بسم الله الرحمن الرحيم، وأفضلُ الصلاة وأتمّ التسليم على خير الخلائق أجمعين، محمّدٍ وآله الطيبين الطاهرين، واللعنة الدائمة المؤبّدة على أعدائهم أجمعين، من الآن حتّى قيام يوم الدين.
مقدّمة البحث:
لقد أُثيرتْ حول المذهب الشيعي الإمامي عدّة شُبُهات، وفي شتَّى الجوانب، تبدأ في نشأته، واستمراريّته، وأصول معتقداته، وفقهه، وبعد غياب الإمام الثاني عشر(عجّل الله تعالى فرجه الشريف) بدأتْ الشُبُهات تطال الفقهاء، ونوّاب الإمام الحجة(عجّل الله تعالى فرجه الشريف)، وكان من جملة ما أثاره بعض علماء أهل السنة مسألة الزمن الذي نشأ فيه الشيعة، ممّا حَدَى بهم إلى إلصاق التُهم والتشنيعات المختلقة، والوقيعة في هذا المذهب المضطهد.
وقبل الشروع في تحديد زمن نشوء التشيُّع لا بد أن نتعرّضَ بدايةً إلى معنى التشيّع، وما هي الفترة الزمنيّة التي تم نشوء التشيّع فيها؟ وعلى يد مَنْ كانت أوّل بذرة لهذا المذهب؟ ونتعرّض من قريبٍ وبعيد إلى أهم الأقوال في هذه المسألة، مع وقفة لكلّ قولٍ من هذه الأقوال، وإيضاح الحقّ من الباطل منها.
المحور الأول: ما هو معنى التشيّع؟
التشيّع لغةً كلمة ترجع إلى مادة: (شيع)، ويقول الطُريحي -صاحب مجمع البحرين- فيها: (... والشيعة: الفرقة، إذا اختلفوا في مذهب وطريقة). ويقول أيضاً: (الشيعة: الأتباع، والأعوان، والأنصار، مأخوذ من الشياع... ثم صارت الشيعة جماعة مخصوصة، والجمع: شيع...).
وأما التشيّع اصطلاحاً فهو: الاعتقاد بآراء وأفكار معيّنة. وقد غلب هذا الاسم على أتباع علي(عليه السلام)، حتّى اختص بهم، وأصبح إذا أطلق ينصرف إليهم.
ويقول في ذلك الشهرستاني في (الملل والنحل) ما يلي: (الشيعة هم الذين شايعوا علياً، وقالوا بإمامته وخلافته نصّاً، ووصايةً، إما جليّاً، وإما خفيّاً، واعتقدوا أنّ الإمامة لا تخرج من أولاده، وإنْ خرجت فبظلمٍ يكون من غيره، أو بتقيّةٍ من عنده). وأضاف بعض علماء أهل السنة بعض المعتقدات الخاصة بالشيعة، من قبيل عصمة الأئمة من الكبائر والصغائر، والقول بالتولي والتبرِّي قولاً، وفعلاً، إلا في حال التقيّة، إذا خافوا بطش ظالم.
وأضاف الشهيد الثاني(قدس سرّه) في كتابه: (شرح اللمعة): (تقديم أمير المؤمنين على غيره في الإمامة، وإن لم يوافق على إمامة باقي الأئمة، فيدخل فيهم الإمامية، والجارودية من الزيدية، والإسماعيلية غير الملاحدة منهم، والواقفية، والفطحيّة).
أيْ أنَّ دائرة التشيع أوسع من كونه شيعيّاً إماميّاً، أو زيديّاً، أو إسماعيليّاً، أو غيرهم، فكلهم شيعة، ومنتمون إلى أمير المؤمنين(عليه السلام)، إلا أنهم يختلفون في بعض المعتقدات، ولا يؤمنون ببقيّة أئمة الشيعة الإمامية الاثني عشرية.
إضافة: فيما استعمله القرآن الكريم بلفظة شيعة ومشتقاتها:
ورد لفظ (شيعة) في القرآن الكريم مرة واحدة، ولفظ (شيعته) ثلاث مرات، ولفظ (شِيَع) - جمع شيعة - خمس مرات، ولفظ (أشياعكم) مرة واحدة، ولفظ (بأشياعهم) مرة واحدة، فيكون القرآن قد استعمل كلمة شيعة واشتقاقاتها المذكورة إحدى عشرة مرة، ومن خلال هذه الاستعمالات أبرز العناصر الأساسية لمعنى الكلمة لغة واصطلاحا، وجاءت استعمالات القرآن الكريم لها بالمعنى الذي أراد تأكيدا على استقراره، وعلى الوحدة بين المعنيين اللغوي والاصطلاحي.
نذكر جملة من الآيات التي تناولت كلمة (شيعة) في القرآن الكريم:
قال تعالى: {ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا}(1).
قال تعالى في قصّة نبيّ الله موسى(عليه السلام): {فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ...}(2)، وهي تتحدّث عن النبي موسى(عليه السلام) حينما رأى المشاجرة بين الرجلين، كان أحدهم من بني إسرائيل، وهو الذي عبّرتْ عنه الآية (من شيعته)، والآخر من أتباع فرعون.
ونلاحظُ بأنَّ الآية عبّرتْ: {مِنْ شِيعَتِهِ}، أيْ: من شيعة موسى(عليه السلام)، فلماذا هذا التعبير؟! لعلّه إشارة إلى أنَّ المجتمع المصري آنذاك كان منقسماً إلى مجموعة كبيرة من الفرق والجماعات، والشاهد على هذا الأمر ما أشار إليه القرآن عن فرعون: {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا}، فاستعمل القرآن الكريم كلمة: (شيعته)؛ للتعبير عن حال بني إسرائيل في مصر، فقد كانوا شيعة، أو فرقة متميّزة عن الفرق الأخرى.
قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ}(3)، ومن معاني هذه الآية المباركة أنَّ نوحاً(عليه السلام) كان يقود فرقةً، أو جماعةً، وكانتْ هذه الجماعةُ متميّزةً بفكرها، وقيادتها، وأمرها، ورأيها عن غيرها من فرق المجتمع الذي عايشه نوح(عليه السلام) وجماعته، وأنَّ نبيَّ اللهِ إبراهيمَ (على نبينا وآله وعليه أفضل الصلاة والسلام) آمن بفكر هذه الجماعة المؤمنة ورأيها، وسار في خطِّها، مما جعله امتداداً لنبيِّ اللهِ نوح(عليه السلام).
ومن خلال هذه الآيات وغيرها، نستفيد أن لفظة (شيعة) ومشتقاتها جاءتْ بمعنى الحزب، أو الجماعة الواحدة، التي تتفق فيما بينها في الأفكار والآراء.
وبعد هذا العرض الموجز عمَّا ورد في توضيح معنى كلمة (شيعة)، ننتقل لنطرح تساؤلاً آخر، وهو محطُّ البحث، متى نشأ التشيّع؟ ولكي نُحدّدَ الزمن الذي نشأت فيه هذه الفرقة والجماعة لا بد من الرجوع إلى التاريخ الإسلامي، وإلى أقوال أهل العلم في التاريخ، لكي نقتنص منهم -ومن بين كلماتهم- زمن نشوء التشيّع.
المحور الثاني: تحديد زمن نشوء التشيّع:
اختلفتْ وجهات نظر علماء السنة والمستشرقين في تحديد زمن نشوء التشيّع والشيعة، وتعدّدتْ الآراء إلى أقوالٍ كثيرة، أهمّها خمسة أقوال، وهي:
القول الأول: إنَّ ظهور التشيّع كان بعد واقعة الطف، حيثُ يعتقد أتباع هذا الرأي أنَّ بوادر التشيّع كانت موجودة قبل واقعة الطف، ولكنها لم تصلْ إلى حدِّ تكوين مذهب متميّز له طابعه وخواصه، وإنما حدث ذلك بعد واقعة الطف، وكان سببُ نشوئِه ردةّ الفعل من مقتل الإمام الحسين بن علي‘، وأهل بيته، وأصحابه، ممّا أثار سخطاً على بني أميّة، ورفضا لحكومتها، ومنها خرجوا للطلب بثأر الإمام الحسين(عليه السلام)، وهي حملة التوّابين التي قادها المختار بن يوسف الثقفي، وهو قول أكثر المستشرقين، وأغلب المحدثين من الكُتّاب.
القول الثاني: أنَّ التشيّع ظهر في زمن حكومة أمير المؤمنين(عليه السلام) وخلافته، حيثُ إنَّ الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) قد تسلَّم الخلافة والإمامة، وبها صار إماماً على المسلمين، ومن هنا نشأ التشيع لعلي بن أبي طالب(عليه السلام)، وهو رأي النوبختي في كتابه: (فرق الشيعة)، وابن النديم في (الفهرست).
القول الثالث: وهو يذهب إلى أنَّ التشيّعَ نشأ أيام عثمان بن عفّان، ومن آرائهم أنَّ مؤسِّس الشيعة هو عبدالله بن سبأ اليهودي، حينما تولَّى عثمان خلافة المسلمين، وجاء ببني أبيه في السلطة آنذاك، وأَبْعَدَ الصحابةَ المؤمنين، ولم يولّهم شيئاً من أمور المسلمين، بل اعتمدَ على بني أميّة في أمور المسلمين، وغيرها من الأمور التي أحدثها عثمان في حكومته، مما سبَّب ردةّ فعل من قبل كبار الصحابة على عثمان، وحاصروه لمدة أربعين يوماً في داره، ومنعوا عنه الماء، وغيرها من الأحداث التي جرت، وهي مدوَّنة في أمهات كتب التاريخ، ويزعم أصحاب هذا القول بأنَّ إثارة المسلمين والصحابة على عثمان كان بتخطيط من عبدالله بن سبأ، وبتحريض منه، وهو -أي عبدالله بن سبأ- كان يدعو إلى خلع عثمان، وتولية الإمام علي بن أبي طالب بدلاً عنه، ومن القائلين بهذا الرأي ابن حزم، وجماعة آخرون، إن شاء الله نوفّق في أبحاثٍ لاحقة أنْ نبيّن قضيّة عبدالله بن سبأ، وقصة تأسيسه للشيعة!
القول الرابع: وهو يذهب إلى أنَّ التشيُّعَ نشأ بعد وفاة النبي الأكرم(صلّى الله عليه وآله)، عندما اختلف المسلمون في الخليفة، وانقسمتْ الأمةُ الإسلامية إلى فريقين، شيعة، وسُنّة.
وإليك بعض كلمات علماء أهل السنة حول هذا الرأي:
* ابن خلدون في تاريخه: (إنَّ الشيعة ظهرتْ لما توفي الرسول، وكان أهل البيت يرون أنفسهم أحق بالأمر، وأنَّ الخلافة لرجالهم دون سواهم من قريش، ولمَّا كان جماعة من الصحابة يتشيّعون لعليٍّ، ويرون استحقاقه على غيره، ولمّا عُدل به إلى سواه تأفّفوا من ذلك)(4).
* اليعقوبي في تاريخه: (ويُعد جماعة من المتخلّفين عن بيعة أبي بكر هم النواة الأولى للتشيّع، ومن أشهرهم سلمان الفارسي، وأبو ذر الغفاري، والمقداد بن الأسود، والعباس بن عبد المطلب)(5).
* الدكتور أحمد أمين: (وكانت البذرة الأولى للشيعة الجماعة الذين رأوا بعد وفاة النبي أنَّ أهلَ بيتِه أولى الناس بأنْ يخلفوه)(6).
القول الخامس: وهو يقول بأنَّ الشيعة كانتْ من زمن النبي الأكرم(صلّى الله عليه وآله)، وهو منْ بَذَرَ بذرةَ التشيّع.
الرأي الصحيح:
ولكن الرأي الصحيح من هذه الآراء هو: أنَّ التشيّع نشأ من زمن النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله)، والنبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله) هو من أسّسَ لهذا المنهج، ولا بد من إقامة الدليل على هذه الدعوى، كما أن أصحاب الأقوال الأربعة لا بد أنْ يقدّموا الدليل على دعواهم هذه.
ومن المهم الالتفات إلى أمرٍ مهم في مناقشة الأقوال السابقة، وهو أنَّ هناك فرقا بين انتشار التشيّع وتأصيل معتقدات الشيعة، وبين أصل نشوء الشيعة، ففي بعض الأقوال تذكر بأنَّ زمن نشوء الشيعة كان في زمن الإمام جعفر بن محمد الصادق(عليه السلام)، ولم نذكر هذا القول في ضمن الأقوال الخمسة، ولكن الصحيح أنَّ معتقدات المذهب الشيعي قد تأصّلت بشكلٍ أوضح وتوسّعت دائرة العقيدة عندهم في هذا الزمن، وهذا لا ينفي وجودهم في مرتبة متقدّمة على زمن الإمام الصادق(عليه السلام).
المحور الثالث: الدليل على الرأي الصحيح:
من يرجع إلى النص القُرآني وتفاسير المسلمين، يجد أن مصطلح الشيعة -ولفظة الشيعة- قد استعملها النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله) في عدة مواطن، وهذا ما ينصِّص عليه جملة من علماء المسلمين.
نماذج من النصوص:
مجمل هذه النصوص جاءت في تفسير وسبب نزول الآية المباركة: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ}(7).
1- ابن عساكر في تاريخه: عن جابر بن عبد الله قال: كنَّا عند النبي (صلّى الله عليه وآله)، فأقبل علي(عليه السلام)، فقال النبي (صلّى الله عليه وآله): «والذي نفسي بيده، إنَّ هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة، فنزل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ}»(8).
2- ابن حجر في (الصواعق المحرقة): عن ابن عباس قال: لما أنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لعلي(عليه السلام): «هم أنت وشيعتك، تأتي أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيين، ويأتي عدوك غضابا مقمحين»(9).
3- القندوزي الحنفي في (ينابيع المودة): عن أم سلمة (رضيَّ الله عنها) قالت: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «علي وشيعته هم الفائزون يوم القيامة»(10).
4- الشبلنجي في(نور الأبصار): عن ابن عباس قال: لما نزلت الآية: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ}، قال النبي (صلّى الله عليه وآله) لعلي(عليه السلام): «أنت وشيعتك، تأتي يوم القيامة أنت وهم راضين مرضيين، ويأتي أعداؤك غضابا مقمحين»(11).
5- الحاكم الحسكاني في (شواهد التنزيل): أخرج بالإسناد إلى علي(عليه السلام)، قال: «قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): يا علي، ألم تسمع قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ}؟! هم شيعتك، وموعدي وموعدك الحوض، يُدعون غراً محجلين»(12).
6- الكنجي الشافعي في (كفاية الطالب): عن جابر بن عبد الله، قال: كنا عند النبي (صلّى الله عليه وآله)، فأقبل علي بن أبي طالب(عليه السلام)، فقال النبي (صلّى الله عليه وآله): «قد أتاكم أخي، ثم التفت إلى الكعبة، فضربها بيده، ثمَّ قال: والذي نفسي بيده، إنَّ هذا وشيعته هم الفائزون يوم القيامة، ثمَّ إنَّه أولكم إيمانا، وأوفاكم بعهد الله، وأقومكم بأمر الله، وأعدلكم في الرعية، وأقسمكم بالسوية، وأعظمكم عند الله مزية، قال: ونزلت: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ}»(13).
7- الخوارزمي في كتاب (المناقب): عن جابر، قال: كنا عند النبي (صلّى الله عليه وآله)، وأقبل علي(عليه السلام)، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «قد أتاكم أخي، ثم التفت إلى الكعبة، فضربها بيده، ثم قال: والذي نفسي بيده، إن هذا وشيعته هم الفائزون يوم القيامة، ثم قال: إنه أولكم إيمانا معي، وأوفاكم بعهد الله، وأقومكم بأمر الله، وأعدلكم في الرعية، وأقسمكم بالسوية، وأعظمكم عند الله مزية، قال: ونزلت فيه: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ}، قال: فكان أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إذا أقبل علي(عليه السلام) قالوا: قد جاء خير البرية»(14).
8- الطبري في تفسيره: عن محمد بن علي، قال: «لما نزلت الآية {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ}، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): أنت يا علي وشيعتك»(15).
9- السيوطي في الدر المنثور: عن علي، قال: «قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لي: ألم تسمع قول الله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ}؟! أنت وشيعتك، وموعدي وموعدكم الحوض، إذا جاءت الأمم للحساب، تُدعون غرا محجلين».
ونقل السيوطي عن ابن عبّاس(رضي الله عنه) أنّه قال: لمّا نزلتْ {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ}، قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لعليٍّ: «هو أنتَ وشيعتك يوم القيامة، راضين مرضيين». وأيضاً نقل السيوطي عمّا أخرجه ابن عدي، وابن عساكر، عن أبي سعيد مرفوعاً: «عليٌّ خيرُ البريّة»(16).
وقفة مع ابن حجر الهيثمي المكي:
ذكر ابنُ حجر في صواعقه جملة من الأحاديث التي تشيرُ إلى أفضلية أمير المؤمنين(عليه السلام)، وكذلك الروايات الواردة في فضل شيعته وأتباعه، ولكنه لم يرق له أن يتركها من دون تعليق، فأورد على هذه الروايات جملة من التعاليق؛ حتّى ينتصر لمذهبه.
قال ابنُ حجر في الصواعق المحرقة: عن ابن عبّاس قال: لمّا أنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا...} الآية، قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لعلي: «هم أنتَ وشيعتك، تأتي أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيين، ويأتي عدوّكَ غضاباً مقمحين، قال: ومن عدوّي؟ قال (صلّى الله عليه وآله): من تبرأ منك، ولعنك».
فأضاف قائلاً: (ولا تتوهم الرافضة والشيعة (قبّحهم الله) من هذه الروايات أنّهم محبّوا أهل البيت؛ لأنّهم أفرطوا في محبّتهم، حتّى جرّهم ذلك إلى تكفير الصحابة، وتضليل الأمة، وقد قال علي: يهلك فيَّ محبٌّ مفرط، يقرظني بما ليس فيَّ...).
وبعد ذلك يقول: (وشيعته أهل السُنّة؛ لأنّهم أحبّوهم كما أمر الله (و) أمرنا رسوله، وأمّا غيرهم فأعداؤه في الحقيقة...). وأيضاً يضيف: (وأعداؤهم -أي أعداء أهل البيت– الخوارج، ونحوهم من أهل الشام، لا معاوية ونحوه من الصحابة؛ لأنّهم متأوِّلون، فلهم أجرٌ، وله وشيعته أجران، رضي الله عنهم).
ماذا أقول لمن تلبّس بزيّ العلم والفهامة، إن قوله هذا يُضحكُ الثكلى، ويكفي في إبطال ما يزعمه أنه مخالفٌ للوجدان، ولمن نظر بعينين للتاريخ الإسلامي، لا بعينٍ واحدة كالأحول، فيرى ما يوافق مذهبه، ويترك ما يخالفه!
وقد يرد تساؤل من القارئ العزيز، إذا علمنا متى نشأ التشيّع لعلي بن أبي طالب(عليه السلام)، فمتى نشأ مذهب أهل السنة؟!
الجواب:
إذا أردنا أن نتكلّم عن نشوء نفس مصطلح: (أهل السنة والجماعة) فإن بعض المؤرخين يذكرون أنه في زمن معاوية بن أبي سفيان، أطلقَ هذا المصطلح.
والمُراد من السُّنة هي: سُنّة معاوية، التي سنَّها في لعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام)، والمُراد من الجماعة هي: اجتماع المسلمين بعد مقتل أمير المؤمنين(عليه السلام) وصلح الإمام الحسن المجتبى(عليه السلام) على الطاغية معاوية بن أبي سفيان(لعنه الله)، على الشروط التي اشترطها الإمام المجتبى(عليه السلام) من أجل الصلح.
هذا لو كنّا نريد أن نذكر سبب نشوء مصطلح: (أهل السنة والجماعة)، وأمّا لو أردنا أن نتساءل عن أصل هذا المذهب، فهو يرجعُ إلى زمن النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله) أيضاً.
ووجودهُ في زمن النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله) لا يعني أحقيّته كما في التشيّع، لماذا؟ لأنَّ التشيّع لعلي بن أبي طالب(عليه السلام) كان واجب الاتباع من غيره، بخلاف التيّار الذي كان في مقابل هذا المذهب، كما لاحظنا بأنَّ النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله) كان يُطلق عبارات المدح، والثناء، والوعد بالجنة لمن تابع وشايع عليَّ بن أبي طالب(عليه السلام)، كما تفيد جملة من الروايات الشريفة الواردة عن النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله) في حقِّ أمير المؤمنين، ومولى الموحدين، عليِّ بن أبي طالب(عليه السلام)، من قبيل:
* «عليٌّ مع الحقِّ، والحقُّ مع عليّ، يدور الحق معه حيثما دار»، فقد جعل النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله) ميزةً له(عليه السلام) دون غيره من الصحابة والمسلمين، وبه(عليه السلام) يتميّز الحق من الباطل.
* وأيضاً: «مَنْ كُنْتُ مولاه، فهذا عليٌّ مولاه»، حيثُ جعله النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله) في نفس مقامه الشريف كولي للمسلمين، كما تُصرّح به أحاديث واقعة الغدير المتواترة، حينما أوقف المسلمين عند مفترق الطُرُق، وطلب من المتقدّم أن يرجع، والمتأخر أن يُسرع؛ حتّى يتكلم فيهم بما يناسب المقام بحسب مقتضى الحال والمقام، وقال: «ألستُ بأولى منكم من أنفسكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله. ثم قال: من كنتُ مولاه، فهذا عليٌّ مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله».
فإنَّ أيَّ عاقل حينما يقف عند هذه الشواهد، بل وغيرها الكثير الكثير، يجد نفسه تنقاد للولي الذي عيّنه النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله) بأمرٍ من الله.
وحول نشأة المذهب المخالف في زمن النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله)، يذكر الشهيد الصدر الأول (عليه الرحمة والرضوان) أنَّ في زمن النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله) كان يوجد تيّاران واتجاهان آنذاك:
الاتجاه الأوّل: هم من سلكوا مسلك التعبّد الشرعي بما يأمر به المولى عز وجل، والنبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله).
الاتجاه الثاني: وهم من سلكوا مسلك الاجتهاد مقابل النصوص الشرعيّة، ومقابل أوامر النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله).
فكان الأول هم عليُّ بن أبي طالب، وسلمان المحمّدي، وعمّار بن ياسر، وأبو ذرِّ الغفاري، وغيرهم من أجلاء الصحابة الذين اتخذوا عليّا إماماً دون غيره، وكان موقفهم اتباعاً للنص الشرعي الوارد عن الله، ورسوله (صلّى الله عليه وآله).
وأمّا الاتجاه الثاني: فكان كلُّ من خالف النص الشرعي في أحقيّة وإمامة علي ابن أبي طالب(عليه السلام)، ومن شاء المزيد عليه أن يرجع إلى بحث السيد الشهيد محمد باقر الصدر(رضوان الله تعالى عليه) في بحثه: نشأة التشيّع.
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير الخلق أجمعين، محمد وآله الطيبين الطاهرين المعصومين (عليهم جميعاً سلامُ الله).
* الهوامش:
(1) مريم: 69.
(2) القصص: 15.
(3) الصافات: 83.
(4) تاريخ ابن خلدون، ج3، ص364.
(5) تاريخ اليعقوبي، ج2، ص104.
(6) فجر الإسلام، ص266.
(7) البيّنة: 7.
(8) ابن عساكر، التاريخ، ترجمة علي(عليه السلام)، ج2، ص442، ط بيروت.
(9) الصواعق المحرقة، ب11، الفصل الأول، الآية 11، ط بيروت.
(10) ينابيع المودة، ج2، ص61، ط بيروت.
(11) نور الأبصار، ص78، ط المكتبة الشعبية.
(12) شواهد التنزيل، ج2، ص356، ط بيروت.
(13) كفاية الطالب، ص214، ط بيروت.
(14) المناقب، ص111، ط قم.
(15) تفسير الطبري، ج3، ص365، ط بيروت.
(16) الدر المنثور، ج6، ص643، ط بيروت.
0 التعليق
ارسال التعليق