لغة الخطاب الدينيّـة بين الصياغة والأهداف

لغة الخطاب الدينيّـة بين الصياغة والأهداف

الملخّص:

تتناول المقالة (لغة الخطاب)؛ فتبيّن أنّ واحدة من أهمّ أسباب عزوف الشباب وغيرهم عن الدين أو التديّن هو عدم تلبية الخطاب الدينيّ لاحتياجاتهم. ويرى الكاتب بأنّه لا بدّ من أن يكون الخطاب المقدَّم إلى (الفئة المخاطَبة) متجدّداً في الصياغة والعرض بما يتناسب مع خصائصها، وطبعها، والظروف المحيطة بها، سواء أكان على المستوى الفردي أم الجماعي. وقد رفض الكاتب التّجديد الذي يمسّ الهُوية والمعتقد والأصول والقيم الثابتة في الدين، ثم بيّن بعض المعوّقات التي يمكن أن تقف حجر عثرة أمام التّجديد المطلوب، وألحقه بذكر تحليلٍ لأركان عملية الخطاب الدينيّ، ليفرِّع عليه بعد ذلك خصائص أهم هذه الفئات التي يوجّه إليها الخطاب في المجتمع، وهم فئتي: [الطفولة والشباب].

 

توطئة:

لا يخفى ما للخطاب من تأثير بالغ الأهميّة على المخاطَبين، وما لذلك من آثارٍ تنعكس من ورائه، فليس من شيء يحفظ المجتمعات أو ينحرف بمسارها مثل الخطاب الموجّه إليها، والقنوات التي ترفدها في شتّى المجالات وعلى مختلف المستويات.

والخطاب الديني؛ هو واحد من هذا النوع الذي يُرجى له أن يؤدّي دوراً فاعلاً في هذا الاتّجاه، فالأمّة الحيّة والجماعات المسلمة التي يُضخّ فيها الخطاب المواكب لعصرها والمحافظ على أصالتها يكون خير دافعٍ لرقيّها وحصانتها.

ومن هنا؛ تأتي إشكالية التّجديد في لغة الخطاب، وأنّ أحد أهم الأسباب التي تسبّب نفرة الشباب وعامّة الناس، بل والوقوع في الكثير من المشكلات العقديّة والأخلاقية والضآلة الفكرية لمفاهيم الدين وقيمه وتشريعاته هو ضعف الخطاب الديني وجموده، وأنّه يشكِّل حاجزاً بين المؤسّسة الدينية وعموم المجتمع!!

فهنا يأتي السؤال: ما المراد من التّجديد في الخطاب الدينيّ، وبأيِّ كيفية ينبغي أن يكون هذا الخطاب المتجدِّد، على فرض التسليم بتطويره؟ أهو من حيث الجوهر والصلب أم من حيث الأسلوب والطريقة ووسيلة العرض؛ بما يتناسب مع الفئة المخاطَبة بمختلف طبقاتها وتنوّع فروقها الفرديّة وخصائصها الاجتماعيّة والبيئيّة؟!

المبحث الأول: وفيه مطلبان

المطلب الأول: معنى التّجديد في الخطاب الديني؟

ونبحث هنا في المعنى اللُّغوي والاصطلاحي، فإذا جئنا إلى تحليل هذا العنوان، فإننا نجد:

أولاً: المعنى اللُّغوي

1ـ [التجديد]: قال ابن منظور: "الجِدَّةُ: نَقِيض البِلى؛ يقال: شي‏ءٌ جديد، والجمع أَجِدَّةٌ وجُدُدٌ وجُدَدٌ. والعرب تقول مُلَاءةٌ جديدٌ، بغير هاءٍ، لأَنّها بمعنى مجدودةٍ أَي مقطوعة. وثوب جديد: جُدَّ حديثاً أَي قطع. ويقال: بَلي بيتُ فلانٍ ثم أَجَدَّ بيتاً، والجِدَّةُ: مصدر الجَدِيدِ. وأَجَدَّ ثوباً واسْتَجَدَّه. وتجدَّد الشي‏ءُ: صار جديداً. وأَجَدَّه وجَدَّده واسْتَجَدَّه أَي صَيَّرَهُ جديداً"[1].

2ـ [الخطاب]: قال الفيومي في المصباح: "خَاطَبَهُ‏: (مُخَاطَبَةً) و(خِطَاباً) وهُوَ الْكَلَامُ بَيْنَ مُتَكَلِّمٍ سَامِعٍ ومِنْهُ اشْتِقَاقُ (الْخُطْبَةِ)"[2].

وقد توسّع المراد من الخطاب، فيشمل اليوم كلّ ما يتناقل بين طرفين أو أكثر ولا يختصّ بالخطاب الشفهي فقط [3].

3ـ [الدينيّ]؛ قال الخليل بن أحمد الفراهيدي في كتابه العين: "الدِّينُ‏: الطاعة، ودَانُوا لفلان أي أطاعوه. وفي المثل: كما تَدِينُ‏ تُدَانُ‏ أي كما تأتي يؤتى إليك، قال النابغة:

بهن أدين من يأتي أذاتي‏ مُدَايِنَةُ الْمُدَايِنِ ‏فَلْيُدِنِّي‏[4] وكون (الخطاب دينيّاً)، فهذا يعني أنّه منسوب إلى الدين والمتكلّمين باسمه، وسمّيت الأديان السماوية ديناً؛ لأنّها تجعل أهلها مطيعين وخاضعين لتعاليمها وأحكامها"[5].

ثانياً: المعنى الاصطلاحي

فقد ذُكرت عدّة مصطلحات لمعنى التّجديد في الخطاب الديني والمراد منه[6]، ومنها:

الأول: أنّه التغيير في المحتوى؛ سواء كان بالمعنى الشامل أو الجزئي؛ وهذا مرفوض لأنه يمسّ أصول الشريعة والرؤية الدينية التي جاء بها الأنبياءi وخاتمهم نبيّ الإسلام والإنسانية محمدe.

الثاني: أنّه التطوير في الشكل واللُّغة؛ أي لُغة الخطاب وطبيعة الطرح؛ بحيث ينسجم مع طبيعة المخاطَب ومقتضى الحال من الزمان والمكان.

الثالث: أنّه يعني استعمال أدوات طرح جديدة؛ أي توظيف آليات أخرى غير المعتادة وإن كان لها الدور الكبير والبارز الذي أثبت نجاحه طوال قرون، إلا أنّنا بحاجة لإضافة آليات ووسائل تحاكي روح العصر.

وهنا نقول: إذا كان المراد من (التّجديد) في الخطاب، هو أن نستبدل كلّ ما عندنا للإتيان بما هو (جديد)، فنتخلَّى عن تراثٍ ضخم خلّفه أعلامنا السابقون لاعتبارنا إيّاه بأنّه قد أصبح من القديم الذي لا يواكب العصر، ولا يعرف متطلّباته، ولا يفي باحتياجاته!

والحال ليس كذلك، فليس معنى التّجديد الإتيان بالجديد في كلّ شيء، وليس هو استبدال ما كان بغيره.

إنما التّجديد في الخطاب يعني مراعاة مقتضيات المرحلة والفئة المخاطَبة، مع الحفاظ على أصالة الفكر وجوهره، وما انتهى إليه السابقون والمعاصرون من أعلامنا، ثم بلورته بما يواكب العصر بقوّة البيان وسلاسة الطرح بما يتناسب مع الزمان والمكان ومقتضى الحال عند الطرف المخاطَب، وإلا أصبح الخطاب حاجزاً عن بلوغ الغاية التي يَهدف المرسِل إيصالها إلى المستقبِل، وصار التّوجيه غير مفهوم بالنسبة إليه، أو أنّه مشوّش لا يبلغ مداه المرجو.

فإذاً المعنى الأول مرفوض بجميع صوره سواء أكان التغيير لبعض أم كلّ ما جاء به الدين الإسلاميّ من ثوابت، فإنّنا لا نسمح به، ودون ذلك هو خرطُ القتاد.

أما المعنى الثاني والثالث فهو مطلوب، وليس فقط لا محذور فيه، وذلك لما سيُبحث فيما سيأتي.

المطلب الثاني (من له حق التّجديد) بالمعنى الأول؟

إنّ المتتبع لما يقام في الأوساط الثقافية والندوات الدولية يرى بعض المحاولات والحركات التّجديدية الحداثويَّة؛ لتفعيل بعض الممارسات التي تدعو إلى دينٍ إسلاميٍّ جديد يحافظ فيه على صورته وتُمحى مضامينه، أو تغيّر بالشكل الذي يتناغم مع أهداف هذه الجماعات، فكلّ جماعة من هؤلاء يجرّ النار إلى قرصه، سواء أكان من داخل الوسط المسلم[7] أم من خارجه، فإنّ لهم سعياً حثيثاً لتمكين رؤاهم وتوجّهاتهم عن طريق حرف وتمييع الهُوية الإسلامية لدى شرائح المجتمع المسلم[8].

فإذا قلنا بأنّ الجديد أو التّجديد هو الإتيان برؤى تأسيسيّة وأفهامٍ تجديدية للدين وتقديمها لعامّة الناس أو حتى لو لم تُقدَّم –هذه الأفهام- لأحدٍ سوى لقائلها، فهذا ممّا لا يُخوَّل به أحد إلا لمن درس الدين ووعاه وتعمّق فيه، وجال في أغواره، وأحاط بما يسانده من علوم لإدراك خطابه بالشّكل الصحيح والمطلوب؛ دراسةً مستحكمةً استفرغ فيها وسعه، وقضى فيها شطراً من عمره لا ينفكّ عنها؛ ليصل بعد ذلك إلى مرحلة تؤهِّله لاستنباط أحكام الشريعة وتقديم ما يفهمه من تلك النّصوص الشريفة التي جاء بها الدين.

ونفس هذا الفهم المتقدّم؛ قد دلَّلت عليه الآيات الكريمة الروايات الشريفة بلا مزيد بيان عليها. ومنها:

ما رواه الكليني في الكافي بسنده عن علي بن إبراهيم عن محمد بن عيسى عن يونس عن داود بن فرقد عمّن حدّثه عن ابن ِ شُبْرُمَةَ قَالَ: >مَا ذَكَرْتُ حَدِيثاً سَمِعْتُهُ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍe إِلَّا كَادَ أَنْ يَتَصَدَّعَ قَلْبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ جَدِّي عَنْ رَسُولِ اللهe، قَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: وَأُقْسِمُ بِاللَّهِ مَا كَذَبَ أَبُوهُ عَلَى جَدِّهِ، وَلَا جَدُّهُ عَلَى رَسُولِ اللهe، قَالَg: قَالَ رَسُولُ اللَّهِeمَنْ عَمِلَ بِالْمَقَايِيسِ فَقَدْ هَلَكَ وَأَهْلَكَ، وَمَنْ أَفْتَى النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ النَّاسِخَ مِنَ الْمنْسُوخِ وَالْمحْكَمَ مِنَ المُتَشَابِهِ فَقَدْ هَلَكَ وَأَهْلَكَ<[9].

وبسنده أيضاً عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن يونس بن عبد الرحمن عن أبي يعقوب إسحاق بن عبد الله عن أبي عبد اللهg قال: >إِنَّ اللَّهَ خَصَّ عِبَادَهُ بِآيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِهِ، أَنْ لَا يَقُولُوا حَتَّى يَعْلَمُوا، وَلَا يَرُدُّوا مَا لَمْ يَعْلَمُوا، وَقَالَg: {69+}، وَقَالَ: {بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ}< [10].

فإذاً؛ القول بغير علم محظور شرعاً، وتشتدّ حرمته فيما إذا مسَّ الكتاب العزيز والشريعة الغرّاء، فلا يُناط الرجوع في أخذ معالم الدين وقيمه وأحكامه إلا ممّن خوّلهم الله بذلك وهم الأنبياء والأوصياءi والنوّاب بالحق من بعدهم؟؛ أعني علماء آل محمدi وهم الفقهاء الأمناء العدول.

فقد روى ابن بابويه في كمال الدين: "حدّثنا محمد بن عصام الكلينيO، قال: حدّثنا محمد بن يعقوب الكليني عن إسحاق بن يعقوب قال: سألت محمد بن عثمان العمريO أن يوصِل لي كتاباً قد سألتُ فيه عن مسائل أشكلت عليَّ فوَرَدت في التوقيع بخطّ مولانا صاحب الزمانl: >.. وَأَمَّا الْحَوَادِثُ الْوَاقِعَةُ فَارْجِعُوا فِيهَا إِلَى رُوَاةِ حَدِيثِنَا فَإِنَّهُمْ حُجَّتِي عَلَيْكُمْ وَأَنَا حُجَّةُ الله عَلَيْهِمْ وَأَمَّا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَمْرِيُّ رَضِيَ الله عَنْهُ وَعَنْ أَبِيهِ مِنْ قَبْلُ فَإِنَّهُ ثِقَتِي وَكِتَابُهُ كِتَابِي..<"[11].

فالتّجديد بمعنى الاستنباط وتخريج الأحكام والإفتاء -لما يُستحدَث من مسائل يحتاجها العصر لطبيعة التغيّر فيه- لا تكون إلا عبر من أُوكِلت لهم هذه المهمّة العظيمة وهم الفقهاء العدول.

أما لو كان التّجديد متناولاً بُعداً آخر وهو لغة الخطاب وآلياته، أو التّجديد في طبيعة تقديم وترجيح محتوىً على آخر بملاحظة معطيات الواقع، فهذا متاح لأهل التخصّص وأصحاب النّظر، وكذلك لمن لهم الخبرة الجيّدة في الانتقاء والعرض بالشكل الذي تتكامل فيه هذه الجهود والطاقات المبذولة في سبيل إرساء دعائم الدين ونشره وتمكينه في أوسع نطاق ممكن على وجه الأرض.

المبحث الثاني: أهمية الخطاب وأبرز معوّقاته، وفيه وقفتان:

الوقفة الأولى: ما أهمية أن نجدّد في لغة الخطاب؟

مما لا ريب ولا شكّ فيه هو أنّ القرآن الكريم لمّا جاء مخاطِباً المؤمنين به، بل الإنسانية ككل حتى قيام الساعة لم يتناول الحديث حول الأحكام الشرعية فيما يجوز وما لا يجوز وحسب، وإلا لاقتصر على (خمسين) صفحة لبيان كلّ ذلك، وإنّما وسّع دائرة الخطاب لتشمل كلّ ما يمسّ ذات الإنسان وفكره وشعوره وحركته.

فنجد في هذا الدستور العظيم والكتاب الفريد: (خطاب للعقل، وخطاب للقلب، وخطاب للسلوك)، فتارة يحدّثه بما هو فرد وأخرى بما هو جماعة، بل فيه حديث خاصّ للرجل على حده، وللمرأة كذلك، وتراه ينقل الحدث في الماضي، وأخرى يتنبّأ بالمستقبل، وأخرى في الحدث المتحقّق والحاصل في الآن واللّحظة، فتتنزّل الآيات الكريمة على الصدر الشريف والنبيّ الخاتمe، فيصدح بها مبلِّغاً إيّاها، فتملك قلوباً وآذاناً واعية؛ لتهتدي طريق الرشاد، وتُحذِّر بها آخرين أخذتهم الحمية، حمية الجاهلية النكراء؛ لتقيم عليهم الحجّة الدامغة.

فالخطاب إذاً؛ ليس على نمط واحد، ولا على وتيرة واحدة، فهذه خصيصة يمتاز بها قرآننا المجيد أيَّما امتياز، ولذا قال فيه سيد الموحدّين والبلغاءg: >إِنَّ الْقُرْآنَ ظَاهِرُهُ أَنِيقٌ، وَبَاطِنُهُ عَمِيقٌ، لَا تَفْنَى عَجَائِبُهُ، وَلَا تَنْقَضِي غَرَائِبُهُ، وَلَا تُكْشَفُ الظُّلُمَاتُ إِلَّا بِهِ<[12] وفي غيره قالg في وصف حقيقة القرآن: >هُوَ الْفَصْلُ، لَيْسَ بِالهَزْلِ، هُوَ النَّاطِقُ بِسُنَّةِ الْعَدْلِ، وَالْآمِرُ بِالْفَضْلِ، هُوَ حَبْلُ الله المَتِينُ،‏ وَالذِّكْرُ الحَكِيمُ، هُوَ وَحْيُ الله الْأَمِينُ، وَحَبْلُهُ المَتِينُ، وَهُوَ رَبِيعُ الْقُلُوبِ، وَيَنَابِيعُ الْعِلْمِ، وَهُوَ الصِّرَاطُ المُسْتَقِيمُ، هُوَ هُدًى لِمَنِ ائْتَمَّ بِهِ، وَزِينَةٌ لِمَنْ تَحَلَّى بِهِ، وَعِصْمَةٌ لِمَنِ اعْتَصَمَ بِهِ، وَحَبْلٌ لِمَنْ تَمَسَّكَ بِهِ<[13].

فللقرآن أبعاد متعدّدة وزوايا مختلفة يسهم كلّ واحدٍ منها لأداء دورٍ في واقع حياة الإنسان، وبالتالي لا غنى لواحدٍ من هذه الأبعاد عن الآخر.

ومن هنا جاءت أهمية أن يراعي المُبلِّغ جميع هذه الجوانب في خطابه، وإلا كان الخطاب مُعتلاًّ وجامداً لا يحقّق واقع الخطاب الديني الذي ينادي به القرآن الكريم، والسنّة الشريفة أيضاً –كما سيوافيك في المباحث الآتية-.

الوقفة الثانية: ما هي المعوّقات التي تقف أمام وجه هذا النّوع من التجديد؟

من الأسباب التي تقف حجر عثرة في طريق تقديم الخطاب المتناسب مع متطلّبات المرحلة والفئة العمرية والمستوى الذي تمتلكه، عدّة أمور، منها:

1- عدم توفّر المبلِّغ على طرق التبليغ الحديث؛ بحيث يزهد في تنمية مهاراته وقدراته الخطابية وما يتقوّم به الخطاب من فنون وأساليب مؤثّرة، فيبقى الخطاب هو الخطاب، وأيًّا كانت النتائج المتوخّاة من ورائه!!

2- الشعور بعدم الحاجة لتجديد الخطاب؛ البعض لا يرى الحاجة ماسّة من الأساس، أو أنّه يخاف من الاصطدام مع آخرين لا يرون لدعاوى التطوير في الخطاب من حاجة، أو أنّهم يرون بأنّ المسألة أخطر من ذلك، كأن يظنّون بأنّ هذا النّوع من الطرح سيهدّد الفكر الدينيّ وينتكس بواقع الناس، فيكون الخوف من شبحٍ مجهولٍ يُتوهّم مجيؤه في المستقبل، وبالتالي يراوح الخطاب مكانه بلا تغيير ولا مساس، بحجّة الخوف من التغيير.

3- التباعد الزماني بين صاحب الخطاب والمخاطَب؛ بمعنى أنّ من يحمل همّ الإصلاح والتأثير قد يبلغ به العمر مسافة تفوق عمر من هو تحته، بحيث تُسبّب تفاوتاً في فهم الآخر وما يريد، وكيف يُخاطَب؟!

ويعجبني حقاً؛ ما قاله أحمد الصادقي في كتابه (ما يحتاجه الشباب): "ومن جملة المشاكل المعاصرة بين جيل الشباب والجيل المتقدّم عليه، فَهم مرادات بعضهم، فيقف الشباب المعاصرون في جهة، بينما يقف الوالدان والمعلّمون في الجهة الأخرى، مع أنّ عليهم أن يقيموا حياتهم على أساس السعادة والرخاء.

وبعبارة أخرى يمكن القول: إنَّ الوضع القائم بين الجيل المعاصر والجيل المتقدّم، وضعٌ متأزّم من الناحية الفكرية والثقافية، ولكي نتمكّن من اجتياز هذه المرحلة بسلام نحتاج إلى وعي وفهم ودراية وتدبّر؛ لأنّ الحاجز خطير! يقول أحد الخبراء في الاجتماع والسياسة: (إنّ تفكير الشباب يختلف عن تفكير آبائهم)[14]، وبوسعنا أن نُشبّه هذه الأزمة بالصراع، ومرادنا بذلك (الصراع الفكري)"[15].

فالضرورة ملحّة للغاية؛ بأن يسدّ صاحب الخطاب الديني هذه الفوّهة بينه وبين هؤلاء الشباب كيما يكون محطَّ ثقتهم ومحلَّ شكايتهم والتّنفيس عن همومهم وآلامهم؛ ليعينهم في التغلّب على هذه الأزمات والمشكلات التي يمرّون بها.

4- عدم امتلاك التخصّصية؛ وهذا من أبرز الآفات التي يعاني منها الخطاب، فإذا لم يمتلك المبلّغ التخصّصية في الجانب الذي ينبغي التصدّي له، فقد فوّت الكثير من المنفعة على نفسه وعلى الآخرين، حيث تشتدّ الحاجة وتلحّ في بعض ميادين التبليغ إلى الدرجة التي لا يمكن التغافل عنها أو تركها. والطامّة الكبرى فيما لو دخل في تلك المواطن ونصب لنفسه منبراً يحدّث الناس من ورائه مشرّقاً ومغرّباً فوق الحدّ المسموح، فكم هو الضرر الكبير الذي سيخلّفه؟!

إنّ أبسط شيء يمكن أن تفرزه أمثال هذه العينات –أجارنا الله والجميع- هو تضعيف حالة الخطاب المتزن، -وللأسف أنّه في الكثير من الأحيان- يُنسب هذا الخلل والتخلّف إلى ذات المؤسّسة الدينية ومراكزها التعليمية لا إلى صاحب ذاك الخطاب فقط.

المبحث الثالث: أركان الخطاب الديني وآلياته، وفيه نقطتان:

النقطة الأولى: أركان الخطاب الديني

عند الوقوف مع مفردة الخطاب الديني بمعناها الشامل الذي يضم (الكلام  -المكتوب– الأفعال)؛ وكلّ رسالة تصل إلى المتلقّي مهما اختلفت الوسيلة أو الأسلوب في إيصالها، فإنّنا نجدها بعد التحليل ثلاثةَ أركانٍ، سنتناول كلّ واحدة منها مع ذكر أهمّ ما ينبغي أن يتّسم به كلّ رُكنٍ بما يناسب المقام:

الركن الأول: صاحب الخطاب الديني (المبلِّغ الدينيّ)

ويجدر به أن يتحلّى بجملة من الأمور، منها:

1ـ الإخلاص؛ حيث لا يتوفّق الإنسان في مسعاه ما لم يكن هذا العمل مقترناً بالإخلاص لوجه الله الكريم ومتقرّباً به إليه، فمن دونه يعود ضعيف الأثر، أو بلا أثر، وقد يعود على صاحبه بالهلكة في الدنيا قبل الآخرة، فكلُّ عملٍ لا تمت له صلة بالإخلاص –مهما أجهد العامل فيه نفسه- فهو أجوف لا قيمة له، فقد ورد عن الأميرg: >آفةُ العملِ تركُ الإخلاصِ<[16].

2ـ الأمانة؛ والتي تتفرّع من>العدالة<؛ فبالأمانة يكون الخطاب مسؤولاً ومحافظاً على جودته وأهدافه المرسومة له، فعن عليٍّg: >مَن لا أمانةَ لَهُ لا إيمانَ لَهُ<[17] وعنهg: >إذا قَوِيَتِ الأمانةُ كَثُرَ الصِّدقُ<[18]. فالأمين صادق في فعله قبل قوله، وهذا ما ينعكس بدوره على الخطاب بشكل واضح.

3ـ التخصّصية والدراية؛ وما أجدر أن تتجلّى هذه الصفة في المبلِّغ، وأن تتّسع نطاقاً في المجتمع، فالمتخصّص أكثر نفعاً وأكثر دقّة عادة من غيره، لكونه يعلم بدقائق ومفاصل ما يتحدّث عنه، وما يزاوله من عمل تبليغيّ للارتقاء بمجتمعه وسدّ مواضع الخلل فيه، فتكون فرصة الإبداع والعطاء عنده أكبر. وليس من المعيب أبداً أن يقول غير المختص: (لا أعلم)، وأن لا يتدخّل فيما لا خبرة ولا علم له فيه، فمن وصايا النبيِّe-لأبي ذَرٍّO-:>يا أبا ذَر، إذا سُئلتَ عن عِلمٍ لا تَعلَمُهُ فَقُل: لا أعلَمُهُ؛ تَنجُ مِن تَبِعَتِهِ، ولا تُفْتِ بما لا عِلمَ لكَ بهِ؛ تَنجُ مِن عَذابِ الله يَومَ القِيامَةِ<[19]. وعن الإمام الباقرg: >ما عَلِمتُم فَقُولُوا، وما لَم تَعلَمُوا فقولوا: الله أعلَمُ، إنّ الرَّجُلَ لَيَنتَزِعُ بالآيَةِ مِنَ القرآنِ يَخِرُّ فيها أبعَدَ مِن السماءِ<[20]. وعن الصادقg: >إنَّ مَن أجابَ في كُلِّ ما يُسألُ عَنهُ لَمَجنُون‏<[21].

4ـ القدرة على البيان؛ الكتبيّ أو الشّفهيّ أو كليهما. فعن أمير الكلامg: >أحسَنُ الكلامِ ما لا تَمُجُّهُ الآذانُ، ولا يُتْعِبُ فَهمُهُ الأفْهامَ<[22].

5ـ احترام المخاطَب وتقديره: فمهما كان الكلام منمّقاً والمادّة نافعةً وقيّمة، ولكن لم يصاحبها لين العريكة وأدب الخطاب واحترام المخاطَبين، كان الضرر أوقع في النّفس لا مجرّد عدم الانتفاع، بإصغاءٍ أو اتّباع لما يتمّ طرحه، بل أكثر من ذلك، فإنّ الغِلْظة في الأسلوب والقسوة في التصرّف تولّد نفوراً عن صاحب الخطاب نفسه وغيره؛ لأنّه ويا للأسف! بات واقع المجتمع اليوم ومنذ أمدٍ بعيد (التعميم الظالم) على كلّ مبلِّغٍ دينيّ، بل والوقيعة على كلّ المتدينين والدين، عند ملاحظة خطأ هنا أو زلَّةٍ هناك عند أصحاب الخطاب الدينيّ أو المنتسبٍين للتديّن!

الركن الثاني: المُخاطَب به؛ (أعني به الأسلوب والمحتوى، شكلاً ومضموناً):

أما أسلوباً؛ فينبغي أن يمتاز بعدّة أمور، منها:

1ـ الوضوح؛ فكلّما كان الخطاب محدَّد المعالم وواضح البيان لدى المخاطَب كان أسرع لفهم الفكرة الموجّهة إليه، والعكس بالعكس، فإذا تمسّك المخاطِب بلغة صعبة بعيدة المنال على الأفهام، لم يعد ذلك الخطاب سوياً.

2ـ الترتيب والتنظيم؛ لأنّ عدمه لا يوصل المراد بالشكل المطلوب، بل يشتّت ذهن المتلقّي في الكثير من الأحيان، فقد ورد عن الإمام أمير المؤمنينg: >أحسَنُ الكلامِ ما زانَهُ حُسْنُ النِّظامِ، وفَهِمَهُ الخاصُّ والعامُّ<[23].

3ـ الاتّزان؛ بأن لا يتسبّب في خلق مشكلة في الوسط الاجتماعي فيخرم النّسيج الواحد، وأن لا يطرح غرائب الأفكار المستهجنة التي يستوحش منها العام والخاصّ، ويمجّها المختصّ وغيره.

أما المحتوى؛ فحرّي أن تؤخذ فيه هذه الأمور الأساسيّة، ومنها:

1ـ الأهميّة؛ فهناك من الموضوعات الكثيرة التي يمكن طرحها ولكن ينبغي تقديم المهم على غير المهم منها.

2ـ الأولويّة؛ حيث إنّه قد يكون الموضوع ذو أهمية ولكن لوجود أولويّة لموضوع ما على آخر فينبغي تقديمه، أي تقديم الأهم فالمهم وليس النّظر إلى مجرّد الأهمية الحاصلة في الموضوع المطروح.

3ـ الأصالة؛ بحيث لا يطال المحتوى، المبادئ والقيم، والمرتكزات في الدين الإسلامي.

4ـ الشمولية؛ بأن يتناسب مع الفئة المخاطَبة مكاناً وزماناً بمختلف الطبقات والفئات.

5ـ الدقّة؛ فكلّما كان الموضوع ذا مصداقية ومعتمداً على المصادر الموثوقة كان أكثر نفعاً وأبلغ أثراً.

الركن الثالث: المخاطَب (من يتلقّى الخطاب الدينيّ)

وهو أهمّ محور في عملية إنجاح الخطاب الدينيّ المطلوب والمرغوب، فإذا ما أردنا أن نصوغ خطاباً مميّزاً فلا بدّ من أن نأخذ بعين الاعتبار الفئة المخاطَبة، وذلك بـ :

الوقوف على خصائص المخاطَب؛ فمن البديهي أنّ التعامل مع أيّ شيء كان، إنساناً أم غير إنسان، لا بدّ وأن يكون منطلقاً من خلال المعرفة بطبيعة ذلك الشيء، وما هي ظروفه المكانية والزّمانية، وما هو مقتضى حاله؟!.

فلا يمكن للنجّار –مثلاً- أن ينجر بمهارة إلا من خلال معرفة أنواع الخشب وخصائصه من القوّة واللّين والسمك والضعف، والمناسب منه وغير المناسب، والقابل للنّحت وغيره، وإلا أثّر ذلك سلباً على مستوى إتقانه وأدائه في العمل. فهنا كذلك لا بدّ من معرفة خصائص المخاطَبين ليكون الخطاب الدينيّ ذا أثرٍ مميّز ونافع، وهذا ما سيأتي مزيد كلامٍ فيه في النقطة الثانية من هذا المبحث.

النقطة الثانية: كيف نصوغ خطابنا بآلياتٍ تتناسب مع الفئة المستهدفة منه؟

من الأمور اللاّزمة لكلّ من يوجّه خطاباً لأيِّ فئة كانت أن يلحظ الخصائص والصفات التي تتمتّع بها تلك الجماعة أو الأفراد، ومن ثمّ عليه أن يصوغ خطابه بناءً على تلك الخصائص والمميّزات التي يحملونها، وكلُّ ذلك لا بدّ أن يَصبّ في (الأهداف المتوخّاة) من وراء هذا الطرح.

وهنا سأقف لبيان أهم خصائص مرحلتين من مراحل الإنسان، وهما: (مرحلة الشباب - مرحلة الطفولة). فهاتان المرحلتان يُراد لهما إعداد خطابٍ خاصٍّ وبشكل نوعيٍّ وحاذق، لما لذلك من آثارٍ حسّاسةٍ ومهمّة لا تخفى.

أولاً: خصائص مرحلة الشباب

إنّ شريحة الشباب تعتبر أهم وأبرز شرائح كلّ مجتمعٍ من المجتمعات فإنّهم يساهمون بشكلٍ متسارع في رقيّها أو انحدارها، فلذا ينبغي أن تكون لغة الخطاب ومحتواه يتناغم بشكلٍ أساس مع تلك الحاجات الملحّة عندهم، وقد أشار الريشهريB لذلك قائلاً:

"غير أنّ المسألة الأساسية التي ينبغي الإشارة إليها في تقديم تلك التعاليم والإرشادات إلى جيل الشَّباب تكمن في كيفيّة استخراجها من القرآن الكريم والسنّة الشريفة، بحيث تكون متوافقة مع مقتضيات الزمان والمكان في كلّ مرحلة، إضافة إلى تقديمها النّماذج العينية من القيم الأخلاقية، وأن تتميز بأُسلوب عصري جديد يدفع الشّباب إلى مطالعتها، على سبيل المثال يمكن الإشارة إلى كتاب كيمياء المحبّة -الذي عرضنا فيه قسماً من تعاليم ديننا الإسلامي وإرشاداته، والذي توفر على الخصائص المذكورة- وقد تلقّاه جيل الشّباب بحفاوة بالغة"[24].

- ومن أبرز ما تمتاز به فئة الشباب هو:

1ـ حبّ الاستقلاليّة.

2ـ استعار الغريزية الجنسيّة.

3ـ التفكير في تكوين المستقبل.

فمن هنا؛ على المعني بالخطاب مع جماعات الشباب والبالغين أن يجعل ذلك نصب عينيه عند إعداده للخطاب وتقديمه لهم؛ كيما يكون خطابه خطاباً جذّاباً أخّاذاً في نظرهم، ويؤدّي النتائج المرغوبة.

وأيضاً: "من الخصائص الأخرى لفترة الشباب: عدم الانسجام مع واقعيّة الحياة؛ ذلك أنّ أحلام اليقظة ونبذ التعلّق بالواقع يؤدّي إلى بروز التضادّ بينأفكار الشباب السطحيّة والسّاذجة وبين واقعيات الحياة، فيصاب الشباب من جرّاء ذلك بنوعٍ من الإحباط الذي يؤدّي بهم إلى الاقتضاب في الكلام أو السكوت المطلق، وأحياناً اعتزال الناس والانفراد في زاوية من البيت"[25].

فإذا عرف الخطيب أو المبلِّغ ذلك؛ كان جديراً بأن يفكّر ملياً في كيفية استقطاب الشباب من عالم حلم اليقظة إلى عالم الواقع والحقيقية، لمواجهة عقبات الحياة بخطىً ثابتة على ضوء أهدافٍ مرسومة، ورؤية واضحة؛ كيما يخرج من أساطير الأوهام والأحلام التي يعيشها ويتداركه لأنْ لا يصطدم بواقعٍ مرٍّ فتّاكٍ فيما لو خُلِّي ونفسه.

ثانياً: من أهم خصائص مرحلة الطفولة

إذا ما جئت إلى المرحلة التي تسبق الشباب كالصبا ومن قبلها الطفولة فستجد أنهم يمتازون بخصائص أخرى، لا بدّ وأن يُنظر لها بعناية ورعاية، منها:

1- حبّ اللّعب والحبكة والألغاز؛ فإن أمكن للمتحدّث مع الأطفال والصبية بأن يوصل لهم الخطاب عبر اللّعب أو ما يسمّى في علم التربية: بـ (إستراتيجية التعليم بواسطة اللعب)[26]، بحيث يتمّ إيصال أهم المفاهيم والتعاليم عن طريق أساليبٍ وألعابٍ ينشط فيها أبناء هذه المرحلة لكونها تلبّي أهم حاجة من احتياجاتهم الفسيولوجية الطبيعية ألا وهو اللّعب.

ولذا تجد إخوة يوسفg عندما أرادوا أن يقدّموا لأبيهم مبرِّراً لاصطحابه ماذا قالوا؟! {قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى‏ يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ؟! أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ}(يوسف: 11-12).

فاحتجّوا بتوفير اللّعب لأخيهم ليأذن لهم باصطحابه.

2- التركيز على المحسوسات أكثر من المجرّدات؛ وهذا واضح جداً لمن تعامل مع سن الطفولة ورأى كيف أنّهم يأنسون كثيراً بما يحوطهم من أشياء وأشكال، بل يلتفون إلى دقائق الأمور الحسّية ويَلونها اهتماماً زائداً أكثر من غيرهم، فتجدهم لا يفتّرون من السؤال:

- ما اسم هذا الشيء الفلاني؟ - ولماذا هو بهذا الشكل، وليس بشكلٍ آخر؟

- وما هي فائدته، وكيف ينفعنا للاستفادة منه... إلخ؟

ولأجل ذلك ينصح التربويّون المعلّمينَ والمربّينَ أن ينطلقوا في بيان مراداتهم وغاياتهم التعليمية التعلّمية من خلال المادّة المحسوسة والتمثيل بها وتقريب الصورة إلى ذهنه بواسطتها، لا الجمود عليها[27].

3- محدودية القاموس اللُّغويّ في أذهانهم؛ فالمفردات التي يحملونها لا تشكّل ثراءً وسعة إلا بمدى ما تعلّموه في حداثة هذه السن، فيجدر بالمربّي والمعلّم والمبلّغ الذي يتعامل مع هذه الفئة العمرية -والتي تشكّل المرحلة التأسيسيّة للبناء- مراعاة هذه الحيثية بشكل كبير جدّاً؛ لأنّه من الصّعب أن تصل الفكرة إلى أذهانهم إلا عن طريق رسالة واضحة، وخطاب بيِّن المفردات، وإن كان المبلّغ يعاني من صعوبة في الخطاب لمثل هذه المرحلة وإن كان المحتوى الذي يتضمّنه ذلك الخطاب من أبسط ما يكون، ومن أبجديات المعلومات التي يمكن أن تقال، إلا أنه من الجيد أن تُنتَقى الكلمات التي تتناسب وهذا السن -الذي سيخاطبه ويلقي عليه الدرس أو الكلمة التوجيهية- بعناية فائقة لضمان وصول الرسالة إليهم كما ينبغي.

وتعقيباً على ذلك يقول الدكتور علي قائمي: "الطفل لديه نمط فكري عجيب، ولا يمكن فهم مخاوفه بسبب عدم إمكانية فهم لغة الطفل وما لديه من تصوّر وتخيّل"[28].

ولأجل إيضاح الفكرة وبيان أهمية وجود لغة واضحة وسلسة بين أطراف التّواصل، أذكر هذه القصة:

"عن أربعة أشخاص من جنسيات مختلفة اصطحبوا في طريقٍ، وبعد أن ضمّوا أموالهم إلى بعضها ليشتروا متاعاً لهم، رغم عدم معرفة بعضهم لغة بعض، قال الفارسي: من الأفضل أن نشتري (أنگور)، إلاّ أنّ العربي اعترضَ عليه قائلاً: لا، الأفضل أن نشتري (عِنباً)، فردّ عليه التركي: لا، الأفضل أن نشتري (أُزُم)، فاعترضَ الرومي قائلاً: الأفضل أن نشتري (استافيل)، ولو أنّهم دقّقوا جيّداً لاكتشفوا أنّهم لم يريدوا إلاّ شيئاً واحداً، وفي كلتا القضيّتين المتقدّمتين هناك بعض المشتركات، وهي:

1 ـ إنّ مراد المنادي والسامع، ومراد هؤلاء الأشخاص الأربعة شيءٌ واحد.

2 ـ في القضية الأولى كان المانع من وصول صوت المنادي إلى السامع هو بُعد المسافة.

3 ـ في القضية الثانية كان سبب الاختلاف بين الأشخاص هو عدم استيعابهم للغة بعضهم، ولكن ما الذي ينبغي لنا فعله لإيصال صوتنا ومرادنا والوصول إلى نتيجة عملية، للحيلولة دون وقوع النزاع والاختلاف والخصومة؟"[29].

فكلّما أوجدنا حواراً وخطاباً يتّسم بالتفهّم ومراعياً لتلك الخصائص والجوانب المختلفة التي يتميّز بها المخاطَب، كان ذلك أجدى وأنفع لإرساء دعائم الدين المحمدي الأصيل في نفوس الآخرين، وغدى ذلك الدين جذّاباً، واضح المعالم، ملبّياً للحاجة، فلا يجدوا بُدّاً إلا بأن يقتربوا منه أكثر فأكثر.

الخاتمة:

تحصّل لدينا ممّا سبق؛ النتائج التالية:

1- بأنّ هناك جدلاً عريضاً حول مصطلح الخطاب الديني، حيث تعدّدت الأفهام والمعاني المختلفة فيه.

2- المختار في هذه المقالة هو المعنى الثاني والثالث منها، وهما التطوير في لغة الخطاب ولا بأس بالإتيان بوسائل جديدة مع الحفاظ على الموروث الأصيل وتحسين أدائه بما يتناسب مع متطلّبات العصر الحاضر، وغير مقبول البتة أن يكون التّجديد في الخطاب الديني بمعناه الأول الذي يطال المبادئ والقيم والمرتكزات الثابتة بالدين والشريعة.

3- إذا ما أردنا أن نقدّم خطاباً دينياً جذّاباً فلا بدّ من رعاية الخصائص والمميّزات لكلِّ ركنٍ من أركان الخطاب الثلاثة، وهي: صاحب الخطاب، والمخاطَب به، وآخرها وهو الأهم (المخاطَب)؛ ومع مراعاة هذه الأهمية عند الفئات المخاطَبة بمختلف مستوياتها الثقافيّة والعمريّة والنّفسيّة سيكون الخطاب متناغماً مع حاجاتهم وملبيّاً للأهداف المرجوّة من وراء ذلك الخطاب.

والحمد لله ربّ العالمين أولاً وآخراً.

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] لسان العرب، لابن منظور، ج‏3، ص: 111، تحت مادّة: (جدد).

[2] المصباح المنير في غريب الشرح الكبير، ج‏2، ص 173، تحت مادّة: (خطب).

[3] تجديد الخطاب الديني (مفهومه، وضوابطه)، أ.د عياض السلمي، ص4.

[4] كتاب العين، الفراهيدي، ج‏8، ص53.

[5] تجديد الخطاب الديني (مفهومه، وضوابطه)، أ.د عياض السلمي، ص4.

[6] راجع؛ كتاب: تجديد الخطاب الديني بين الحقيقة والأوهام، السيد علي السلمان، المبحث الرابع، ص105.

[7] أمثال (الدكتور نصر حامد أبو زيد) في كتاب له تحت عنوان: (الخطاب الديني .. رؤية نقديّة)؛ وقد تعرّض فيه إلى بعض المتبنّيات الخطرة، منها: أنّ صحوة الأمّة لا تتحقّق بمجرّد العودة إلى الإسلام، فالإسلام لوحده لا يكفي، بل لا بدّ من الرجوع والأخذ بما قبل الإسلام أيضاً. فهو يرى بأنّ: "قراءة النصوص الدينية طبقاً لآليات العقل الإنسانيّ التأريخيّ، لا العقل الغيبيّ الغارق في الخرافة والأسطورة" –على حدّ قوله-؛ وهذا فيه ما فيه من اللّغط والخبط الكثير. [راجع/ كتاب في الميزان: الخطاب الديني – رؤية نقدية؛ للفريجي، عبدالله، في مجلة التوحيد العدد (72)، ويقع الكتاب الأصلي في (158) صفحة، ويشتمل على ثلاثة فصول، إصدار: دار المنتخب العربي للدراسات والنشر والتوزيع – لبنان].

[8] هناك ندوات تقام بين الفينة والأخرى يجتمع فيها مجموعة من الباحثين المتبنّين للتغيير الشامل أو بعضه في الدين بمعناه الوسيع الذي يشمل كلّ الأديان بما فيها الإسلام، وهم من بلدان مختلفة يجمعهم هذا الهم والهدف الخطير.

[9] الكافي، الكليني (ط - الإسلامية)، ج‏1، ص 43.

[10] المصدر نفسه، ج1، ص43.

[11] كمال الدين وتمام النّعمة، الشيخ الصدوق، ج‏2، ص 485.

[12] تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم، الآمدي، ص 110.

[13] تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم، الآمدي، ص 111.

[14] صحيفة همشهري: العدد 1607، ص3.

[15] ما يحتاجه الشباب، أحمد الصادقي، ج1، ص50.

[16] ميزان الحكمة، الريشهري، ج‏1، ص 499، نقلاً عن غرر الحكم: 3949.

[17] تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم (للآمدي)، ص 251.

[18] المصدر نفسه؛ ص251.

[19] مكارم الأخلاق، الطبرسي، ص460.

[20] بحار الأنوار، المجلسي، (ط - بيروت) ج‏2، ص119.

[21] معاني الأخبار، الشيخ الصدوق، ص 238.

[22] تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم (الآمدي)، ص 210.

[23] تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم (الآمدي)، ص 209.

[24] جواهر الحكمة للشّباب، الريشهري، ج1،ص11.

[25] ما يحتاجه الشباب، أحمد الصادقي، ج1، ص23.

[26] في التربية والتعليم: اللّعب وقيمته في التربية؛ (صحفية التعليم الإلزامي)، المربية زينب الحكيم، ص6.

[27] نفس المصدر، ص7.

[28] الأطفال ومشاعر الخوف والقلق، الدكتور علي القائمي، ج1، ص37.

[29] ما يحتاجه الشباب، أحمد الصادقي، ج1، ص49.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا