضاً، وذلك في أن يُشعر نفسه في كلِّ حين من أحيان الحج بأنه في حالة ارتقاء وهجرة لله (عزَّ وجلَّ)، وهذا ما أفاده حديث الإمام زين العابدين مع الشبلي، فالمطلوب من الحج ليس الهجرة المادية بنفسها وإنما مطلوبٌ فيه الهجرة المعنوية أيضاً.
وكما أشرنا سابقاً أنّ المنطلق والمنتهى والمسير قد يتفق فيه شخصان ولكن أحدهما قد يحوز مرتبةً لا يحوزها الثاني، وهذا الذي يميز من يهاجر الهجرة المعنوية أثناء هجرته المادية عن الذي يكتفي بهجرته المادية، فالأخير ليس له من رحلته سوى التعب والجزاء قد يكون موجوداً ولكنه لا يصل لجزاء الأول الذي أضاف لرحلته رحلةً إلى الله (عزَّ وجلَّ).
ومما يؤكد أنّ المطلوب هو الهجرة المعنوية المقطع الثاني من نفس الآية هذه وهو قوله تعالى: {.. وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ..}، فعلى هذا الأساس فإنّ المهاجرين في كل الأحوال سينالهم نصرٌ كبير، سواء وصلوا إلى المكان الذي يستهدفونه ليتمعتوا فيه بحرية العمل بواجباتهم أو لم يصلوا إليه فيفقدوا حياتهم في هذا الطريق، فإنّ الآية أوضحت مدى الأجر والثواب الذي يناله المهاجرين من هذا القسم.
الإسلام والهجرة(10):
إنّ الإسلام -استنادا إلى هذه الآية وآيات كثيرة أخرى- يأمر المسلمين بكل صراحة بالهجرة من المحيط الذي يعانون فيه -لأسباب خاصّة- من عدم التمكن من أداء واجباتهم إلى محيط ومنطقة آمنة، وسبب هذا الأمر واضح؛ لأنّ الإسلام لا يحدّ بمكان ولا يقيد بمحيط معين خاص، ولهذا فإن التمسك المفرط بالمحيط ومحل التولد والعلاقات المختلفة الأخرى لا تقف في نظر الإسلام حائلاً دون هجرة المسلمين.
ولذلك نرى انفصام كل هذه العلاقات في الصدر الأوّل للإسلام ومن أجل حماية الإسلام وتقدمه، وفي هذا المجال يقول أحد المؤرخين الغربيين: إنّ القبيلة والعائلة هما الشجرة الوحيدة التي تنبت في الصحراء، ولن يستطيع أحد الحياة دون اللجوء إليها، إلّا أنّ محمّدا (صلّى الله عليه وآله) قد قلع هذه الشجرة التي نمت بلحم ودم عائلته، وفعل ذلك من أجل ربه وخالقه "فقد فصم النّبي (صلّى الله عليه وآله) علاقته بقريش في سبيل الإسلام"(11).
وحين تتعرض حياة الإنسان المعنوية، وكيانه وأهدافه المقدسة التي هي أثمن وأغلى من حياته المادية إلى الخطر، فهل يستطيع هذا الإنسان البقاء في مكان الخطر متشبثاً بالأرض والمولد وغير ذلك متحملاً ألوان الذلّ والإهانة والحرمان وسلب الحريات، والأهم من ذلك كلّه زوال أهدافه التي يعيش من أجلها؟! أو أن عليه أن يختار قانون الطبيعة في الهجرة، ويترك ذلك المكان، ويختار مكانا آخر يتيسر فيه المجال لنموه المادي والمعنوي؟
الطريف في هذا الأمر أنّ الهجرة -أي تلك الهجرة التي كانت لأجل حفظ النفس وحماية الشريعة الإسلامية- تعتبر مبدأ -أو بداية- التاريخ الإسلامي، وهي بذلك تُعدُّ البنية الأساسية لكل الأحداث السياسية والإعلامية والاجتماعية للمسلمين.
فلننظر لماذا انتخبت هجرة الرّسول (صلّى الله عليه وآله) مبدأ -أو بداية- للتاريخ الإسلامي؟
إنّ هذا الموضوع جدير بالملاحظة؛ لأنّنا نعلم أنَّ أي مجموعة بشرية صغرت أو كبرت، تتخذ لنفسها مبدأ أو بداية تاريخية تحسب منه تاريخها، فالمسيحيون مثلا اتّخذوا بداية تاريخهم السنة التي ولد فيها عيسى (عليه السلام)، أمّا المسلمون فمع وجود أحداث مهمة كثيرة وقعت لهم قبل الهجرة، مثل يوم ولادة النّبي (صلّى الله عليه وآله)، ويوم البعثة المحمّدية الشريفة، وفتح مكّة، ووفاة الرّسول (صلّى الله عليه وآله)، لكنهم لم يتخذوا أي واحد من الأحداث مبدأ أو بداية لتاريخهم، بل اعتبروا حادثة الهجرة وحدها بداية للتاريخ الإسلامي.
إنّ التاريخ يقول إنّ المسلمين بدأوا يفكرون بتعيين بداية تاريخهم الذي له أهمية عامّة وشاملة في زمن الخليفة الثاني الذي توسعت في عهده رقعة البلاد الإسلامية -وأنّ المسلمين بعد البحث الكثير في هذا الأمر، اختاروا رأي علي بن أبي طالب (عليه السلام) باتّخاذ حادثة الهجرة النبوية الشريفة مبدأ وبداية للتاريخ الإسلامي(12).
والحقيقة أنّ هذا الاختيار كان هو المتعيّن؛ لأنّ الهجرة كانت أهم وألمع حدثٍ أو برنامج حصل للإسلام، وكانت الهجرة مبدأ فصل جديد مهم في التاريخ الإسلامي، فالمسلمون حين وجودهم في مكّة كانوا يمارسون تعلم شؤونهم الحياتية وفق دينهم الجديد (الإسلام) ولم تكن لديهم في هذه الحالة -على ما يبدو- أي قدرة سياسية واجتماعية، ولكنهم بعد الهجرة شكلوا مباشرة الدولة الإسلامية التي تقدمت بسرعة فائقة في كل المجالات، ولو أنّ المسلمين لم يذعنوا لأمر الرّسول (صلّى الله عليه وآله) في اختيار الهجرة وفضلوا البقاء في مكّة، لما تيسر عند ذلك للإسلام أن يمتد خارج حدود مكّة، بل حتى كان من الممكن أن يقبر الإسلام في مكّة ويمحى أثره.
ويتّضح لنا أنّ الهجرة لم تكن حكماً خاصاً بزمن الرّسول (صلّى الله عليه وآله)، بل أنّها تجب على المسلمين متى ما تعرضوا لظروف مشابهة لتلك الظروف التي اضطرت النّبي (صلّى الله عليه وآله) وأصحابه إلى ترك مكّة والهجرة إلى المدينة.
والقرآن يعتبر الهجرة في الأساس جوهراً لوجود الحرية والرفاه، وقد أشارت الآية -موضوع البحث- إلى هذا الأمر، كما أن الآية (41) من سورة النحل تشير من جانب آخر إلى هذه الحقيقة، إذ تقول: {والَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً}.
وتجدر الإشارة -أيضا- إلى هذه النقطة، وهي أنّ الهجرة في نظر الإسلام لا تقتصر على الهجرة المكانية والخارجية، بل يلزم قبل ذلك أن تتحقق لدى الفرد المسلم هجرة باطنية في نفسه، يترك بها كل ما ينافي الأصالة والكرامة الإنسانية، لكي يتيسر له بهذا السبيل إلى الهجرة المكانية.
إذن فالهجرة الباطنية ضرورية قبل أن يبدأ الإنسان المسلم هجرته الخارجية، وإذا لم يكن هذا الإنسان بحاجة إلى الهجرة الخارجية، يكون قد نال درجة المهاجرين بهجرته الباطنية.
ولقد نصَّ الباري على ذلك في قوله تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ.. }(13)، على أنّ مصاديق الهجرة هي الفرار والهروب من الواقع إلى الله (عزَّ وجلَّ)، وكلمة{فِرُّوا} فعلُ أمرٍ وهو ظاهرٌ في الوجوب كما تقرر في علم الأصول، لذا فإنّ هذا الأمر من الأمور الحتمية على كلِّ شخصٍ منا، فلا يخلو شخصٌ منا من هجرة وفرار من واقعه المظلم إلى كنف الله المضيء.
حيث الأساس في الهجرة هو الفرار من «الظلمات» إلى «النور» ومن الكفر إلى الإيمان، ومن الخطأ والعصيان إلى إطاعة حكم اللّه، لذلك نجد في الحديث ما يدل على أنّ المهاجرين الذين هاجروا بأجسامهم دون أن تتحقق الهجرة في بواطنهم وأرواحهم، ليسوا في درجة المهاجرين، وعلى عكس هؤلاء فإنّ من تتحقق لديه الهجرة الباطنية الروحية ولم يتمكن أو لم يحتج إلى الهجرة الخارجية فهو في عداد المهاجرين حقا.
وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) قوله: «ويقول الرجل هاجرت، ولم يهاجر، إنّما المهاجرون الذين يهجرون السيئات ولم يأتوا بها»(14).
وعن النبي (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال: «من فرَّ بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبراً من الأرض، استوجب الجنّة وكان رفيق محمّد وإبراهيم (عليهما السلام)»(15). لأنّ هذين النّبيين هما قادة وأئمّة مهاجري العالم.
* الهوامش:
(1) القاموس الفقهي: الدكتور سعدي أبو حبيب: 365.
(2) لسان العرب ج15و16: 25.
(3) المصدر السابق.
(4) القاموس الفقهي: الدكتور سعدي ابو حبيب: 365
(5) العنكبوت 26.
(6) الصافات: 99.
(7) العنكبوت: 27.
(8) راجع تفسير الأمثل ذيل الآية مورد البحث.
(9) النساء: 100.
(10) راجع تفسير الأمثل ذيل الآية مورد البحث.
(11) محمد خاتم الانبياء ج1.
(12) تاريخ الطبري ج 2، 112.
(13) الذاريات: 50.
(14) سفينة البحار ج2 ص 697 مادة (هجر).
(15) نور الثقلين ج1 ص 541.
0 التعليق
ارسال التعليق