لمن حق الإفتاء؟

لمن حق الإفتاء؟

عن النبي الأعظم (ص) أنه قال: (من أفتى بغير علم، لعنته ملائكة السماء والأرض).(1)

وعن الإمام الباقر (ع): (من أفتى الناس بغير علم ولا هدى، لعنته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، ولحقه وزر من عمل بفتياه).(2)

إن مسألة الإفتاء وبيان الأحكام الشرعية، مسألة مهمة وخطيرة في نفس الوقت، ولذلك فقد أهتمّ بها الشارع المقدس أشدّ الإهتمام وأولاها العناية الفائقة، وبين شروطها وشروط من يتصدى لها.

الفتوى حق الله تعالى:

ونحن هنا نريد أن نبين أمرا مهما، وهو أنه لا يحق لأحد من الناس التصدى لمقام الفتوى إلا بإذن من الله تعالى، وهو وحده تعالى يمتلك هذا الحق، لأن الأحكام الشرعية هي أحكامه، ولا يمكن لأحد أن يكون وكيلا عن الله عز وجل إلا بوكالة منه تعالى.

يقول العلامة الطباطبائي (رضوان الله عليه) في الميزان في ضمن تفسير قوله تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ}(3)

 (... ويفيد الكلام حينئذ إرجاع أمر الفتوى إلى الله سبحانه وصرفه عن النبي (ص) والمعنى: يسألونك أن تفتيهم في أمرهن قل: الفتوى إلى الله وقد أفتاكم فيهن بما أفتى فيما أنزل من آيات أول السورة).(4)

إذن التشريع والإفتاء حق يختص بالله عز وجل، وما الرسول إلا مبين وموضح وهاد، يهدي الناس إلى الصراط المستقيم ويبين لهم أحكام الله عز وجل، وهو (ص) {مَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى  إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى}، أي أن كلامه وحي من الله عز وجل، ولم ينطق به عن هواه.

وكذلك أئمة أهل البيت (ع) قولهم هو قول الرسول (ص)، فعن الإمام الباقر (ع): (لو كنا نفتي الناس برأينا وهوانا لكنا من الهالكين، ولكنا نفتيهم بآثارنا من رسول الله (ص) وأصول علم عندنا نتوارثها كابرا عن كابر، نكنزها كما يكنز هؤلاء ذهبهم وفضتهم).(5)

هذا في أهل البيت (ع) وما أدراك ما أهل البيت، فكيف بغيرهم من بقية الناس الذين لا يكون علمهم بالنسبة الى علم أهل البيت (ع) إلا كنسبة القطرة الى البحر الواسع، بل أقل من ذلك.

مع وجود المعصوم (ع):

 مع وجود الأئمة (ع)، في حال التمكن من الوصول إليهم،لا يجوز الرجوع إلى غيرهم مهما كانت منزلتهم العلمية، لأن الرجوع إلى غيرهم هو رجوع إلى غير الله عز وجل، فإنهم هم خلفاء الله على الأرض قولهم قوله، و حكمهم حكمه.

في زمن الغيبة:

 وأما في زمن الغيبة الكبرى التى لا يمكن الوصول فيها إلى الإمام المعصوم (ع) مباشرة فإن حق الإفتاء يكون من حق الفقهاء وحدهم إذا توفرت فيهم شروط الإفتاء كالعدالة والفقاهة والإيمان وغير ذلك من الشروط، ويجب على العوام الرجوع إلى الفقهاء في أخذ الأحكام الشرعية، ولا يجوز لهم الرجوع إلى غيرهم ممن لم تتوفر فيهم شروط الإفتاء.

وهذا الأمر قد بينه أهل البيت (ع) في كلامهم وأحاديثهم، وأوجبوا على الناس الرجوع إلى الفقهاء من بعدهم،  ولما كان الرجوع إلى غير المؤهل لهذا المنصب أمرا خطيرا وله نتائجه السيئة على الدين والشريعة،  فقد أهتم الأئمة (ع) ببيان صفات الفقهاء وحذروا من الرجوع إلى غير اللائقين منهم فعن النبي (ص): (الفقهاء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا، قيل يا رسول الله ما دخولهم في الدنيا؟ قال: اتباع السلطان، فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم على أديانكم).(6)

وإذا توفرت الشروط في شخص، فلا يجوز لأحد الرد عليه والراد عليه كالراد على الله تعالى كما في بعض الروايات، وذلك لأن الفقيه هو أمين الرسول والرسول هو أمين الله في الأرض، وكما أنه لا يجوز الرد على الرسول والإمام، فكذلك لا يجوز الرد على الفقيه.

عناء الفقيه:

 ثم إن الفقيه لا يكون مرجعا للناس إلا بعد أن يقضي وقتا طويلا في الدرس والتدريس والمباحثة والمطالعة، ويسهر الليالي ويقضي الساعات الطويلة لأجل الوصول إلى الحكم الشرعي الصحيح، فمن باب فـ{هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلا الْإِحْسَانُ} يجب على الناس احترام هذا الفقيه وتقديره وتعظيمه وتقديسه، اذ لولا الفقهاء لوجب على الجميع تحصيل ذلك، لأن الإجتهاد واجب كفائي إذا قام به البعض سقط عن البعض الآخر، والفقهاء قد كفونا مؤونة الدرس والبحث والإجتهاد فجزاهم الله عنا وعن الإسلام خير الجزاء.

تشريف أم تكليف:

ثم هناك نقطة مهمة جدا، وهي أن الإفتاء ليس تشريفاً للفقيه، بل هو تكليف مجهد، ومسئولية كبرى، وثقل عظيم، لا يتحمله أكثر الناس.

وقد ورد عن الإمام الصادق (ع): (واهرب من الفتيا هربك من الأسد ولا تجعل رقبتك للناس جسرا).(7) فليست المسألة بسيطة كما يتصورها بعض الناس في أن الفقيه مجرد أن يقرأ كتابين أو ثلاثة ثم يفتي الناس بعد ذلك، بل نحن نرى أن العالم لا يصل إلى مقام المرجعية والتصدي للإفتاء إلا بعد أن يكبر عمره ويحدودب ظهره، إلا القليل النادر.

في العصر الحاضر:

 وفي هذا العصر الذي تكالبت فيه القوى المستكبرة والمعادية للإسلام على محق الدين وحرف الناس عنه وإبعادهم عن قادتهم من العلماء والفقهاء، نرى كثيرا من الناس الذين يسمّون أنفسهم بالمثقفين المنفتحين، يحاولون أن يجعلوا أنفسهم ندا للعلماء والفقهاء، وأن يجذبوا الناس إليهم من خلال تأليف بعض الكتب وإلقاء المحاضرات، ويتدخلون بشكل صريح ووقيح في أمر الدين مما لا اختصاص لهم فيه، فتراهم يفتون الناس ويعطونهم الأحكام الشرعية وإن كان ذلك بأساليب تختلف عن طريقة الفقهاء الذين يفتون الناس بواسطة تأليف الرسالة العملية، قال تعالى: {وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ الله عَظِيمٌ}(8)

وقسم من هؤلاء الأشخاص هم من المنتسبين ظاهريا إلى المذهب الشيعي، وللأسف الشديد فإن أفكار أمثال هؤلاء قد وصلت وانتشرت في كثير من بلداننا المحافظة، وقد تبناها بعض الأشخاص وراح يروج لها علنا. 

  ونحن نذكر هنا بعض الأمور:

الأمر الأول: إن باب الإجتهاد مفتوح في المدرسة الإمامية فيستطيع كل واحد خوض هذا الطريق، ولكن لا يجوز لأي شخص لم يصل إلى درجة الإجتهاد أن يفتي الناس: (من أفتى بغير علم لعنته ملائكة السماء والأرض).

وهذا الأمر طبيعى جدا لا يختص بباب الإجتهاد، فإن نفس الفقيه مثلا لا يجوز له أن يتدخل فيما يخص الطبيب أو المهندس أو الميكانيكي.

الأمر الثاني: أن هؤلاء الأشخاص الذين يخالفون الفقهاء ويعارضونهم ربما لا يقبلون أن يكونوا أتباعا لغيرهم يأتمرون بأوامرهم وينتهون عن نواهيهم، ولا يقبلون أن يسمّون (بالعوام).

وهذا التفكير ناتج عن الأنانية والتكبر في نفوس هؤلاء، فنحن إنما نطيع ونتبع الفقهاء لأن الله تعالى أمرنا بذلك، فالتكبر على الفقهاء تكبر على الله عز وجل.

ثم إن نفس الفقهاء يتبعون الأئمة (ع) مع أن بعض الأئمة كان صغير السن جدا كالإمام الجواد (ع) فإنه عندما تسلم منصب الإمامة المقدسة لم يكن قد تجاوز الثامنة بعد، ومع ذلك فقد سلّم له جميع الفقهاء الذين كانوا أسن منه ومن أبيه.

وأما الحساسية من كلمة (العوام) فإنها مجرد لفظة تدل على أن الشخص غير مختص في هذا المجال، فالفقيه مثلا بالنسبة للطب عامي، ولا ضير في هذه الكلمة.

الأمر الثالث: إن إتباع الفقهاء وإن كان واجبا، ولكن ليس أيّ فقيه فليست الفقاهة هي الشرط الوحيد في الفقيه، بل هناك شروط أخرى وأهمها العدالة والإيمان.

فنحن إذن عندما نتبع الفقيه، إنما نتبع من نطمئن إليه ونركن إلى عدالته وتقواه وورعه، نتبع من يكون أمينا على الدين والدنيا.

ولا شك أن وجوب إتباع الفقهاء المخلصين والمتقين إضافة إلى حث الشرع عليه، فإن العقل أيضا يوجب علينا ذلك.

الأمر الرابع: إن الأشخاص الذين تكلمنا عنهم وقلنا إنهم يتدخلون في الدين مع أنهم غير مختصين في ذلك، يجب علينا أن نعرف سيرتهم جيدا، وندرس حياتهم هل أنهم حقا حريصون على الدين؟ وهل هم من المدافعين عن الإسلام وعن أحكامه وقوانينه ويريدون أن يصلحوا؟ أم أنهم من المتأثرين بالأفكار الدخيلة علينا من الغرب، وأنهم يريدون أن يفسدوا شبابنا وشاباتنا، وأن يبعدوهم عن العلماء والفقهاء حسدا وعدوانا؟

لا أشك أن هؤلاء من مصاديق من يحارب الله ورسوله، وإن تغطوا بلباس الدين حتى لا تكشف عوراتهم المغيبة، وحتى لا تتبين أهدافهم المسمومة. 

الأمر الخامس: إن من صفات هؤلاء الإشخاص:

1ـ تضعيف مواقف العلماء والفقهاء ومعارضتهم وسلب القدسية عنهم.

2 ــ التأثر الواضح بالأفكار الغربية.

3 ـ كثرة استخدام المصطلحات الجديدة غير المفهومة والألفاظ المعسولة.

4 ــ الدعوة إلى الانفتاح الغير محدود على العالم الغربي، والانبهار بالأفكار والتقنية الغربية.

وخطورة أمثال هؤلاء الأشخاص يبينها لنا قول الرسول (ص): (من أفتى بغير علم وهو لا يعلم الناسخ من المنسوخ والمحكم من المتشابه فقد هلك وأهلك).(9)  

فئة أخرى: وفي مقابل هؤلاء الأفراد الذين لا يرون ـ حسب اعتقادهم السخيف ــ أن حق الإفتاء خاص بصنف معين من الناس بل هو عام للجميع لكل من هب ودب، توجد مجموعة أخرى من الناس الذين وإن كانوا يعتقدون بأن حق الإفتاء خاص بالفقهاء، إلا أنهم يخطئون أحيانا في التشخيص، فيبدون وجهات نظر خاصة لهم في أمور يعتقدون ـ خطئا أو غفلة أو تسامحاـ أنها من الأمور والقضايا الخارجية التي يكون التشخيص فيها موكول إلى نفس المكلف ولا دخل للفقيه فيها، بينما هي من الأمور و القضايا الفقهية التي يختص بها الفقيه، وسواه من الناس يجب عليهم الرجوع فيها إلى هذا الفقيه.

أضرب لكم مثالا لبيان المقصود والمراد، مسألة غير الإمامي من المسلمين، هل يحكم بإسلامهم وطهارتهم أولا؟ من المعروف أن رأي المشهور من علماءنا الأعلام هو كونهم مسلمين ويحكم بطهارتهم وتجوز ذبائحهم و النكاح منهم، لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين. فهذا كما هو واضح مسألة فقهية لا يجوز لأحد غير الفقيه أن يتدخل فيها أو يبدي وجهة نظر خاصة، ولكن نرى بعض الأشخاص من هنا وهناك يتدخل في مثل هذه الأمور ويبدى وجهة نظر خاصة لكونه ربما قرأ رواية أو روايتين وفسرها بتفسيره وذوقه الخاص، وهو يعتقد أن في ذلك خدمة للدين والشريعة، والرسول (ص) يقول: (من أفتى الناس بغير علم كان ما يفسده من الدين أكثر مما يصلحه).(10)

وهكذا في المسائل الأخرى المشابهة، وفي الحقيقة إن خطورة مثل هذا الأمر لا تقل بكثير عن خطورة أولئك الذين يرون أن حق الإفتاء حق عام لكل الناس، لأن النتيجة واحدة عند الطرفين. 

نعم للمكلف العامي أن ينسب هذا القول أو ذاك إلى هذا الفقيه أو ذاك الفقيه إذا كان ذلك الفقيه مستجمعا للشرائط.

ثم يجب أن نعرف جميعا أننا لسنا بأشد حرصا وغيرة على الدين من العلماء والفقهاء، بحيث أننا وبكل جرأة وسهولة ننسب هذا العالم وذاك إلى التساهل في أمر الدين، وعدم الغيرة على المقدسات، وأن هذا العالم أثرت السياسة على أفكاره وآراءه، وأن ذاك العالم كان ينبغي أن يرتأي الرأي الفلاني، وأن فتوى هذا شاذة مخالفة للمشهور فنجرح في شخصيته، وننزل من مكانته التي في قلوب الناس.

نعم إذا تبين أن هذا العالم غير مؤتمن على الدين، وكان من الصلاح أن تجرح شخصيته أمام الناس فبها، وإلا فنحن غير معذورين أمام الله تعالى يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. 

والحمد الله رب العالمين

 

* الهوامش:

1 ــ ميزان الحكمة 3: 2372.

2 ــ نفس المصدر.

3 ــ النساء: 127.

4 ــ تفسير الميزان 5: 100.

5 ــ ميزان الحكمة 3: 2373.

6 ــ نفس المصدر: 2101ــ 2459.

7 ــ نفس المصدر: 2373.  

8 ــ النور: 15.   

9 ــ ميزان الحكمة 3: 2372.

10 ــ نفس المصدر.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا