بسم الله الرحمن الرحيم، وصلّى الله وسلّم على محمّد وآله.
المسألة الأولى: زنا ذات البعل قبل دخوله بها هل يحرّمها عليه؟
المشهور عدم حرمة ذات البعل بزناها وإن أصرّت عليه.
نعـم ذهـب أحد أجلّة المعاصـرين (دام ظله) إلى حرمتها إذا اتفق زناها قبل دخول زوجها بها(1)، وذلك لمعتبرة الفضل بن يونس قال: «سألت أبا الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام) عن رجل تزوّج امرأة فلم يدخل بها فزنت. قال: يفرّق بينهما، وتحدّ الحدّ، ولا صداق لها»(2)، ومعتبرة إسماعيل بن أبي زياد عن جعفر بن محمّد عن أبيه (عليهما السلام) قال: «قال عليٌّ (عليه السلام) في المرأة إذا زنت قبل أن يدخل بها زوجها، قال: يفرّق بينهما، ولا صداق لها؛ لأنّ الحدث كان من قبلها»(3)؛ فإنّ ظاهر جملة (يفرّق بينهما) بطلان العقد.
ولا تعارضها صحيحة عبّاد بن صهيب عن جعفر بن محمّد (عليه السلام) قال: «لا بأس أن يمسك الرجل امرأته إن رآها تزني إذا كانت تزني وإن لم يقم عليها الحدّ فليس عليه من إثمها شيء»(4)؛ لأخصّيّة المعتبرتين منها.
الوجه الأوّل:
وقد ذكر السيّد الخوئي (قدِّس سرُّه) أنّه لا مجال للعمل بهما؛ لمعارضتهما بروايتين معتبرتين أخريين، أولاهما: صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «سألته عن المرأة تلد من الزنا، ولا يعلم بذلك أحد إلا وليّها، أيصلح له أن يزوّجها ويسكت على ذلك إذا كان قد رأى منها توبة أو معروفا؟ فقال: إن لم يذكر ذلك لزوجها ثمّ علم بعد ذلك فشاء أن يأخذ صداقها من وليّها بما دلّس عليه كان ذلك على وليّها، وكان الصداق الذي أخذت لها، لا سبيل عليها فيه بما استحلّ من فرجها، وإن شاء زوجها أن يمسكها فلا بأس»(5). وثانيتهما: صحيحة معاوية بن وهب -في نقل الكليني (رحمه الله)- قال: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل تزوّج امرأة فعلم بعدما تزوّجها أنها كانت قد زنت. قال: إن شاء زوجها أن يأخذ الصداق من الذي زوّجها، ولها الصداق بما استحلّ من فرجها، وإن شاء تركها»(6)، وإن كانت ضعيفة بنقل الشيخ (رحمه الله)؛ باشتراك القاسم الوارد في سندها.
وقد قرّب (قدِّس سرُّه) الدلالة بأن موردهما وإن كان هو الزنا السابق على العقد، إلا أنّه لا يؤثّر شيئاً؛ فإنّ الزنا إذا كان موجباً لرفع العقد بعد وقوعه وتحقّقه فكونه دافعاً له ومانعاً من تحقّقه- ثبت بالأولوية، وعلى هذا تكون العبرة بزناها قبل أن يدخل بها، وهو أمر مشترك بين الموردين، فتكونان معارضة لتلكما المعتبرتين لا محالة(7). ومثله ما في الحدائق، إذ قال: "ومن الظاهر أنّ هذا النوع إن لم ينقص عن تلك الأنواع الأخر لم يزد عليها؛ فإن خصوصيّة العقد هنا لا مدخل له في هذه الأحكام المغلّظة المترتّبة على هذا الزنا"(8).
ويتوجّه عليهما -لو سلّمنا الأولوية- أنها إنما تتمّ لو قصرنا النظر على السبب، وهو الزنا، ولكن من المحتمل اختصاص مورد الأولتين بالحرمة نظراً لكونها زوجة حين زناها، وأنّ الحرمة ضرب من العقوبة، ولا دافع لهذا الاحتمال، ومعه فلا تصل النوبة إلى عمومات الحلّ.
الوجه الثاني:
وقد أشار (قدِّس سرُّه) إلى وجه آخر لردّ تلكما المعتبرتين(9) -وقد تناوله جملة من الأعلام(10)- وهو إعراض الأصحاب وهجرهم لهما؛ إذ لم يعمل بمضمونهما أحد؛ فإنّ المفيد والديلمي وإن أفتيا بحرمة المزني بها على زوجها إلا أنهما لم يفرّقا بين كون الزنا سابقاً على الدخول أو لاحقاً له، ومعه فلا بدّ من حملهما على استحباب الطلاق أو طرحهما.
مناقشة هذا الوجه:
ويقع الكلام في هذا الوجه صغرى وكبرى:
أمّا الصغرى فغير تامّة؛ إذ قد أفتى الصدوق (قدِّس سرُّه) في المقنع بالحرمة في مسألتنا(11)، وما في الحدائق -بعد عرضه لأخبار حرمة الزوجة بزناها أو زنا زوجها قبل دخوله بها- من أن الصدوق (رحمه الله) قد أفتى في العلل بما يناقض أخبار الحرمة(12)- فليس على إطلاقه؛ فإنّه أودع في الباب(264) ما دلّ على حرمة الزوجة بزنا زوجها قبل دخوله بها، ثمّ تعقّبه بقوله "والذي أفتي به وأعتمد عليه في هذا المعنى ما حدّثني به محمّد بن الحسن (رحمه الله)- وساق صحيحة رفاعة الآتية الدالّة على عدم حرمتها بذلك"، ثمّ ذكر الباب(265)، وعنونه بـ "العلّة التي من أجلها إذا زنت المرأة قبل دخول الزوج بها فرّق بينهما، ولم يكن لها صداق"، وأودع فيه موثّقة السكوني المتقدّمة، ولم يتعقّبها بشيء، فلاحظه(13).
فالنتيجة أنّ دعوى هجر الأصحاب وعدم إفتاء أحد بمضمون أخبار الحرمة- غير تامّة، نعم هي مما أعرض عنها المشهور؛ إذ لم يفتِ بمضمونها من المتقدّمين أحدٌ غير الصدوق (رحمه الله) كما عرفت.
كبرى كاسريّة الهجر والإعراض:
وأمّا كبرى الهجر وأنّ أدلّة حجّيّة خبر الواحد لا تتناول ما هو مهجور للأصحاب- فهي تامّة وإن قلنا بأنّ موضوع حجّيّة الخبر هو الوثاقة وأنّ الدليل على الحجّيّة هو النقل؛ ذلك أنّ هجر الأصحاب للخبر كاشفٌ عن عدم صدوره على سبيل بيان الحكم الواقعي، وعلى فرض عدم إحراز كاشفيته فإنّ احتفاف أدلّة الحجّيّة بالمرتكز العرفي القائم على التوقّف عن العمل بخبر منسوب للسلطان مع امتناع حاشيته عن العمل- مانع من إطلاقها لمثل الخبر المهجور.
ولو قلنا بأنّ دليل الحجّيّة هي السيرة فلا تتناول الخبر المهجور؛ لكون الوثاقة -التي هي ملاك الحجّيّة- بحسب المرتكز العقلائي ملحوظة باعتبار كاشفيتها النوعيّة لا على وجه الصفتيّة والموضوعيّة، فإذا ما ابتليت بمزاحم صالح للكاشفيّة على الخلاف فإنّه يوجب وهن الإماريّة النوعيّة للخبر، فلا تشمل مثله السيرة العقلائيّة.
بل لا يشمل دليل الحجّيّة الخبر الذي أعرض عنه خصوص الأقدمين من علمائنا القريبين من عصر النصوص، ولم يوجد تفسير مدركيّ اجتهاديّ واضح لفتاواهم (نعم لا يشمله الدليل) لعين ما تقدّم.
الإشكال على الكبرى وردّه:
وقد أشكل أحد أجلّة المعاصرين (دام ظله) على كاسريّة هجر الأصحاب فضلاً عن إعراض مشهورهم بما ملخّصه أوّلاً(14): أنّه لا طريق لنا إلى إحراز هجر الأصحاب أو إعراض مشهورهم عن رواية صحيحة وعدم استنادهم إليها في مقام الإفتاء؛ فإنّ الطريق إلى ذلك منحصر في وصول هجرهم أو إعراضهم عن الرواية الصحيحة إلينا يداً بيد، أو وجود كتاب استدلالي لكلّ واحد منهم واصل إلينا، وكلا الطريقين غير واقعي، أمّا الأوّل فللاختلاف في نقل آراء المتقدّمين في المسألة من جهة، والاكتفاء بنقل آرائهم فيها من دون نقل مستندهم من جهة أخرى، وقد يكتفى بنقل شهرة المسألة أو كونها إجماعيّة بدون ذكر طريق وصول الشهرة. وأمّا الثاني فإنّه على تقدير وجود كتاب استدلالي لكلّ واحد من المتقدّمين إلا أنّه لم يصل إلينا، فالنتيجة أنّه لا طريق لإحراز هجر الأصحاب أو إعراض المشهور عن رواية صحيحة.
ويتوجّه عليه أنّه من الصعب إحراز استناد الأصحاب أو المشهور إلى رواية، وأنّ مجرد تطابق فتاواهم للرواية لا يفيد استنادهم إليها؛ حيث لم تصلنا كتبهم الاستدلاليّة لو كانت، وأمّا قضيّة هجرهم أو إعراضهم عن رواية فلا ينحصر إحرازه في الطريقين المزبورين، فيمكن استكشاف ذلك من خلال كتبهم ولو كانت فتوائيّة، فعندما نرى فتاواهم في مسألة على خلاف الرواية مع كونها بمرأى ومسمع منهم نستكشف هجرهم أو -على الأقل- إعراضهم عنها فيما إذا وصلنا أو نقل إلينا جلّ أقوالهم في المسألة، ولا حاجة لنا إلى معرفة مستند تلك الأقوال ومدركها، كما لا حاجة إلى توفّر كتب استدلاليّة بعدد المتقدّمين.
وأمّا أمر الاختلاف في نقل آراء المتقدّمين فليس مطّرداً في كلّ مسألة، وأمّا نقل الشهرة أو الاتفاق -بمعنى أن ثمانين في المائة مثلاً من المتقدّمين أو أنّ تمام المائة يرون كذا، وهو على خلاف الرواية- فهو نقل حسّيّ، فتتناوله أدلّة حجّيّة الخبر.
وقد أفاد (دام ظله) ثانياً(15): أنّه مع تسليم إحراز هجر الأصحاب أو إعراض المتقدّمين لا يكفي مجرد ذلك، بل لا بدّ من إحراز أنّ ذلك إنما هو بسبب وصول ما يدلّ على عدم صدور الرواية عن المعصومين (عليهم السلام) يداً بيد وطبقة بعد طبقة من القرينة لفظيّة أو لبّيّة، وهو أمر غير واقعي؛ لأنّ القرينة إن كانت ظنيّة فلا قيمة لها، وإن كانت معتبرة فلو كانت لفظيّة -متصلة أو منفصلة- لكان اللازم لجهة الأمانة أن تنقل، وكذا لو كانت عمليّة لبّيّة- بمعنى أن أصحاب الأئمّة (عليهم السلام) قد أعرضوا عن الرواية، ووصل هذا الإعراض بنحو معتبر إلى الأصحاب فهجروها أو إلى متقدّميهم فأعرضوا عنها.
والجواب أنّ من المحتمل كون الواصل من القرينة على عدم الصدور والتي أوجبت هجراً أو إعراضاً- قرينة عملية لبّيّة تتمثّل في ارتكاز متشرّعيّ بتقرير الإمام (عليه السلام) أو فعله أو قوله بنحو الإجمال بدون تحديد، ولا ملزم لنقل هذا الارتكاز، ولا ينافي عدم نقله الأمانة؛ لأنّ من عاش هذا الارتكاز قد لا يحتمل زواله لشدّة رسوخه في زمانه، ومعه فلا يوجد ما يلزمه بنقله، وما أكثر الارتكازات المتشرّعيّة -التي هي قرائن لبّيّة متصلة بالخطابات- ولم ينقلها المتقدّمون لمن تأخّر عنهم، ولم يخدش ذلك في أمانتهم.
فالمتحصّل تماميّة كبرى كاسريّة هجر الأصحاب للرواية الصحيحة، بل يكفي إعراض متقدّمي الأصحاب عنها؛ لعدم تناول أدلّة الحجّيّة لها.
التطبيق على مسألتنا والنتيجة:
ولكنّك قد عرفت سلفاً بأنّ روايات مسألتنا ليست مهجورة للأصحاب، وليست محلّ إعراض متقدّميهم، فالمتّجه -بموجب تلك الروايات- حرمة الزوجة بزناها قبل دخول زوجها بها، وفاقاً لأحد أجلّة المعاصرين (دام ظله).
ما لو زنى الزوج قبل دخوله بزوجته:
ثمّ إنّه قد دلّت روايتان على حرمة الزوجة بزنا زوجها قبل دخوله بها، إحداهما: صحيحة عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: «سألته عن رجل تزوّج بامرأة فلم يدخل بها فزنى، ما عليه؟ قال: يجلد الحدّ، ويحلق رأسه، ويفرّق بينه وبين أهله، وينفى سنة»(16)، والأخرى: موثّقة طلحة بن زيد عن جعفر بن محمّد عن أبيه (عليهما السلام) قال: «قرأت في كتاب عليّ (عليه السلام): إنّ الرجل إذا تزوّج المرأة فزنى قبل أن يدخل بها لم تحلّ له؛ لأنّه زان، ويفرّق بينهما، ويعطيها نصف المهر»(17).
وقد أفتى بمضمونهما الصدوق (رحمه الله) في المقنع(18)، ولكنّه في علل الشرائع -بعد ذكره الموثّقة- قال: "جاء هذا الحديث هكذا، فأوردته لما فيه من العلّة، والذي أفتي به وأعتمد عليه في هذا المعنى ما حدّثني به محمّد بن الحسن (رحمه الله) عن محمّد بن الحسن الصفّار عن أحمد بن محمّد بن عيسى عن الحسين بن سعيد عن ابن أبي عمير وفضالة بن أيوب عن رفاعة قال: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يزني قبل أن يدخل بأهله، أيرجم؟ قال: لا، قلت: يفرّق بينهما إذا زنى قبل أن يدخل بها؟ قال: لا..»"(19)، وهي صحيحة السند، ورواها (رحمه الله) في الفقيه بسند آخر صحيح(20) هذا.
ولمّا كانت الطائفة الأولى صريحة في الحرمة فلا يتأتّى حملها على الكراهة وإن كانت الطائفة الثانية صريحة -هي الأخرى- في الحلّيّة، فتصل النوبة إلى مرجّحات باب التعارض، وبموجبها تتقدّم الطائفة الثانية؛ لموافقتها للكتاب العزيز في قوله سبحانه -بعد ذكر المحرّمات من النساء-: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ..}(21)، بناءً على أنّ موافقة إطلاق الكتاب من المرجّحات.
فالنتيجة عدم حرمة ذات البعل بزناه قبل دخوله بها.
والحمد لله أوّلاً وآخرا، وصلّى الله على محمّد وآله.
*****
المسألة الثانية: الرجعة في الطلاق.. إيقاع قصدي أو لا؟
مقدّمة:
الطلاق إمّا بائن تنقطع بموجبه العلقة بين الزوجين بتمام مراتبها، وإمّا رجعي يجوز للزوج معه الرجوع عنه إلى نكاحه السابق، قال الله سبحانه: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ}(22)، كما أنّه ليس طلاقاً وبينونة حقيقية، بل هو بينونة في بعض مراتبها؛ لدلالة جملة من الروايات على أنّ المطلّقة رجعيّاً إنّما تبين بخروجها من العدّة(23)، وهي زوجة بالفعل، ففي معتبرة يزيد الكناسي قال: «سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن طلاق الحبلى، فقال: يطلِّقها واحدةً للعدّة بالشهور والشهود، قلت: فله أن يراجعها؟ قال: نعم، وهي امرأته..»(24)، وعن محمد بن مسلم قال: «سئل أبو جعفر (عليه السلام) عن رجلٍ طلّق امرأته واحدة ثمّ راجعها قبل أن تنقضي عدّتها، ولم يشهد على رجعتها، قال: هي امرأته ما لم تنقضِ العدّة، وقد كان ينبغي له أن يشهد على رجعتها..»(25).
إذا تمهّد ذلك فاعلم أنّ مراجعة الزوجة والرجعة لها هو العود إليها، وقد وقع الكلام في كون الرجعة من الأمور الإنشائية الإيقاعية فيعتبر فيها ما يعتبر في سائر الإيقاعات من قصد الإنشاء وكذا صراحة ألفاظها -كما قيل-، أو أنّها تمسّكٌ بالزوجية التي تشرف على الزوال وأنّ العبرة بتحقّق عنوان العود والرجوع قولاً أوفعلاً، وبلا فرق بين كون اللفظ صريحاً أو ظاهراً فيه، بل وإن كان مجازاً أو كناية عنه وإن خلى عن قصد الرجوع.
وقد احتجّ للثاني بوجوه:
الأول: إنّه بعد تصريح الروايات -على حدّ تعبير بعضهم- بأنّ المطلقّة الرجعية زوجة بالفعل، فقيام الزوج بفعلٍ لا يجوز لغيره تمسّكٌ بالزوجية المشرفة على الانقضاء، وإن لم يقصد الرجوع والعود إليها(26)، فالمطلّقة الرجعية ما دامت في العدّة زوجة -كما تقدّم-، فلزوجها أن يفعل بها ما شاء، وإن لم يقصد الرجوع، فالأفعال -على حدّ تعبير صاحب الجواهر (قدِّس سرُّه)- "رجوع وإن لم يقصد بها ذلك، لا دالّة على الرجوع"(27).
ويلاحظ عليه أنّ الفعل -وإن لم يجز لغير الزوج- أعمّ من رجوعه إلى الزوجية، ولا شاهد على كون مثل هذا الفعل عنواناً انطباقياً يدور مدار الصدق العرفي، وأنّ العرف يرى مثل القُبلة رجوعاً وإن لم يقصد به الرجوع.
الثاني: إنّ عدم اعتبار لفظ مخصوص في الرجعة -كما اعتبر في النكاح والطلاق- فتتحقّق بكلّ ما دلّ عليها من الألفاظ وإن لم تكن صريحة وإن اعتمدت على قرينة حال أو مقال؛ بل تتحقّق ببعض الأفعال كالوطء- قرينةٌ على عدم كونها إيقاعاً؛ إذ لم يعهد مثل ذلك في سائر العقود والإيقاعات، ولا فرق بين أقسام الإنشاء من هذه الجهة(28).
ويلاحظ عليه أنّ المعتبر في مطلق العقود والإيقاعات غير ما أخرجه الدليل مطلق المبرز لها عرفاً صريحاً أو ظاهراً حقيقة أو مجازاً بلا تعيّن للفظٍ في تحقّقها؛ إذ لا دليل عليه.
الثالث: إنّ عدم اعتبار القصد إلى الرجعة في الوطء وإنكار الطلاق -كما سيأتي إن شاء الله- كاشفٌ عن عدم كون الرجعة إيقاعاً(29).
ويلاحظ عليه أنّ ما دلّ على كون وطء المطلّقة الرجعية رجوعاً لها -وهي صحيحة محمّد بن القاسم قال: «سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول: منْ غشيَ امرأته بعد انقضاء العدّة جلد الحدّ، وإن غشيَها قبل انقضاء العدّة كان غشيانه إياها رجعة لها»(30)- لا ظهور لها في عدم اعتبار قصد الرجعة في تحقّقها بغير الوطء كاللمس والتقبيل بشهوة مثلاً؛ إذ كون الوطء رجعة من باب التعبّد، ويكفي احتمال ذلك، فلا تنهض دليلاً على عدم اعتبار قصد الرجوع بغيره.
وأما ما دلّ على أنّ إنكار الطلاق رجعةً -وهي صحيحة أبي ولاّد الحنّاط عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: «سألته عن امرأة ادّعت على زوجها أنّه طلّقها تطليقة طلاق العدّة طلاقاً صحيحاً -يعني على طهر من غير جماع- وأشهد لها شهوداً على ذلك، ثمّ أنكر بعد ذلك، فقال: إن كان إنكاره الطلاق قبل انقضاء العدّة فإنّ إنكاره الطلاق رجعة لها..»(31)- فهو الآخر من باب التعبّد، واحتمال ذلك كافٍ فلا تنهض دليلاً على عدم اعتبار قصد الرجعة بغيره.
فالمتحصّل هو اعتبار قصد الرجعة في تحقّقها إلا في صورة الوطء أو إنكار الطلاق.
ومما سلف يظهر الجواب عمّا ذكره في الحدائق(32) من اعتبار قصد الرجعة في تحقّقها ولو بالوطء، معلّلاً ذلك بأنّ الوطء في حدِّ نفسه أعمّ من الرجعة، واكتفى (قدِّس سرُّه) في تقييد الصحيحة بكون الأحكام -صحة وبطلاناً وثواباً وعقاباً- دائرة مدار القصود والنيّات.
تفريعات:
ثمّ إنّ مقتضى إطلاق صحيحة ابن القاسم المتقدّمة تحقّق الرجعة بالوطء وإن قصد الخلاف أو قصد قضاء الشهوة بحيث لا يُبالي بأيِّ نحو أمكن أو قصد عنوان الزنا بوطئه ولم يقصد الرجوع، أو وطأ غافلاً أو ناسياً طلاقه لزوجته مع التفاته إلى ذات الوطء.
نعم لا إطلاق لها لفرض ما إذا وطأ قهراً أو نائماً أو باعتقاد أنّها غير المطلّقة أو وطأ مع نسيانه أو غفلته عن ذات الوطء؛ لانصراف الصحيحة عن مثل ذلك؛ فإنّ صدرها يتحدّث عن جلده الحدّ فيما لو غشيَ مطلّقته بعد انقضاء العدّة، فلا يشمل فرض القهر والخطأ والغفلة والنسيان حيث إنّه لا يجلد معها الحد بعد انقضاء العدّة.
ثمّ إنّ مقتضى إطلاق صحيحة أبي ولاّد المتقدّمة تحقّق الرجعة بإنكار الطلاق وإن علم كذبه.
ولكن استشكل أحد الأجلّة (رحمه الله) شمول الصحيحة لفرض العلم بكذبه، ثم استظهر عدم الشمول، معلّلاً ذلك برجوع إنكار الطلاق حقيقة ولبّاً إلى قضيّة تعليقية، وهي إنّي لم أطلّق، وإذا طلّقت فليس عندي قصد الرجوع، فلا يكون إنكاره للطلاق محقّقاً للرجوع عرفاً، وأضاف (رحمه الله) بأنّ بعض المطلِّقين من العوامّ إنّما ينكر الطلاق ويرجع عنه لتخيّله بطلانه، فلو علم أنّ طلاقه صحيح فلا يرجع فيه أصلاً(33).
ويلاحظ عليه أولاً: بأنّ اعتبار إنكار الطلاق رجعة حكمٌ مخاطب به الزوجة المدعية للطلاق، وأوضح فروض الرجعة تعبّداً ما إذا علمت بكونه قد طلّقها واقعاً، فاستبعاد هذا الفرض إخراج للمورد، وهو مستهجن عرفاً.
وثانياً: إنّ ما أفيد مما يكفي الإطلاق لدفعه.
والحمد لله أولاً وآخراً، وصلّى الله على محمدٍ وآله.
* الهوامش:
(1) منهاج الصالحين3: 25 م54، للشيخ محمّد إسحاق الفيّاض (دام ظله).
(2) وسائل الشيعة21: 218 ب6 من أبواب العيوب والتدليس ح2.
(3) وسائل الشيعة21: 218 ب6 من أبواب العيوب والتدليس ح3.
(4) وسائل الشيعة20: 436 ب12 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ونحوها ح1.
(5) وسائل الشيعة21: 217 ب6 من أبواب العيوب والتدليس ح1.
(6) الكافي5: 355 ح4، وسائل الشيعة21: 219 ب6 من أبواب العيوب والتدليس ح4.
(7) مباني العروة الوثقى(ك النكاح1)= موسوعة الإمام الخوئي (قدِّس سرُّه)32: 227.
(8) الحدائق الناضرة23: 498.
(9) مباني العروة الوثقى(ك النكاح1)= موسوعة الإمام الخوئي (قدِّس سرُّه)32: 227.
(10) انظر: جامع المدارك4: 214، مستمسك العروة الوثقى14: 157، فقه الصادق21: 323.
(11) المقنع: 326.
(12) الحدائق الناضرة23: 497.
(13) علل الشرائع: 501، 502، الباب 264، 265 من الجزء الثاني.
(14) المباحث الأصوليّة8: 478، 479، للشيخ محمّد إسحاق الفياض (دام ظله).
(15) المباحث الأصوليّة8: 479، 480.
(16) وسائل الشيعة21: 236 ب 17 من أبواب العيوب والتدليس ح2.
(17) وسائل الشيعة21: 236 ب 17 من أبواب العيوب والتدليس ح3.
(18) المقنع: 326.
(19) علل الشرائع: 502، الباب 546 من الجزء الثاني، وسائل الشيعة21: 238 ب 17 من أبواب العيوب والتدليس ح4.
(20) وسائل الشيعة21: 236 ب 17 من أبواب العيوب والتدليس ح1.
(21) سورة النساء: 24.
(22) سورة البقرة 228.
(23) وسائل الشيعة 22: 103-107 ب1 من أبواب أقسام الطلاق ح1-4، 8.
(24) وسائل الشيعة:22: 135 ب 13 من أبواب أقسام الطلاق ح6.
(25) وسائل الشيعة: 22: 148 ب20 من أبواب أقسام الطلاق ح11.
(26) انظر: نظام الطلاق في الشريعة الإسلامية الغراء، تقرير لبحث الشيخ جعفر السبحاني (دام ظله)، بقلم الشيخ سيف الله اليعقوبي: 207.
(27) جواهر الكلام32: 181.
(28) انظر: جواهر الكلام 32: 180، تحرير الاستدلال في كتاب الطلاق تقريراً لبحث الشيخ محمد طاهر الخاقاني (قدِّس سرُّه) بقلم الشيخ محمود محسني:255، فروع متصيّدة في الطلاق بقلم الشيخ محمد جواد الغروي الدشتي (رحمه الله):160، 161.
(29) انظر جواهر الكلام 32: 180.
(30) وسائل الشيعة 28: 131 ب29 من أبواب حدّ الزنا ح1.
(31) وسائل الشيعة 22: 136 ب 14 من أبواب أقسام الطلاق ح1.
(32) انظر: الحدائق الناضرة في فقه العترة الطاهرة 25: 358.
(33) تحرير الاستدلال في كتاب الطلاق: 258-260.
0 التعليق
ارسال التعليق