بسم الله الرحمن الرحيم. وصلّى الله وسلّم على محمّد وآله.
ذات البعل المزوّجة..حرمتها؟(2)
المعروف أنّ منْ تزوّج من ذات بعل حَرُمتْ عليه مؤبّداً، إلا في صورة الجهل مع عدم الدخول فلا تحرم بالإجماع(3)، وأما في صورة الجهل والدخول فالمعروف فيها أيضاً هو الحـرمة المؤبّـدة، وقد تنظَّرَ فيها بعض الأعلام المعاصرين(4)،كما استشكل الحرمة في المسألة من أصل بعض أعلام علماءنا(5)؛ فآثرتُ إعادة وإجالة النظر في هذه المسألة سيما في شقِّها الثالث.
وكيف كان فالمتَّبع دلالة الروايات، وهي عديدة، منها موثّقة أديم بن الحرّ(الخزاعيّ) قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «الّتي تتزوّج ولها زوج يُفرَّق بينهما ثمَّ لا يتعاودان أبداً»(6).
وتؤيِّدها مرفوعة أحمد بن محمد: «أنّ الرجل إذا تزوّج امرأة وعلم أنّ لها زوجاً فُرِّقَ بينهما ولم تحلّ له أبداً»(7)، وما قيل من أنّ الظاهر كون الواو في قوله: (وعلم) حاليّة(8)- ليس ظاهراً عرفاً، بل الظاهر كونها عاطفة.
وكيف كان فمقتضى ما ذكر من إطلاق الموثّقة حرمة ذات البعل على منْ تزوّجها حرمة مؤبّدة حتى في فرض الجهل وعدم الدخول أو أحدهما، إلا أنّ في مقابل هذا الإطلاق صحيحةَ عبد الرحمن بن الحجّاج قال: «سألتُ أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل تزوّج امرأة ولها زوج وهو لا يعلم، فطلّقها الأول أو مات عنها ثمَّ علم الأخير، أيراجعها؟ قال: لا، حتى تنقضي عدّتها»(9).
فإنّ موردها جهل المتزوّج، وهي واضحة في عدم الحرمة المؤبّدة في مثل هذا المورد، ومقتضى إطلاقها عدم الفرق بين فرضي الدخول وعدمه، فيصار آنئذٍ إلى تقييد إطلاق الموثّقة بهذه الصحيحة، والمتحصّل ثبوت الحرمة المؤبّدة فيما عدا صورة الجهل سواءً اتفق دخوله بها أم لم يتّفق.
مناقشة المتن:
وقد حملت الصحيحة في بعض الكلمات على فرض الدخول، حيث إنّ الغالب مقارنة التزوّج مع الدخول في غير الأبكار، فحملها على ما قبل الدخول حمل على الفرد النادر(10).
ويتوجّه عليه أنّ ما يسأل عنه الراوي ليست واقعة خارجية ليجيء ما ذكره من أمر الغلبة، بل المسألة على نهج القضية الحقيقية. على أنّ المحمل المتصوّر للرواية ليس منحصراً في أحد أمرين إما فرض الدخول وإما فرض ما قبله ليقال بأنّ الحمل على ما قبل الدخول حمل على الفرد النادر فيتعين حملها على فرض الدخول، بل هناك ما هو أعمّ منهما، وهو الإطلاق.
مناقشة السند:
ثمّ إنّ محمد بن عيسى في طريق الصحيحة هو العبيدي، وهو"جليل في أصحابنا ثقة عين"، كما قال النجاشي (رحمه الله)، وهذا التوثيق هو المعتمد رغم تضعيف الشيخ (قدّس سرّه) إيّاه في فهرسته وفي موضعين من كتاب الرجال وفي الاستبصار؛ فإنّ هذا التضعيف مبني على استثناء ابن الوليد شيخ الصدوق (رحمه الله) له ممّن روى عنهم صاحب نوادر الحكمة، غير أنّ ظاهر كلام ابن الوليد هو المناقشة في روايات العبيدي عن خصوص يونس بإسناد منقطع أو فيما ينفرد بروايته عنه لا غير، مما يؤذن بأنّ شخص العبيدي غير داخل في المناقشة(11).
وقد يقال: بأنّ ظاهر قول ابن نوح (رحمه الله) "فلا أدري ما رابه فيه؛ فإنّه كان على ظاهر العدالة والوثاقة" أنّه فهم من كلام ابن الوليد (رحمه الله) الطعن في وثاقته، ولعلّ سرّ عدم الطعن في رواياته الأخرى هو قلّتها واعتضادها بقرائن الوثوق.
وأقول: -على تقدير التسليم بهذه المناقشة- إنّ هذا التضعيف لمّا كان محتفّاً لما يصلح للقرينيّة على رجوعه إلى عقيدته فلا يعود شهادةً في قبال الشهادة بوثاقته، والذي يصلح للقرينيّة على ذلك ما حكاه الشيخ (رحمه الله) في الفهرست من القول بأنّ العبيدي كان يذهب مذهب الغلاة.
وبعد هذا فلا موضع للإشكال في العبيدي نفسه كما اتفق من بعض السادة(سلّمه الله)(12) هذا.
وقد يتراءى أنّ رواية عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام): «في امرأة بلغها أنّ زوجها توفي فاعتدّت(سنة)، وتزوّجت، ثمّ بلغها بعدُ أنّ زوجها حيّ، هل تحلّ للآخر قال: لا»(13) - معارِضةً لصحيحة ابن الحجّاج بعد كون الجهل بالموضوع -وهو كونها ذات بعل- مورداً مشتركاً بينهما، وقد أجاب الإمام (عليه السلام) هنا بحرمتها على الآخر، ومقتضى إطلاقه أن بلوغ خبر حياته مانع من زواجها به مطلقاً، فلا يجدي في حلّها له اعتدادها من الأول، بينما أجاب هناك بعدم الحرمة.
إلا أنّه لا يسعنا الركون إلى رواية عليّ بن جعفر في مدافعة صحيحة ابن الحجّاج بالمعارضة؛ إذ لا طريق للاعتماد على كتاب المسائل بعد تعدّد نسخه، ولا تجدينا صحّة طرقه الكثيرة(14) ما دمنا لم نحرز أنها طرق للنسخة التي عنها أخذت الرواية، ولم يتمّ سندها بطريق قرب الإسناد المخرّج عنه في الوسائل؛ لتوفّره على عبد الله بن الحسن، وهو عبد الله بن الحسن بن علي بن جعفر المجهول حاله.
ثمّ إنّه توجد لعبد الرحمن صحيحة أخرى واضحة في عدم الحرمة المؤبّدة، وموردها جهل الزوج مع دخوله، فعدم الحرمة في هذا المورد لا بالإطلاق من جهة الدخول وعدمه -كما في صحيحته الأولى- بل بالنصوصية، وإليك الصحيحة، قال: «سألتُ أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل تزوّج امرأة ثم استبان له بعد ما دخل بها أنّ لها زوجاً غائباً فتركها، ثمّ إنّ الزوج قدم فطلّقها أو مات عنها، أيتزوّجها بعدُ هذا الذي كان تزوّجها ولم يعلم أنّ لها زوجاً؟ قال: ما أحبّ له أن يتزوّجها حتى تنكح زوجاً غيره»(15).
إلا أنّ بإزائها روايتين تشتركان معها في المورد -وهو الجهل بكونها ذات بعل مع الدخول- قد دلّتا على ثبوت الحرمة المؤبّدة، وهما: موثّقة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «في امرأة فقد زوجها أو نعي إليها فتزوّجت ثم قدم زوجها بعد ذلك فطلّقها، قال: تعتد منهما جميعاً ثلاثة أشهر عدّة واحدة، وليس للآخر أن يتزوّجها أبداً»(16)، وموثّقته الأخرى عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «إذا نعي الرجل إلى أهله أو أخبروها أنّه قد طلّقها فاعتدّت ثمّ تزوّجت فجاء زوجها الأول، فإنّ الأول أحقّ بها من هذا الأخير دخل بها الأول أو لم يدخل بها، وليس للآخر أن يتزوّجها أبداً، ولها المهر بما استحلّ من فرجها»(17). ويحتمل اتحاد الموثقتين وعدم تعددهما.
أما اشتراكهما مورداً مع صحيحة ابن الحجّاج الثانية في الجهل بكونها ذات بعل فواضح، وأما في الدخول فالاشتراك ظاهر في الأولى بقرينة قوله (عليه السلام): «تعتد منهما جميعاً»؛ فإنّ العدّة فرع الدخول بها، وفي الثانية بقرينة قوله (عليه السلام): «ولها المهر بما استحلّ من فرجها».
الجمع بين الطائفتين:
وقد يجمع بين الطائفتين بما يلي:
الأول: ما أفاده أحد أعلام المعاصرين (دام ظله) من حمل الثانية على الكراهة(18). ولم يذكر الوجه العرفيّ لهذا الحمل، والمتصوّر وجهان:
ألِف: كون الطائفة الأولى مجوّزة والثانية مانعة، ودليل الجواز أظهر عرفاً من دليل المنع في دلالته على الحرمة؛ لاحتمال الثاني المنع بدرجة أخفّ من درجة الحرمة وهو الكراهة.
ويتوجّه عليه منع إطلاقه؛ فإنّ المنع ليس أبداً أقل من الجواز في الوضوح درجةً؛ فإن التعبير بعدم الحلّ التكليفي مثلاً صريح في الحرمة، وقوله (عليه السلام) فيما نحن بصدده: «وليس للآخر أن يتزوّجها أبداً» مفاده الحكم الوضعي-أي المانعيّة- بلحاظ أن ظاهر النفي أو النهي المتعلّق بالاعتباريات كالنكاح هو الإرشاد للمانعيّة، فلا وجه لحمله على الكراهة.
باء: جعل قوله (عليه السلام): «ما أحبّ له أن يتزوّجها» في صحيحة عبد الرحمن قرينةً على المراد من قوله (عليه السلام): «وليس للآخر أن يتزوّجها أبدا» في موثقتي زرارة بعد الفراغ من فهم الكراهة من قوله: «ما أحبّ له أن يتزوّجها».
ويتوجّه عليه -هو الآخر- إباء مضمون الموثقتين المتقدّم من الحمل على الكراهة حتى لو فهمت الكراهة من جملة: (ما أحبّ..).
ثمّ لا نسلِّم ظهور جملة (ما أحبّ..) في الكراهة المصطلحة؛ فإنّها كما تستعمل فيها تستعمل في الحرمة، والمعيّن لأحدهما هو القرينة، وبدونها يستحكم الإجمال، فهي إذن ليست بنحو يُعارض دليل الحرمة.
الجمع الثاني: حمل صحيحة ابن الحجّاج المجوّزة على فرض عدم العلم بأصل أن لها زوجاً، كما يظهر من موردها، وحمل موثقتي زرارة على فرض العلم بأصل الزوجيّة والبناء على الفراق لاعتقاد الموت أو الطلاق كما يظهر من موردهما.
ويلاحظ عليه أنّه لا يظهر من مورد الصحيحة أن الزوج لا يعلم بأصل أنّ لها زوجاً، نعم لا يعلم بأن لها زوجاً غائباً، وهذا كما يجتمع مع عدم علمه بأصل أن لها زوجاً يجتمع مع العلم به ولكن يعتقد الفراق بطلاق أو موت، ولو لأنّها هي التي عرضت عليه أمر الزواج فاتخذ من ذلك مؤشراً على كونها خليّة.
الجمع الثالث: تخصيص عموم الطائفة الثانية بما اشتملت عليه الطائفة الأولى، وهي جملة: (حتى تنكح زوجاً غيره)، وينتج عنه الحرمة المؤبّدة إلا أن تنكح زوجاً آخر فلا تحرم عندئذ.
لا يُقال: كيف يمكن أن يكون تزوّجها من الغير مجوّزاً لتزوّجه(يعني الثاني) منها، بل ذلك إنّما يوجب عظم حالها وشدّة أمرها به، حيث تصبح به ذات بعل؛ إذ لم يذكر فيها كون تزوّجه(يعني الثاني) منها ثانياً بعد طلاق الزوج الجديد(يعني الثالث) لها وانقضاء عدّتها منه(19).
فإنّه يٌقال: إنّ عدم تعرّض الصحيحة لذكر كون تزوّجه منها ثانياً بعد طلاق الزوج الثالث لها وانقضاء عدّتها منه- إنّما هو لجهة وضوح ذلك وعدم الحاجة إلى التذكير به، على غرار ما في آية الطلاق{فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ..}(20)، وإلا عاد إشكالاً على الآية أيضاً.
كما أنّ ما قيل من أنّ كلمة(حتى) في الفقرة ليست للتحديد، وإنّما هي مستعملة فيها للغاية، فتكون الغاية من ترك تزوّجه منها هي عدم جعلها معطّلة، بل فتح الباب لغيره كي يتزوّج منها(21) - خلاف ظاهر الرواية، ولا تقوى الرواية على تحمّله، فإنّ ظاهر كلمة(حتى) فيها هو التحديد، على نسق الآية الآنفة الذكر.
ومخض هذا حرمة ذات البعل المزوّجة في فرض الجهل والدخول إلا أن تنكح زوجاً آخر، فلا تحرم على الثاني.
وقد يقال -بدواً- بأن لا عامل بمضمون صحيحتي ابن الحجاج وخصوصاً الثانية، رغم سلامة سندهما ونقلهما في التهذيب والاستبصار من الكتب الأربعة، مما يورثنا وثوقاً بوجود خللٍ فيهما منع من الاعتماد عليهما، وعليه فلا معارض لموثقتي زرارة الواضحتين في الحرمة المؤبّدة في الفرض المذكور.
والجواب عن هذا أن إعراض فقهائنا عن العمل بالصحيحتين لا يتعيّن أن يكون لخلل فيهما بعد المعارضة بينهما وبين الموثّقتين؛ إذ نحتمل أن يكون الإعراض لتوهم المعارضة وتقديم الموثّقتين عليهما لا لأمرٍ آخر وراء ذلك.
ولو لم يستقم ما ذكرناه من وجهٍ للجمع، ولو لأجل عدم قائلٍ منّا بنتيجة هذا الجمع -فنظراً لصراحة ذيل(ما أحبّ له أن يتزوّجها حتى تنكح زوجاً غيره) في عدم الحرمة المؤبّدة، وصراحة(وليس للآخر أن يتزوجها أبداً) في تأبيد الحرمة- يتّجه بعد تعارضهما تساقطهما معاً والرجوع إلى العموم الفوقاني، وهو هنا إطلاق موثّقة أديم بن الحرّ، فالحكم في مسألتنا هو الحرمة.
تذييل: قال أحد السادة الأعلام (قدّس سرّه): "ومن الغريب ما وقع في هذه المسألة، فقد عرفتَ ما في القواعد -ونحوه ما في الروضة وعن الإيضاح- من نفي النصّ فيها، وفي كشف اللثام أنّ مقتضى إطلاق الأخبار عموم التحريم، وفي الجواهر والرياض والحدائق وغيرها لم يتعرّض لهذا الصحيح(يعني صحيحة ابن الحجّاج الثانية) وكيفية الجمع بينه وبين النصوص"(22).
أقول: ومن نتائج عدم إدخال هذه الصحيحة في المعادلة بعد تفرّد موثّقتي زرارة بصحيحة ابن الحجّاج الأولى هو تقدّم الموثقتين؛ للأخصّيّة، إلا أنّ إقحام الصحيحة الثانية لابن الحجّاج في المعادلة دفع إلى جمع بينها وبين الموثّقتين -تمّ أو لم يتمّ- وأفرز نتاجاً آخر كما عرفت.
النتائج:
●لا تحرم ذات البعل المزوّجة على من تزوّج بها في فرض الجهل منهما وعدم الدخول بالإجماع، ولمفاد صحيحة ابن الحجّاج الأولى غير المعارَض، بل مقتضاه عدم الحرمة ولو مع علمها دونه إن لم يدخل بها.
● لا تحرم في فرض الجهل والدخول(وهي مسألتنا) لما ذكرناه من جمعٍ بعد أن ينكحها زوج غيره، ولو لم يتمّ الجمع فالنتيجة هي الحرمة؛ لعموم موثّقة أديم، فلا مجال للقول بالجواز مطلقاً.
●تحرم في فرض العلم بكونها ذات بعل دخل أم لم يدخل، كما لو فرض عدم علمهما بحرمة الزواج بذات البعل، وإلا خرج الفرض عن مسألتنا ودخل في فروض الزنا بذات البعل.
والحمد لله أولاً وآخراً، وصلّى الله وسلّم على محمدٍ وآله.
عِدّة الحامل المطلّقة
المعروف أنّ عدّة الحامل المطلّقة تنتهي بوضعها الحمل وإن كان طلاقها في الأيام الأولى لحملها، بل في الجواهر أنّه المشهور شهرة عظيمة كادت أن تكون إجماعاً(23).
ويدل عليه قوله تعالى:{وَأُولاتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}(24)، والروايات الكثيرة، منها صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «طلاق الحامل واحدة، فإذا وضعت ما في بطنها فقد بانت منه»(25).
ومنها صحيحة الحلبيّ عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «طلاق الحبلى واحدة، وإن شاء راجعها قبل أن تضع، فإن وضعت قبل أن يراجعها فقد بانت منه، وهو خاطب من الخطَّاب»(26)، وغيرهما.
وفي مقابل المشهور قولٌ للصدوق (رحمه الله) في الفقيه والمقنع، ولابن حمزة (رحمه الله) في الوسيلة بأنّ عدّتها أقرب الأجلين من وضع الحمل ومن مضيّ ثلاثة أشهر(27)، قال الصدوق في الفقيه: "والحبلى المطلّقة تعتدّ بأقرب الأجلين إن مضت لها ثلاثة أشهر قبل أن تضع فقد انقضت عدّتها منه، ولكنها لا تتزوّج حتى تضع، فإذا وضعت ما في بطنها قبل انقضاء ثلاثة أشهر فقد انقضى أجلها"(28).
وقال (رحمه الله) في المقنع: "واعلم أن أولات الأحمال أجلهنّ أن يضعن حملهنّ وهو أقرب الأجلين، وإذا وضعت أو أسقطت يوم طلّقها أو بعده متى ما كان فقد بانت منه وحلّت للزواج، وإذا مضى به ثلاثة أشهر من قبل أن تضع فقد بانت منه، ولا تحلّ للزواج حتى تضع"(29).
وقال ابن حمزة في الوسيلة: "فالحامل عدّتها أقرب الأجلين، ومعنى ذلك أنّ الرجل إذا طلّق امرأته حاملاً، ووضعت حملها عقيب الطلاق بلحظة بانت منه بوضع الأول، ولم يجز لها أن تتزوّج إلا بعد وضع جميع ما في بطنها -إلى أن قال- وإن مضت على ذلك ثلاثة أشهر ولم تضع الحمل بانت منه، ولم يجز لها التزوّج إلا بعد وضع الحمل"(30).
واستُدلّ لهما بصحيحة أبي بصير قال: «قال أبو عبد الله (عليه السلام) طلاق الحبلى واحدة، وأجلها أن تضع حملها وهو أقرب الأجلين»(31)، وصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) مثلها(32)، وصحيحة أبي الصباح عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «طلاق الحامل واحدة، وعدّتها أقرب الأجلين»(33).
وقد انتصر لهذا القول الشيخ صاحب الجواهر (قدّس سرّه) لـ"كونه مقتضى الجمع بين الأدلة كتاباً وسنّة؛ إذ فيهما ما دلّ على اعتداد المطلّقة بالثلاثة، ومنها ما دلّ على اعتداد الحامل مطلَّقة كانت أو غيرَها بالوضع، فيكون أيّهما سبق يحصل به الاعتداد -إلى أن قال- وأمّا الصحيحان -يعني صحيحتي أبي بصير والحلبيّ- فالمراد منهما الاعتداد بالوضع حال كونه أقرب الأجلين، فالجملة حاليّة فيوافقان الخبر الأول -يعني صحيحة أبي الصباح- بل جعلُها مستأنفة لا حاصل له؛ ضرورة كون الموجود في الخارج منه كلاًّ من الأقرب والأبعد.."(34).
وقد مال إلى هذا القول بعض المعاصرين(35) وأنّه مقتضى الجمع بين الروايات، فهي على طوائف ثلاث:-
فمنها ما دلّ على أنّ المطلّقة تعتدّ بالقروء إن كانت تحيض وبالأشهر إن كانت لا تحيض(36)، ومنها ما دلّ على أنّ عدّة المطلّقة الحامل وضع الحمل كصحيحتي زرارة والحلبي المتقدّمتين، ومنها ما دلّ على أنّ عدّتها أقرب الأجلين وهي الصحاح الثلاث المتقدمة.
وأنّ النسبة بين الطائفتين الأوليتين عموم مطلق فيقيّد إطلاق الأولى بالثانية، وتختصّ هي بغير الحامل. وأمّا الطائفة الثالثة فظاهرها كون عدّة الحامل المطلّقة أقرب الأجلين فتكون هذه الطائفة شاهد جمع بين الطائفتين الأولتين.
والتحقيق: أنّ قوله سبحانه: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} بصدد بيان ما تخرج به أولات الأحمال عن عدّتهن، فلو كان لهنّ أجل آخر للعدّة قبل وضع الحمل -وهو الأشهر الثلاثة- فاللازم ذكره، سيما وأنّ تقدّم وضع الحمل على مضي الأشهر الثلاثة ليس غالبياً.
ثمّ إنّ الآية -بعد ملاحظتها بمجموعها- تتحدّث عن الآجال التي تخرج بها النساء بصنوفها عن عدّتهن، فتفصِّل بين عدّة {اللائي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ.. واللائي لَمْ يَحِضْنَ} فتجعل عدّتهن ثلاثة أشهر وبين عدّة أولات الأحمال فتجعل منتهى عدّتهن وضع الحمل، ومن الظاهر عرفاً أنّ التفصيل قاطع للشركة في الأحكام، فلا يكون ما جعل للقبيل الأول عين ما جعل لثاني القبيلين، وإلا لاختلّ نظام التفصيل.
وأما الصحاح الثلاث التي استُدل بها للتفصيل فلئن أمكن جعل صحيحة أبي الصباح هي الأصل -كما صنع صاحب الجواهر (قدّس سرّه)- وصار إلى تطبيق صحيحتي أبي بصير والحلبي عليها جاعلاً جملة (وهو أقرب الأجلين) فيهما حاليّة، فيكون وضع الحمل إذن عدّةً للمطلّقة الحبلى حينما يكون أقرب الأجلين -نعم لئن أمكن كلُّ هذا- فإنّه -في المقابل- يمكن أن يكون خبر المبتدأ في صحيحة أبي الصباح محذوفاً، وهو أن تضع حملها، كما أفاد صاحب الحدائق (رحمه الله)(37)، وأما لفظ(أقرب الأجلين) فيها فهو صفةٌ لموصوفٍ محذوف، وإذا ورد الاحتمال بطل الاستدلال.
هذا واعتبار جملة (وهو أقرب الأجلين) في الصحيحتين حالاً متكلّفٌ وركيك عرفاً؛ إذ الظاهر توصيفها لوضع الحمل بأنّه أقرب الأجلين.
ثم إنّ توصيف وضع الحمل بكونه أقرب الأجلين -الظاهر في كونه كذلك مطلقاً، وهو ليس كذلك إلا على نحو الموجبة الجزئية- صادٌّ لنا عن الاستناد إليها لاشتمالها على ما هو باطل، وهو كون وضع الحمل أقرب الأجلين على نحو الموجبة الكلية، وركاكة المفاد على تقدير جعل جملة (وهو أقرب الأجلين) وصفيّة لا يبرر حملها على الحالية؛ لعدم ظهور كون الجملة حاليّة، بل نلتزم بإجمال صحيحة أبي الصباح.
ينضافُ إلى ذلك عدم وضوح الأجل الآخر، وأنّه الأشهر الثلاثة مطلقاً أو هي فيما إذا لم تتأت الأقراء وإلا فالأقراء أو غير ذلك. وبالجملة فالصحيحة مجملة من هذه الجهة أيضاً.
ونلفت النظر إلى نقطة جوهرية بل وحاسمة لقضيّة الاعتماد على الصحاح الثلاث، وهي إعراض بل هجر فقهائنا لها -ومنهم العَلَمان الصدوق وابن حمزة (قدّس سرّهما)-، أما تحقّق إعراض غيرهما؛ فلعدم إفتائهم على وفقها، وأما ثبوت إعراضهما؛ فلأنهما يفتيان بغير ما تضمنته هذه الروايات، وهو تحقّق البينونة من الزوج على تقدير مضي الأشهر، ولكن لا تحلّ لغيره من الأزواج حتى تضع حملها، فهما حتماً لم يستندا إلى هذه الصحاح.
وإذا كان الإعراض بهذه الشمولية والسعة، وهو المسمّى بالهجر، فمثله يورث وثوقاً بعدم صحة مضمونها(38).
هذا وهجر فقهائنا عما هو ضعيف سنداً كما يحتمل فيه دخالة جهة الدلالة يحتمل فيه دخالة أصل الصدور، وأما إعراضهم عن الصحيح سنداً -كما هو الحال في الصحاح الثلاث- فيتمحّض في جهة الدلالة والمضمون.
ومن كلّ ما تقدّم يتّضح قوّة ما ذهب إليه المشهور من أنّ عدّة الحبلى المطلّقة هو وضع الحمل مطلقاً؛ لسقوط الطائفة الثالثة فيتعيّن العمل بالطائفة الثانية؛ لتقدّمها على الطائفة الأولى بالأخصّيّة.
والحمد لله أولاً وآخراً، وصلّى الله وسلّم على محمدٍ وآله الهداة.
* الهوامش:
(1) مصطلح (الأحوال الشخصيّة) مأخوذ من الفقه الوضعي، ويعنون به الأحكام المتعلّقة بالأسرة من نكاح وطلاق، وقد يتّسع المصطلح لما يشمل الوصايا والوقوف والمواريث، ويُخصّ النكاح والطلاق بمصطلح (أحكام الأسرة).
(2) وقصّة بحث هذه المسألة هذا الإستفتاء الذي تلقّيتُه في تاريخ 26/3/2004م على موقع سماحة الشيخ الجمري من امرأة تقلِّد سماحة السيّد السيستاني (دام ظله):
«استفتاء شرعي: بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيّد المرسلين محمّد وآل بيته الطيبين الطاهرين، سماحة الشيخ الجمري (دام ظله)... تزوّجت من شخص يعيش في أوربا، -ونتيجةً لصعوبة ذهابي إلى البلد الذي يعيش فيه- فلقد عشت مع أقربائي الذين يعيشون في بلد أوربي آخر، ومن خلال معاشرتي له لأشهر متقطّعة اكتشفت سوء خلقه، وبأنّه مسخ إلى رجل غربيّ، لا يهمّه الدين أو الأخلاق، يعاشر نساء الغرب زنى، ولا يعبأ بالدين، وأول ما طلبت منه الطلاق فرح بذلك، و لم يهمّه الأمر؛ لأنّه أراد الخلاص مني حتى لا أنغصّ عليه حياته الجديدة واذكّره بالدين.. ولقد طلقت منه وأنا و هو مطمأنَين على صحّة الطلاق؛ لاعتماده على قريبي الذي ادّعى بأنه ملمّ بأمور الدين، وهذا ما اشتهر عنه -أي عرف عنه (اقصد قريبي)- بأنّه رجل مؤمن، وبما أنّ طليقي غير ملمّ أو مهتمّ بأمور الدين -أي كان جاهلا- وأنا كذلك كنت جاهلة، ولا أعرف بأمور الطلاق غير القليل، وعلى الرغم من أنّ الطلاق تمّ عن طريق الهاتف؛ لأن طليقي يعيش في بلد وأنا في بلد آخر -كما قلت سابقا-، لكنّ قريبي تكفّل بإفهام زوجي السابق صيغة الطلاق، وتمّ الطلاق عن طريق الهاتف -كما قلت-. بعد سنةٍ تزوجت من رجل ثاني(كذا) مؤمن غيّر حياتي بعد أن كنت أعيش على المهدّآت، فتحولت خلال السنتين التي قضيتها معه إلى امرأة تنشد دين الله كاملاً، وتستغفره طائعة مؤدّية للفروض والمستحبّات دؤوبة على سماع المحاضرات. وهنا حدثت الكارثة فعند استماعي لأحد(كذا) المحاضرات استشكلت بأمر الطلاق من الزوج الأول؛ لأنني فهمت من المحاضرة أنه يجب أن يكون الشاهدان في نفس الزمان والمكان، وما عرفته من قريبي بأن طليقي اتصل به وقرأ عليه صيغة الطلاق بوجود زوجة قريبي- يعني الشاهد هنا رجل وامرأة- ثمّ عاد طليقي واتصل بعد دقيقة ليشهد رجل آخر بالطلاق...وهنا اختلف الزمان والمكان للشاهدين. لقد انفصلنا أنا وزوجي الثاني حال استشكالي بالأمر، وعرفت بأن هذا يعدّ وطء شبهة لا معصية فيه؛ لجهلي والزوج الأول بصيغة الطلاق الصحيحة، المشكلة الآن مع الزوج الثاني فما الذي يجب فعله؟ أنا لا أستطيع أن أفارقه، وأنتم تعرفون ظروف الحياة الصعبة في أوربا، وكذلك لا يوجد لي أيّ معيل هنا. سؤالي: هل يحقّ لي العودة إلى الزوج الثاني الذي وطأني شبهة جاهلا بالأمر مثلما أنا أيضا كنت أجهل الأمر؟ أرجوكم ساعدوني لأني أمرّ بظروف هي حياة أو موت؛ لأنّ مسألة تحريم عودتي لزوجي الثاني هو كمن حرماني(كذا) من الحياة؛ لاستحالة عودتي للأهل لأني أقيم الآن في بلد أوربي. أغيثوني أقسم عليكم بالله ورسوله، إلا أنقذتموني فليس لي باب أطرقه غيركم، أدام الله بقائكم وحفظكم المولى عزّ وجلّ. خادمتكم أمّ أحمد».
(3) ففي المسالك: أنّه لا إشكال في الحلّ، وفي الرياض دعوى الإجماع عليه، وفي الحدائق: "ليس فيه خلافٌ يُعرف".
(4) وهما السيد حسن القمّي، كما في حاشيته على العروة2: 820، والسيد السيستاني في منهاجه3: 65 م197.
(5) وهم السيد البروجردي والسيد الشريعتمداري والسيد الكلبايكاني في حواشيهم على العروة الوثقى.
(6) الوسائل20 : 446 ب 16 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ح1، الوسائل12 : 440 ب15 من أبواب تروك الإحرام ح2.
(7) الوسائل20 :449 ب 16 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ح 9.
(8) كتاب النكاح للشيخ الآراكي (قدّس سرّه): 178.
(9) الوسائل20 : 446 ب16 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ح3.
(10) كتاب النكاح للشيخ الآراكي (قدّس سرّه):178.
(11) انظر: معجم رجال الحديث18: 122.
(12) مباني منهاج الصالحين 9: 632.
(13) الوسائل20: 449 ب16 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ح9.
(14) لاحظ معجم رجال الحديث7: 288(7965).
(15) الوسائل20: 447 ب16 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ح4.
(16) الوسائل20: 446 ب16 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ح3.
(17) الوسائل20: 447 ب16 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ح6.
(18) فقه الصادق21: 278. وقد أفتى بنفي الحرمة الأبدية، لاحظ منهاج الصالحين 2: 264 م1257، كما أفتى به الشيخ يوسف الصانعيّ في تعليقته على العروة المطبوعة مع تعاليق بعض الأعاظم4: 324 م9 (التعليقة5).
(19) مباني العروة الوثقى(كتاب النكاح1)= موسوعة الإمام الخوئي (قدّس سرّه)32 :191، 192، مباني منهاج الصالحين9: 633.
(20) سورة البقرة: 230.
(21) مباني العروة الوثقى(كتاب النكاح1)= موسوعة الإمام الخوئي (قدّس سرّه)32: 192.
(22) مستمسك العروة الوثقى14: 132.
(23) جواهر الكلام32: 252.
(24) سورة الطلاق: 4.
(25) وسائل الشيعة22: 193 ب9 من أبواب العُدد ح1.
(26) وسائل الشيعة22: 193 ب9 من أبواب العُدد ح8.
(27) وقد نقل في فقه الصادق(23: 41) ومباني المنهاج( 10: 411) ودروس تمهيدية( 2: 428) عن الصدوق وابن حمزة قولهما إنّ عدّة الحامل المطلّقة أقرب الأجلين من الوضع ومن الأقراء أو ثلاثة شهور، والحال أنّ عبائرهما خالية من الاعتداد بالأقراء، ويمكن إرجاع ما نقل إلى ما نقله السيد المرتضى في الانتصار(: 148)، فقد نقل ذلك من غير إسنادٍ إلى أحد فلاحظ.
(28) من لا يحضره الفقيه3: 329.
(29) المقنع: 116.
(30) الوسيلة: 325.
(31) وسائل الشيعة22: 193 ب9 من أبواب العُدد ح2.
(32) وسائل الشيعة22: 195 ب9 من أبواب العُدد ح6.
(33) وسائل الشيعة22: 194 ب9 من أبواب العُدد ح3.
(34) جواهر الكلام32: 253.
(35) وهم السيّد محمد صادق الروحاني (دام ظله)، انظر: فقه الصادق23: 40، وقد أفتى بذلك في منهاجه2: 324 م 1449، والسيّد تقيّ القمّيّ (دام ظله)، انظر: مباني منهاج الصالحين10: 412، والشيخ باقر الإيرواني، انظر: دروس تمهيديّة في الفقه الاستدلاليّ 3: 428.
(36) وسائل الشيعة22: 198 ب12 من أبواب العُدد.
(37) الحدائق الناضرة25: 450.
(38) ولا ينبغي التسوية بين الهجر وإعراض المشهور الذي وقع محلاً لخلاف الفقهاء في كونه كاسراً لمضمون المعرَض عنه أو لا؛ إذ قال بكاسريّة الأول من لا يقول بكاسريّة الثاني، وهو السيد الخوئيّ (قدّس سرّه).
0 التعليق
ارسال التعليق