مسألتان في الحجّ 1- استقرار الحج على من استطاع وأهمل.. وعدمُه؟ 2- طهارة المستحاضة في باب الطواف

مسألتان في الحجّ 1- استقرار الحج على من استطاع وأهمل.. وعدمُه؟ 2- طهارة المستحاضة في باب الطواف

بسم الله الرحمن الرحيم، وصلّى الله وسلّم على محمّد وآله.

(1) استقرار الحجّ على مَن استطاع وأهمل.. وعدمُه؟

قال في الجواهر: «لا خلاف ولا إشكال نصّاً وفتوى في أنّه يستقرّ الحجّ في الذمّة إذا استُكملت الشرائط فأهمل حتّى فات،

فيحجّ في زمن حياته وإن ذهبت الشرائط التي لا ينتفي معها أصل القدرة..»(1)، وقال في موضع آخر: «إذا استقرّ الحجّ في ذمّته ثمّ لم يفعله... فعله متى تمكّن منه على الفور ولو متسكّعاً بلا خلاف أجده فيه ولا إشكال، بل الإجماع بقسميه عليه، والنصوص دالّة عليه.. »(2).

حجّيّة الإجماع:

-وكما استُدلّ على الاستقرار بالتسالم والإجماع- استَدلّ بعضهم عليه بالروايات، وستأتي إن شاء الله.

وقد ناقش أحد السادة (رحمه الله) دليل الإجماع -بصورة عامّة وبلا اختصاص بمسألتنا- بثلاث مناقشات(3)(4)، وقد رتّبناها فنيّاً كالتالي:

المناقشة الأولى: إنَّ الإجماع ليس كاشفاً عن رأي المعصوم؛ فإنّهم لو علموا رأيه من قوله أو سيرته أو غير ذلك لذكروا -بحسب سير الأمور بشكل طبيعي- مستندهم فيما ذهبوا إليه، ويعود مستغرباً أن يهملوا أجمع بيان ذلك، سيما مع كون المسألة عامّة البلوى.

ويلاحظ عليها إنّ الإجماع على حكم مخالف للقاعدة -كما في المقام- مع عدم وجود رواية على طبقه في الكتب المعهودة موجبٌ للاطمئنان بوجود ارتكاز من المتشرعة بما هم متشرعة، ولا بحث في كاشفيّة الارتكاز عن رأي المعصوم، فهو كاشف قطعيٌّ عنه، إذن فالإجماع كاشف عن مدرك الحكم لا عن الحكم مباشرةً، هذا فيما يرجع إلى الكبرى.

وأما ما يُناقش به صغروياً من أنّ ما يصلنا إنّما هو فتاوى أصحاب الكتب أو فتاوى مشهور القدماء، وإجماع هذه الطبقة لا يعني إجماع فقهاء تلك الحقبة ليكون كاشفاً عن الارتكاز- ففيه إنّ عنوان الإجماع لا دخل له في الكاشفيّة، بل المناط حصول الاطمئنان بالارتكاز، وهذا يتحقّق باتفاق الطبقة المعروفة من قدماء الأصحاب، فإنّها إن اتفقت على حكمٍ مخالف للقاعدة ولا مدرك له في الكتب المعهودة- فلا يمكن ألا يكون لها عليه مدرك؛ لمنافاته للورع، فتعيّن كون مدركها الارتكاز.    

المناقشة الثانية: إن الإجماع ليس دليلاً أصلاً، نعم هو سبب لحصول القطع للفقيه، فيفتي اعتماداً على قطعه لا لكون الإجماع حجّةً يعتمد عليه كالكتاب والسنّة والعقل.

وهذه المناقشة صحيحة ولا تختص بالإجماع، بل تشمل كلّ الكواشف عن الأدلّة، فالسنّة مثلاً هي الحجّة، وأما أخبار الآحاد فليست على غرارها، إذ هي كواشف عنها، ثمّ إنّ الإجماع كالتواتر، فكما يصحّ عدّه دليلاً وحجّة؛ لأنّه من الأسباب العاديّة للقطع أو الاطمئنان- فكذلك الإجماع؛ فالدليليّة لا ترتفع عن السبب الموجب للقطع عادةً بأن المناط هو حجّيّة القطع، وكيف كان فلا ثمرة عمليّة لهذه المناقشة.

المناقشة الثالثة: إن الإجماع لا يعود تعبّديّاً في المسألة التي يستدلّ فيها بالروايات.

ويلاحظ على هذه القضيّة بأنّها ليست على نحو الكبرى الكليّة، بل ذلك فيما لو أحرز استنادهم إليها أو احتمل ذلك احتمالاً عرفيّاً(5)، وإلا فلا، كما في المقام؛ فإنّه رغم كون الروايات بأيديهم إلا أنّه لم يعهد الاستدلال بها على مسألة الاستقرار من أحدٍ قبل السيّد الخوئي (قدِّس سرُّه)، فقد قرّب روايات التسويف خاصّة بتوسيط نكتةٍ لتدلّ على الاستقرار(6)، وسيأتي التعرّض لهذه الروايات.

واقع التسالم:

ثمّ إنّ بعض الأعاظم (قدِّس سرُّه)- وإن ناقش حجّيّة الإجماع كبرويّاً وصغرويّاً(7)، وقد عرفت دفع نقاشه- إلا أنّه تمسّك في غير مورد بالتسالم دليلاً على الحكم الشرعيّ، ومنه مقامنا، وقد اتخذ -على الظاهر- من عدم الخلاف طريقاً لإثبات تسالم الأصحاب على الاستقرار(8). وهذا يدعونا إلى استجلاء واقع تسالمهم والوقوف على محرزاته، فنقول:

أما فيما يخصّ واقعه فقد يراد منه -في كلمات أحد الأعاظم (قدِّس سرُّه)- الإجماع، ولكن للتمييز بينهما يعبِّر مرّة بالإجماع، ويَردُّه صغرى وكبرى بما تقدّم، ويُعبِّر أخرى بالتسالم، وبالتسالم القطعي، ويريد به اتفاق المتقدِّمين والمتأخّرين، ويعتمده مدركاً لإثبات الحكم الشرعي(9)، بل يسمّيه تسالماً، ويعتمده وإن وجد المخالف، فإن المدار على حصول القطع أو الاطمئنان بقول المعصوم، وأما الاتفاق بما هو اتفاق فلا اعتبار به(10).

وقد يراد منه الارتكاز المتشرّعي نفسه(11).

محرزات التسالم:

وأما فيما يخصّ طرق إحراز التسالم، وإن كانت كاشفيته عن الارتكاز في ضمن شروط، فقد سيقت جملةٌ من الطرق، وإن رجع بعضها إلى بعض آخر:

ألف: أن يرسل الحكم في الكلمات -سيما كلمات الأعيان- إرسال المسلّمات(12).

باء: أن يسند ثبوت الحكم في الكلمات إلى القطع(13).

جيم: أن يُرفض ما تفرّد به بعض العامّة في بعض الكلمات بمثل (ليس بشيء)، كما في مورد رفض المحقّق (قدِّس سرُّه) قول أبي حنيفة بنجاسة جميع ما يخرج من القبل والدبر(14).

دال: ألا يعدّوا في ضمن أقسام الشيء ما يحتمل كونه قسماً له، كما في مورد احتمال كون تجمّد الخمر من مطهِّراتها(15).

هاء: ألا يتعرّضوا لاعتبار ما يحتمل كونه قيداً من قيود المسألة، كما في مورد احتمال اعتبار قصد القربة في تحنيط الميّت(16).

وبعض هذه الطرق يرجع إلى بعضها الآخر، بل الثلاثة الأخيرة مجرد كواشف عن ثبوت الحكم على نحو القطع، وليست مستقلةً عنه، وما لم تكشف عن التسالم فلا قيمة لها.

هذا واستقرار الحجّ على من استطاع وأهمل مما أرسل في كلماتهم إرسال المسلّمات، ولم يُحكَ الخلاف فيه من أحد منّا(17)، بل ما ساق معظمهم أمر الاستقرار إلا ليرتِّب عليه مسألة القضاء عمن أهمل ومات، فيقول: من استقرّ الحجّ في ذمّته فإنّه يجب القضاء عنه لو مات ولم يحج(18)، كما لم يحكَ الخلاف فيه حتّى من العامّة، فيحرز بذلك التسالم قطعاً.

وبعد توفّر العناصر التالية:

ألف: كون المسألة عامّة البلوى.

باء: كون الحكم على خلاف القاعدة -بناءً على دوران وجوب الحجّ مدار الاستطاعة، كما هو مقتضى القاعدة في كلّ خطابٍ علِّق الحكم فيه على عنوان معيّن- فبانتفاء الاستطاعة ينتفي وجوب الحجّ المربوط بها، فاستقرار وجوبه مخالف للقاعدة(19).

جيم: عدم احتمال نشوء مثل هذا التسالم القطعي-في العادة- من روايات لا تتحدّث بشكل مباشر عن أمر الاستقرار، بل تتوقف دلالتها عليه على توسيط نكتة أو قرينة، ورغم ذلك وقع الكلام في دلالتها من بعضهم، وسيأتي إن شاء الله، بل تقدّم أنه لم يعهد استناد المتقدّمين والمتأخرين إليها، وأول من لفت إليها وبالإشارة خاصّةً وفي موضعين هو صاحب الجواهر (قدِّس سرُّه)، وقد صدّرت هذه الرسالة بكلامه فلاحظه، وأول من استنطقها لصالح مسألة الاستقرار هو السيّد الخوئي (قدِّس سرُّه)، كما تقدّم.

(نعم بعد توفّر هذه العناصر) منضمّةً إلى التسالم القطعيّ على الاستقرار-نقطع أنّه رأي المعصوم، ولو بتوسّط الارتكاز المتشرّعيّ، فالتسالم كاشف عن ارتكاز الاستقرار عند المتشرّعة، والارتكاز كاشف عن رأي المعصوم.

فالمتحصّل تماميّة التسالم مدركاً لاستقرار الحج في ذمّة من استطاع وأهمل حتى فاتت استطاعته.

روايات المسألة:

وأمّا الروايات التي يمكن الاستدلال بها على الاستقرار فهي طوائف:

الطائفة الأولى: روايات تسويف الحجّ، ومنها صحيح ذريح المحاربيّ عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «ومن مات ولم يحجَّ حجّة الاسلام، لم يمنعه من ذلك حاجة تجحف به، أو مرض لا يطيق فيه الحجّ، أو سلطان يمنعه، فليمت يهودياً أو نصرانياً»(20).

فإن المستفاد من الصحيح أنّ من استطاع للحجّ وأهمل امتثاله ثمّ مات- مات يهوديّاً أو نصرانيّاً، وهذا يصدق على من استطاع ولم يحجّ ثم مات وإن زالت استطاعته، فيجب عليه أن يحجّ ولو متسكّعاً ليموت مسلماً، وفراراً عن أن يموت يهوديّاً أو نصرانيّاً.

وقد نوقش الاستدلال بالصحيح بمناقشتين(21)، وحاصلهما: دعوى ظهور الصحيح في بيان حكم خصوص من يموت تاركاً للحجّ مع كونه مستطيعاً له دائماً، وأنّه لا إطلاق له.

ويلاحظ عليه أنّها دعوى بلا شاهد على الاختصاص بمن بقي مستطيعاً إلى أن مات، فالإطلاق محكّم.

الطائفة الثانية: روايات بذل الحجّ، ومنها صحيح محمد بن مسلم-في حديث- قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): فإن عرض عليه الحجّ فاستحيى؟ قال: «هو ممن يستطيع الحج، ولِمَ يستحيي ولو على حمار أجدع أبتر»، قال: «فإن كان يستطيع أن يمشي بعضاً ويركب بعضاً فليفعل»(22).

وهو ظاهر في وجوب الحج عليه ولو متسكّعاً، ومقتضى إطلاق قوله (عليه السلام): «فليفعل» استقرار الحج عليه، فيجب عليه ولو في السنوات اللاحقة.

الطائفة الثالثة: روايات صيرورة حجّة الإسلام ديناً يخرج من أصل التركة، ومنها صحيح معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) في رجل توفِّي وأوصى أن يحجّ عنه، قال: إن كان صرورة فمن جميع المال، إنّه بمنزلة الدين الواجب..(23). فإن تعليله إخراج الحجّ الموصى به من جميع المال بالدين الواجب كاشفٌ عن استقراره في الذمّة، ومقتضى إطلاقه شموله لمن استطاع فأهمل حتى زالت استطاعته.

إلى غير ذلك من الروايات، ومعها يعود من المعجِّبات حقّاً القول بعدم الدليل على استقرار الحجّ في فرض ما لو استطاع وأهمل إلى أن زالت الاستطاعة(24)، كيف وقد أفاد أحد الأعلام (قدِّس سرُّه) بأن أمر الاستقرار من ضروريّات الفقه(25)، وأفاد آخر (قدِّس سرُّه) بأن أصل الاستقرار مما لا إشكال فيه(26). 

فالمحصّلة ثبوت استقرار الحج على من استطاع وأهمل حتى زالت الاستطاعة ولو متسكّعاً؛ للروايات أيضاً.

ثمّ إنهم بحثوا في أنّ لزوم الحج على من استطاع وأهمل حتى زالت الاستطاعة- هل هو ثابت وإن لزم منه الحرج أم لا؟ وقد استوفاه السيّد الأستاذ(سلّمه الله) في كتابه، فليراجع(27).

(2) طهارة المستحاضة في باب الطواف

مقدِّمة:

إذا علمت المستحاضة بأن دمها سينقطع بعد ذلك انقطاع برءٍ أو انقطاع فترة تسع الصلاة وجب عليها تأخيرها إلى ذلك الوقت، فلو بادرت إلى الصلاة بطلت إلا إذا تمشّى منها قصد القربة، وانكشف عدم الانقطاع، ولو قدّمت مع رجاء الانقطاع بأحد الوجهين، ثمّ انقطع لزمتها الإعادة ولو احتياطاً لازماً(28)، إذ لا إطلاق لروايات الباب يشمل فرض العلم بالانقطاع لاحقاً أو احتماله، كما يعلم من مراجعة مظانِّ البحث(29)، فطهارتها في هذا الباب طهارة عذريّة، هذا في باب الصلاة.

إذا عرفت ما تقدّم فالكلام فعلاً في جواز بدار المستحاضة للطواف الواجب مع علمها بالانقطاع لاحقاً بأحد الوجهين أو رجائها إياه، وفي صحّة طوافها لو بادرت إليه ثمّ انقطع الدم كذلك.

وهذه المسألة غير محرّرة في كلمات الأعلام (أيدهم الله)، ولم يتعرّض المراجع العظام (أيدهم الله) لهذه المسألة على مستوى الفتاوى في رسائلهم في مناسك الحجّ، نعم بعد استفتاء جملة منهم جاءت إجاباتهم بالمنع -ولو بالاحتياط اللازم- من مبادرة المستحاضة للطواف مع علمها بانقطاع دمها لاحقاً انقطاع برءٍ أو انقطاع فترة تسع الطواف، وأنّها لو بادرت إليه ثمّ انقطع لزمتها الإعادة -ولو احتياطاً لازماً-(30) هذا.

ولكنّ العمدة في هذا الباب هو ما رواه الشيخ (قدِّس سرُّه) بإسناده عن موسى بن القاسم عن عبّاس بن عامر عن أبان بن عثمان عن عبد الرحمان بن أبي عبد الله قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن المستحاضة، أيطأها زوجها؟ وهل تطوف بالبيت؟ قال: «تقعد قُرأها الذي كانت تحيض فيه، فإن كان قُرؤها مستقيماً فلتأخذ به، وإن كان فيه خلافٌ فلتحتط بيوم أو يومين، ولتغتسل ولتستدخل كُرسفاً، فإن ظهر عن الكرسف فلتغتسل ثمّ تضع كرسفاً آخر ثمّ تصلِّي، فإذا كان دماً سائلاً فلتؤخِّر الصلاة إلى الصلاة، ثمّ تصلِّي صلاتين بغسل واحد، وكلّ شيء استحلّت به الصلاة فليأتها زوجها ولتطف بالبيت»(31).

والكلام فيها من جهتي السند والدلالة، أمّا السند فلا يعيبه شيء إلا وقوع أبان بن عثمان فيه، ولكن لا ينبغي التوقّف في وثاقته، فضلاً عن رميه بالضعف(32) -وإن لم يتعرض لحاله من جهة الوثاقة وعدمها النجاشي وكذا الشيخ لا في الفهرست ولا الرجال- لوجوه أربعة:

ألف: أنّ أبان- بنقل الكشي- ممن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ منهم وتصديقهم لما يقولون(33). وهو واضح في ثبوت القول بصدقه ووثاقته، وتعدد القائلين بها.

باء: أنّه ممن روى عنه ابن أبي نصر وابن أبي عمير وصفوان الّذين لا يروون إلا عن ثقة، فهم رواة كتبه(34).

جيم: أنّه ممن أكثر من الرواية عنه الأجلاء كالمشايخ الثلاثة وجعفر بن بشير والحسن بن عليّ الوشّاء وفضالة بن أيوب فيما تفرّد به من روايات الأحكام الإلزاميّة، وهو كاشف عن اعتمادهم عليه وتوثيقهم له.

دال: أنّه من معاريف الطائفة؛ لرواية الأجلاء عنه، ولم يرد فيه قدح، وكون الراوي كذلك كاشفٌ عن حسن ظاهره الكاشف عن الوثاقة والعدالة عرفاً وشرعاً.

وأمّا كونه ناووسيّاً فعلى تقدير ثبوته فلا يقدح مثله من انحراف العقيدة؛ إذ لم ينهض وجه لاعتبار الإيمان بالمعنى الأخصّ في حجيّة خبر الثقة.

وأمّا ما رواه الكشي بسنده عن إبراهيم بن أبي البلاد قال: كنت أقود أبي، وقد كان كفّ بصره، حتى صرنا إلى حلقة فيها أبان الأحمر، فقال لي: عمن يحدِّث؟ قلت: عن أبي عبد الله (عليه السلام)، فقال: ويحه، سمعت أبا عبد الله يقول: «أما إنّ منكم الكذّابين، ومن غيركم المكذّبين»(35)- فلا يصلح قادحاً ومعارضاً لما مرّ؛ لجهالة حال والد إبراهيم بن أبي البلاد القادح في أبان بتطبيقه ما سمعه من الصادق (عليه السلام) عليه.

فالنتيجة صحّة هذه الرواية سنداً.

وأمّا دلالتها فهي-إلى جانب استفادة أصل اعتبار طهارة المستحاضة في صحّة الطواف(36)- ظاهرة في أنّها متى استحلّت الصلاة واستباحتها جاز لها أن تطوف، وهي بإطلاقها شاملة لما إذا علمت بانقطاع الدم لاحقاً أو احتملته.

تتميم وإيضاح:

ولمزيد من الإيضاح أقول: إنّ في قوله (عليه السلام) في ذيل الصحيحة: «وكلّ شيء استحلّت به الصلاة فـ.. لتطف بالبيت» احتمالين:

ألف: إن الطهارة المعتبرة في طواف المستحاضة هي الطهارة المعتبرة في الصلاة، وأنّ ما يستحلّ به الصلاة يستحلّ به الطواف، وأنّ الطواف كالصلاة في الحاجة إلى الطهارة، فلا يجوز للمستحاضة الإتيان بالطواف بلا طهارة، وقد بنى عليه الإمام الخوئي (قدِّس سرُّه)(37). ويتوجّه عليه أنّه إذا كان مفاد ذيل الصحيحة بيان أصل اعتبار الكيفيّة وأنّ النحو المعتبر في استباحة الصلاة هو النحو المعتبر في استباحة الطواف-فلا إطلاق للذيل ليشمل فرض العلم بالانقطاع أو احتماله لاحقاً؛ لعدم كونه في مقام البيان من جهة الاستباحة كي يتمسّك بإطلاقه لفرض الانقطاع.

باء: إنّ ما يؤثِّر في حلِّيَّة الصلاة يؤثِّر بالفعل في إباحة الطواف، وهو أقصى ما يستفاد من الذيل، وقد ذكره الفقيه الهمداني (قدِّس سرُّه) وعقّبه بقوله: "لعلّه أقوى، على تأمّل فيه"(38)، وقد تعقّب هذا الاحتمال الميرزا التبريزي (قدِّس سرُّه) بقوله: "ضعيف غايته، وإلا كان المذكور: وكلّ شيء أحلّته الصلاة، لا استحلّت به الصلاة"(39)، وفيه: أنّ التعبير عن تأثير طهارة الصلاة في إباحة الطواف بمثل ما ذكره متكلّفٌ، بخلاف قوله (عليه السلام): «وكلّ شيء استحلّت به الصلاة فـ.. لتطف بالبيت» في التعبير عن ذلك؛ فإنّه عرفيٌّ جدّاً وغير متكلّف، بل ظاهره وقوع الطواف بعد الصلاة التي توضأت أو اغتسلت لها، وقد استظهره هو (قدِّس سرُّه) في كتاب الطهارة(40)، وقد بنى على هذا الاحتمال الفقيه المحدّث الشيخ حسين العصفور (رحمه الله)(41).

وبموجب هذا الاحتمال يستفاد من إطلاق الصحيحة جواز بدار المستحاضة للطواف وإن علمت بانقطاع دمها لاحقاً انقطاع برءٍ أو انقطاع فترة تسع الطواف، فإذا طافت ثمّ انقطع بأحد الوجهين فلا تلزمها الإعادة، وبعبارة أخرى إن المستفاد من ذيل الصحيحة أنّ المستحاضة في باب الطواف بمنزلة الطاهرة وإن علمت بانقطاع دمها لاحقاً، بخلافها في باب الصلاة، فإنّ طهارتها عذريّة، ثمّ إنّ ما ذكر من عدم الإطلاق للروايات في باب الصلاة إنما هو للقرينة، وقد تقدّم في الاستشراف، ولا قرينة بموجب هذا الاحتمال هنا، فالإطلاق محكّم. 

بقيّة روايات الباب:

هذا وقد يستفاد من ذيل صحيحة الحسين بن نعيم الصحّاف عن أبي عبد الله (عليه السلام)(في حديث حيض الحامل).. قال: «وإن كان الدم إذا أمسكت الكرسف يسيل من خلف الكرسف صبيباً لا يرقى فإنّ عليها أن تغتسل في كلّ يوم وليلة ثلاث مرات، وتحتشي وتصلّي وتغتسل للفجر، وتغتسل للظهر والعصر، وتغتسل للمغرب والعشاء الآخرة»، قال: «وكذلك تفعل المستحاضة؛ فإنّها إذا فعلت ذلك أذهب الله بالدم عنها»(42)، (نعم قد يستفاد منه) جواز مبادرتها للطواف وإن كانت تعلم بانقطاع الدم لاحقاً؛ فإنّ إذهاب الدم عنها بفعل الأغسال يفيد أنّها بحكم الطاهرة وما دامت كذلك فلا مانع من مبادرتها للطواف.

ويلاحظ على ذلك- مضافاً إلى كون موردها خصوص الاستحاضة الكبرى- أنّ من المحتمل كون طهرها بفعل الأغسال بالإضافة للصلوات اليوميّة لا مطلقاً ليشمل باب الطواف.

وأمّا صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): «أن أسماء بنت عميس نفست بمحمّد بن أبي بكر فأمرها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حين أرادت الإحرام من ذي الحليفة أن تحتشي بالكرسف والخُرَق، وتهلّ بالحجّ، فلما قدموا (مكّة) وقد نسكوا المناسك، وقد أتى لها ثمانية عشر يوماً فأمرها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أن تطوف بالبيت وتصلّي، ولم ينقطع عنها الدم ففعلت ذلك»(43)- فلا إطلاق لها بعدما كان علاج المسألة مرتبطاً بقضيّةٍ خارجيّة يحتمل فيها إحراز استمرار الدم.

وأمّا رواية يونس بن يعقوب عمن حدثه عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «المستحاضة تطوف بالبيت وتصلّي ولا تدخل الكعبة»(44)- ففي الاستدلال بها- مضافاً إلى ضعف سندها بالإرسال وغيره- أنّها ليست بصدد البيان من جهة بحثنا، بل هي بصدد بيان أصل عدم مانعيّة حدث الاستحاضة من صحّة الطواف.

المحصّلة:

وقد تحصّل تماميّة دلالة صحيحة عبد الرحمن في جواز مبادرة المستحاضة للطواف وإن أحرزت انقطاع دمها لاحقاً انقطاع برءٍ أو انقطاع فترة تسع الطواف فضلاً عما لو احتملت الانقطاع.

كتبت هذه الأسطر تذكرةً لنفسي، والحمد لله أولاً وآخرا، وصلّى الله على محمّد وآله.

 

* الهوامش:

(1) جواهر الكلام17: 298.

(2) جواهر الكلام17: 313- 314.

(3) فقه الحج، تقرير بحث السيّد محمّد حسين فضل الله (رحمه الله)، بقلم الشيخ جهاد عبد الهادي فرحان1: 210.

(4) لاحظ لجواب هذه المناقشات بنحوٍ وافٍ كافٍ- بحوث في علم الأصول، بقلم السيّد الهاشمي (دام ظله)، تقرير بحوث الشهيد الصدر (قدِّس سرُّه)4: 312- 316.

(5) فإذا لوحظ استدلال المتأخّرين بالروايات مع اختلافهم في نكتة الاستدلال، فمع وجود دعوى الإجماع لدى المتقدّمين فالإجماع غير مدركيّ؛ لأن المناط في المدركيّة هو احتمال استنادهم للروايات احتمالاً عرفيّاً، بأن يكون مستنداً لأمارة عرفيّة عليه، بلحاظ أنّ كاشفيّة الإجماع عن الارتكاز المتشرّعيّ المعاصر لزمان المعصوم كاشفيّة عقلائيّة لا ترفع اليد عنها إلا بظنٍ نوعيّ على الخلاف، فما لم يكن احتمال المدركيّة عرفيّاً فلا قيمة له. 

(6) معتمد العروة الوثقى1= موسوعة الإمام الخوئي (قدِّس سرُّه)26: 180، 233، المعتمد في شرح المناسك1= موسوعته28: 88، 89.

(7) مصباح الأصول(الأصول العمليّة1)= موسوعة الإمام الخوئي (قدِّس سرُّه)47: 160- 163.

(8) المعتمد في شرح المناسك1= موسوعة الإمام الخوئي (قدِّس سرُّه)28: 89.

(9) التنقيح في شرح العروة الوثقى(ك الطهارة3)= موسوعة الإمام الخوئي (قدِّس سرُّه)4: 334.

(10) التنقيح في شرح العروة الوثقى(ك الطهارة3)= موسوعة الإمام الخوئي (قدِّس سرُّه)4: 445- 446، ولاحظ: مستمسك العروة الوثقى14: 212.

(11) انظر: بحوث في شرح العروة الوثقى، للسيّد الشهيد الصدر (قدِّس سرُّه)3: 101- 103.

(12) انظر: مستمسك العروة الوثقى1: 69- 70.

(13) انظر: مستمسك العروة الوثقى12: 200، 201، 13: 332، 14: 135.

(14) انظر: مستمسك العروة الوثقى1: 284.

(15) انظر: مستمسك العروة الوثقى1: 404، التنقيح في شرح العروة الوثقى(ك الطهارة2)= موسوعة الإمام الخوئي (قدِّس سرُّه)3: 94.

(16) انظر: مستمسك العروة الوثقى4: 192، 11: 117.

(17) نعم اختلفوا فيما به يتحقّق الاستقرار، وأنّه بقاء شرائط وجوب الحجّ إلى نهاية ذي الحجّة أو بقاؤها إلى آخر الأعمال أو غير ذلك.

(18) انظر: الحدائق الناضرة14: 152، مستند الشيعة11: 76.

(19)  نعم صار سيّد المرتقى (قدِّس سرُّه)(ك الحجّ)1: 167 إلى أن الاستطاعة شرط حدوثاً لا بقاءً، وإن تقدّم منه استظهار أنّ الاستطاعة المأخوذة هي استطاعة بنحو الاستمرار(المرتقى إلى الفقه الأرقى «ك الحجّ»1: 62، 63)، وعلى الأول فالآية من أدلّة استقرار الحجّ على من استطاع وأهمل ولو فاتت الاستطاعة.

(20) وسائل الشيعة11: 29، 30 ب7 من أبواب وجوب الحجّ وشرائطه ح1.

(21) فقه الحج، تقرير بحث السيّد محمّد حسين فضل الله (رحمه الله)، بقلم الشيخ جهاد عبد الهادي فرحان1: 212، 213.

(22) وسائل الشيعة11: 40 ب10 من أبواب وجوب الحجّ وشرائطه ح1.

(23) وسائل الشيعة11: 67 ب25 من أبواب وجوب الحجّ وشرائطه ح4.

(24) فقه الحج، تقرير بحث السيّد محمّد حسين فضل الله (رحمه الله)، بقلم الشيخ جهاد عبد الهادي فرحان1: 213.

(25) مهذّب الأحكام في بيان الحلال والحرام، للسيّد السبزواري (قدِّس سرُّه)12: 115.

(26) تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة(ك الحج)، للفاضل اللنكراني (قدِّس سرُّه)1: 267.

(27) بحوث في فقه الحجّ1: 537-541، وقد اتفق حضوري عنده في خارج فقه الحجّ من محرّمات الإحرام.

(28) انظر: العروة الوثقى1: 597، مع تعاليق 15 من الأعلام، ط جماعة المدرّسين.

(29) انظر: التنقيح في شرح العروة الوثقى(ك الطهارة)= موسوعة الإمام الخوئي (قدِّس سرُّه)8: 111- 114.

(30) والإجابات محكيّة عن المراجع العظام السيّد السيستاني والشيخ الوحيد الخراسانيّ والسيّد محمّد سعيد الحكيم (أيدهم الله)، ولكن يوجد استفتاء في الموقع الإلكتروني التابع لسماحة السيّد السيستاني (دام ظله) تحت مادّة (الاستحاضة)، رقم43، هذا نصّه: لو أن امرأةً مستحاضة طافت الساعة الخامسة، وتعلم يقيناً بأنّها ستنقى الساعة السادسة- هل يصحّ طوافها؟ الجواب: "إذا أدّت الوظيفة التي عليها من أحكام المستحاضة صحّ طوافها". انتهى. وقد استفتيت سماحة الأستاذ السيّد كاظم الحائري (دام ظله) في ذلك، فأجاب بما يلي: "المستحاضة تستطيع أن تعمل وفق وظيفتها، فلو عملت ثم برأت أو تنزّلت إلى ما هو أحسن وفي الوقت متّسع وأمهلوها أعادت"، 7 ذو القعدة 1427هـ.

(31) وسائل الشيعة2: 375 ب1 من ابواب الاستحاضة ح8.

(32) كما عن المحقّق (قدِّس سرُّه) في أوصاف المستحقّين من زكاة المعتبر، حكاه عنه في تنقيح المقال3: 143.

(33) انظر: معجم رجال الحديث1: 146، 147.

(34) انظر: معجم رجال الحديث1: 144، 145، 147.

(35) انظر: معجم رجال الحديث1: 146.

(36) المعتمد في شرح المناسك2= موسوعة الإمام الخوئي (قدِّس سرُّه)29: 29.

(37) المعتمد في شرح المناسك2= موسوعة الإمام الخوئي (قدِّس سرُّه)29: 29.

(38) مصباح الفقيه4: 346.

(39) الموسوعة الفقهيّة للميرزا التبريزي (قدِّس سرُّه)= تنقيح مباني العروة(التهذيب)3: 22، 23، ومثله في مصباح المنهاج(ك الطهارة)5: 245.

(40) الموسوعة الفقهيّة للميرزا التبريزي (قدِّس سرُّه)= تنقيح مباني العروة(ك الطهارة) 6: 410.

(41) انظر: مصباح الناسكين في أحكام الحجّاج والمعتمرين م376.

(42) وسائل الشيعة2: 374، 375 ب1 من أبواب الاستحاضة ح7.

(43) وسائل الشيعة13: 462 ب91 من أبواب الطواف ح1.

(44) وسائل الشيعة13: 462 ب91 من أبواب الطواف ح2.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا