بسم الله الرحمن الرحيم، وصلّى الله وسلّم على محمّد وآله.
مقدّمة
قال أحد الأعلام (قدّس سرّه): «يظهر من ذكر الرحمن بعد اسم الجلالة في البسملة وفي قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ}[سورة الاسراء: 110]، وسائر موارد استعمال هذا الاسم المبارك في القرآن العظيم أن لهذا الاسم الشريف أهمّيةً
عظمى ومنزلةً كبرى عند اللّه تعالى، فهو من أمهات الأسماء كالحيّ والربّ والقيّوم والرحيم، وإلى هذه الأربعة ترجع سائر أسمائه (عزّ وجلّ) فإذا رجعنا إلى موارد استعمالات هذا اللفظ في القرآن الكريم نرى أنّه استعمل مقروناً بالتعظيم والتجليل بالنسبة إلى عالَمي الدنيا والآخرة..»(1). بل حُكِي أن كلمة {الرَّحْمنَ} اسمٌ أعظم مثل كلمة الله(2).
ثمّ إنّه اختُلف في أنّ مفردة {الرَّحْمنَ} عبريّة، وأصلها (رخمان) بالخاء المعجمة أم عربيّة- كما هو المشهور-، وعلى الثاني في أنّها جامدة أم مشتقّة- كما هو المشهور-، وعلى الثاني أيضاً في أنّها مشتقّة من الرحمة كالرحيم- كما هو المشهور- أم من الرحيم- كما احتمل(3)،(4)-، وأنّها صفة مشبّهة مطلقاً أو أنّها كذلك فيما إذا كانت الرحمة صفة لازمة للذات، وليست متعدّية، وأمّا إذا كانت متعدّية وبلحاظ مورودها- أعني المرحوم- فمفردة {الرَّحْمنَ} صيغة مبالغة- كما هو المشهور-.
ثمّ إنّ نحو الرحمة الرحمانيّة يختلف عن نحو الرحمة الرحيميّة، فهذه خاصّةٌ يقابلها الغضب، وتلك مطلقة تسع كلّ شيء - الدنيا والآخرة والمؤمن والكافر- وغير محدودة كالشمس في إشراقها على الجميع، ويقابلها العدم لا الغضب؛ إذ لو قابلها الغضب لخرجت عن إطلاقها وسعتها. ففي الخبر عن الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «الرحمن اسمٌ خاصٌّ بصفةٍ عامّة، والرحيم اسمٌ عامٌّ بصفةٍ خاصّة»(5)، وعن النبيّ (صلّى الله عليه وآله): «أنّ عيسى بن مريم قال: الرحمن رحمن الدنيا، والرحيم رحيم الآخرة»(6)، وعن الصادق (عليه السلام) -بسند معتبر- في تفسير البسملة... الرحمن بجميع خلقه، والرحيم بالمؤمنين خاصة(7).
إذا تمهّد ذلك فاعلم بأنّ أحد أعلام المفسّرين (دام ظله) قد ذهب إلى أن مفردة {الرَّحْمنَ} في مثل قوله تعالى: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُون}(8)-إشارة إلى الرحمة المطلقة؛ فإنّه مع أنّ الكلام في هذه الآية حول العذاب نجدها تذكر {الرَّحْمنَ} لا القهّار ولا المنتقم؛ لأن الرحمة الرحمانيّة شاملة للعذاب أيضاً، وكذا في سورة الرحمن بعد قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآَنَ} يذكر جهنم من جملة النعم وألوان الرحمة الإلهيّة كتعليم القرآن ونعيم الجنّة، فيقول: {هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ. يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَميمٍ آنٍ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ}(9)، فجهنم كمالٌ وجوديٌّ(10)، وإلى جانب الجنّة وسائر الآلاء الإلهيّة تدخل تحت ظلّ الرحمة المطلقة لله سبحانه(11).
ولكن يلاحظ عليه أن مفردة{الرَّحْمَنُ} في الكتاب وإن استعملت صفة للذات الإلهيّة، كما في البسملة مثلاً، إلا أنها عَلَمٌ على الذات المقدّسة الإلهيّة، ولقبٌ لله سبحانه بالغلبة والوضع التعيّني، ولذا استعملت من دون لحاظ مادّتها في آيات كثيرة، فمفردة {الرَّحْمَنُ}- كما تأتي وصفيّة- تأتي عَلَميّة مجردة من الصفة، وقد صرَّح بذلك جملة من الأعلام(12)، ولمكان كثرة إطلاقه على الذات صار علماً لها لا يتصل بالمرحوم، ولا يؤنس منه ذلك.
ويؤكّد ذلك أمران: الأول: ذكر العذاب والضرّ إلى جانب هذه المفردة، كما في قوله سبحانه: {يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيّاً}(13)، وقوله سبحانه: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُون}(14)- وكما في الزيارة الجامعة: «وعلى من جحد ولايتكم غضب الرحمن»(15)، وفي وداع الإمام الرضا (عليه السلام) بعد زيارته: «اللهمّ العن الَّذين بدّلوا دينك..اللهمّ إنِّي أتقرّب إليك باللعنة عليهم والبراءة منهم في الدنيا والآخرة يا رحمن»(16)-، والحال أن العذاب والغضب والبراءة مما لا يجتمع مع الرحمة الرحمانية، وإلا لخرجت عن سريانها وإطلاقها -كما تقدّم-.
ولئن جاء احتمال تهويل العذاب والضرّ والغضب في نسبتها للرحمن مع كونه مصدرها مما يدلّ على شدّة ما يصدر منه، فلا تزول معه الصفة من مفردة {الرَّحْمَنُ}- إلا أنّ ثمّة آيٍ لا يأتي فيها ذلك، كقوله سبحانه: {قَالُوا مَا أَنتُم إلا بَشرٌ مِثلُنَا ومَا أَنزَلَ الرَحمَنُ مِن شَيء إِن أَنتُم إلا تَكذِبُون}(17)، وقوله: {قَالُوا يَا وَيلَنا مَن بَعَثَنَا مِن مَرقَدَنا هَذا مَا وَعَدَ الرَحمَنُ وَصَدَقَ المُرسَلُون}(18)، وغيرهما مما سيأتي.
الأمر الثاني: إنّ الجمع بين قوله سبحانه: {رَبُّ السَّماواتِ وَالأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً}(19)، وبين تكرار مفردة {الرحمن} في سورة مريم ست عشرة مرّة -كما يقرّب اختصاص المفردة به(20)؛ وذلك لما يفيده الاستفهام الاستنكاري من عدم السميّ، وسيأتي الكلام فيه- يفيد أنّ هذه المفردة عَلَم أو لَقَب له سبحانه؛ إذ عدم المسمّى باسمه- أعني{الرَّحْمَنُ}- يعطي بوضوح أنّه عَلَمٌ أو لقب له سبحانه.
ويؤكّد أن المراد نفي الشريك في الاسم لا ما يرجع إلى المسمّى قوله سبحانه في شأن يحيى بن زكريا (عليه السلام): {يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيّاً}(21)؛ فإن المراد نفي سبق الشريك لهذا الغلام في اسمه، ومعه فلا محل للشكّ(22). هذا وقد سمِّي غير الله سبحانه به مضافاً لا مطلقاً كقولهم في مسيلمة الكذّاب رحمان اليمامة(23)، وفي الأسود العنسي رحمان اليمن(24).
إذا عرفت ما تقدّم فلنستعرض جملة من الآيات التي اشتملت على مفردة {الرَّحْمَنُ} محاولين استجلاء ما تحمله من دلالات:
الآية الأولى: قوله سبحانه: {قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدّاً حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْدا}(25)، وسبيل هذه الآية سبيل الآيتين المتقدّمتين اللتين اشتملت إحداهما على الضرّ والأخرى على العذاب، وأنهما لا يجتمعان مع الإشارة إلى الرحمة الرحمانيّة المطلقة.
ومن الآيات التي سياقها لا يجتمع مع الإشارة إلى الرحمة الرحمانيّة- قوله سبحانه: {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً. يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً}(26)، وقوله سبحانه: {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ}(27)؛ فإنّ سياقها سياق الوعيد والتهديد، بينما شأن الرحمانيّة بسط الرحمة. وغيرهما.
الآية الثانية: قوله سبحانه: {وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً}(28)، ومثلها قوله سبحانه: {وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ}(29)؛ فإن سياق استعمال المشركين لمفردة {الرَّحْمَنُ} في هذه الآيات ظاهر في كونها عَلَماً على الذات الإلهيّة المقدّسة.
الآية الثالثة: قوله سبحانه: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيّاً ما تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْماءُ الْحُسْنى..}(30)، وقد ورد في سبب نزول هذه الآية من غير طرقنا أنّها نزلت حين سمع المشركون رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) يقول: يا اللّه يا رحمن، فقالوا: إنّه ينهانا أن نعبد إلهين، وهو يدعو إلهاً آخر، أو قالت اليهود: إنَّك لَتُقِلُّ- من الإقلال والقلّة- ذكر الرحمن، وقد أكثره اللّه في التوراة(31).
وقوله: {ادْعُوا} إما من الدعوة بمعنى التسمية، كقولي: دعوتُ ابني حسناً، أي سمّيته، وإما من الدعوة بمعنى النداء، أي نادوا، فقولوا: يا الله أو يا رحمن، وإما من الدعوة بمعنى العبادة أي اعبدوا الله أو اعبدوا الرحمن، وهذا الأخير هو الذي مال إليه سيّد الميزان (قدّس سرّه) في موضع(32)،(33)، وهو- مضافاً إلى عدم اتساقه مع سبب النزول- خلاف ظاهر الآية في تعليل دعوة أحدهما بقوله: {فَلَهُ الأَسْماءُ الْحُسْنى}، بل هذا التعليل يؤكّد إرادة أحد المعنيين الأولين.
الآية الرابعة: قوله سبحانه: {وَإِذا قيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُورا}(34)، فـ «قولهم: {وَمَا الرَّحْمنُ}- والكلام لسيّد الميزان (قدّس سرّه)، ونعم ما قال- سؤالٌ منهم عن هويّته ومائيّته مبالغةً منهم في التجاهل به استكباراً منهم على الله، ولولا ذلك لقالوا: ومن الرحمن؟ وهذا كقول فرعون لموسى لما دعاه إلى ربِّ العالمين: {وَما رَبُّ الْعالَمِينَ}(35)- إلى أن قال (قدّس سرّه)- وقوله حكايةً عنهم: {أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا} في تكرار التعبير عنه تعالى بـ {ما} إصرارٌ على الاستكبار، والتعبير عن طلبه عنهم (كذا) السجدة بالأمر لا يخلو من تهكُّم واستهزاء»(36). قال الشيخ عليّ بن إبراهيم القمِّيّ (رحمه الله) في تفسيره عن قولهم: {وَمَا الرَّحْمنُ}: «جوابه: {الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ}(37)»(38). أقول: هذا الجواب في محلّه لو كانوا بصدد الاستعلام، ويؤكّد عدم كونهم كذلك استفهامهم الإنكاري وبمنتهى التأبّي: {أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا}.
الآية الخامسة: قوله سبحانه: {وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً}(39)، أضافهم سبحانه إلى اسمه تشريفاً، ولكنْ قال بعضهم في تفسير {وَعِبادُ الرَّحْمنِ}: «أي: المخصوصون بقبول فيض هذا الاسم لسعة الاستعداد»(40)، وهذا منه لا ينافي سعة تلك الرحمة.
والمتحصِّل- مما تقدّم- أن مفردة {الرَّحْمَن} عَلَمٌ أو مثل اللقب على الله سبحانه، وأنّها مختصّة به، بموجب قوله سبحانه: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً}.
الخاتمة
وأختم هذه الرسالة المختصرة بالتعرّض إلى فروع فقهيّة:
الفرع الأول: حكم كتابة {الرَّحْمَنُ} بالألِف المتوسّطة:
أُثبتت مفردة{الرَّحْمَنُ} في المصاحف العثمانيّة رسماً بغير الألِف المتوسِّطة، ولكن-كما لا شبهة في عدم لزوم كتابتها بإثبات الألِف- لا دليل على تعيّن كتابتها بدونها، وعلى لزوم المحافظة على الرسم المعهود بأخطائه الإملائيّة، فيجوز كتابتها بإثبات الألِف؛ إذ هو الصحيح إملاءً بمقتضى المطابقة بين الملفوظ والمكتوب.
ودعوى: أن{الرَّحْمَنُ} في الكتاب العزيز استعمل عَلَماً نوعاً، وللإيماء إلى العدول من الوصفيّة إلى العَلميَة كتبت بدون الألِف(41)، أو أنّ ذلك لأجل إيجاد الميِّز بين اسم الله وغيره(42)- وإن أمكنت فيما يرجع إلى التبرير الثاني، لكنّها بعيدة فيما يخصّ التبرير الأول؛ ذلك لأن رسمها بدون الألِف قد طال مفردة {الرَّحْمَنُ} الوصفيّة كما في البسملة، ولم يقف على خصوص العلميّة، على أن ذلك لو تمّ-ولو في الجملة- لا يؤسّس لعدم جواز إثباتها.
وأمّا ما أفيد من لزوم المحافظة على المكتوب الأوليّ؛ حذراً عن وقوع سائر التصّرفات في الكتاب من أنواع التحريف وغيره، ولعلّ الكاتب من الأول كتب غلطاً فاستُحفظ عليه؛ إرشاداً إلى التزام الأمّة الإسلامية على هذه الشدّة من الحفظ عن التصّرفات حتى اليسيرة(43)- فلا ينهض بمجرده دليلاً على لزوم كتابتها بدونها، ولا يؤذن بمنع إثباتها(44).
الفرع الثاني: حكم مسّ المحدث مفردة (الرحمن):
لا ينبغي التأمّل في حرمة مسّ مطلق المحدث لمفردة (الرحمن) في ضمن كتابة القرآن؛ لموثّقة أبي بصير قال: "سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عمَّن قرأ في المصحف وهو على غير وضوء. قال: «لا بأس، ولا يمسّ الكتاب(الكتابة)»"(45).
ولا يجوز مسّها غيرَ قرآنيّة- سواء قلنا إنّها عَلَمٌ ونحوه على الذات الإلهيّة أو إنّها كمفردة (الرحيم) صفةٌ لها- للمحدث بالأكبر من الجنب وكذا الحائض على المشهور، أمّا الجنب فلموثّقة عمّار بن موسى عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «لا يمسّ الجنب درهماً ولا ديناراً عليه اسم الله..»(46)؛ فإنّ دلالتها عليه واضحة؛ إذ لا خصوصيّة عرفاً لمحلّ الاسم من الدرهم والدينار، ولا معارض لها(47). وأمّا الحائض فلمعتبرة داوود بن فرقد- بطريق الشيخ الكليني (رحمه الله)- عن أبي عبد الله (عليه السلام)قال: "سألته عن التعويذ يعلّق على الحائض. قال: «نعم لا بأس»، قال: وقال: تقرأه وتكتبه ولا تصيبه يدها»"(48)، بتقريب أن نهي الحائض عن إصابة التعويذ بيدها بمقتضى مناسبة الحكم للموضوع والقرينة الخارجيّة، وهي عدم حرمة مسّها لغير أسماء الله المكتوبة في العوذة، كلفظ (أعوذ) مثلاً، فيتعيّن كون المحرّم مسّه على الحائض هو اسم الله سبحانه.
ويتوجّه على الاستدلال بالمعتبرة مناقشتان، إحداهما دلاليّة، والأخرى سنديّة، أمّا الأولى فلا إطلاق للمعتبرة، بلحاظ وجود قدر متيقّن في مقام التخاطب للفظ التعويذ، وهو عبارة عن المعوّذتين، وهما من القرآن، فيكون منشأ حرمة المسّ كون التعويذ قرآناً لا مجرد اسم الله سبحانه.
وأمّا الثانية فلا يسعنا الاعتماد على المعتبرة؛ نظراً لوحدتها مع رواية داوود- بطريق الشيخ (رحمه الله)- التي يرويها عن الإمام بتوسّط رجل(49)؛ إذ من البعيد تلقّي داوود للرواية من الإمام (عليه السلام) مرّة بالمباشرة، وأخرى بالواسطة، ومع الترديد بين ما هو الحجّة وما ليس بحجّة فلا تصلح الرواية دليلاً للمسألة(50). ومن الغريب جعل الثانية مؤيّدة للأولى(51).
وكذا لا يجوز مسّها للمحدث بالأصغر- بناءً على حرمة مسّه لأسماء الله سبحانه-، بلا دخالة لقصد الكاتب؛ فإنّها- أعني مفردة (الرحمن) من أسمائه المختصّة به سبحانه، ولا فرق في حرمة مسّها عليه بين حروفها أجمع حتى الألِف المتوسّطة التي أُسقطت في المصحف العثماني رسماً لو كتبت بهذا الرسم (الرحمان) ونحوه؛ فإنّها جزء من المفردة -كما تقدّم في الفرع الأول-، إلا أنّ حرمة مسّ المحدث بالأصغر لأسماء وصفات الله سبحانه مما لا مستند لها، فراجع، فالحرمة مبنيّة على الاحتياط.
الفرع الثالث: حكم تسمية الغير بـ (الرحمن):
إنّ ما يمكن أن يساق لعدم جواز تسمية ما عدا الله سبحانه بـ (الرحمن) وجوه ثلاثة:
الأول: قوله سبحانه في سورة مريم:{رَبُّ السَّماواتِ وَالأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً}(52)، بتقريب أنّ الآية تتحدّث عن الشريك في الاسم، كما تقدّم، وأنّ الاسم الذي تُنكِرُ الآية ثبوته لغير الله سبحانه هو {الرَّحْمَنُ}، الذي تكرّر ست عشرة مرّة في نفس السورة، فهذا الاستفهام الاستنكاريّ كافٍ عرفاً في تحريج تسمية غير الله سبحانه بها شرعاً، فلا يجوز أن يسمّى غيره سبحانه به.
الثاني: ما عن الصادق (عليه السلام) أنّه قال: الرحمن اسمٌ خاصٌّ بصفةٍ عامّة، والرحيم اسمٌ عامٌّ بصفةٍ خاصّة(53).
وفيه -بعد الاعتراف بظهوره في المنع- أنّه لمكان إرساله لا يمكن التعويل عليه.
الثالث: لزوم الهتك، نظراً لكون تسمية من عداه سبحانه بها دخولاً في سلطانه.
ويلاحظ عليه أنّه لا يخلو من المصادرة، فتدبّر.
الرابع: ما أفيد من استنكار المسلمين ذلك وامتناعهم عنه(54). وفيه أن امتناعهم كما يحتمل كونه لارتكاز المنع يحتمل كونه لداعٍ يرجع إلى الأدب مع الله تعالى، وأما أمر الاستنكار فهو فرع التسمية خارجاً، ولم تعهد.
فتحصّل تماميّة الآية خاصّة للمنع الشرعي عن تسمية غيره بها، نعم تقدّم عن أحد الأجلّة (قدّس سرّه) نفي دلالة الآية على المنع الشرعيّ عنها حتى على تقدير دلالتها على نفي الشريك له في التسمية بها(55). وقد أفتى أحد الأعلام (قدّس سرّه) بالجواز في جواب استفتاء إليك نصّه:
"هل يجوز التسمية بالرحمن؟ وإذا كان لا يجوز فهل يختصّ بالمعرَّف أم يشمل المنكَّر والمضاف؟ وما الدليل عليه؟
بسمه تعالى: لا بأس في التسمية بالرحمن منكّراً أو معرّفاً أو مضافاً، والأفضل إضافة العبد إليه، «خير الأسماء ما حمّد وعبّد»"(56).
والحمد لله أولاً وآخرا، وصلّى الله على محمّد وآله.
* الهوامش:
(1) مواهب الرحمن في تفسير القرآن1: 20.
(2) تفسير تسنيم1: 342، 343.
(3) أشار إليه المحقّق السيّد مصطفى الخميني (قدّس سرّه)، تفسير القرآن الكريم1: 187.
(4) لفت السيّد مصطفى الخميني (قدّس سرّه) إلى احتمال اشتقاق مفردة {الرَّحْمَنُ} من الرحم، وقال: "وهذا مما لا يقول به أحد بحسب اللغة والتبادر، ولكن قد وردت(كذا) في بعض المآثير ما يؤيد ذلك أو صريح فيه"، ثمّ ساق روايات أربع، الأولى رواية المعاني للصدوق (رحمه الله): 302، وهي- مضافاً إلى ضعفها بابن جميع وغيره- تفيد أن الرحم مشتقّة من الرحمن لا العكس، والثانية رواية التفسير المنسوب للعسكري (عليه السلام)، ولم يثبت، والأخيرتان عامّيتان، فلاحظ تفسير القرآن الكريم1: 190.
(5) انظر: نور الثقلين1: 14 ح54.
(6) المصدر ح53.
(7) الكافي1: 114 كتاب التوحيد، باب16 ح1، التوحيد: 230 ب31 ح2، وعنه في نور الثقلين1: 12 ح46.
(8) سورة يس: 23.
(9) سورة الرحمن43- 45.
(10) هذا على مبنى الفلاسفة من أنّ العذاب شيء، والله خالق كلّ شيء، {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}- سورة غافر: 62-، وكلّ مخلوق فهو حسن وخير؛ لقوله عزّ وجلّ: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ}- سورة السجدة: 7- فيلزم كون إفاضة العذاب رحمةً بالمعذّب، فتأمّل.
(11) تفسير تسنيم1: 346، وكذا: 342- 343 ذيل الهامش2.
(12) انظر: البيان في تفسير القرآن: 430، تفسير القرآن الكريم1: 187- 189.
(13) سورة مريم: 45.
(14) سورة يس: 23.
(15) مفاتيح الجنان: 623 ط مؤسسة الإمام المنتظر (عجّل الله تعالى فرجه الشريف)- قم، سنة 1425هـ.
(16) من لا يحضره الفقيه2: 605 (3210)، عيون أخبار الرضا (عليه السلام)1: 303 ب68، تهذيب الأحكام6: 89 كتاب المزار ب35 ح1.
(17) سورة يس: 15.
(18) سورة يس: 52.
(19) سورة مريم: 65.
(20) انظر: البيان في تفسير القرآن: 431.
(21) سورة مريم: 7.
(22) انظر: تفسير القرآن الكريم1: 221؛ فإنّه نفى دلالة الآية: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} على المنع الشرعي عن التسمية بـ {الرَّحْمَنُ} حتى على تقدير التسليم بأن المراد منه هو الشريك في الاسم، فكأنّه لا يسلّم ذلك.
(23) الشرح الكبير لابن قدامة11: 146، فتح الباري8: 70، الكشّاف للزمخشري1: 42، نعم يظهر من البعض أنّ مسيلمة قد تسمّى بـ (الرحمان)، فكان يقال له: رحمان اليمامة، لاحظ: عمدة القاري للعيني16: 151، البداية والنهاية لابن كثير5: 61.
(24) فتوح البلدان للبلاذري1: 125- الفقرة 296-.
(25) سورة مريم: 75.
(26) سورة طه: 108، 109.
(27) سورة الأنبياء: 42.
(28) سورة مريم: 88، سورة الأنبياء: 26.
(29) سورة الزخرف: 20.
(30) سورة الإسراء: 110.
(31) أنوار التنزيل وأسرار التأويل(تفسير البيضاوي)3: 170،
(32) الميزان في تفسير القرآن8: 344.
(33) وإن صار إلى المعنى الثاني في موضع آخر13: 223 قائلاً: "فالمراد بقوله {اللَّهَ} و{الرَّحْمنَ} الاسمان الدالان على المسمّى دون المسمّى، والمعنى: ادعوا باسم الله أو باسم الرحمن، فالدعاء دعاؤه".
(34) سورة الفرقان: 60.
(35) سورة الشعراء: 23.
(36) الميزان في تفسير القرآن15: 234.
(37) سورة الرحمن: 1- 4.
(38) تفسير القمي2: 115.
(39) سورة الفرقان: 63.
(40) تفسير ابن عربي2: 89.
(41) تفسير القرآن الكريم1: 224.
(42) تفسير القرآن الكريم1: 223.
(43) تفسير القرآن الكريم1: 224.
(44) عائدة: أفاد السيّد الأستاذ(سلّمه الله) بأنّه لو أوصى أو نذر أو شرط على نفسه كتابةَ القرآن أو أوقف مالاً على ذلك كان منصرفه الكتابة المعهودة، ولو شُكّ في ذلك، ووصلت النوبة إلى الأصل العمليّ فيجري فيه الخلاف من أنّ المقام مورد استصحاب عدم التقييد بالكتابة المعهودة، أو استصحاب عدم سعة الجعل لما يشمل غيرها، أو من باب دوران الأمر بين التعيين والتخيير، وقد فصّل (سلّمه الله)، ففي الوقف- حيث إنّه على ما يقفه أهله- نشكّ في سعته، فنستصحب عدم سعة الجعل، وكذا في الوصيّة، وأمّا النذر والشرط ونحوهما فمرجعها إلى دوران الأمر بين التعيين والتخيير، ومقتضى البراءة عن التعيين هو التخيير.
(45) وسائل الشيعة1: 383 ب12 من أبواب الوضوء ح1. ولفظة (الكتابة) في نقل الاستبصار1: 113 ب68 ح2.
(46) وسائل الشيعة2: 214 ب18 من أبواب الجنابة ح1.
(47) انظر: التنقيح في شرح العروة الوثقى(ك الطهارة)= موسوعة الإمام الخوئي (قدّس سرّه)6: 305، 306.
(48) وسائل الشيعة2: 342 ب37 من أبواب الحيض ح1.
(49) وسائل الشيعة2: 343 ب37 من أبواب الحيض ح4.
(50) كما اتفق من السيّد الخوئيّ (قدّس سرّه)، انظر: التنقيح في شرح العروة الوثقى(ك الطهارة)= موسوعة الإمام الخوئي (قدّس سرّه)7: 340، بل نفس السيّد الخوئيّ (قدّس سرّه)ذكر رواية ابن أبي نجران، وأشكل عليها بنفس الإشكال، انظر: التنقيح في شرح العروة الوثقى(ك الطهارة)= موسوعة الإمام الخوئي (قدّس سرّه)10: 410- 412.
(51) التنقيح في شرح العروة الوثقى(ك الطهارة)= موسوعة الإمام الخوئي (قدّس سرّه)7: 340.
(52) سورة مريم: 65.
(53) انظر: نور الثقلين1: 14 ح54.
(54) انظر: تفسير القرآن الكريم1: 221.
(55) تفسير القرآن الكريم، للسيّد مصطفى الخميني (قدّس سرّه)1: 221.
(56) إرشاد السائل- أجوبة استفتاءات للسيّد الكَلبايكَاني (قدّس سرّه)-: 200 (المسألة 747).
0 التعليق
ارسال التعليق