تمهيد
أهميّة هذا البحث*:
المبرّر لبحث الفروقات بين الحال والتّمييز هو الإشارة إلى وجوه عديدة من الاشتراك بين البابين تجعل التمييز بينهما في غاية الدقّة، وأهميّة التمييز بينهما مما لا تخفى، إذ إنّ كلاً من البابين له معنى محصّل يخالِف غيره يؤثر في الفهم والتفهيم.
فمثلاً توجد بعض الأمثلة يتردّد في كونها من الحال أو التّمييز بين النّحاة، وهذا كاشف على دقّة التمييز بينهما، كما في مثل (لله درّه فارساً) فإنّه اختلف في إعرابه بين كونها حالاً أو تمييزاً -وسيأتي في الفارق السادس-.
فقد ذهب بعض النّحاة إلى كون (فارساً) حالاً، أي: حال كونه فارساً، وذهب ابن الحاجب إلى أنّه تمييز أي من حيث إنّه فارس، وذهب الرّضي إلى أنّه لا فرق بين كونه حالاً أو تمييزاً.
في بداية هذا البحث نحصي أوجه الاجتماع، ومن خلال تعدّد أوجه الاجتماع نعرف أنّ مجال الاشتراك بين البابين كبير، فالتفريق بينهما ثمرة في حدّ نفسه.
المقام الأول: تعريف كلّ من الحال والتّمييز
*الحال: وصف فَضلة يقع في جواب كيف، كـ"ضربت اللص مكتوفاً" .
*التّمييز: اسم فضلة نكرة جامد مفسّرٌ لما انبهم من الذوات "أو النِّسَب".
وهذان التّعريفان ذكرهما ابن هشام الأنصاري في شرح قطر النّدى وبيّن القيود وكانت مورداً للنقض والإبرام، وتحقيق المسألة خارج عن غرضنا من هذا البحث.
المقام الثاني: ما يجتمع فيه الحال والتّمييز
1ـ الاسمية، أمّا التمييز فقد أخذ في تعريفه كونه اسماً، وأمّا الحال فلمّا كان وصفاً فهو ذات متلبّسة بالحدث، وكونه وصفاً يقتضي كونه اسماً.
2ـ التعريف والتنكير، وقد اتّفق في التمييز أنّه لا يكون إلا نكرة[1]، ووقع الخلاف في الحال في تنكيره وتعريفه، والصحيح كونه نكرة، ويوجد في المسألة أقوال ثلاثة:
*القول الأول: اشتراط كونه نكرة مطلقاً، وهو قول البصريين، واستدلّوا على ذلك بأمرين: السَّماع، وأنّ اللّغة العربيّة مبنيّة على الاختصار والخفّة، والحال يتأتّى مع كونه نكرة فلا ملزم لتعريفه[2].
*القول الثّاني: يأتي معرفة في بعض الموارد، وهذا القول للبغداديّين، وتعليلهم أنّ الحال لمّا كان كالخبر، والخبر يأتي معرفة ونكرة، فكذا الحال.
*القول الثالث: التّفصيل بين حالتين فيه، فإن هو دلّ على التعليق جاز تعريفه وإلا لم يجز، وهذا قول الكوفيين.
1ـ الرتبة في الجملة، فإنّ كلاً منهما فضلة، وسيأتي مزيد كلام في معنى الفضلة في الفارق الثاني فانتظر.
2ـ الإعراب: فكلّ منهما يثبت له حالة النّصب.
3ـ رفع الإبهام: كلّ منهما يرفع الإبهام، وإن اختلف في تفصيل المبهم المرفوع كما سيأتي في الفوارق.
المقام الثالث: الفوارق بين الحال والتّمييز
الفارق الأساس: التمييز يرفع الإبهام عن الذات والحال يرفعه عن الهيئة.
هذا هو الفارق الأساسي -بحسب التأمّل وقد أكّده بعض أساتذتنا- وهو العمدة في بحث الفوارق، ومن خلاله تتفرّع الفروق البقية المذكورة، وحاصل ما يمكن أن يقال فيه:
إنّ كلاً من الحال والتّمييز بالنّسبة إلى صاحبه يكون مبيّناً له، ورافعاً للإبهام عنه، غير أنّ الحال ترفع الإبهام عن هيئته، وأمّا التّمييز فيرفع الإبهام عن ذاته، وتفصيل ذلك:
معنى أنّ التّمييز يرفع الإبهام عن ذات المميّز، أنّه لا يبيّن صفة من صفاته وهيئة من الهيئات العارضة له، وإنّما رسالة التّمييز هو أنّه يكشف الإبهام في ذات المميّز، ففي مثل قولك: اشتريت عشرين رطلاً، الرّطل جاء لبيان ذات العشرين منها، فإذا قلت: (عسلاً)، فإنّها جاءت لرفع الإبهام في عشرين رطلاً، لا أنّ العسل جاءت لتَصف الرّطل بأيّ وصف، فإنّ الرّطل واضح المعنى مبهم الذّات.
ففي باب التّمييز لا يُراد الكشف عن الأوصاف الّتي تعرض على الذات بعد وضوح الذّات ما هي، وإنّما الإبهام في مرحلة مُسبقةٍ، فالذّات الّتي قد تكون معروضة بالأوصاف (ما هي)، فيأتي التّمييز لرفع الإبهام عن الذّات.
وهذا بخلاف الحال، فإنّه يفُترض فيه أنّ ذات صاحبها لا إبهام فيها، فمفهوم صاحبها واضح ومصداقه معلوم، وإنّما يُطلب بيان هيئةٍ أو حالةٍ أو صفةٍ عرضت لهذه الذّات أثناء انتساب الفعل إليها، فالحال مبيّنة للهيئات وأمّا التّمييز فهو مبيّن للذّوات.
وبعضهم اعترض على هذا الفارق فادّعى: إنّ التّمييز كما يكون مبيّناً للذّات يكون مبيّناً للنّسبة، فالتّمييز يكون تمييز ذات وتمييز نسبة، فهل هذا الاعتراض وارد على هذا الفارق أو لا؟[3]
ثم نعرف كيف يتفرّع عن هذا الفرق فوارق متعدّدة:
الفارق الأوّل: التمييز لا يكون إلا اسماً مفرداً بخلاف الحال
إنّ الحال يجوز فيه أن يكون جملة، وأن يكون ظرفاً وجارّاً ومجروراً، وأن يكون اسماً مفرداً، وهذا بخلاف التّمييز، فإنّه لا يكون إلا اسماً مفرداً.
التّعليل:
وما يمكن أن يكون تعليلاً لذلك: أنّه لمّا كان التّمييز مبيّناً للذات ولا يدلّ على معنى الذات إلا الاسم المفرد فلم يجز فيه أن يكون جملةً أو ظرفاً أو جارّاً ومجروراً، لأنّها لا تدلّ على الذّات بل تدل على معنى وصفي، نعم قد يكون المعنى الوصفي مستلزماً لفهم الذّات إلا أنّه ليس دالاً على الذّات مباشرةً، والمفروض أنّ رسالة باب التّمييز إنّما هي الكشف عن ذات المميّز، ورفع الإبهام عن الذات، لا عن طريق بيان وصف من أوصافها حتّى يجوز أن تكون جملة أو جارّاً ومجروراً أو ظرفاً، بل عن طريق بيان مصداق هذه الذّات بشكل مباشر.
وأمّا في باب الحال، فلمّا كانت الحال للإشارة إلى هيئة من الهيئات العارضة واللاحقة لصاحبها، جاز فيها أن تكون بأيّ لفظ يؤدّي هذا المعنى، فبما أنّ الاسم المفرد والجملة -بمواصفات معيّنة- وكلّ من الظرف والجار والمجرور يمكن أن يؤدّي هذا المعنى الوصفي ويمكن له أن يشير إلى الهيئة ويرفع الإبهام عنها، فلم يكن مانع من كون الحال أيّاً منهم[4].
الفرق الثّاني: الحال قد يتوقف معنى الكلام عليها بخلاف التّمييز
فبالرّغم أنّ كلاً منهما فضلة، إلا أنّه مع ذلك فقد يتوقّف معنى الكلام على الحال، ولا يتوقف على التمييز فمعنى الكلام لا يكون أبداً متوقّفاً عليه.
فكون الحال فضلة لا يعني أنّه يجوز إسقاطه من الكلام، فقد ذهب جمع من النّحْويين أنّ الفضلة ليس هو ما يمكن إسقاطه من الكلام، وإن رأى بعضهم تعديل هذا التّعريف فيصبح معناه مقبولاً.
والذي يهمّ هو معرفة التّوفيق بين كونه فضلة في الكلام وبين كونه لا يمكن إسقاطه من الكلام.
فقالوا:
إنّ عدم إمكان إسقاط العمدة من الكلام لأجل أنّ الكلام بسقوط العمدة عنه لا يبقى كلاماً، لأنّ كلّ كلام لا بدّ من أنّ يكون مؤلّفاً على الأقل من مسند ومسند إليه، فرتبة المسند والمسند إليه هما الرتبتان المقوّمتان للكلام، فإسقاط أحدهما من الكلام هو إسقاط لما هو مقوّم للكلام، فلا يبقى كلام لا أنّ المعنى يتوقف عليه، فصحت إسقاط الفضلة من الكلام لا بمعنى عدم توقف المعنى عليه، بل لأنّها لمّا كانت فضلة لم تكن مسنداً ولا مسنداً إليه، فبإسقاطها من الكلام يبقى الكلام كلاماً، وإن احتاج المعنى لها.
فلمّا لم يكن قوام الكلام بها صحّ إسقاطها من الكلام، فصحّة إسقاطها تكون مع فرض كون الباقي كلاماً، بخلاف العمدة ففرض إسقاطها مساوق لانعدام الكلام بالكليّة.
وعلى هذا الأساس فلا تنافي بين كون الحال فضلة، وعدم إمكان إسقاطها من الكلام لتوقّف معنى الكلام عليها.
وقد ذكر هذا المعنى ابن هشام الأنصاري في شرح قطر الندى فقال: "المراد بالفضلة ما يقع بعد تمام الجملة، لا ما يصحّ الاستغناء عنه"[5].
وقد ذكر الأشموني في شرحه للألفية معنى آخر للفضلة غير ما ذكره ابن هشام، حافظ فيه على المعنى المعروف للفضلة في صحة الاستغناء من عدمه بإضافة قيد زائدٍ فقال: "المراد بالفضلة ما يستغنى عنه من حيث هو هو. وقد يجب ذكره لعارض كونه سادّاً مسدّ عمدة، كضربي العبد مسيئاً، أو لتوقّف المعنى عليه كقوله:
إنّما الميت من يعيش كئيباً كاسفاً باله قليل الرّجاء"[6].
إذا عرفنا ذلك، فحتى ما كان فضلة فينبغي أن يُسأل: هل يمكن أن يصحّ الاستغناء عنه في الكلام أم لا؟ فهذا السؤال يتوجّه إلى الاسم مطلقاً سواء كان عمدةً أو فضلة.
والذي يدلّك على ما ذكرناه هو ما ذكر ابن هشام في بحث المفعول به في كتاب قطر الندى فقال في تعريفه نقلاً عن ابن الحاجب[7]: "المفعول به، وهو ما وقع عليه فعل الفاعل، كـ (ضربت زيداً)"[8].
ثمّ في شرح معنى الوقوع قال ابن هشام في القطر: المراد من الوقوع هو تعلّقه بما لا يُعقل "الفعل" إلا به، ففي مثل ضرب زيد عمراً، ما يقوله النحاة: إنّ الكلام يمكن أن يتكوّن بالفعل والفاعل، على الرّغم أن الفعل لا يتعقّل إلا بالمفعول، فالضّرب بغير ضارب أمر غير معقول، وكذا الحال في الضّرب بغير مضروب، فكونه فضلة لا يعني أنّ الكلام يُتعقل بدونه، ويمكن الاستغناء عنه.
لماذا هذا الفرق بين الحال والتّمييز؟
لمّا كان التمييز مجرّد رافعٍ للإبهام عن الذّات وهذه الذّات في الكلام السابق وقعت فاعلاً أو مفعولاً أو أيّ شيء آخر، فالتمييز لم يأتِ بمعنى زائد عن الكلام، في قولك: طاب زيدٌ نفساً، فزيد في ذاته إبهام وهو كونه ممدوحاً، لا أنّ ذات زيد من حيث هي مبهمة، بل من حيث إنّها ممدوحة مبهمة، فعندما ذكرنا نفساً لم نبيّن الحالة التي كان عليها زيد في وقت المدح بل كشفنا أنّ هذه الذّات ممدوحة لجهة نفسها.
فلم نُضِف عنصراً جديداً على المسند والمسند إليه حتى يكون معنى الكلام متوقفاً عليه، وإنّما اكتفينا برفع الإبهام عن الذّات.
ولكن في باب الحال لمّا كان يكشف عن الصّفة التي كانت عليها الذّات عند تعلّق الفعل بها، فقد يصحّ أن تكون الذّات قد تعلّق بها الفعل مطلقاً وقد لا يصحّ ذلك، فبعض الأفعال لا تتعلّق بالذّات على إطلاقها بل إنّما يجوز تعلّقها بالذّات لو كانت الذّات على هيئة معيّنة، فلمّا كانت الحال هي التي تكشف عن هذه الهيئة فبعض الأحيان يتوقّف معنى الكلام على الإتيان بهذا الحال. فتأمّل.
وقد مثّل النحاة على الحال الذي يتوقّف عليها الكلام بقوله تعالى: {وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا} فنفي المشي في الأرض لا يصحّ إلا إذا قُيّد المشي في الأرض بكونه على هيئة المرح، فلا يصحّ النّهي عن المشي على الأرض مطلقاً، فإنّه يطلق بعدم مقصوده للباري في هذه الآية، إضافة إلى أنّه لا يمكن التكليف به لأنّه تكليف بغير المقدور، فتعلّق الفعل بصاحب الحال لم يصحّ إلا بعد مجيء الحال، لأنّ تعلّق هذا الفعل بصاحبه على إطلاقه غير جائز، فلا بدّ من تقييده بهذه الهيئة.
بخلاف التّمييز، فإنّ المسند إليه جاء للتّمييز وكشف عن ذات المميَّز، فغاية ما هنالك أنّ ذات المسند إليه مبهمة والتمييز رافع لها، لا أنّ التمييز قيّد المسند إليه بحالة، بحيث صار بهذه الحالة يصحّ الإسناد إليه، وإنّما هي فقط اكتفت برفع الإبهام عن ذاته.
الفارق الثالث: إمكان تعدد الحال بخلاف التمييز
فالحال تتعدد بمعنى أنّه يمكن أن تأتي للذات الواحدة بأكثر من حال، بخلاف التّمييز، وهذا الفارق متفرّع كما تقدّم من الفارق الأساسي.
والتّعليل لتعدّد الحال دون التّمييز:
هو أنّ التّمييز لمّا كان يبيّن الذّات، فما يُجاء به ثانياً بعد التّمييز الأوّل إن كان مبيّناً للذّات فما جيء به أولاً لم يكن مبيّناً للذّات، فلا يكون تمييزاً، وإن لم يكن مبيّناً للذّات وقد كانت مبيّنةً قبله فيكون الأوّل هو التّمييز، دون الثّاني، وهو مؤكّد له.
وإن شئت قلت: لو جيء باسمين منصوبين وادُّعي أنّ كلّ هذين الاسمين كانا تمييزاً، فنسأل: التّمييز الأوّل هل حصل به البيان للذّات أم لا، فإن لم يحصل به لم يكن تمييزاً، وكان الثّاني وحده هو التّمييز، وإن حصل به البيان للذّات فالثّاني الذي جيء به لم يكن بياناً للذّات لأنّه قد سبق بيانها في مرحلة سابقة، فلا محال يكون التمييز غير متعدّد.
وهذا بخلاف الحال فإنّه لمّا كانت الحال لأجل بيان الهيئة، وجاز أن يكون للشيء الواحد أكثر من هيئة واحدة جاز أن يتعدّد الحال باعتبار أنّ كلّ حال من الحالات المذكورة تكون مبيّنة لهيئة غير الهيئة التي بُيّنت في الحال الأولى.
وهناك من ادّعى في مثل قول الشّاعر:
بدأْت بـ"باسم الله" في النّظم أولاً تبارك رحماناً رحيماً ومـــوئلاً
إنّ هذا البيت كان مورداً لاجتماع التّمييز، فإنّ (تبارك) فعل ماضٍ له فاعل وهو ضمير مستتر عائد على الاسم الكريم في صدر البيت، و(رحماناً) إنّما جيء به لبيان الذّات وكذا رحيماً، وهذا يعني أنّ التّمييز تعدّد، فكيف يُدّعي عدم تعدّد التّمييز؟
وابن هشام في المغني يرى أنّه بعد أن كان البيت على الأقلّ محتملاً لوجه آخر فلا يصلح شاهداً لإثبات تعدّد التّمييز، ولا يصادم المشكوك من السَّماع المقطوع ببركة القياس وببركة عدم السّماع، فنحتاج في هذا البيت لإعراب آخر، بعد القطع بخطأ من أعربه تمييزاً.
ويُستفاد منه في هذا البيت أنّه قد ذكر وجهين، صحّح أحدهما وأبطل الآخر:
1ـ الوجه الأوّل: (رحمان) مفعول به لفعل محذوف تقديره: أمدح أو أخص أو ..إلخ، ولا شكّ في أنّ المقام يساعد إرادة مثل هذا المعنى، ولا يكون تمييزاً، و(رحيم) نعت لـ(رحمن).
2ـ الوجه الثّاني: نفس الوجه الأول ولكن مع فارق كون (رحيم) ليست نعتاً لـ(رحمن) وإنّما هي حال منه، فالمعنى تبارك الله أمدح رحماناً حال كونه وفي الوقت عينه رحيماً.
ثمّ بعد ذكر الوجهين، صحّح الوجه الثّاني منهما، والوجه في ذلك لأنّه رأى رحيماً لا يمكن أن تكون نعتاً لـ(رحمن) بل تكون حالاً منه، والسبب في ذلك:
اختُلف في (رحمان) هل هو عَلمٌ لذات الباري تبارك وتعالى، أو أنّه صفة له، فإن كان عَلَماً كان معرفة، وإن كان معرفة فالنكرة الواقعة بعده لا يمكن أن تكون نعتاً بل يتعيّن جعلها حالاً، وهي أي الحال لا يشترط فيها موافقة صاحبها في التّعريف والتّنكير، بل على العكس يجب المخالفة بأن يكون صاحبها معرفة وهي نكرة، نعم، إن بنينا على كونها صفة فيكون كلّ منهما نكرة، فلا يصحّ إعراب (رحيم) حالاً بل يتعيّن كونها نعتاً.
فدار الأمر بين حاليّة (رحيم) ونعتيّتها لأنّها مشتقّة فهي ليست بعطف بيان لأنّه يشترط فيه الجمود[9]، فدار الأمر بين اعتبارها حالاً لكونها منصوبة أو نعتاً، وعلى أساس النّتيجة التي نتبنّاها في (رحمان) يتعيّن كونها حالاً أو نعتاً، فلو رأيناها عَلَماً فتكون معرفة فلا يصحّ كون رحيم نعتاً لاشتراط المطابقة، وإلا لو كان غير ذلك فيمتنع كون رحيم حالاً ويجب كونه نعتاً.
وخلاصة المطلب: أنّ من رأى تعدّد التّمييز استدلّ بهذا البيت، وحاصل جواب ابن هشام عليه: أنّه في إعراب هذين الاسمين -بدواً- ثلاث احتمالات:
1ـ الاحتمال الأوّل: كلاهما تمييز.
2ـ الاحتمال الثّاني: (رحماناً) مفعول به بتقدير فعل محذوف، و(رحيم) نعت له.
3ـ الاحتمال الثّالث: (رحماناً) مفعول به بتقدير فعل محذوف، و(رحيم) حال له.
ثمّ استقرب واستصوب الاحتمال الثّالث.
أمّا الوجه الأوّل فيردّه أنّه ما دام البيت محتمِلاً لوجوه أخرى فلا يصحّ الاستدلال به على تعدّد التّمييز، مضافاً لما تقدّم من تعليل.
وأمّا الوجه الثّاني فيردّه بأنّ "رحمان" يحتمل فيها كونها عَلَماً وصفة، ومع كونها عَلَماً لا يصحّ هذا الوجه، والصّحيح كونها كذلك.
فيتعيّن الوجه الثّالث مع كونها عَلماً فإنّها معرفة فلا يصحّ ما بعدها نعتاً لها للتخالف بينهما، ويشترط التّطابق فيتعيّن كونها حالاً لا نعتاً.
الدّليل على كون "رحمان" عَلماً لا صفة[10]:
والدّليل على كون (رحمن) علماً لا صفة كما ذكر ابن هشامٍ -مع أنّه بذلك مخالفٌ لما ذهب له مثل الزمخشري في كونها صفةً- ما ذكره ابن مالك والأعلم في الحكم بعلميّة "رحمان":
1ـ الوجه الأوّل: لم تستعمل في كلام العرب استعمال المشتقّات، فغالب استعمالاتها أن لا تكون خبراً مثلاً، مع أنّها لو كانت مشتقة لما تعذّر الإتيان بها خبراً.
2ـ الوجه الثّاني: أنّه لم يؤتَ بها في كلام العرب مجرّدة من "أل".
3ـ الوجه الثّالث: كثيراً ما كان يؤتى به غير تابع، أو أنّ (رحمن) في أكثر الاستعمالات الواردة إلينا إعرابه أصيلٌ وليس تبعيّاً، مع أنّ الغالب كثرة إعراب المشتقّات والصّفات تابعة.
فهذه الوجوه الثّلاثة قرّبت كونها علماً لا صفة، فلو كانت صفة لما وجد مانع من استعمالاها استعمال المشتقّات، ولما وجد مانع من تجرّدها من "أل" ولأُتي بها كثيراً تابعة لا متبوعة.
نعم، قد تكون هذه القرائن غير مورّثة للقطع بكونها علماً، ولكنّها تقرّب هذا الوجه، وتوّلد الظنّ القويّ -إن لم يكن قطعاً أو علماً- لهذا الوجه، بحيث يصحّح اختياره بدل الوجه الآخر وهو كونها صفةً.
إن قلت: كيف يُدّعى أنّ رحمن لم ترد في كلام العرب مجرّدة من "أل"، مع أنّ نفس البيت الّذي هو محلّ التّنازع جاءت فيه "رحمان" مجرّدة من "أل"؟
قلت: لكي تثبت ظاهرة أو استعمالاً في اللّغة العربيّة عليك قدر الإمكان أن تبتعد عن الشّعر لأنّه مجال الضّيق لا السّعة، فعادة ما يتعامل معه أنّه مظنّة الضّرورة، فمن أراد أن يثبت وصفيّة (رحمان) من خلال تجرّدها من "أل" عليه أن يثبت ذلك في مورد السّعة، وحيث إنّه لم يردنا "رحمان" مجردة من "أل" إلا في الشّعر لم يكن الاستشهاد به مثبتاً لتجرّدها من "أل".
فنقول هنا: تجرّدها من "أل" هنا ضرورة، لأنّ الحكم مقطوع به والشّاهد قابل للضّرورة، فإن كان هناك مدعٍ لتجرّدها من "أل" فلا بدّ من ذكر شاهد في سعة الكلام لا في ضيقه.
الرّأي الآخر في المسألة: أنّ "رحمان" صفة، ويستفاد هذا الرّأي من كلام علمين كبيرين في علم النّحو وهما الزّمخشري وابن الحاجب، ومكانتهما في النّحو معلومة:
أمّا الزّمخشري فعبارته كالتّالي: إذا قلت " الله رحمان" أتصرفه أم لا؟
ثمّ قال ابن الحاجب[11] في نفس المطلب: إنّ "رحمان" اختلف في صرفه.
ومؤدّى كلامهما التّالي: فالزّمخشري تردّد في قولك: "الله رحمان" هل تنّون (رحمان) أو لا تنّونها، فهل تمنعها من الصّرف أم لا؟ ثم استدّل بكلامهما على كونها صفة، فكيف استفاد ابن هشام وغيره أنّه بمنعه من الصرف أو عدمه يكون صفةً لا نعتاً بنظر ابن الحاجب والزّمخشري؟[12]
يمكن أن يقال: لو كان "رحمان" علماً لكان فيه العلميّة وزيادة الألف والنّون، فلو كان واضحاً أنّه علم فلا معنى لتساؤل الزمخشري ولتردّده وكذا الحال في رأي ابن الحاجب.
ولكن لمّا تردّد الأوّل ونقل الثّاني الخلاف دلّ على أنّهما يعتقدان أنّها صفة، وذلك لأنّ (رحمان) لو كان صفة لكان صفة على وزن فعلان، والصفة على وزن فعلان فيها وجهان، لأنّها تارة تكون من "عطشان" الذي مؤنّثه (عطشانة) الذي لا يكون ممنوعاً من الصّرف وأخرى من قبيل "سكران" الذي مؤنّثه (سكرى) فيكون ممنوعاً من الصّرف، فلو كان صفة لكان فيها الوجهان، ولكن لمّا كان علماً فيكون ممنوعاً من الصّرف بلا تردّد.
خصوصاً أنّ المثال الّذي ذكره الزّمخشري هو استعمال لـ(الرّحمان) كونه صفة، لأنّه جاء به خبراً، وهذا يكشف أنّ تردّد الزّمخشري في منعه من الصّرف من عدمه ليس ناشئاً من التّردّد في كونه علماً أو وصفاً، بل بعد التّسليم بكونه وصفاً حصل التّردّد في ذلك.
لذا عبّر البعض -كابن هشام- أنّ قولك: "الله رحمان" خارج عن كلام العرب.
من النّتائج التي تتفرّع في علميّة "رحمان" أو وصفيّته:
* أوّلاً: إذا بنينا على العلميّة، لا معنى حينئذٍ لتردّد الزّمخشري وابن الحاجب في كونه منصرفاً أو غير منصرف.
* ثانياً: كلمة "الرحمن" في باب البسملة لا تعرب نعتاً بل بدلاً من الاسم الكريم، لأنّها لو كانت علماً لكانت مجرّدة عن معنى الوصفية، وحيث إنّ إعرابها قطعاً في البسملة تبعيّ فليست إلا من باب البدل.
فالنتيجة: أنّ (الرحمان) في البسملة، إذا بنينا على العلميّة، فهي بدل من لفظ الجلالة (الله) وأمّا (الرّحيم) فهي حينئذٍ تكون نعتاً لـ(الرّحمن) لا نعتاً للاسم الكريم.
وعلّل ابن هشام ذلك: بأنّ البدل لا يتقدّم على النّعت، وحاصله: أنّ (الرّحيم) لو كانت نعتاً للفظ الجلالة لكان لفظ الجلالة له تابعان في البسملة أحدهما بدله وهو (الرّحمن) والآخر نعت وهو (الرحيم)، ولكن ثمّة قاعدة في النّحو تقول: إنّ الشّيء الواحد إذا كان له أكثر من تابع وكان بين التوابع بدل فيؤخّر البدل على ما سواه[13]، وما نحن فيه من هذا القبيل، فالاسم الكريم له تابعان، أحدهما نعت والآخر بدل، فلا يجوز أن يتقدّم البدل على النّعت، فيكون النّعت تابعاً للبدل.
وأمّا العلّة في ذلك فقد يقال: إنّ المبدل منه لمّا كان في نيّة إسقاطه وإحلال البدل محلّه فإنّ هذا المعنى لا يتناسب مع وصفه بنعت الذي يستفاد منه التقوية وتركيز الموصوف وتثبيته.
وفيما يتعلّق في البسملة: تقدّم الرحمن على الرحيم
تساءل الزّمخشريّ فيها أنّها كيف قدّمت صفة (الرّحمن) على صفة (الرّحيم)، مع أنّ الرّحمن أبلغ، وذلك:
* لأنّ رحمانيّته أشمل من الرّحيمية.
* ولكون صيغة (فعلان) أدلّ على المبالغة من صيغة فعيل لأنّ الأولى مختصّة بالمبالغة دون الثّاني.
وعادة العرب تقديم غير الأبلغ حتى يصلوا من خلاله إلى الأبلغ، كقولهم: "عالم نحرير"، فكلاهما نفس المعنى إلا أنّ الثّاني أبلغ، وكذا في قولهم: "جواد فيّاض"[14].
وقد أجاب الزّمخشريّ عن هذ التساؤل بقوله:
"فإن قلت: ما معنى وصف اللَّه تعالى بالرّحمة ومعناها العطف والحنوّ ومنها الرّحم لانعطافها على ما فيها؟ قلت: هو مجاز عن إنعامه على عباده؛ لأنّ الملك إذا عطف على رعيته ورقّ لهم أصابهم بمعروفه وإنعامه، كما أنّه إذا أدركته الفظاظة والقسوة عنّف بهم ومنعهم خيره ومعروفه. فإن قلت: فلمَ قدّم ما هو أبلغ من الوصفين على ما هو دونه، والقياس الترقيّ من الأدنى إلى الأعلى كقولهم: فلان عالم نحرير، وشجاع باسل، وجود فيّاض؟
قلت: لمّا قال (الرَّحْمنِ) فتناول جلائل النّعم وعظائمها وأصولها، أردفه (الرَّحِيمِ) كالتّتمة والرّديف ليتناول ما دقّ منها ولطف".
وابن هشام يقول: بناءً على كون "رحمن" علماً فلا محلّ لهذا السؤال أصلاً، لأنّ حديث تقديم غير الأبلغ على الأبلغ إنّما مجاله الصّفات، ونحن أثبتنا أنّ الرّحمن علَم لا صفة.
ملاحظة: قد يجب تعدّد الحال -كما ذكر بعضهم- وذلك في موردين:
1ـ الأوّل: أن يقع بعد "إمّا" نحو قوله تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}[15].
2ـ الثّاني: أن يقع بعد "لا" النّافية كقولك: رأيت بكراً لا مستبشراً ولا جذلاناً.
الفارق الرابع: جواز تقدم الحال على عامله بخلاف التمييز
الحال إذا كان عاملها فعلاً متصرّفاً أو وصفاً يشبه الفعل المتصرّف، فإنّه يجوز -في الجملة- وذلك إذا لم يكن هناك مانع[16] لها أن تتقدّم على عاملها، بخلاف التّمييز، فإنّه لا يتقدّم على عامله مطلقاً سواء كان فعله متصرفاً أم لا.
والصّفة المشبّه بالفعل المتصرّف هي: ما تضمّنت معنى الفعل وحروفه، وقبلت علاماته الفرعيّة وهي التّأنيث والتّثنية والجمع: كاسم الفاعل، واسم المفعول والصّفة المشبّهة، وليس منها أفعل التفضيل لأنّها لا تثنّى ولا تجمع ولا تؤنّث فلا تقول: "زيدٌ ضاحكاً أحسن من عمرو"، بل يجب قولك: "زيد أحسن من عمرٍو ضاحكاً".
وجواز تقديم خصوص الحال في هذا العامل لأنّ الفعل المتصرّف أقوى في العمل من الفعل غير المتصرّف، وبتعبيرهم: تصرّف في نفسه فيتصرّف في معموله[17].
نعم، خالف في ذلك ابن مالك فرأى صحّة تقدّم التّمييز، فقال في ألفيّته:
وعامل التمييز قـــــدِّم مطلقا والفعلُ ذو التصريف نزراً سُبقا
وقال في شرح التّسهيل ما نصّه: "ولا يمنع تقديم المميّز على عامله إن كان فعلاً متصرّفاً وفاقاً للكسائي والمازنيّ والمبرّد، ويمتنع إن لم يكنه بإجماع، وقد يستباح في الضّرورة"[18].
وقد ناقشه فيه الرّضي في شرح كافيته[19]، وقال: إنّ مذهب سيبويه منع التّقديم وأما المازنيّ والمبرّد والكسائي فقد جوّزوا التّقديم على خصوص عامله إذا كان فعلاً -وهو رأي ابن مالك-، لأنّ الفعل عامل قويّ التّصرّف.
وقوّى أبو حيّان ما ذهب إليه ابن مالك، واستدلّ له بكثرة ما ورد من الشّواهد أولاً، وبقياسه على الفضلات ثانياً[20], وهذا الاستدلال نسبه الأشموني في شرحه للألفيّة للثّلاثة المتقدّمي الذّكر، وقد ناقشهم الصبّان في كلّ من الدّليلين بالقول:
"(بما ذكر) أي من الأبيات. وأجيب بأنّه ضرورة. قوله: (وقياسا على غيره من الفضلات) أجيب بالفرق فإنّ تقديم التّمييز مخلّ بالغرض السّابق من التّأخير بخلاف غيره من الفضلات، قاله الدّمامينى: ويرد عليه أنّ توسّط التّمييز أيضاً مخلّ بالغرض مع أنّه جائز فتدبّر"[21].
الشواهد التي ذُكرت للجواز:
وقد استدلّ ابن مالك على مدّعاه بمجموعة من الشّواهد منها:
1. الأوّل:
وواردة كأنّها عصب القطــا تثير عجاجاً بالسّنابك أصهبا
رددت بمثل السّيد نهد مقلّص كميش إذا عطفاه ماء تحلّبا
قالهما ربيعة بن مقروم الضبي من قصيدة من الطويل.
الواو في وواردة واو ربّ فلهذا جرّت، وأراد بها القطع من الخيل. والعصب بضمتين جمع عصبة وهي الجماعة، شبّه الخيل في سرعتها بالقطا. وتثير من الإثارة. وعجاجا مفعوله وهو الغبار. وأصهبا صفته. والسّنابك جمع سنبك بالضّمّ وهو طرف مقدّم الحافر. والباء فيها تتعلق بتثير. قوله: (رددّت) جواب ربّ المضمرة. والباء في بمثل السيّد تتعلّق به: أي رددّت بفرس مثل السيّد بكسر السين المهملة وهو الذئب. ونهد بالجر صفته أي ضخم. ومقلص بكسر اللام المشدّدة صفة أخرى: أي طويل القوائم. وكميش صفة أخرى: أي بفتح الكاف وكسر الميم وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره شين معجمة أي - حاد في عدوه مسرع، ويروى جهيز بفتح الجيم وكسر الهاء وفي آخرة زاي معجمة أي شديد الجري. قوله: (إذا عطفاه) أي إذا تحلب عطفاه أي جانباه، فهو مرفوع بفعل مضمر يفسّره الظاهر.
والشاهد فيه ماء حيث انتصب على التّمييز فتعلّق به ابن مالك على جواز تقديم التّمييز على عامله لكونه فعلاً متصرّفاً.
ولا دليل فيه لأنّ عطفاه مرفوع بمحذوف يفسره المذكور، والنّاصب للتّمييز هو المحذوف.. و(ما) مفعول لذلك المحذوف لا الفعل المذكور المتأخّر. وألف تحلباً للتثنية أي سالا ماء.
إشكال على تعبير ابن هشام في المغني بالسّهو فيه:
وإنّما ألزم ابنُ هشام ابنَ مالك بتقدير الفعل وادّعى أنّ إعراب ابن مالك سهو؛ لما ذُكر في بحث (إذا) أنّ ما بعدها لا بدّ من أن يكون فعلاً، وهنا جاء اسماً وهو (عطفاه) فلا بدّ حينئذٍ من تقدير فعلٍ يكون هو الرّافع لعطفاه والنّاصب للماء على التّمييز.
قال ابن الشجري في أماليّه ما نصّه: "وإنّما احتجت إلى إضمار الفعل بعد (إذا)، لأنّها تطلب الفعل كما تطلبه (إن) الشرطيّة، والاسم بعدها يرتفع أو ينتصب بفعل مضمر يفسّره الظاهر، كما ارتفع بعد (إن) في نحو: {إِنِ اِمْرُؤٌ هَلَكَ} وانتصب بعدها في نحو: لا تجزعي إن منفسا أهلكته"[22].
ولكن، قد التزم ابن مالك في (إذا) بما التزم به الأخفش فيها بأن ابتدائية الاسم بعدها يغني عن تقدير فعلٍ فحقّ الجملة أن تكون (إذا عطفاهُ تحلبا ماءً) بجعل عطفاه مبتدأ والجملة بعده خبرها.
قال ابن مالك في التسهيل: "وقد تُغني ابتدائيةُ اسمٍ بعدَها عن تقدير فعل وِفاقاً للأخفش"[23].
وقال في شرح التّسهيل ما نصّه: "اختار الأخفش ما أوجبه سيبويه، وأجاز مع ذلك جعل المرفوع بعد إذا مبتدأ، وبقوله أقول؛ لأنَّ طلب إذا للفعل ليس كطلب إنْ، بل طلبها له كطلب ما هو بالفعل أَوّليّ ممّا لا عمل له فيه، كهمزة الاستفهام، فكما لا تلزم فاعليّة الاسم بعد الهمزة لا تلزم بعد إذا..."[24].
فكان ينبغي على ابن هشام أن يدّعي عدم صحّة استدلالهم لطروّ الاحتمال لا أن يدّعي السّهويّة.
2. الثّاني:
إذا المرء عينا قرّ بالأهل مثريا ولم يعن بالإحسان كان مذمّما
البيت من بحر الطويل وهو لقائل مجهول في الحكمة والأمثال يقول: إذا كان الإنسان مسروراً بأهله- فلا بدّ من أن يكون كريماً معهم.
وشاهده: قوله: (إذا المرء عينا قر)؛ حيث تقدّم التمييز هنا على عامله وأصله: قرّ عينا. ورد ذلك بأنّ (المرء) فاعل بفعل محذوف، وأصله إذا قرّ المرء عينا قرّ ولكن ابن مالك تابع ابن جني، فأجاز وقوع الاسم بعد إذا وعليه بقي الشاهد.
3. الثّالث والرّابع:
ثمّ ذكر بيتين حملهما ابن هشام على الضّرورة، وقد تعقّبه الدّماميني بأنّه يمكن جعلهما كالبيتين السّابقين أي ممّا يجعل فيه النّاصب للتمييز محذوفاً يفسرّه المذكور، ذكر ذلك الشّمني في حاشيته[25].
الفرق الخامس: الأصل في الحال الاشتقاق وفي التمييز الجمود
الأصل في باب الحال أن يكون مشتقاً؛ لأنّه لبيان هيئة الذّات لا بيان نفس الذّات، والهيئات من الأوصاف، والذي يدلّ على الأوصاف هو خصوص المشتقّات لأنّ المشتقّ ذات (ما) ثبت له الحدث، ولكن سمع عنهم أنّه يؤتى عنهم في بعض الأحيان جامداً على الرّغم من أنّه أتى لبيان الهيئة، لذا عُبّر أنّ الأصل فيه أنّ يأتي مشتقّاً، والمنسجم مع أصل وضعه وقياسه ذلك، ولكنّ هذا لا يعني أنّه لا يأتي جامداً.
وأمّا باب التمييز فالأصل فيه أن يكون جامداً لأنّه لبيان الذّات، وعادةً ما يدلّ عليها بالأسماء الجامدة، إلا أنّه سمع عنهم أيضاً تمييز مع كونه مشتقّاً، فكان التّمييز أيضاً يأتي تارة جامداً وأخرى مشتقّاً، لكنّ الأكثر والمنسجم مع قياسه ووضعه هو أن يكون جامداً.
فصحّ أن يُقال: اشتقاق الاسم المنصوب علامة ظنيّة على الحاليّة، وجموده علامة ظنيّة على التّمييز، هذا في المورد الذي يشتبه فيه الأمران.
أمثلة يرد فيها الاشتباه:
1ـ المثال الأول: (هذا مالك ذهباً).
والوجه في حمل (ذهباً) على الحاليّة لا على التّمييز، أنّ المتكلّم يخاطب مشافهاً له، ويشير إلى المال بإشارة القريب، وهذا يقتضي أنّ المال معلوم الذّات لدى المشافه، فلم يحتج المتكلم لكي يبيّن له ذات المال لأنّها واضحة لديه، فلذا حملت على الحالية، فكأنّه يريد القول له: هذا مالك في حال كونه ذهباً.
2ـ المثال الثّاني: {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا}.
فالبيوت لم يؤتَ بها لبيان ذات الجبال وذات المنحوت، بل تنحتون الجبال في حال كون ما تنحوتنه بيتاً لكم، فالحالية واضحة في هذه الآية.
3ـ المثال الثّالث: (لله درّه فارساً).
وقد تقدم ذكره في أوّل البحث، وقد وقع فيها كلام طويل بين النّحاة، والوجه في عدم صحّة كون (فارساً) حالاً، وذلك لأنّ الحال لا يخلو: إمّا أن يكون مقيّداً للعامل أو مؤكّداً له، وقد تقدّم شرح المقيّد لأنّه الأصل، وكلاهما لا يصحّ في المقام.
أمّا كونه مقيداً فإنّ المعنى يكون باطلاً، لأنّ مراد المتكلم التّعجّب من فروسيّة الشّخص دائماً، لا أنّه يتعجّب منه حال كونه فارساً، فالتعجّب مطلقاً فلا يصحّ التّقييد.
وأمّا كونه مؤكّداً فإنّ المعنى كذلك يكون باطلاً، لأنّ معنى الحال المؤكد أنّ المعنى قد تقدّم وتبيّن ممّا سبق، وهنا (فارساً) لم يستفد من ما سبق، لأنّ الّذي يوجد فيما سبق (لله درّه)، أي يتعجّب الشّخص من الممدوح وهذا لا يبيّن التعجّب من جهة الفروسيّة.
ومع بطلان كلا الوجيهن لا يمكن جعله حالاً.
قال صاحب الحدائق النديّة علي خان في كتابه ما نصّه: "فإن كان(التمييز) مشتقّاً احتمل (المشتقّ) الحال، نحو: للّه درّه فارساً، أي من حيث إنّه فارس، أو حال كونه فارساً، وذهب قوم إلى أنّ انتصابه في مثل هذا التّركيب على الحال فقط، وضعّفه ابن الحاجب في أمالي المفصّل بأنّه لا يخلو من أن يكون حالاً مقيّدة أو مؤكّدة. وكلاهما غير مستقيم، أمّا المقيدة فلأنّ قولك: للّه درّه فارساً، لم يرد به المدح في حال الفروسيّة، وإنّما تريد مدحه مطلقاً، بدليل أنّك تقول: للّه درّه كاتباً، وإن لم يكتب، بل تريد الإطلاق، كذلك للّه درّه عالماً.
والحال المؤكّدة أيضاً غير مستقيم، لأنّ الحال المؤكّدة شرطها أن يكون معنى الحال مفهوماً من الجملة الّتي قبلها، وأنت هاهنا لو قلت: للّه درّه، لكان محتملاً للفروسيّة وغيرها ولكان قولك: للّه درّه عالماً أو رجلاً أو كاتباً لا يفيد إلا ما أفاده الأوّل، فدلّ والحالة هذه على انتفاء الحال المقيّدة، والحال المؤكّدة، وإذا بطلتا ثبت التّمييز، انتهى"[26].
4ـ المثال الرّابع: (كرم زيدٌ ضيفاً).
وابن هشام في هذا المثال بَدواً يبرز احتمالين:
* الأوّل: أن يكون زيد هو الضيف.
* الثّاني: أن يكون زيد له ضيف.
ففي مثل قولك: "كرم زيدٌ ضيفاً"، فلو كنّا نحن والعبارة، فيحتمل فيها أن يكون زيد هو الضيف نفسه، ويحتمل أن يكون زيد له ضيف، وعلى الاحتمال الثّاني وهو أن يكون الضّيف غير زيد يتعين في ضيف أن يكون تمييزاً، ويكون من باب التّمييز المحوّل من الفاعل، فأصله: كرم ضيف زيد، ثم جعل الفاعل تمييزاً، فصار: كرم زيدٌ ضيفاً، وهي حال قوله تعالى: {اشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا}، فيكون المعنى حينئذٍ: أمدح زيداً بالكرم، فأذكر صفة الكرم التي في زيد لكونه مُكرماً لضيفه، فالمتكلم مدح زيداً كونه قد ضيّف شخصاً.
وامتناع الحاليّة فيها لأنّه لو كان (ضيفاً) حالاً لكان صاحب الحال زيداً، فيكون المعنى: كرم زيد حال كونه ضيفاً، والحال أنّنا فرضنا أنّ الضّيف غير زيد.
وأمّا لو كان الضيف هو زيد فجاز أن يعتبر (ضيفاً) حالاً وجاز أن يعتبر تمييزاً، والحال على معنى اعتبار مدحه حال كونه ضيفاً، فكرم حالة كذا، والتّمييز فيكون المعنى: كرم زيدٌ ضيفاً أي أمدح فيه خصلة نزوله ضيفاً عندنا.
وابن هشام يقول في الوجه الثّاني -أي جواز الوجهين-: الأفضل عند إرادة التّمييز أن ندخل على ضيف كلمة (من)، وذلك لأنّ دخول (من) عليه يكشف بوضوح أنّ (ضيف) تمييز لا حال، ووجه كونه حسناً:
أنّه يرى أنّه من دون (من) احتمال الحالية أظهر، لأنّه مشتقّ، وقد تقدّم أنّ الاشتقاق في الاسم بين الاسم الذي يدور أمره وحاله بين الحال والتّمييز يكون أمارة ظنيّة على كونه حالاً، والظنّ في الدلالات ظهور، وهو حجة معمول به عند العقلاء، فعدم إيراد (من) موهم لكون ما بعده حالاً لا تمييزاً.
5ـ المثال الخامس: الاسم الواقع بعد حبّذا.
تارة نتكلم عن الاسم المرفوع الواقع بعد حبّذا[27]، وأخرى نتكلّم عن ما بعد هذا الاسم المرفوع، وهو الاسم المنصوب، وكلامنا في الثّاني دون الأوّل، وتوجد فيه أقوال أربعة:
* القول الأوّل: المنصوب بعد المخصوص بالمدح مطلقاً حال، سواء كان جامداً أم مشتقاً، وهو قول الأخفش والفارسي والرّبعي.
* القول الثّاني: المنصوب بعد المخصوص بالمدح مطلقاً تمييز، سواء كان جامداً أو مشتقاً، وهو قول أبي عمرو بن العلاء.
* القول الثّالث: المنصوب بعد المخصوص بالمدح إن كان مشتقّاً كان حالاً، وإن كان جامداً كان تمييزاً، وفاقاً للأصل، وهو قول ابن عصفور.
* القول الرّابع: المنصوب بعد المخصوص بالمدح الجامد تمييز، والمشتقّ إن أريد تقييد المدح به كقوله [من البسيط]:
يا حبّذا المال مبذولا بلا سرف في أوجـه البرّ إسراراً وإعلاناً
فحال وإلا فتمييز، وهو قول أبي حيّان، وقد جرى عليه ابن هشام[28].
توضيح من قال: (إن أريد تقييد المدح فحال)
ما الفرق بين الحال والنّعت، فكلاهما يبيّن هيئة صاحبه، وصفة في ذات صاحبه، فقالوا:
الحال بالنّسبة إلى عاملها مقيّدة له في الغالب، وأمّا النّعت فلا يكون مقيّداً لعامله، فإنّك إذا قلت: جاء زيدٌ راكباً دلت بالحال على أنّ المجيء الصادر من زيد له حصّتان، حصّة المجيء على هيئة الرّكوب، وحصّة المجيء بهيئة أخرى، والذي تحصّل من زيد الهيئة الأولى.
بينما عندما تقول جاءني رجل راكبٌ، فإنّه لا يفهم من الكلام أنّ المجيء له حصّتان: مجيء بهيئة الرّكوب ومجيء بهيئة أخرى، فالنّعت بالنّسبة إلى العامل ليس مقيّداً ومحصّصاً له، وإنّما دوره أن يقيّد صاحبه فقط، وهذا بخلاف الحال فإنّها لا تقيّد صاحبها بل تقيّد عاملها. فالحال بالنّسبة إلى صاحبها مبيّنة لهيئة لا مقيّدة له، وبالنّسبة إلى عاملها مقيّدة له، وهذا بخلاف النّعت فإنّ تقييد النّعت تقييد لمنعوته وليس لعامله.
الفارق السّادس: الحال مقيدة ومؤكدة، والتمييز لا يكون مؤكداً
أنّ الحال بالنّسبة إلى عاملها قد تكون مقيّدة له وقد تكون مؤكّدة والمؤكّدة على ثلاثة أقسام كما يذكر في أقسام الحال.
وتوضيح ذلك: إنّ الحال بالنّسبة إلى عاملها قد تكون مؤكّدة بمعنى أنّها تدلّ على نفس ما يدلّ عليه العامل أي الحال المؤكّدة هي الّتي يستفاد معناها من دونها، نعم لا تفيد التّرادف كثيراً، بل إنّ مراد المتكلّم منهما واحد، وهذا بخلاف التّمييز، فإنّ التّمييز لا يكون مؤكّداً لعامله أبداً، وبه قد فرض فرق آخر بين الحال والتّمييز، ثمّ إنّ ابن هشام في المغني يأتي بأمثلة لذلك ويناقش في بعض الموارد الذي قد يتوّهم أنّ التّمييز يأتي مؤكّداً:
منها: قوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا}[29].
فإنّه قد يقال: عندما أتى هذا التّمييز لم يؤسّس معنى إضافيّاً غير مستفاد من السّابق، بل دلّ على مضمون تقدّم في الكلام السّابق، فالتّمييز يمكن أن يكون مؤكّداً كما هو الحال، فالفارق المذكور ليس بصحيح.
ويردّ على ذلك: التّمييز هنا وإن كان مؤكّداً، إلا أنّه ليس مؤكّداً لعامله الذي هو اثني عشراً (لأنّ العامل في التّمييز هو المميَّز) بل مؤكّداً لمضمون كلام متقدّم، ونحن لم ننفِ أن يكون التمييز مؤكّداً مطلقاً، بل نفينا أن يكون مؤكّداً لعامله، وفيما نحن فيه فإنّ (اثنا عشر) من دون شهر لا يستفاد منها شهراً، أو قل: إنّ اثني عشر لا يستفاد منها المعدود، نعم استفدنا أنّه في صدد تَعداد الشّهور بسبب الكلام السّابق، فأكّدت مضمون غير عاملها، وما نفيناه تأكيد مضمون عاملها، فما ذكره أشبه بالمغالطة.
وقد خالفه في ذلك الدّماميني وجعلها من التّمييز المؤكّدة لا المبيّنة، فلاحظ ما ذكره[30]، وتعقبّه الشّمني في حاشيته[31] وردّ قول الدّماميني.
ومنها: ما اختاره المبرّد ومن وافقه من (نعم الرجلُ رجلاً زيد).
فكيف يمنع من كون التمييز مؤكّداً والحال أنّ بعض كبار النّحويين كالمبرّد والفارسيّ وابن مالك، ومن وافقهم قد أعربوا (رجلاً) تمييزاً، وعامله (الرجل) الذي هو فاعل (نعم)، وإذا نسبنا التّمييز لعامله فإنّنا نجده مؤكّداً له، فالتّمييز جاز أن يكون مؤكّداً لعامله، وقد استدلّوا على ذلك: بالسّماع والقياس.
والردّ عن ذلك: إجازة المبرّد لهذا المثال مردودة، ولا يصحّ الاستدلال بها.
ووجه كونه مردوداً:
أوّلاً: أنّ المثال المذكور هو مصنوع لم يرد على لسان العرب، فلا يحتجّ به، ومجيء بعض من الشّواهد الشّعريّة لا يمكن الاتّكاء عليها، بعد أن أمكن تخريجها كما سيأتي.
وثانياً: قد قرّر في بحث (نعم)، و(بئس) أنّه إنّما يؤتى بالتّمييز بعد المخصوص بالمدح أو الذم إذا كان الفاعل مستتراً، وإلا لو كان ظاهراً فلا يُؤتى بالتّمييز، فلا يجمع بين التّمييز والفاعل الظاهر، نعم لو كان الفاعل مضمراً لجاء التّمييز منه وكان من المبيّن لا المؤكّد.
وقد أشار إلى ذلك الشّمني في حاشيته بالقول: "(فمردودة) ووجه الرّدّ أنّ الإبهام قد ارتفع بظهور الفاعل فلا حاجة للتّمييز، وهذا مذهب سيبويه"[32].
ومنه يتّضح أنّ هذا الجواب إنّما يصحّ بناءً على المنع من جعل التمييز من الفاعل الظاهر، وهذا ممّا وُجد الخلاف فيه، وحاصل ما ذكر فيها أقوال ثلاثة، ذكرها صاحب الحدائق النديّة في شرحه للصمديّة، فقال ما نصّه:
"اختلفوا في الجمع بين التمييز وبين الفاعل الظاهر على أقوال:
أحدها: المنع مطلقاً، إذ لا إبهام يرفعه التّمييز، وعليه سيبويه والسيرافيّ وجماعة.
والثّاني: الجواز مطلقاً وعليه المبرّد وابن السراج والفارسيّ، وهو مختار ابن مالك، قال: ولا يمنع منه زوال الإبهام، لأنّ التّمييز قد يؤتى به للتّأكيد، وممّا ورد منه قوله [من البسيط]:
والتغلبيّون بئس الفحل فحلهم فحلا
والثّالث: وعليه ابن عصفور، فإن أفاد التّمييز ما لم يفِده الفاعل جاز الجمع بينهما كقوله [من الوافر]:
فنعم المرء من رجل تهامي
فالتّمييز هنا أفاد معنى لم يفِده الفاعل، وهو كونه تهاميّاً، وإن لم يفِد امتنع الجمع"[33].
إلاّ أن يكون هذا المبنى مبنيٌّ على أنّ اجتماع التّمييز والمخصوص بالمدح إنّما يتمّ بعد تنقيح هذه المسألة في باب الحال والتّمييز، فيعود الإشكال من جديد، فتأمّل.
وثالثاً: وقد أجاب بعضهم بجواب آخر، حاصله:
من غير المقبول جعل (رجلاً) تمييزاً للرجل؛ لأنّ التّمييز مبيّن، والنّكرة لا تبيّن المعرفة.
وفيه:
* أوّلاً: هذه مصادرة، إذ من قال إنّ التّمييز لا بدّ من أن يكون مبيّناً، فقد يكون مؤكّداً حسب مدّعى هذا القول.
* ثانياً: سلّمنا أنّ التّمييز نكرة، ولكن من قال إنّ النّكرة لا تبيّن المعرفة في باب التّمييز، فقولك: (طاب زيدٌ نفساً) قد بيّنت النّكرةُ المعرفةَ بلا إشكال، نعم في باب عطف البيان والنّعت لا يمكن للنّكرة أن تبيّن المعرفة.
الشّواهد الشعرية:
إلا أنّه قد ورد في شواهد اللّغة العربية بعض الشّواهد التي تثبت مجيء التّمييز مؤكّدة من قبيل ما ذكره المبرّد.
الشّاهد الأول:
تزوّد مثل زاد أبيك فينا فنعم الزّاد زاد أبيك زادا
والشّاهد فيه: (زاد أبيك) المخصوص بالمدح، و(زاداً) تمييز وهو مؤكّد.
جواب ابن هشام: هذا البيت لا يصلح لإثبات مجيء التّمييز مؤكّداً لوجود احتمالات أخرى في البيت، والاحتمال يقدح في الاستدلال:
(زاداً) ليس تمييزاً حتى يكون عامله المميز، وإنّما العامل فيه (تزوّد) التي أتت في بداية البيت، فهي فعل آخر خارج عن جملة نعم وبئس أصلاً، فيكون هو إمّا مفعولاً مطلقاً إن أريد به المعنى المصدري (تزوّد تزوّداً)، أو مفعولاً به إن أريد به ما يقع عليه التزوّد والشّيء المتزوّد به وهو معنى الاسم المصدري (من التزوّد). وهذا نظير العطاء.
وإذا بنينا على كون (زاد) تمييزاً فـ(تزوّد) فعل أخذ فاعله وأخذ مفعوله وهو (مثله)، ولكن إذا بنينا على كون زاد مفعولاً لـ(تزوّد) سواء مفعول مطلق أو به، فإنّ (زاداً) لا تعود مفعولاً لـ(تزوّد) بل نعتاً لمفعول (تزوّد) وتقدير الكلام، تزوّد تزوّداً مثله، أو تزوّد زاداً مثل الذي تزوّده أبوك، ولكن حيث تأخّر المفعول عن النّعت، وحيث إنّ النّعت لا يتقدّم على منعوته، فإذا وجدنا النّعت متقدّماً على المنعوت فيخرج عن كونه تابعاً له فيعرب حالاً، وتقدير الجملة: تزوّد زاداً مثل زاد أبيك فينا، فنعم الزّاد زاد أبيك.
وهذا حاله حال تقديم موحشاً في قولهم: لميّة موحشاً طلل.
الشّاهد الثّاني:
ثمّ ذُكر مثالاً آخر لا يتأتى فيه ما جاء في البيت الأوّل، لعدم وجود فعل آخر، جعله من الحال المؤكّدة، وهو قولهم:
نعم الفتاة فتاة هند لو بذلت ردّ التّحيّة نــطـقاً أو بإيماء
والشّاهد فيه (فتاة) فقد جعلها المبرّد وجماعته من التّمييز المؤكد، ولم يقبله المانعون من اجتماع الفاعل في نعم والتّمييز.
ويوجد وجه آخر في البيتين ذكرهما أبو حيان في شرحه على التّسهيل فقال في التّذييل والتّكميل ما نصّه: "أمَّا السّماع الوارد في نِعمَ وبئسَ فقد تأوَّله المانعون لذلك، وتأوَّلوا فحلاً وفتاةً على الحال المؤكَّدة لا على التّمييز، وتأوَّلوا زاداً على أنّه منصوب بـ (تَزَوَّدْ) على أنّه مصدر محذوف الزوائد -وقد حكى الفرّاء استعماله مصدراً- أو على أنّه مفعول به، و(مثل) منصوب على الحال؛ لأنّه لو تأخّر لكان صفة، ولمّا تقدّم انتصب على الحال، وفُصل بجملة الاعتراض التي هي (فنِعمَ الزّادُ زادُ أبيك) بين تَزَوَّد ومعموله، أو على أنّه بدل من (مثل)، كأنّه أوقعه على الخصوص، أي: تَزَوَّدْ مثلَ زاد أبيك زاداً حسناً ودلّ على الصّفة قوله: فِنعمَ الزادُ زادُ أبيك.
وعندي تأويل غير ما ذكروه، وهو أقرب، وذلك أن يُدَّعى أنَّ في نِعمَ وبئسَ ضميراً، وفَحلاً وفتاةً وزاداً تمييزاً لذلك الضمير، وتأخَّر عن المخصوص على جهة النّدور، كما روي نادراً: نِعمَ زيدٌ رجلاً، على نيّة التّقديم، أي: نِعمَ رجلاً زيدٌ، والفحل والفتاة والزاد هي المخصوصة، وفَحلُهم وهندُ وزادُ بيك أبدال من المرفوع قبلها، والتقدير: والتَّغِلبِيُّون بئسَ فحلاً الفحلُ فَحلُهم، أي: بئسَ فحلاً فحلُهم، ونِعمَ فتاةً هندُ، أي: نِعمَ فتاةً هندُ، وفنعمَ زاداً الزّوادُ زادُ أبيك، أي: فنِعمَ زاداً زادُ أبيك، كما تأوَّلنا نِعمَ زيدٌ رجلاً على التّقديم والتّأخير، أي: نِعمَ رجلاً زيدُ. وهذا تأويل سائغ سهل، وفيه إبقاءُ نِعمَ على ما فيها من الإضمار وتفسير ذلك المضمر بالاسم المنصوب"[34].
الخاتمة
بعد أن عرفنا بهذا التحقيق وجوه الاشتراك بين الحال والتميز، ووجوه الافتراق بينهما، فإنّه لا تخفى الثمرة المهمّة والكبيرة في معرفة الفرق بينها، ولا يقال بأنّ الفائدة هي إعرابية محضة، بل إنّ المعاني تتأثر بالإعراب كما أنّ الإعراب تابع للمعنى المقصود، فمتى ما تغيّر الإعراب تغيّر المعنى، فعلى من رام أن يأتي بمعنى من المعاني، وأراد أن يجعله في قوالب لفظية عليه أن يختار الطريقة الصحيحة في تأدية المراد، كما أنّ اللازم في الفهم الصحيح لمراد المتكلم أن يكون الفارق بين البابين واضحاً للمعرب لا لبس فيه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[*] هذا البحث عبارة عن دروس ألقيت في شرح الباب الرابع من كتاب مغني اللبيب لابن هشام الأنصاري، رتبتها بشكل بحث، لذا يُلاحظ فيه الترتيب الذي ذكره ابن هشام في المغني، واعتماد ما ذكر فيه كأساس بني عليه هذا البحث، وقد استفدت في شرحه أكثر ما استفدت من شرح أساتذتي إضافةً إلى تقصّي الآراء من أمّهات مصادر النحو، سائلاً المولى العليّ القدير أن تكون به فائدة ويكون عوناً لطلاب العلم في فهم وتحقيق هذا المطلب المهم من كتاب المغني.
[1] نقل أبو حيان الاختلاف في التمييز كذلك، فقال ما نصّه: "واختلف النحويون في التمييز، أيجوز أن يكون معرفة أم لا، فذهب البصريون إلى أنّ التمييز لا يكون إلا نكرة، وذهب الكوفيون، وابن الطراوة إلى أنّه يجوز أن يكون معرفة وورد منه شيء معرفة (بأل) وبالإضافة، وتأوّله البصريون على زيادة (أل)، والحكم بانفصال الإضافة واعتقاد التنكير". ارتشاف الضرب من لسان العرب لأبي حيان الأندلسي، ج 4، ص1633.
[2] قال بدر الدين ابن مالك في شرحه ألفية والده ما نصّه: "لما كان الغرض من الحال إنّما هو بيان هيئة الفاعل والمفعول أو الخبر كما في نحو جاء زيد راكباً وضربت اللص مكتوفاً. وهو الحق مصدقاً. وكان ذلك البيان حاصلاً بالنّكرة التزموا تنكير الحال احترازاً عن العبث والزيادة لا لغرض" شرح ألفية ابن مالك لابن الناظم، ص125.
[3] لتعميق المطلب يمكن مراجع بحث التمييز في الألفية وحواشيها.
[4] "قال ناظر الجيش: قد تقدم أنّ الحال خبر من حيث المعنى، ووصف أيضاً وكلّ منهما يجوز كونه جملة، فكذلك الحال، وأيضاً هي نكرة والجملة نكرة، فجاز أن تقوم مقامها". شرح التسهيل المسمّى بتمهيد القواعد بشرح تسهيل الفوائد، ج5، ص2328.
[5] شرح قطر الندى وبل الصدى، ص263.
[6] حاشية الصبان على شرح الأشموني على ألفية ابن مالك ومعه شرح الشواهد للعيني، ج2، ص262.
[7] هذا التعريف نسبه ابن هشام في القطر لابن الحاجب، والحال أنّ ابن الحاجب أورده نقلاً عن جار الله الزمخشري.
[8] شرح قطر الندى وبل الصدى، ص226.
[9] فقد ذكر في محلّه: أنّ النّعت في المشتقات كعطف البيان في الجوامد، فكلّ واحدٍ منهما يؤدّي نفس المعنى من التوضيح أو التخصيص ويفترقان أنّ أحدهما يكون مشتقاً وهو النّعت والآخر يكون جامداً وهو عطف البيان.
[10] هذه المسألة وما فيها من تفاصيل وإن كانت خارجة عن محلّ البحث الأصلي لكن لمّا كانت فيها فائدة لا تخفى، وقد استطرد فيها ابن هشام في المغني في هذا البحث بعبارات مغلقة، وكان بناؤنا السير على ما ذكره في هذا البحث، ذكرناه هنا.
[11] الكافية (في علم النحو) والشافية (في علمي التصريف والخط)، ص13.
[12] قال الزّمخشري في كشّافه في رحمن ما نصّه: "والرَّحْمنِ فَعلان من رحم، كغضبان وسكران، من غضب وسكر، وكذلك الرحيم فعيل منه، كمريض وسقيم، من مرض وسقم، وفي الرَّحْمنِ من المبالغة ما ليس في الرَّحِيمِ، ولذلك قالوا: رحمن الدّنيا والآخرة، ورحيم الدّنيا، ويقولون: إنّ الزيادة في البناء لزيادة المعنى.
إلى أن قال: فإن قلت: كيف تقول: اللَّه رحمن، أتصرفه أم لا؟ قلت: أقيسه على أخواته من بابه، أعنى نحو عطشان وغرثان وسكران، فلا أصرفه.
فإن قلت: قد شرط في امتناع صرف فعلان أن يكون فعلان فعلى واختصاصه بلفظ الجلالة يحظر أن يكون فعلان فعلى، فلم تمنعه الصرف؟ قلت: كما حظر ذلك أن يكون له مؤنث على فعلى كعطشى فقد حظر أن يكون له مؤنث على فعلانة كندمانة، فإذاً لا عبرة بامتناع التأنيث للاختصاص العارض فوجب الرجوع إلى الأصل قبل الاختصاص وهو القياس على نظائره". الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، ج1، ص6.
[13] قال ابن مالك في التسهيل ما نصّه: "ويبدأ عند اجتماع التّوابع بالنّعت، ثمّ بعطف البيان، ثمّ بالتّوكيد، ثمّ بالبدل، ثمّ بالنّسق". شرح التسهيل المسمّى تمهيد القواعد بشرح تسهيل الفوائد، ج7، ص3410.
[14] قال محمود في تعليقته على الكشّاف: "فإن قلت: فلم قدّم ما هو أبلغ من الوصفين على ما هو دونه ... إلخ"؟ قال أحمد&: إنّما كان القياس تقديم أدنى الوصفين؛ لأنّ في تقديم أعلاهما ثمّ الإرداف بأدناهما نوعا من التكرار؛ إذ يلزم من حصول الأبلغ حصول الأدنى؛ فذكره بعده غير مفيد ولا كذلك العكس؛ فانّه ترقّ من الأدنى إلى مزيد بمزيّة الأعلى لم يتقدم ما يستلزمه، ولذلك كان هذا التّرتيب خاصّاً بالإثبات. وأما النّفي فعلى عكسه تقدم فيه الأعلى. تقول: ما فلان نحريراً ولا عالماً، ولو عكست لوقعت في التّكرار؛ إذ يلزم من نفى الأدنى عنه نفى الأعلى وكل ذلك مستمدّه في عموم الأدنى وخصوص الأبلغ، وإثبات الأخص يستلزم ثبوت الأعمّ، ونفى الأعمّ يستلزم نفى الأخصّ". الكشّاف عن حقائق غوامض التنزيل، ج1، ص8.
[15] سورة الإنسان: 3.
[16] إذ قد يجب في بعض الموارد تأخّر الحال كما لو اقترن العامل بلام الابتداء (إنّي لأزورك مبتهجاً) أو بلام القسم ..إلخ من موارد.
[17] وقد يقال في تقريب ذلك: بأنّ التّصرّف في النّفس إنّما هي من خصائص الأفعال، والعمل الأصلي إنّما هو لها، فما كان منها متمحّضاً في الفعلية كان أقوى في العمل، وكلّما كان أبعد كلّما كان عمله أضعف، كما لو كان الفعل جامداً، لذا عدم تصرّفه في نفسه يضعفه في العمل فلا يعمل في متقدّم عليه.
[18] شرح التسهيل المسمى تمهيد القواعد بشرح تسهيل الفوائد، ج5، ص2390.
[19] شرح الرضي على الكافية، ج2، ص70.
[20] قال أبو حيان ما نصّه: "واختلف النحاة في تقديمه على الفعل المتصرف الذي تمييزه منقول، فذهب سيبويه، والفراء، وأكثر البصريين والكوفيين إلى منعه، وبه قال أبو علي في شرح الأبيات وأكثر متأخري أصحابنا. وذهب الكسائي، والجرمي، والمازني، والمبرد، إلى جواز ذلك، وهو اختيار ابن مالك، وهو الصحيح لكثرة ما ورد من الشواهد على ذلك، وقياساً على الفضلات". ارتشاف الضرب من لسان العرب لأبي حيان الأندلسي، ج4، ص1633.
[21] حاشية الصبّان على شرح الأشموني على ألفيّة ابن مالك ومعه شرح الشّواهد للعيني، ج2، ص314.
[22] أمالي ابن الشجريّ، ج1، ص48.
[23] انظر كتاب التّذييل والتّكميل في شرح كتاب التّسهيل لأبي حيان الأندلسي، ج 6، ص309.
[24] شرح التسهيل لابن مالك، ج2، ص213.
[25] حاشية الشّمّني، ج2، ص164.
[26] الحدائق النديّة في شرح الفوائد الصمديّة، ص329، لاحظ أمالي ابن الحاجب، ج1، ص367.
[27] حاصل الأقوال إذا قلت: (حبّذا زيد) فلك في هذه العبارة خمسة أوجه من وجوه الإعراب:
أولّها: أن يكون (حبّ) فعلاً ماضياً، و(ذا) فاعله، والجملة خبر مقدم وزيد مبتدأ مؤخّر.
الثّاني: أن يكون (حبّذا) برمّتها فعلا و(زيد) فاعله.
الثّالث: أن يكون (حبّذا) برمّته مبتدأ و(زيد) خبره.
الرّابع: أن يكون (حبّذا) فعلاً وفاعلاً و(زيد) مبتدأ خبره محذوف.
الخامس: أن يكون (حبّذا) فعلاً وفاعلاً، و(زيد) خبر لمبتدأ محذوف.
ولا يخفى عليك إنّ هذه الوجوه إنّما تنوّعت لأمرين:
الأوّل: الخلاف في (حبّذا) وأنّها هل رُكّب الفعل مع ذا أو لم يركّب، وإذا ركّب هل يبقى على الفعلية أو صار اسماً.
الثّاني: في إجراء المرفوع مجرى المخصوص بالمدح أو الذم في (نعم) فيجري الخلاف هنا كما هناك. وفي الأوّل ذكر علي خان في شرح الصمديّة ما نصّه: "تنبيه: ما ذكره المصنّف [ابن الحاجب] من أنّ حبّ فعل وذا فاعلها، وإنّما باقيان على أصلهما هو المشهور، وهو قول درستويه وابن برهان وابن خروف وابن كيسان وابن مالك، ونسب إلى ظاهر مذهب سيبويه، وقال ابن خروف بعد أن مثّل بحبّذا زيد: حبّ فعل، وذا فاعله، وزيد مبتدأ، وخبره حبّذا.
هذا قول سيبويه، وأخطأ عليه من زعم غير ذلك، وذهب قوم منهم الأخفش وخطاب إلى أنّهما ركّبا، وغلبت الفعلية لتقدّم الفعل، فصار الجميع فعلاً، وما بعده فاعلاً، وذهب المبرّد وابن السرّاج، ووافقهما ابن عصفور، إلى أنّهما ركّبا، وغلبت الاسميّة لشرف الاسم، فصار الجميع اسما مبنيّا، وما بعده خبره، ونسب ابن عصفور هذا القول إلى سيبويه. الحدائق الندية في شرح الفوائد الصمدية، ص699.
[28] لاحظ الحدائق النديّة في شرح الفوائد الصمدية، ص700.
وقد ذكر أبو حيّان في الارتشاف ما نصّه: "(حبّذا)، فذهب الأخفش، والفارسي، والرّبعي، وخطاب، وجماعة من البصريّين إلى أنّه منصوب على الحال لا غير وسواء أكان جامداً أم مشتقاً، وذهب أبو عمرو بن العلاء إلى أنّه منصوب على التّمييز لا غير جامداً كان أو مشتقاً، وأجاز الكوفيّون، وبعض البصريّين نصبه على التّمييز، وفصّل بعض النحاة فقال: إن كان مشتقاً فهو حال، وإن كان جامداً فهو تمييز، والذي يظهر أنّه إن كان جامداً كان تمييزاً، وإن كان مشتقاً فمقصد أنّ للمتكلّم إن أراد تقييد المبالغة في مدح المخصوص بوصف كان حالاً، وإن أراد عدم التقييد، بل تبيين جنس المبالغ في مدحه كان تمييزاً مثال الأوّل:
يا حبّذا المال مبذولاً بلا سرف … ومثال الثّاني: حبّذا راكباً زيد، وهذا يدخل عليه (من) فتقول: من راكب". لاحظ ارتشاف الضّرب من لسان العرب، ج4، ص2062.
[29] سورة التوبة: 36.
[30] تحفة الغريب في الكلام على مغني اللّبيب، ج1، ص296.
[31] حاشية الشمني، ج2، ص165.
[32] المصدر نفسه، لاحظ كذلك حاشية الصبّان على شرح الأشموني على ألفيّة ابن مالك ومعه شرح الشواهد للعيني، ج2، ص316.
[33] الحدائق النديّة في شرح الفوائد الصمديّة، ص693.
[34] التّذييل والتّكميل في شرح كتاب التّسهيل لأبي حيّان، ج9، ص119. لاحظ كذلك الارتشاف، ج4، ص2050.
0 التعليق
ارسال التعليق