الملخّص:
تطرّق الكاتب إلى مسألتين ابتلائيتين من مسائل الصوم، الأولى في المسافر نهاراً، هل يصحّ منه الصوم أو لا، حيث اختلفت الأقوال في أنّ تبييت نية السفر هي المعيار للإفطار أم كون السفر قبل الزوال أو بعده، وانتصر لقول المشهور الذي ذهب لمعياريّة كون السفر قبل الزوال أو بعده.
والمسألة الثانية: في حكم الارتماس للصائم، هل حرمته تكليفيّة أو وضعيّة أو أنّه مكروه، وكانت النتيجة هي قول المشهور في أنَّ الحرمة وضعيّة فيكون مفطراً.
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلّى الله على محمّد النبيّ وآله..
المسألة الأولى: تبييت نيّة السَّفر بين منعه من صحَّة الصوم وعدمه
مقدّمة:
يعتبر الحضر في صحَّة صوم شهر رمضان، ومقتضى إطلاق قول الله سبحانه: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر..} (سورة البقرة: 184) عدم الفرق في ذلك بين كون السَّفر قبل الزَّوال أو بعده، ولا بين كونه عن نيَّة مبيَّتة أو بدونها.
ولا إشكال في عدم صحَّة الصوم لو سافر قبل الزَّوال وكان ناوياً للسَّفر من الليل. ولكن لا إشكال أيضاً في صحَّته من المسافر في الجملة بمقتضى روايات الباب على اختلافها، كما لو سافر بعد الزَّوال ولم يكن من نيَّته السَّفر من الليل، فخرج من تحت إطلاق الآية.
وإنَّما الإشكال والخلاف فيما لو سافر قبل الزَّوال غير ناوٍ للسَّفر من الليل، وفيما لو سافر ناوياً للسَّفر من الليل وكان سفره بعد الزوال.
الأقوال في المسألتين:
ومهمّ الأقوال في هاتين المسألتين ثلاثة:
الأوّل: الصحَّة إن سافر بعد الزوال، والبطلان إن سافر قبل الزوال، كما عن الإسكافيّ والكلينيّ والمفيد، والصدوق في الفقيه والمقنع، والعلامة في أكثر كتبه، وولده، والشهيدين في اللمعة والروضة، وغيرهم من المتأخرين.
الثاني: الصحّة إن لم يبيّت نيّة السَّفر من الليل، والبطلان إن بيَّتها، كما عن الشيخ في النِّهاية والمبسوط والاقتصاد والجمل، والقاضي، وابن حمزة، والمعتبر والشرائع والنافع، والتخليص.
الثالث: عدم اعتبار شيءٍ من الأمرين، فيكفي مطلق السَّفر في لزوم الإفطار وإن خرج بعد الزَّوال ولم يبيِّت النيّة، كما عن رسالة ابن بابويه، ونسبه في المعتبر والمنتهى إلى علم الهدى.
منشأ الخلاف:
ومنشأ الخِلاف اختلاف الأخبار فيما هو مناط الصحَّة والبطلان ومعيارهما، ومهمّ تلكم الأخبار طائفتان:
أوّلاهما: ما دلَّ على بطلان الصوم لو سافر قبل الزوال، وعلى صحّته لو سافر بعده، ومنها: صحيحة الحلبيّ عن أبي عبد اللهg أنّه سئل عن الرجل يخرج من بيته (وهو) يريد السفر، وهو صائم، قال: فقال: «إن خرج من قبل أن ينتصف النَّهار فليفطر، وليقض ذلك اليوم، وإن خرج بعد الزَّوال فليتمَّ يومه(صومه).
ومنها: صحيحة عبيد بن زرارة عن أبي عبد اللهg في الرجل يسافر في شهر رمضان، يصوم أو يفطر؟ قال: «إن خرج قبل الزَّوال فليفطر، وإن خرج بعد الزَّوال فليصم، فقال: يعرف ذلك بقول عليّg: أصوم وأفطر حتى إذا زالت الشمس عزم عليَّ، يعني الصيام».
ومعنى قول عليٍّg -حسبما يقتضيه سياق الاستشهاد به-: «أصوم وأفطر» أنَّه يصوم ثمَّ يفطر حيث يسافر، ثمَّ استثنىg فَرْضَ ما إذا سافر وقد زالت الشمس، فلا يسعه الإفطار، وعليه فلا محلَّ لما احتُمل في بعض الكلمات من أنَّ الأصل بدلاً عن (أصوم): لا أصوم، خصوصاً بعد عدم اختلاف نُسَخ الكافي في ذلك.
ومنها: موثّقته عن أبي عبد اللهg قال: «إذا خرج الرجل في شهر رمضان بعد الزَّوال أتمَّ الصيام، فإذا خرج قبل الزَّوال أفطر».
ومنها: صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي عبد اللهg قال: «إذا سافر الرجل في شهر رمضان فخرج بعد نصف النهار فعليه صيام ذلك اليوم، ويعتدّ به من شهر رمضان..».
ومقتضى إطلاق أحد العقدين فيها هو البطلان ولو سافر من غير تبييت لنيّة السَّفر من الليل، كما أنَّ مقتضى إطلاق العقد الآخر فيها هو الصحّة ولو سافر ناويّاً للسَّفر من الليل.
الطائفة الثانية: ما دلَّ على بطلان الصوم لو سافر وكان قد نوى السَّفر من الليل، وعلى صحّته لو سافر غير ناوٍ للسَّفر من الليل، ومنها: معتبرة عليّ بن يقطين عن أبي الحسن موسىg في الرجل يسافر في شهر رمضان، أيفطر في منزله؟ قال: إذا حدَّث نفسه في الليل بالسفر أفطر إذا خرج من منزله، وإن لم يحدِّث نفسه من الليلة ثمَّ بدا له في السَّفر من يومه أتمَّ صومه.
وإنّما عبَّرنا عنها بالمعتبرة بالنَّظر إلى ما يمكن أن يخدش به طريقها، وهو طريق الشيخO إلى عليِّ بن الحسن بن فضَّال، من اشتماله على عليّ بن محمّد بن الزبير، ولم يوثَّق. إلا أنَّه يمكن تجاوز هذه الخدشة بما حكي عن أحد أعاظم العصرF من عدم الحاجة إلى الطريق في اعتبار الكتب المشهورة التي يكثر تداول نسخها كالكتب الأربعة؛ لكونها مأمونةً من الدسِّ والتَّحريف، وأنَّ كتب ابن فضَّال كانت من الكتب المشهورة الّتي كثرت نُسَخُها، وتداولتها الأيدي في عصر الشيخS وقبل عصره.
ومنها: المرسلة عن صفوان عن الرضاg- في حديث- قال: «لو أنَّه خرج من منزله يريد النهروان ذاهباً وجائياً لكان عليه أن ينوي من الليل سفرا والإفطار، فإن هو أصبح ولم ينوِ السَّفر فبدا له -من بعد أن أصبح- في السَّفر قصَّر، ولم يفطر يومه ذلك».
ومقتضى إطلاق عقد الموثَّقة والمرسلة الأوَّل هو البطلان ولو سافر بعد الزوال، كما أنَّ مقتضى عقدهما الثَّاني هو الصحَّة ولو سافر قبل الزوال.
ومنها: صحيحة رفاعة قال: سألت أبا عبد اللهg عن الرجل يعرض له السَّفر في شهر رمضان حين يصبح، قال: «يتمُّ صومه يومه ذلك..».
ومقتضى إطلاق الجواب وترك الاستفصال -بناءً على نقل (حين)- إتمام الصوم وإن سافر قبل الزوال.
ومنها: المرسلتان عن أبي بصير، إحداهما: مقطوعته، قال: «إذا خرجت بعد طلوع الفجر ولم تنوِ السَّفر من الليل فأتمَّ الصَّوم، واعتدّ به من شهر رمضان».
وثانيتهما: قال: سمعت أبا عبد اللهg يقول: «إذا أردت السَّفر في شهر رمضان فنويت الخروج من الليل فإن خرجت قبل الفجر أو بعده فأنت مفطر، وعليك قضاء ذلك اليوم».
ومقتضى احترازيّة القيد فيهما -سواءً كان القيد نيَّة السَّفر من الليل أو عدمه- هو التفصيل بين فرض النيَّة وعدمها، كما أنَّ مقتضى إطلاق الأولى إتمام الصوم وإن سافر قبل الزوال، ومقتضى إطلاق الثانية الإفطار وإن سافر بعد الزوال.
وجوه الجمع بين الطائفتين ومناقشتها:
وقد أفاد في المستمسك في الجمع بين الطائفتين بأنَّ الطائفة الأولى من النُّصوص قد صرَّحت بشرطيتين: إحداهما: إذا خرج قبل الزَّوال أفطر، وثانيتهما: إن خرج بعد الزَّوال صام. وكذا الطائفة الثانية أيضا تعرضت لشرطيتين: إحداهما: إذا بيَّت النيَّة أفطر، وثانيتهما: إذا لم يبيِّت النيَّة صام. وحينئذ يدور الأمر في مقام الجمع بين الطائفتين إمَّا بتقييد الأولتين منهما إحداهما بالأخرى، ولازمه اعتبار أمرين في الإفطار: الخروج قبل الزوال، وتبييت النيَّة معا. وإمّا بتقييد الثانيتين منهما إحداهما بالأخرى، ولازمه اعتبار أمرين في الصوم: الخروج بعد الزوال، وعدم تبييت النية. ولا يمكن البناء على الجمع بين التقييدين معا؛ للزوم التناقض؛ فإنّ مفاد التقييد الأوّل: اعتبار أمرين في الإفطار، وكفاية عدم أحدهما في الصوم، ومفاد الثاني: اعتبار عدم كلٍّ منهما في الصوم، وكفاية أحدهما في الإفطار. فيتعيّن إمّا البناء على الأوّل، أو على الثاني. وإذ لا مرجّح، لا مجال للبناء على أحدهما؛ لأنَّه بلا شاهد، ويجب الرجوع حينئذ إلى قواعد التعارض.
وقد أجاب عنه سيّد الأعاظمS بأنَّ المعارضة بين الطائفتين ليست بالتباين ليرجع إلى المرجَّحات، فإنَّ الطائفة الأُولى صريحة في التفرقة بين ما قبل الزَّوال وما بعده في الجملة، كما أنَّ الثانية صريحة أيضاً في التفرقة بين التبييت وعدمه في الجملة أيضاً، ولا موجب لرفع اليد عن أصل التفرقة؛ لعدم المعارضة من هذه الجهة، بل المعارضة إنَّما هي بالإطلاق، فلا بدَّ إمَّا من رفع اليد عن إطلاق الطائفة الأُولى، وتقييدها بمقتضى الطائفة الثانية، أو أن نعكس الأمر فيبقى هذا الإطلاق على حاله وتُقيَّد الطائفة الثانية، فأحد هذين الإطلاقين لا مناص من رفع اليد عنه، وظاهرٌ أنَّ المتعيَّن هو الثاني ، إذ لا محذور فيه بوجه، بخلاف الأوَّل؛ فإنَّه غير قابلٍ للتَّصديق؛ إذ نتيجته الالتزام بأنَّه إن سافر قبل الزَّوال أفطر مطلقاً، وإن سافر بعده أفطر بشرط التبييت وإلا بقي على صومه، وهذا ممَّا لم يقل به أحد أبداً، ولا وجه له أصلاً، ولا يمكن إلحاق ما قبل الزَّوال بما بعده في الاشتراط المزبور، وإلا بطل الفرق بين ما قبله وما بعده، مع أنَّ تلك الطائفة صريحة في التفرقة.
وستأتي الإجابة عنه -إن شاء الله- في ضمن إجابة وجه الجمع التالي، فتفضَّل بالمتابعة.
ومن وجوه الجمع ما أفاده سيّد الأعاظمS من كون صحيحة رفاعة المتقدِّمة وَجْهَ جمعٍ بين الطائفتين فهي -كما قال- صريحةٌ في وجوب الصوم على من سافر قبل الزَّوال من غير تبييت، فيرفع اليد بها عن إطلاق الطائفة الأولى الناطقة بالإفطار لو سافر قبل الزوال، وتُحمَل على ما لو كان مبيّتاً للنيّة، فتكون هذه الصحيحة كاشفة عن أنَّ الطائفة الثانية المتضمِّنة للتفصيل بين التبييت وعدمه ناظرة إلى ما إذا كان السَّفر قبل الزوال، فيكون الحكم بالصيام لو سافر بعد الزَّوال الّذي تضمّنته الطائفة الأُولى سليماً عن المعارض، قال: ونتيجة ذلك: هو التفصيل بين ما قبل الزَّوال وما بعده، وأنَّه في الأوَّل يحكم بالإفطار بشرط التَّبييت، وفي الثاني بالصِّيام مطلقاً، فيكون الإفطار في السَّفر مشروطاً بقيدين: وقوعه قبل الزَّوال وتبييت النيَّة ليلاً، فلو سافر بعده أو سافر قبله ولم يبيِّت النيَّة بقي على صومه، فلا تصل النوبة إلى إعمال قواعد الترجيح.
ولكن يلاحظ على هذا الوجه أوّلاً: أنَّ الصحيحة في التهذيبين منقولة بلفظ (حتى) بدلاً من (حين) في قوله: «سألت أبا عبد اللهg عن الرجل يعرض له السَّفر في شهر رمضان حين يصبح»، ويكون السُّؤال بموجب هذا النقل عن السَّفر في شهر رمضان المنتهي بالصبح إمَّا بالوصول إلى البلد أو إلى مكان الإقامة، ولا ضرورة ونحوها تحتِّم الإفطار مع هذا السَّفر، فلا تعود الصحيحة معه شاهد جمع بين الطائفتين.
وثانياً: لو سلَّمنا بغلط النقل بلفظ (حتى) إلا أنَّ الصحيحة مع لفظ (حين) ليست ظاهرة -فضلاً عن الصراحة- في كون السَّفر قبل الزوال، بل هي مطلقة تتناول صورتي كون السَّفر قبل الزَّوال وبعده كما تقدَّم؛ فإنَّ (حين يصبح) في قوله: «سألت أبا عبد اللهg عن الرجل يعرض له السَّفر في شهر رمضان حين يصبح»، ليس ظرفاً للسَّفر بل هو ظرف لعروض السَّفر للرجل، وأنَّ نيّته للسَّفر اتفقت صباحاً، فالصحيحة ليست أخصّ من الطائفة الأولى، فلا تتقدَّم عليها، ولا أقلّ من إجمالها، وأنَّ الظَّرف يحتمل رجوعه إلى السفر، ويحتمل إلى نيّته.
وثالثاً: لو سلَّمنا أخصّيّة الصحيحة من الطائفة الأولى فإنَّ الطائفة الأولى قد جَعلت -بنحو ما يمكن تسميته بالمعياريّة- من السَّفر قبل الزَّوال شرطاً في لزوم الإفطار، ومانعاً من صحّة الصوم، وجعلت من السَّفر بعد الزَّوال غير مانع من صحَّة الصوم ولزومه. ومثل هذا اللسان المشتمل على الترديد بين قبل الزَّوال وبعده يقترب من الألسنة الّتي تأبى عن التصرُّف فيها بالتقييد إذا كان المقيَّد منفصلاً، وكان القيد أمراً ليس نادر الحصول؛ فإنَّ السَّفر قبل الزوال -كما السَّفر بعده- كثير الاتفاق والدوران، فالاستدراك والتقييد بمثله مع تلكم المعياريّة مستهجن عرفاً.
ويؤكِّد عدمَ دخالة شيءٍ في الصوم والإفطار وراء كون السَّفر قبل أو بعد الزَّوال استشهادُ الإمامg في صحيحة عبيد بقول عليّg: «فقال: يعرف ذلك بقول عليّg: أصوم وأفطر حتى إذا زالت الشمس عزم عليَّ، يعني الصيام».
وهذا الأمر بحذافيره- عدا أمر الاستشهاد- آتٍ على التصرّف بالتقييد في الطائفة الثانية المشتملة على الترديد بين الإثبات والنفي أيضا.
وهذا المانع يأتي- بطريقٍ أولى- على محاولة تقييد إحدى الطائفتين بنفس الأخرى، وعليه فالمعارضة بين الطائفتين في حكم المعارضة بنحو التباين، فالمرجع إلى مرجِّحات باب التعارض.
مرجّحات الطائفة الأولى:
وقد أفاد في المستمسك أنَّ قواعد الترجيح تقتضي تقديم الطائفة الأولى؛ فإنَّها- بعد صحّة سندها- مخالفةٌ للمحكيّ عن مالك وأبي حنيفة والشافعيّ والأوزاعيّ وأبي ثور وغيرهم. ومن الشواهد على صدور هذه الطائفة لجهة بيان الحكم الواقعيّ، وعلى صدور غيرها لا لجهة بيان ذلك- ما اشتملت عليه صحيحة عبيد من الاستشهاد بقول علّيg، «فقال: يعرف ذلك بقول عليّg: أصوم وأفطر حتى إذا زالت الشمس عزم عليَّ، يعني الصيام».
إلا أنّ النوبة لا تصل إلى الترجيح بمخالفة العامّة لو ثبتت شهرة إحدى الطائفتين دون الأخرى إلا إذا بنينا على اختصاص المرجّح بموافقة الكتاب ثمَّ مخالفة العامّة بموجب صحيحة القطب الراونديّO.
ولكن بعد البناء على اعتبار مقبولة عمر بن حنظلة؛ لاعتبار سندها، ووثاقة ابن حنظلة أو لتلقّي علمائنا لها بالقبول- كما أوضحنا ذلك في بعض الرسائل-، أو لدعوى الاتفاق على العمل بمضمونها في كلمات الشهيد الثاني، والمقدّس الأردبيليّ، وقد ذكر فيها الترجيح بالشهرة الروائيّة قبل ذكر الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامّة وغيرهما، وهذا وإن لم يفد الترتيب بين الترجيح بالشهرة والترجيح بغيرها إلا أنَّه يستفاد منها جواز الترجيح بالشهرة مقدّماً على الترجيح بما سواها لو اختلف مقتضاهما، هذا.
والنتيجة واحدة ولو لم تتمَّ المقبولة سنداً؛ فإنَّ الشهرة تؤذن بالتقديم كمميّزٍ للحجّة عن اللاحجّة حيث تفضي بنا إلى العلم أو الوثوق بصدور الرواية وأنَّها سنّة قطعيّة، فلا تصل النوبة إلى الترجيح بمخالفة العامّة سواءً تَمَّمنا المقبولة سنداً أم لا.
هذا فيما يخصُّ كبرى التقديم بالشهرة الروائيّة كمرجّح أو مميِّز، وأمّا على مستوى الصغرى فقد ادّعى بعض الأعلامS شهرة الطائفة الأولى روايةً وفتوى، قائلاً: «لكن الترجيح للطائفة الأولى الدالّة على اعتبار الخروج قبل الزَّوال في الإفطار؛ لكونها أكثر، ووجود الصحيح فيها، واشتهار مضمونها بين الأصحاب ولا سيما القدماء».
ويلاحظ على ذلك أنَّه وإن اشتهر العمل بمضمونها بين القدماء من جهةٍ، وكان رواتها من أجلاء الطائفة من جهة أخرى، إلا أنَّها لم تبلغ عدّاً وحدّاً تكون معه سنّة قطعيّة، فهي لا تزيد على ثلاث روايات، فكيف توصف بالكثيرة؟!، والمعجّب ما في بعض الكلمات: من كونها متواترة، على أنَّ روايات الطائفة الثانية لا تقلّ عنها عددا.
نعم- بناءً على أنَّ المرجّح من الشهرة هو الشهرة العمليّة- تقدّم الطائفة الأولى؛ فإنّ ما نقل إلينا من أقوال القدماء -ما عدا الشيخ وتلميذيه القاضي وابن حمزةQ- على وفق روايات هذه الطائفة.
كما أنَّه لو لم نختر ما قاله سيّد الأعاظمS من حجّيّة خبر الواحد بملاك الوثاقة، وبنينا على اختصاص حجّيّته بما لم يقم ظنٌّ نوعيّ أو احتمال عقلائيّ على خلافه- فإنَّ روايات الطائفة الثانية تسقط رأساً عن الاعتبار؛ لعدم عمل القدماء -غير الشيخ وتلميذيهQ- بها من جهة، ولتفرّد الشيخO بنقلها، وإهمال نقلها من قِبَل الكلينيّ والصدوقPمن جهة أخرى.
والمتحصِّل مما تقدَّم أنَّ ترجيح الطائفة الأولى بمخالفتها للعامّة إنّما يصار إليه حيث لا تسقط الطائفة الثانية عن الاعتبار رأساً في ضوء ما ذكرناه أخيراً، أو عند عدم البناء على الترجيح بالشهرة العمليّة.
ثمّ إنَّ الأمر سهلٌ بعد كون التقديم للطائفة الأولى على كلّ حال، سواءً كان بمخالفة العامّة -كمرجّح-، أو بالشهرة العمليّة -كمرجّح أو مميّز-.
والنتيجة أنَّ ما عليه المشهور من التفصيل بين السَّفر قبل الزَّوال فيفطر، والسفر بعده فيصوم- هو المنصور، هذا.
تتميم:
وثمَّة طائفة ثالثة تفصِّل بين كون السَّفر قبل الفجر فيفطر، وبين كونه بعده فيصوم، ومقتضى إطلاقها التسوية في ذلك بين ما كان قبل الزَّوال وبعده، وبين ما كان مع تبييت النيّة وعدمه، وهي ثلاث روايات، وفيها ما هو معتبر سنداً، ولكنَّها من متفرّدات الشيخO، ولا عامل بها، فتطرح، ويردّ علمها إلى أهلهi. كما أنَّ من متفرّداته ولا عامل بها ما دلَّ على التخيير بين الصوم والإفطار إن سافر بعد طلوع الفجر، وهي صحيحة رفاعة بن موسى، وسبيلها سبيل الطائفة الثالثة.
ثمَّ لعلَّ الوجه فيما أفاده أحد أعاظم العصرF من الاحتياط اللزوميّ دون الفتوى بالإفطار لو سافر قبل الزَّوال وإن لم يكن ناوياً للسَّفر من الليل (نعم لعلَّ ما أفاده) لإدخاله روايات الطائفة الثالثة في المعادلة، فإنَّ مقتضاها صحّة الصوم لو سافر بعد طلوع الفجر، فلم يجزمF -والحال هذه- بالإفطار.
كما أنَّهF احتاط لزوماً أيضاً بإتمام الصوم لو سافر بعد الزَّوال ولو كان ناوياً للسَّفر من الليل، ولعلَّ الوجه فيه إقحام الرواية الدالّة على التخيير بين الصوم والإفطار لو سافر بعد طلوع الفجر(إقحامها) في المعادلة؛ فإنَّ مقتضى إطلاقها يتناول صورة ما لو سافر بعد الزوال، ونظراً لجواز الإفطار وعدم تعيّن الصوم في هذه الصورة لم يجزمF بإتمام الصوم.
و{الْحَمْدُ لِلهِ، وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى}.
المسألة الثانية: الارتماس للصائم.. مفطّريّته، حرمته، كراهته
اختلفت آراء علمائنا في حكم الارتماس للصِّائم، فمن قائلٍ بمفطّريّته، وآخرَ بحرمته تكليفاً، فلا يترتَّب عليه ما سوى الإثم من القضاء والكفّارة، وثالثٍ بكراهته، هذا.
وروايات الباب -عدا صحيحة إسحاق بن عمَّار الاتية- منها: ما اشتمل على النَّهي عن الارتماس، وهي صحيحة يعقوب بن شعيب عن أبي عبد اللهg قال: «لا يرتمس المحُرِمُ في الماء ولا الصائم»، وصحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفرg قال: «الصائم يستنقع في الماء، ويصبّ على رأسه، ويتبرّد بالثوب، وينضح بالمروحة، وينضح البوريا تحته، ولا يغمس رأسه في الماء»، وصحيحة حنان بن سدير أنَّه سأل أبا عبد اللهg عن الصائم يستنقع في الماء، قال: «لا بأس، ولكن لا ينغمس»، وصحيحة الحلبيّ عن أبي عبد اللهg قال: «الصائم يستنقع في الماء، ولا يرمس رأسه»، وصحيحة حريز عن أبي عبد اللهg قال: «لا يرتمس (لا يرمس) الصائم ولا المحرم رأسه في الماء»، وهذه الطائفة ظاهرة في المفطّريّة؛ فإنَّ النهي وإن كان ظاهراً في الحرمة إلا أنَّه في مثل المقام من باب المركّبات الاعتباريّة من العبادات والمعاملات ينعقد له ظهور ثانويّ في الإرشاد إلى الضائريّة بالمركّب وفساده، وإلى المفطّريّة في مقامنا.
ومن روايات الباب: ما هو صريح فيها، وهي مرفوعة الخصال إلى أبي عبد اللهg قال: «خمسة أشياء تفطّر الصائم: الأكل، والشرب، والجماع، والارتماس في الماء، والكذب على الله وعلى رسوله وعلى الأئمةi»، ويعيبها رفع سندها.
ومنها: ما هو واضح الدلالة على المفطّرية، وهو صحيحة محمّد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفرg يقول: «لا يضرّ الصائم ما صنع إذا اجتنب ثلاث (أربع) خصال: الطعام والشراب، والنساء، والارتماس في الماء»؛ فإنَّ إضرار المذكورات مردُّه إلى نفس الصوم، والإضرار به وإن كان له معنى آخر وهو الخدشة والنقص وعدم الكمال، إلا أنَّه غير مراد هنا كما سيأتي إن شاء الله سبحانه.
ولكن في مقابل دلالة هذه الروايات على مفطّريّة الارتماس نصّ صحيحة إسحاق بن عمّار على عدم مفطّريّته، قال: قلت لأبي عبد اللهg رجل صائم ارتمس في الماء متعمّداً، عليه قضاء ذلك اليوم؟ قال: «ليس عليه قضاؤه (قضاء)، ولا يعودن»؛ فإنَّه لو فسد الصوم بالارتماس لوجب القضاء، وحيث لا يجب فلا فساد.
وجوه الجمع الدلاليّ:
وقد جمع بينها وبين ما استفاض من الروايات في الدلالة على المفطّريّة بوجهين:
الأوّل: حمل النهي في هذه الروايات على ظاهرها الأوّليّ، وهو الحرمة التكليفيّة، أقول: ويرشد إلى ذلك التشريك بين الصائم والمُحْرِم في النهي عن الارتماس في صحيحتي حريز ويعقوب بعد وضوح حرمته على المحرم تكليفاً لا وضعاً.
ويلاحظ على هذا الوجه ما يلي:
ألف: إنَّ هذا الحمل يقتضي اختصاص التحريم بالصوم الواجب؛ لعدم جواز إبطاله، دون الصوم المندوب فيجوز إبطاله تعمُّداً، والحال أنَّ النهي عن الارتماس ليس بلحاظ حصَّة من الصوم، وهو الواجب، بل بلحاظ طبيعيّه، فيتناول المندوب، وهذه السِّعة تؤذن بعدم إرادة الحرمة تكليفاً.
باء: إنَّ هذا الحمل لو تمَّ إنَّما يتمُّ في روايات الطائفة الأولى الناهية عن الارتماس، ولكنَّ صحيحة ابن مسلم الثانية: «لا يضرّ الصائم ما صنع إذا اجتنب ثلاث (أربع) خصال: الطعام والشراب، والنساء، والارتماس في الماء» متمحّضة في الحكم الوضعيّ -كما تقدّمت الإشارة إليه-؛ فإنَّ المحمول في مفهوم الشرطيّة وأنَّ المذكورات تضرّ بالصوم مما لا يتأتّى حمله على الحرمة التكليفيّة.
جيم: إنَّ موضوع الحكم أو متعلّقه في مفهوم الشرطيّة غير الارتماس من الطعام والشراب والنساء لا يمكن أن تتعلَّق بها -بعد ما كان الصوم في الصحيحة هو طبيعيّه لا حصّة منه، وهو الواجب- حرمة تكليفيّة، فالارتماس كذلك.
الوجه الثاني: حمل روايات المفطّريّة على إرادة بيان الكراهة -ولو بمعناها الوضعيّ وهو نقص الصوم وعدم كماله-، ويقرّب الحمل عليها موثّقة عبد الله بن سنان عن أبي عبد اللهg قال: «يكره (كره) للصائم أن يرتمس في الماء»، وعبد الله بن محمَّد في سندها -الّذي يروي عن ابن سنان، ويروي عنه ابن فضّال- هو محمّد بن عبد الله الحلبيّ، وهو متّحد مع محمّد بن عبيد الله بن عليّ الحلبيّ، وهو ثقة؛ لما قاله النجاشيّO في ترجمة أبيه عبيد الله (عبد الله) بن عليّ بن أبي شعبة الحلبيّ: «وآل أبي شعبة بالكوفة بيت مذكور من أصحابنا، وروى جدّهم أبو شعبة عن الحسن والحسينi، وكانوا جميعهم ثقات مرجوعاً إلى ما يقولون».
ويلاحظ على هذا الوجه ما يلي:
أمَّا ما يخصّ الحمل على الكراهة؛ فإنَّه ينافيها ما قدَّمناه من أنَّ صحيحة ابن مسلم متمحِّضة في الحكم الوضعيّ، كما أنَّ العرف المحاوريّ لا يساعد على التصرُّف في (لا يضر الصائم) بحمل ضائريّة الارتماس على الكراهة، بينما هي بالإضافة إلى الطعام والشراب والنساء ضائريّة وضعيّة؛ لعدم الجامع بينهما، كما أنَّ وحدة السِّياق وإن كانت محكومة بغيرها من القرائن؛ إذ السِّياق من القرائن النوعيّة، فلو قامت قرينة شخصيّة على خلافها كانت حاكمة عليها؛ لحكومة النَّظر الشخصيّ على النَّظر النوعيّ، إلا أنَّ سياق ضائريّة المذكورات ممّا يأبى أن يتصرَّف فيه عرفاً بنحوٍ تكون الضائريّة بالإضافة إلى الارتماس تكليفيّة وإن كانت بالكراهة، وتكون نفس تلك الضائريّة بالإضافة إلى غير الارتماس من الطعام والشراب والنِّساء وضعيّة، وهي مفطّريّتها.
وأمَّا فيما يخصُّ الحمل على الكراهة الوضعيّة -بعد الاعتراف بها ثبوتاً، خلافاً لسيّد الأعاظمS ، وأنَّ نقصاً أو خدشةً تلحق الصوم وإن لم يبطل بها، كما فيما ورد من أنّ: الغيبة تفطِّر- أنّ ما دلّ على النهي عن ارتماس الصائم والمُحْرِم لا يمكن التصرّف فيه -هو الآخر- بحمله بالإضافة إلى الصائم على الوضعي وإن كان هو الكراهة، بينما نفس هذا النهي بالإضافة إلى المُحْرِم تكليفيّ.
وأمّا الاستشهاد بصحيحة ابن سنان على إرادة الكراهة من روايات النهي عن الارتماس ففيه أنّ (كَرِهَ) لغةً خلاف أَحَبَّ بمعنى أَبْغَضَ، كما في قول الله سبحانه: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُون}(سورة الأنفال: 8)، وقوله: {وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُون}(سورة يونس: 82)، وقوله: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُون}(سورة التوبة: 32)، وقوله: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُون}(سورة الصفّ: 8)، وقوله: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُون}(سورة التوبة: 33)، (سورة الصفّ: 9)، وقوله: {فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُون}(سورة غافر: 14)، وإرادة الكراهة المصطلحة من الصحيحة تفتقر إلى القرينة، وهي مفقودة.
فتحصّل أنَّ روايات مفطّريّة الارتماس غير قابلة للحمل على غير ما هي ظاهرة أو واضحة أو نصٌّ فيه، وهو المفطّريّة. وعليه فالمعارضة بينها وبين صحيحة إسحاق بن عمّار مستقرّة، فتتقدّم تلكم الروايات إمّا لشهرتها، وهي أولى المرجّحات في مقبولة عمر بن حنظلة، وإما لمخالفتها لما عليه العامّة -بعد عدم موافقة أيٍّ من المتعارضَين للكتاب-؛ إذ لا قائل منهم بمفطّريّته، نعم ذهب الحنابلة إلى كراهته في الجملة، ولكنَّ ابن حنبل متأخّر عن هذه الروايات، فلا موضوع للتقيّة بلحاظ رأيه، هذا.
وصحيحة ابن عمّار -المعارضة لروايات مفطّريّة الارتماس- مبتلاة لا محالة بخدشة صدوريّة أو جهتيّة -إن صحّ التعبير-، وقد تكرّر منّا إيرادها، وهي أنَّ هذه الصحيحة من متفرَّدات الشيخO، ولم ينقلها غيره ممّن وصلت إليه مصادر هذه الصحيحة، وكانت بين أيديهم كالكلينيّ والصدوق، ومثل هذا الأمر يوجب ريبة فيها وإن كانت تامّة سنداً، بل يوجب ظنّاً بوجود خلل صدوريّ أو مضمونيّ فيها سيما بعد تماميّة سندها، ومعه تردّ الرواية ولا يؤخذ بها بناءً على أنّ الملاك في حجّيّة خبر الواحد هو الوثوق أو عدم الظن بالخلاف أو عدم قيام الاحتمال العقلائيّ بالخلاف، نعم تُقبل بناء على أنَّ المدار في حجّيّته على الوثاقة.
والنتيجة هي أنَّ ارتماس الصائم يفطّره -وفاقاً لمشهور القدماء والمتأخّرين-.
و{الْحَمْدُ لِلهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى}
0 التعليق
ارسال التعليق