تمهيد
يتطرق هذا البحث إلى مفردات النص والظاهر، المجمل والمبين، المحكم والمتشابه، المفسر والمؤول لما في تمييز تلك المصطلحات من أهمية، وما في الوقوف على بعض الأبحاث المرتبطة بها من دخالة كبيرة في فهم المسألة موضع البحث عبر تصور محتملات مداليل الآيات والروايات المستدَل بها، وفي درك مرامي عبائر العلماء، وإن كانت حاجةٌ لبيان غيرها فيبين في محله إن شاء الله.
تداخل الاصطلاح
وتجدر الإشارة هنا إلى أنه قد يوجد في كلماتهم شيء من تداخل الاصطلاح، بسبب تباعد الفترة الزمنية وتنوع المباني من جهة ووقوع العموم مطلقاً ومن وجه(1) بين بعض المصطلحات من جهة أخرى. فقد يُعبّر بالنص مثلاً ويراد به المبيّن الذي يشمل عند البعض (النص والظاهر) في قبال المجمل، ومنع البعض كون الظاهر مبيناً بل جعله مجملاً. ومنهم من عبر بالظاهر عن المبين والنص، فقال الشيخ (رحمه الله) -مثلاً- في العدة: "وأمّا النّص: فهو كلّ خطاب يمكن أن يعرف المراد به".(2) فهل يتحد معناه مع معنى المبين الذي هو في قبال المجمل؟ أم هو شامل للمجمل أيضاً حيث قال أن المجمل ينبئ عن الشيء إلا أنه لا يعلم المراد به تفصيلاً(3)؟ وهكذا.
أولاً: القرآن:
اختلفوا في حدّ (القرآن) والمعبَّر عنه بالكتاب في مباحثهم، وناقشوا فيما حدّ به كل واحد إياه. فقال بعضهم: الكتاب ما نقل إلينا بين دفّتي المصحف من السبعة المشهورة، نقلا متواتراً. وقيل: هو القرآن المنزَّل. وقيل: هو الكلام المنزل للإعجاز بسورة منه(4).
و الذي يبدو أنَّ هذه التعابير وأمثالها تشير إلى معنى واضح وشيء مشخَّص وهو كتاب المسلمين المقدس المنتشر بينهم عامةً ولا يخلو منه مسجد ولا بيت.
ثانياً: النص والظاهر
النص - لغةً واصطلاحاً
النص في اللغة هو الإظهار والإبراز.
في العين: "نَصُّ كل شيء: منتهاه"(5). وفي جمهرة اللغة: "الحديثَ أنُصُّه نَصًّا، إذا أظهرته. ونَصَصْتُ العروسَ نَصًّا، إذا أظهرتها و(...) إذا أقعدتها على المِنَصَّة. وكل شيء أظهرته فقد نَصَصْتَه"(6).
النص في الاصطلاح
حدَّ الشريف المرتضى (رحمه الله) النصّ في رسالة الحدود والحقائق بأنه: "كل كلام يظهر إفادته لمعناه ولا يتناول أكثر منه"(7). وحدّه في موضع آخر منها بأنه: "كل خطاب يمكن أن يعلم المراد به"(8). وبالثاني حده الشيخ الطوسي (رحمه الله) وناقش بعض التعاريف، مُستدِلاً على مختاره بالمعنى اللغوي، بأنّ "النّص إنّما يسمّى نصّا لأنّه يظهر المراد ويكشف عن الغرض تشبيها بالنّص المأخوذ من الرّفع نحو قولهم: «منصّة العروس» إذا ظهرت..."(9).
ويظهر من المحقق القمي تبنيه كلاماً للعلامة الحلي (رحمه الله) في تهذيبه وآخر للشيخ البهائي (رحمه الله) في زبدته، خلاصتهما أن النص هو: "اللفظ المفيد الراجح المانع عن النقيض والذي لا يحتمل غير معناه"(10).
وأما المشكيني (رحمه الله) فقابل بين النص والظاهر وجعلهما من أقسام المبين، ورادف بين النص والصريح، مع إضافته لضابطة من ضوابط تحديد نصوصية اللفظ وهي عدم قبول العرف تأويله. إذ قال: "النص وهو الظاهر البالغ في ظهور دلالته إلى حيث لا يقبل التأويل عند أهل العرف، بل يعدون التأويل له قبيحا خارجا عن رسوم المحاورة كقوله، يجب إكرام زيد، فحمل الوجوب على الإباحة أو الإكرام على الإهانة، أو زيد على عدوه ببعض التأويلات لا يقبله أهل العرف ويرادفه الصريح أيضا"(11).
ولا يخفى أن تعريف الشيخ للنص وهو ثاني حدّي المرتضى، لا يُخرِج ما أمكن معرفة معناه مما يحتمل أكثر من معنى وهو (الظاهر)، على ما سيأتي من بعض التعاريف. فينبغي الانتباه إلى أن كلمة «نصّ» قد يقصد بها الظاهر في بعض عباراتهم.
2. الظاهر– لغةً واصطلاحاً
الظاهر في اللغة البادي بعد خفاء. ففي العين: "الظُّهُورُ: بدو الشيء الخفي"(12).
الظاهر في الاصطلاح
من الملفت أن الشريف المرتضى (رحمه الله) لم يعرف مصطلح «الظاهر» في رسالته الحدود والحقائق، والذي يظهر من ملاحظة جملة غفيرة من استدلالاته أنه يستعمل لفظ الظاهر في النص تارة وفي غيره أخرى ككثير من العلماء.
وأن الشيخ الطوسي (رحمه الله) عرَّف الظاهر بتعريف لا يختلف في جوهره عن تعريف النص! فقوله"أمّا الظّاهر: فهو ما يظهر المراد به للسّامع، فمن حيث ظهر مراده وصف هو بأنه ظاهر"(13). شامل للفظ محتمل المعاني وغير محتملها.
فيبدو أن المصطلح تبلور وتميز أكثر لاحقاً ومن هنا جاء تعريف المحقق القمي أكثر تمييزاً في قوله: "الظاهر ما دل على معنى دلالة ظنية راجحة مع احتمال غيره"(14).
أما المشكيني فلما أدخل عنصر قبول التأويل وعدمه فارقاً بين قسمي المبيّن عرّف الظاهر بأنه "اللفظ الذي له ظهور قابل للتأويل بسبب القرائن كالعام والمطلق ونحوهما"(15).
وأما فيما يرتبط بعلوم القرآن ومباحثه فيطلق الظاهر في مقابل الباطن تارةً وفي مقابل النصّ أخرى، والثاني هو المراد في العنوان. ويراد به: اللفظ القرآني المحتمل لأكثر من معنى مع رجحان أحد المعاني.
المراد بانعقاد الظواهر وحجيتها
ويراد بـ(انعقادها)، تمامية دلالة تلك الألفاظ على معانيها على مستوى الدلالة التصورية والمراد الاستعمالي، وبروز أحد المعاني على أنه المعنى الراجح من بين المحتملات. فيمكن فهم تلك الألفاظ فهماً بدوياً فتكون حينئذٍ (ظاهرة)، بغض النظر عن كونها المراد الجدي لقائلها أم لا، بل حتى لو صدرت من اصطكاك حجرين كما يعبرون.
وبـ(حجيتها)، تمامية دلالة تلك الألفاظ على معانيها على مستوى الدلالة التصديقية والمراد الجدي، وكون تلك المعاني الظاهرة هي مراد الله (عزَّ وجلَّ)، حيث يجري البحث في إمكان نسبتها إلى الله (عزَّ وجلَّ)، وفي إمكان الاستناد إليها في مقام العمل تنجيزاً وتعذيراً.
ثالثاً: المجمل والمبين
المجمل - لغةً واصطلاحاً
المجمل في اللغة اسم مفعول من الإجمال، وهو في الكلام جَمْعُهُ واختصاره دون تفصيل وإيضاح.
قال ابن دريد في جمهرة اللغة: "وأجملتُ الشيء إجمالاً، إذا جمعته عن تفرّقه؛ وأكثر ما يُستعمل ذلك في الكلام الموجز، يقال: أجمل فلان الجوابَ"(16) والكلام الموجز هو المختصر على ما يستفاد من الخليل "أمر وَجِيز: مختصر، وكلام وَجِيز"(17).
ويلامس الاصطلاح ما ذكره الراغب في مفردات ألفاظ القرآن: ".. فقيل لكلّ جماعة غير منفصلة: جُمْلَةٌ، ومنه قيل للحساب الذي لم يفصّل والكلام الذي لم يبيّن: مُجْمَلٌ"(18).
المجمل في الاصطلاح
قال الشريف المرتضى (رحمه الله) في رسالة الحدود والحقائق: "المجمل: الخطاب الذي لا يدل على المراد بنفسه من غير بيان، أو الخطاب الذي قصد به شيء معين في نفسه واللفظ لا يعنيه، وقد يراد به الخطاب العام للأشياء التي تناولها"(19).
وقال الشيخ الطوسي (رحمه الله): "أمّا المجمل فيستعمل على ضربين:
أحدهما: ما يتناول جملة من الأشياء، و ذلك مثل العموم، وألفاظ الجموع، و ما أشبههما، و يسمّى ذلك مجملا لأنّه يتناول جملة من المسمّيات.
والضّرب الآخر: هو ما أنبأ عن الشّيء على جهة الجملة دون التفصيل، ولا يمكن أن يعلم المراد به على التفصيل، نحو قوله: {خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً}(20)"(21).
وعرَّفه المحقق القمي (رحمه الله) بقوله: "المجمل ما كان دلالته غير واضحة بأن يتردد بين معنيين فصاعداً من معانيه. وهو قد يكون فعلا وقد يكون قولا"(22).
وقد ذكر السيد الخوئي (رحمه الله) مفهوم المجمل لغةً مساوياً بين معناه اللغوي والاصطلاحي. وهو: "ما لا تتّضح دلالته على مراد المتكلّم"(23).
وأما الميرزا علي المشكيني (رحمه الله) فقال في اصطلاحات الأصول: "أما المجمل: فهو اللفظ الذي ليس له ظهور بالفعل ولو كان ذلك بسبب اكتنافه بما أوجب إجماله و إبهامه"(24).
وهنا عدة استفادات:
الاستفادة الأولى: يتضح من كلام الشريف المرتضى والشيخ، أن المجمل يطلق ويراد به أحدُ أمرين: الأول يرتبط بفهم المعاني من الألفاظ، والثاني يرتبط بطبيعة تناول اللفظ للمعاني حيث يدل على عموم وما شابه فقد يعبر عن العام بعد التخصيص بأنه باقٍ على إجماله والمراد أنه باقٍ على ظهوره في الشمول.
الاستفادة الثانية: أن أسباب الإجمال في اللفظ قد تنقسم إلى اثنين: سبب داخلي وهو التردد بين أكثر من معنى، وسبب خارجي وهو اكتناف وإحاطة اللفظ بما يوجب إبهامه كاحتمال القرائن الخارجية. وقد يقال برجوعهما إلى أمر واحد. والإشارة إلى السبب واضحة في تعريفي القمي والمشكيني.
الاستفادة الثالثة: التعاريف الأربعة عدا تعريف المحقق القمي (رحمه الله) تناولت «المجمل» كوصف للفظ، وأما المحقق القمي فقد أشار إلى إمكان كونه وصفاً للفعل أيضاً، فقد يعبر عن النقولات الحاكية للأفعال بأنها مجملة ويراد إجمالها من جهة إجمال الأفعال المحكية لا الألفاظ الحاكية.
المُبَيَّن - لغةً واصطلاحاً
المبين في اللغة اسم مفعول من البيان، وهو الاتضاح والانكشاف.
ويكفي فيه قول ابن فارس في معجم مقاييس اللغة: "وبانَ الشَّىءُ وأبَانَ إذا اتَّضَحَ وانْكشَفَ. وفلانٌ أبْيَنُ مِنْ فلانٍ، أي أوضَحُ كلاماً منه"(25).
المبيَّن في الاصطلاح
قال الشريف المرتضى (رحمه الله): "المبين: الخطاب الدال على المراد بنفسه عن غير بيان، وما زال إجماله بورود بيانه، وكذا المفسّر"(26).
وأما الشيخ الطوسي (رحمه الله) فقد أطنب في الكلام حول مصطلح «البيان» بعد أن عرَّف البيان بأنه "عبارة عن الأدلّة الّتي تبيّن بها الأحكام"(27) وناقش في تعاريف القوم. ثم قسم الألفاظ والأفعال إلى ما يحتاج إلى بيان وما لا يحتاج. ويفهم من مجموع كلامه أن المبيّن حينئذٍ -كلاماً كان أم فعلاً- هو: (كل ما وقع عليه التبيين بدليلٍ مبيِّن)، وأن هذا يشمل ما كان ظاهراً واضحاً في نفسه وأُجمِل بسبب عوامل خارجية. إلا أنه لم يطلق على ما دل على المراد بنفسه أنه مبيَّن، بل يظهر منه أنه يعده من الـ«بيان»(28).
وذكر المحقق القمي (رحمه الله) النسبة بين المجمل والمبين وأن المبين نقيض المجمل ثم قال في تعريف المبين: "هو ما دلالته على المراد واضحة وهو قد يكون بينا بنفسه، وقد يكون مع تقدم إجمال"(29).
وساوى السيد الخوئي (رحمه الله) بين مفهوم المبين لغةً واصطلاحاً بعد أن قال أنه لغةً: "واضح الدلالة"(30).
وعرفه المشكيني (رحمه الله) بأنه: "ما كان ظاهر الدلالة على المعنى المقصود"(31).
وهنا استفادتان:
الاستفادة الأولى: تجمع كلماتهم على انقسام المبين إلى قسمين ما كان واضحاً بنفسه وما كان واضِحاً بعد التبيين، وإن كان فهم ذلك من عبارة الشيخ مُشكِلاً.
الاستفادة الثانية: إذا كان من أقسام المبيَّن -بفتح العين- ما هو واضح الدلالة بنفسه فكيف يقع عليه اسم المفعول؟ يفهم ذلك من كلام صاحب القوانين، من أنه "إما مسامحةٌ وإما لأنه من باب ضيَّق فم الركية فإن أهل اللغة وضعوه مبينا"(32).
رابعاً: المحكم والمتشابه
المحكم - لغةً واصطلاحاً
المحكم في اللغة المُوثَقُ والمُمتَنِع.
في العين: "أَحْكَمَ فلان عني كذا، أي: منعه.. واسْتَحْكَمَ الأمر: وثق(33)(...) وحَكَمَة اللجام: ما أحاط بحنكيه، سمي به لأنها تمنعه من الجري. وكل شيء منعته من الفساد فقد [حَكَمْتَه] وحَكَّمْتَه وأَحْكَمْتَه"(34).
المحكم في الاصطلاح
يطلق المحكم على أمور متعددة، فذكر الشريف المرتضى معنيين: "أما المتقن الصنعة في الفصاحة، وأما الذي لا يحتمل تأويلين مشتبهين ولا يمنع العقل من ظاهره"(35).
وعرَّفه الشيخ الطوسي بأنه: "ما لا يحتمل إلا الوجه الواحد الّذي أريد به. [ويشير إلى التناسب مع المعنى اللغوي بأن المحكم] وصف محكما لأنّه قد أحكم في باب الإبانة عن المراد"(36).
واكتفى المحقق القمي بنقل كلامي العلامة الحلي والشيخ البهائي: والذي خلاصته أن المحكم هو: الحد المشترك بين النص والظاهر وهو مطلق الرجحان سواء منع من النقيض أم لا(37).
وقال المشكيني بأنه مساوق للمبين(38).
فاتضح أنه قد يعبر بالمحكم ويقصد ما احتمل معنى واحداً ومنع من غيره وقد يقصد به ما احتمل أكثر من معنى مع رجحان أحدهما.
المتشابه - لغةً واصطلاحاً
المتشابه لغةً المُشكِلُ والمُختَلِط والمُتساوي.
في العين: "قال الله عزَّ وجلَّ: {آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ}(39)،أي: يُشْبِهُ بعضها بعضا. والمُشْبِهات من الأمور: المشكلات (...) و شُبِّهَ فلان عليّ، إذا خلط. و اشتَبَهَ الأمر، أي: اختلط"(40). وفي المحيط: "المُشَبِّهَاتُ (41): المُشْكِلاتُ، شَبَّهْتُ عليه: أي خَلَّطْتُ. واشْتَبَهَ الأمْرُ.. وكُلُّ شَيْءٍ سَوَاءٍ فإِنَّها أشْبَاهٌ "(42). وأضاف في الصحاح: "المُتشابِهاتُ: المُتَمَاثِلَاتُ"(43).
المتشابه اصطلاحاً
ذكر الشريف المرتضى (رحمه الله) معنيين للمتشابه وقال: "إما المتساوي في الأحكام في الفصاحة وحسن المعنى، وإما الذي يحتمل تأويلين مشتبهين احتمالا شديدًا وظاهره يوضع لما يمنع منه العقل وأحد تأويليه يحظره العقل"(44).
وأما الشيخ الطوسي (رحمه الله) فقال: "وأمّا المتشابه: فهو ما احتمل وجهين فصاعدا"(45). فهل يريد ما احتمل وجهين وإن كان أحدهما أرجح، فيكون الظاهر عنده من المتشابه؟ يحتمله.
ويحتمله تعريف السيد الخوئي (رحمه الله) حيث عرّفه بـ"الّذي يتشابه طرفاه بمعنى أنّ له معنيين يمكن أن يحمل عليهما"(46). إلا أنه قال ضمن جوابه على كون الظاهر من المتشابه، أن المراد من المتشابه "كون الكلام ذا احتمالين متساويين"(47).
واكتفى المحقق القمي (رحمه الله) بنقل كلامي العلامة الحلي والشيخ البهائي: "والذي خلاصته أن المتشابه هو: الحد المشترك بين المجمل والمؤول وهو نفي الرجحان"(48).
وكما ساوى المشكيني بين المحكم والمبين فقد ساوى بين المتشابه والمجمل بقوله: "وأما المحكم والمتشابه، فالأول يساوق المبين والثاني يساوق المجمل"(49).
وهنا استفادتان:
الاستفادة الأولى: هل الظاهر من المتشابه؟
قد يقال أن (الظاهر) من (المتشابه)؛ لأن المتشابه ما كان ذا احتمالين في قبال المحكم الذي هو النص الذي لا يقبل الخلاف فيشمل الظواهر. وردّه السيد الخوئي بأن المتشابه ما كان ذا احتمالين متساويين فهو يساوي المجمل، وليس الظاهر ذا احتمالين متساويين فليس الظاهر متشابها(50).
الاستفادة الثانية: قد يطلق المتشابه على المجمل وقد يطلق ويراد به المؤول، أما إرادة المجمل فقد تقدمت عن السيد الخوئي في الملاحظة الأولى.
وأما إرادة المؤول فقال الفاضل التوني بما ظاهره مساواة المتشابه للمؤول. بمعنى أن المتشابه له معنى لكنه غير الظاهر، فليس مجملاً. ويستدل على ذلك، بعدم تعقّل اتباع مالا يفهم منه شيء. حيث قال في وافيته: "الظاهر: أنّ (المحكم) ما أريد منه ظاهره، و(المتشابه) ما أريد منه غير ظاهره. لا ما ذكروه في كتب الأصول من: أنّ (المحكم) ما له ظاهر، و (المتشابه) ما لا ظاهر له، كالمشترك. لقوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ...الآية}(51)،إذ اتّباع المتشابه بالمعنى الّذي ذكروه، غير معقول"(52).
خامساً: المفسّر والمؤول (التفسير والتأويل)
المفسّر - لغةً واصطلاحاً
المفسّر في اللغة اسم مفعول من التفسير وهو البيان وكشف المغطى.
قال الخليل"الْفَسْرُ: التَّفْسِيرُ، وهو بيان وتفصيل للكتاب"(53).
وذكر الأزهري في تهذيب اللغة: "الفَسرُ: كشف المغطَّى. وقال بعضهم: التفسير: كشف المراد عن اللفظ المشكل"(54).
المفسّر في الاصطلاح
رادف الشريف المرتضى (رحمه الله) بين المفسَّر والمبين فقال: "المبين الخطاب الدال على المراد بنفسه عن غير بيان، وما زال إجماله بورود بيانه، وكذا المفسر"(55).
وحدَّ الشيخ الطوسي (رحمه الله) المفسَّّرَ بما حدَّ به النص(56)، فقال: "أمّا المفسّر: فهو ما يمكن معرفة المراد به"(57). ويفهم من كلامه أن وجه تسميته بالمفسر من باب المجاز أو المسامحة حيث قال بعد التعريف: "وهو موضوع في الأصل لما له تفسير، لكنّه لما كان ما له تفسير يعلم بتفسيره مراده، وكان ما يعلم المراد به بنفسه بمنزلته سمّي مفسّرا"(58).
واعتمد القميّ (رحمه الله) ما نقله عن الطبرسي (رحمه الله)(59) من أن التفسير هو: "كشف المراد عن اللّفظ المشكل"(60).
المؤوَّل - لغةً واصطلاحاً
المؤوَّل في اللغة اسم مفعول من التأويل وهو تحديد معنىً للفظٍ مشكلٍ محتملٍ لمعان متعددة، أو إرجاع معان متعددة محتملةٍ إلى معنى واحد واضح.
"التَّأَوُّلُ والتَّأْوِيلُ: تفسير الكلام الذي تختلف معانيه، ولا يصح إلا ببيان غير لفظه" هكذا جاء في العين(61).
وفي تهذيب اللغة: "سُئل أحمد بن يحيى عن «التأويل» فقال: التأويل والتَّغيير، واحد(...) أُلْت الشيءَ: جَمَعْتُه وأَصْلَحته، فكأن «التأويل» جَمْع معانٍ مُشكلة بلفظ واضح لا إشكال فيه(62). (...) والأَوْلُ الرُّجوع"(63). ونَقَلَ عن بعضهم أن"التأويل: رد أحد المحتملين إلى ما يطابق الظاهر"(64). ويبدو أنه ناظر إلى الاصطلاح.
التأويل والمؤوَّل في الاصطلاح
قال الشريف المرتضى (رحمه الله): "التأويل: رد أحد المعنيين وقبول معنى آخر بدليل يعضده، وإن كان الأول في اللفظ أظهر"(65). ويظهر من كلام له في الذريعة أن التأويل يحتمل ذكر أكثر من معنى على أن تكون راجعة إلى نكتة مشتركة(66).
ويظهر من قول الشيخ الطوسي (رحمه الله) في التبيان: "ولا ينبغي لأحد أن ينظر في تفسير آية لا ينبئ ظاهرها عن المراد تفصيلا، أو يقلد أحداً من المفسرين، إلا أن يكون التأويل مجمعاً عليه..." إلى آخر كلامه حيث يستعرض ضوابط (التأويل)(67)، أن التأويل هو: (القول بمعنى للفظ لا يدل عليه بنفسه لا بالصراحة ولا بالظهور).
وقال القمي (رحمه الله): "المؤول فهو في الاصطلاح اللفظ المحمول على معناه المرجوح(68) ولم يقترن بقرينة دالة على خلاف ما وضع له اللفظ"(69).
وبيَّنه المشكيني (رحمه الله) قائلاً: "أما المؤوَّل: فهو اللفظ الذي خرج عن ظهوره الذاتي وأريد منه خلاف ظاهره بواسطة القرينة"(70).
وهنا استفادتان:
الاستفادة الأولى: هل المجاز من المؤوَّل؟
قيل إنَّ المجازات كلَّها من باب المؤول وفرَّق بينهما الشيخ القمي بأن المجاز ما اقترن بالقرينة الدالة على خلاف ما وضع له اللفظ والمؤوَّل ما لم يقترن بها(71).
الاستفادة الثانية: المؤول يشمل العام المخصص والمطلق المقيد: وبينه المشكيني قائلاً: "أما المؤول: فهو اللفظ الذي خرج عن ظهوره الذاتي و أريد منه خلاف ظاهره بواسطة القرينة، فيدخل فيه كل لفظ علم استعماله في غير ما وضع له بقرينة حالية أو مقالية. فمنه: العام الذي علم تخصيصه، والمطلق الذي علم تقييده"(72). ويعلم من قوله هذا، أنَّ المجاز من المؤول أيضًا.
تنبيهات عامّة
التنبيه الأول: هل صفات الأدلة والألفاظ السابقة نسبية تختلف من شخص إلى آخر، أم هي حقيقية راجعة لنفس الألفاظ؟
قال النائيني (قدِّس سرُّه): "رب لفظ يكون مبينا عند شخص ومجملاً عند آخر من جهة علم الأول بالوضع دون الثاني أو من جهة احتفاف الكلام بما يصلح لكونه قرينة عند الثاني دون الأول"(73).
التنبيه الثاني: هل هي إضافية أم حقيقية؟
قال القمي: "اعلم أنّ النصوصيّة والظهورية أمور إضافيّة فقد ترى الفقهاء يسمّون الخاصّ نصّا والعامّ ظاهرا وقد يطلقون القطعيّ على الخاصّ والظني على العامّ مع أنّ الخاصّ أيضا عامّ بالنسبة إلى ما تحته مع احتمال إرادة المجاز من الخاصّ أيضا من جهة أخرى غير التّخصيص وكونه ظاهرا بالنسبة إلى المعنى المجازي"(74).
التنبيه الثالث: قد يكون الكلام مبيناً واضحاً من جهة مجملاً من جهات، ويضربون لهذا مثالَ قوله تعالى: {وَأَقيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ}75)، فإنها وإن كانت مبينة من جهة الأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة اللذين هما من الموضوعات الشرعية، بل قد يقال بأنها واضحة في وجوبها أيضاً، إلا أن كيفيات هذه الأمور وما يرتبط بها تبقى مجملة، فكيفية الإقامة والإيتاء لا تتضحان من هذه الألفاظ(76).
خلاصة التقسيمات: "اللفظ: إن لم يحتمل غير ما يفهم منه لغة فنصّ، و إلا فالراجح ظاهر، والمرجوح مأوّل، والمساوي مجمل، والمشترك بين الأوّلين محكم (77)، و بين الأخيرين متشابه"(78).
وقيل غير ذلك.
***
* الهوامش:
(1) العموم المطلق: هو اشتمال أحد المفهومين على جميع ما يشتمل عليه الآخر من مصاديق وزيادة فيكون أوسع معنى منه. والعموم من وجه: هو أن يشترك أحد المفهومين مع الآخر في بعض مصاديقهما ويفترق معه في البعض الآخر.
(2) الشيخ الطوسي، محمد بن الحسن، العدة في أصول الفقه، ج1، ص407.
(3) المصدر نفسه، ص406.
(4) راجع، العلامة الحلي، الحسن بن يوسف، نهاية الوصول الى علم الاصول، ج1، ص331.
(5) الفراهيدي، الخليل بن أحمد، كتاب العين، ج7، ص87.
(6) ابن دريد، محمد بن الحسن، جمهرة اللغة، ج1، ص145.
(7) الشريف المرتضى، علي بن الحسين الموسوي، رسائل الشريف المرتضى، ج2، ص287.
(8) المصدر نفسه، ص288.
(9) الطوسي، محمد بن الحسن، العدة في أصول الفقه، ج1، ص407.
(10) الميرزا القمي، أبو القاسم بن محمدحسن، قوانين الأصول، ص164.
(11) المشكيني، ميرزا علي، اصطلاحات الأصول ومعظم أبحاثها، ص232.
(12) الفراهيدي، الخليل بن أحمد، كتاب العين، ج4، ص37.
(13) الطوسي، محمد بن الحسن، العدة في أصول الفقه، ج1، ص408.
(14) الميرزا القمي، أبو القاسم بن محمدحسن، قوانين الأصول، ص345.
(15) المشكيني، ميرزا علي، اصطلاحات الأصول ومعظم أبحاثها، ص232.
(16) ابن دريد، محمد بن الحسن، جمهرة اللغة، ج1، ص491.
(17) الفراهيدي، الخليل بن أحمد، كتاب العين، ج6، ص166.
(18) الراغب، الإصفهاني، حسين بن محمد، مفردات ألفاظ القرآن، ص202.
(19) الشريف المرتضى، علي بن الحسين الموسوي، رسائل الشريف المرتضى، ج2، ص282.
(20) سورة التوبة، 103.
(21) الطوسي، محمد بن الحسن، العدة في أصول الفقه، ج1، ص406.
(22) الميرزا القمي، أبو القاسم بن محمدحسن، قوانين الأصول، ص332.
(23) الخوئي، أبو القاسم، غالآيةالمأمول، ج1، ص709.
(24) المشكيني، ميرزا علي، اصطلاحات الأصول ومعظم أبحاثها، ص232.
(25) ابن فارس، أحمد، معجم مقاييس اللغه، ج1، ص328.
(26) الشريف المرتضى، علي بن الحسين الموسوي، رسائل الشريف المرتضى، ج2، ص282.
(27) الشيخ الطوسي، محمد بن الحسن، العدة في أصول الفقه، ج1، ص403.
(28) راجع الشيخ الطوسي، محمد بن الحسن، العدة في أصول الفقه، ج1، ص403- ص 415.
(29) الميرزا القمي، أبو القاسم بن محمدحسن، قوانين الأصول، ص340.
(30) "المجمل لغة ما لا تتّضح دلالته على مراد المتكلّم والمبيّن واضح الدلالة، فمفهومهما من المبيّنات، والظاهر أنّ معناهما في اللغة هو معناهما بحسب الاصطلاح"، الخوئي، أبو القاسم، غاية المأمول، ج1، ص709.
(31) المشكيني، ميرزا علي، اصطلاحات الأصول ومعظم أبحاثها، ص232.
(32) الميرزا القمي، أبو القاسم بن محمدحسن، قوانين الأصول، ص340.
(33) الفراهيدي، الخليل بن أحمد، كتاب العين، ج3، ص66.
(34) المصدر نفسه، ص67.
(35) الشريف المرتضى، علي بن الحسين الموسوي، رسائل الشريف المرتضى، ج2، ص286.
(36) الطوسي، محمد بن الحسن، العدة في أصول الفقه، ج1، ص408.
(37) راجع، الميرزا القمي، أبو القاسم بن محمدحسن، قوانين الأصول، ص163.
(38) راجع، المشكيني، ميرزا علي، اصطلاحات الأصول ومعظم أبحاثها، ص232.
(39) سورة آل عمران، الآية7.
(40) الفراهيدي، الخليل بن أحمد، كتاب العين، ج3، ص404.
(41) قال محقق المحيط، ”هكذا ضُبِطت الكلمة في الأصلين، ومثلهما في المقاييس والمحكم، وفي العين والتهذيب، المُشْبِهات، وفي الصحاح واللسان، المُشْتَبِهات، وفي الأساس، المشبَّهات، وفي القاموس، كمُعَظَّمَةٍ.
(42) الصاحب بن عباد، اسماعيل بن عباد، المحيط في اللغة، ج3، ص396.
(43) الجوهري، اسماعيل بن حماد، الصحاح، ج6، ص2236.
(44) الشريف المرتضى، علي بن الحسين الموسوي، رسائل الشريف المرتضى، ج2، ص286.
(45) الطوسي، محمد بن الحسن، العدة في أصول الفقه، ج1، ص408.
(46) الخوئي، أبو القاسم، غاية المأمول، ج2، ص119.
(47) الخوئي، أبو القاسم، مصباح الأصول، ج1، ص144.
(48) راجع، الميرزا القمي، أبو القاسم بن محمد حسن، قوانين الأصول، ص163.
(49) المشكيني، ميرزا علي، اصطلاحات الأصول ومعظم أبحاثها، ص232.
(50) الخوئي، أبو القاسم، مصباح الأصول، ج1، ص144.
(51) سورة آل عمران، الآية7.
(52) التوني، عبدالله بن محمد، الوافية في أصول الفقه، ص138.
(53) الفراهيدي، الخليل بن أحمد، كتاب العين، ج7، ص247.
(54) الأزهري، محمد بن أحمد، تهذيب اللغة، ج12، ص283.
(55) الشريف المرتضى، علي بن الحسين الموسوي، رسائل الشريف المرتضى، ج2، ص 282.
(56) الطوسي، محمد بن الحسن، العدة في أصول الفقه، ج1، ص407.
(57) المصدر نفسه.
(58) المصدر نفسه.
(59) في الطبرسي، الفضل بن الحسن، مجمع البيان، ج 1، ص 11.
(60) الميرزا القمي، أبو القاسم بن محمد حسن، القوانين المحكمة في الأصول، الطبعة القديمة، ج2، ص317.
(61) الفراهيدي، الخليل بن أحمد، كتاب العين، ج8، ص369.
(62) الأزهري، محمد بن أحمد، تهذيب اللغة، طبع بيروت، ج15، ص329.
(63) المصدر نفسه، ص314.
(64) المصدر نفسه، ج12، ص283.
(65) الشريف المرتضى، علي بن الحسين الموسوي، رسائل الشريف المرتضى، ج2، ص265.
(66) الشريف المرتضى، علي بن الحسين الموسوي، الذريعة إلى أصول الشريعة، ج2، ص: 164.
(67) الشيخ الطوسي، محمد بن الحسن، التبيان في تفسير القرآن، ج1، ص6.
(68) الميرزا القمي، أبو القاسم بن محمدحسن، قوانين الأصول، (ط.القديمة)، ص345.
(69) المصدر نفسه، ص346.
(70) المشكيني، ميرزا علي، اصطلاحات الأصول ومعظم أبحاثها، ص232.
(71) راجع الميرزا القمي، أبو القاسم بن محمدحسن، قوانين الأصول، ص346.
(72) المشكيني، ميرزا علي، اصطلاحات الأصول ومعظم أبحاثها، ص232
(73) النائيني، محمد حسين، أجود التقريرات، ج1، ص543.
(74) الميرزا القمي، أبو القاسم بن محمدحسن، قوانين الأصول، ص167.
(75) سورة البقرة، الآية43.
(76) راجع، المظفر، محمد رضا، أصول الفقه، ج2، ص159.
(77) وهو مطلق الرجحان سواء منع النقيض أم لا.
(78) الشيخ البهائي، محمد بن الحسين، زبدة الأصول، ص55.
0 التعليق
ارسال التعليق