كيف ندخل المُدخل الكريم الذي وعد به الله؟

كيف ندخل المُدخل الكريم الذي وعد به الله؟

قال تعالى ( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً ) (1)

المقدمة:

الآية الشريفة من الآيات الداعية إلى الاستكمال، وهي تتضمن دعوة من صاحب الكمال المطلق الحقيقي وهو الله سبحانه وتعالى لتوجيه النفس إلى التربية والتهذيب والإصلاح بترك كل ما يوجب البعد عن معدن الرحمة والعظمة والجلال...

فهي إذن دعوة من الحق سبحانه وتعالى للدخول في ساحة رحمته من خلال الاجتناب عما حرم الله- وهو(الكبائر) -للفوز بالسعادة الأبدية أو حسب تعبير القرآن بالـ  (مُدْخَلاً كَرِيماً) 

لكن ما هي حقيقة الاجتناب وما هي هذه الكبائر المنهي عنها؟

أولاً: حقيقة الاجتناب:

الآية عبرت بالاجتناب ولم تعبر بالترك لماذا؟

بدأت الآية المباركة وقالت: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) فالآية المباركة عبرت بالاجتناب ولم تعبر بالترك فلم تقل (إن تتركوا) وإنما قالت (إِنْ تَجْتَنِبُوا) وذلك لأن الاجتناب أبلغ من الترك.

لماذا الاجتناب أبلغ من الترك؟

يقولون بأن الاجتناب أبلغ من الترك لهذه النكتة التي يشير إليها صاحب كتاب مواهب الرحمن حيث يقول: بأن الاجتناب ملحوظٌ فيه النفور والاشمئزاز وهو مأخوذ من الجنب الذي هو الجارحة.. فإن الإنسان إذا أعرض عن الشيء تركه جانباً، لا يعيره اهتماماً يضرب به عرض الحائط، إذن فهو يجتنبه بلحاظ هذه النكتة، يمكن أن نقول بأن الاجتناب أبلغ من الترك، وبعبارة أخرى نقول :(أن الاجتناب هو عبارة عن الابتعاد عن الشيء وملازمة تركه) (2).

واللطيف هو أن هذا اللفظ ذكر في القرآن في أربعة عشر موضع كلها تدل على أهمية المنهي عنه

كالطاغوت مثلاً ( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ) كذلك الرجس (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ ) كذلك سوء الظن عبرت عنه الآية بالاجتناب ( وَاجْتَبِوُا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ  )فمجموع الآيات الثلاث تدعوا إلى الاجتناب عما أراد الله أن يجتنب عنه، فلو أردنا أن نقرب المعنى أكثر فنمثل بآية سوء الظن، سوء الظن من الأمور التي دعا الحق سبحانه إلى الاجتناب عنها فالآية المباركة تحتوي على مطلبين الأول أصل عدم فعل الذنب والثاني حالة استنكار الذنب والاشمئزاز منه، حيث أن هذا الاستنكار للذنب والاشمئزاز  منه يمثل مسألة في غاية الأهمية وهي مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، و الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما هو واضح من تقسيم الروايات على ثلاث مراتب واحدة من هذه المراتب هي المرتبة القلبية التي تمثل حالة الاشمئزاز و استقباح هذا الذنب وهي أدنى مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

إذن خلاصة القول: أن الآية عبرت بالاجتناب ولم تعبر بالترك لأن الاجتناب ملحوظ فيه الاشمئزاز واستقباح الذنب، فهو إذن أبلغ من الترك.

وللاجتناب حقيقة وهي أن اجتناب العبد للكبائر يكون عن قدرة وإرادة إذا ملك العبد القدرة وملك الإرادة في الابتعاد والترك للذنب، نقول: أن هذا العبد اجتنب الكبائر مع قدرته عليها وإرادته لها.

فالكلام عن الاجتناب عن الكبائر يقع مع القدرة والإرادة على الإتيان بهذا الذنب، بمعنى أنه والعياذ بالله لو حصل للعبد ذنب يعد من الكبائر مثلاً، وهو يملك القدرة على الإتيان به ولكنه اجتنب ذلك الذنب فهنا يكون هذا العبد في مقام الذين ( نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً ) والقرآن الكريم يضرب لنا أروع الصور في هذا المجال، المعصية كانت قريبة منه ويملك قدرة ويملك إرادة على الإتيان بذلك الذنب ولكنه اجتنب ( قَالَ مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ) فنبي الله يوسف (ع) اجتنب وابتعد عن ذنب كان قريباً منه جداً، مع قدرته على الإتيان به.

 ثانياً:ما هي هذه الكبائر التي نهى الله عنها ؟

بصريح الآية المتقدمة هناك ذنوب عبرت عنها بأنها(كبائر) ويقابلها (الصغائر)، فما هي هذه الذنوب الكبيرة التي إذا تجنبها الإنسان يكفّر الله عنه السيئات؟

طبعاً وقبل الجواب على هذا السؤال هناك نكتة يجب الالتفات لها أولاً: وهو إنه إذا صح أن نقسم الذنوب إلى كبيرة وصغيرة لكن كلا الذنبين يشتركان في أصل واحد وهو المخالفة والعصيان على الله سبحانه وتعالى فهي إذن كبيرة من هذه الجهة. فقد ورد في الحديث عن النبي الأعظم (ص)أنه قال: ( يا أبا ذر لا تنظر إلى صغر المعصية ولكن انظر من عصيت).

وبعبارةٍ أخرى نقول: أن الذنب الكبير والذنب الصغير يشتركان في أصل واحد وهو مخالفة الحق سبحانه وتعالى وعصيان أوامره فبسبب هذه النكتة تكون كل الذنوب كبيرة ولا يوجد ذنب كبير ولا صغير. إذن إذا كانت الذنوب من هذه الجهة كلها كبيرة فإن سياق الآية يثبت بأن هناك ذنوب صغيرة لأنه عبر ( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ ) والكبائر يقابلها الصغائر.

نقول: ومع أن الذنوب تشترك في أصل واحد وهذا الأصل لا شبهة ولا إشكال في أنه يصير كل الذنوب إلى ذنوب كبيرة إلا أنه لا يوجد تنافي في أن تتصف الذنوب بالكبيرة والصغيرة إذا لوحظت فيما بينها، فإن كبر المعصية يدل على أهمية المنهي عنه وعظم المخالفة إذا قيس بالنسبة إلى النهي الآخر، من خلال هذا اللحاظ يمكن أن تكون هناك ذنوب صغيرة وذنوب كبيرة.

مثال ذلك: النظر إلى المرأة الأجنبية مثلاً يُعَدّ صغيرةً -ولكن بلحاظ- إذا قيس إلى سائر الاستمتاعات بها والمخالفة في الثاني أعظم وأكبر من المخالفة في الأول ويدل على ذلك قوله تعالى ( مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ ) و هنا توجد استفادة استفادها علماؤنا الأعلام وهي أنه يمكن أن نستفيد من قوله عز و جل ( مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ ) اختلاف المناهي في العظمة والأهمية.

ما هي الضابطة لمعرفة الذنوب الكبيرة؟

إذن الذنوب كلها تشترك في أصل واحد وهو المخالفة والعصيان إلا أنه يمكن تقسيمها إلى صغيرة وكبيرة إذا لوحظت فيما بينها، لكن ما هو المقياس أو ما هي الضابطة و الطريق لمعرفة الذنوب الكبيرة ؟ بمعنى: أنا أمام ذنبين، ذنب أول وذنب ثانٍ، كيف أستطيع أن أعرف أن الذنب الأول كبير والثاني صغير؟ ما هي الضابطة في ذلك؟

اختلفت آراء العلماء الأعلام في تحديد الضابطة لمعرفة الذنوب الكبيرة، نحن نذكر رأيين حتى لا يتشعب بنا الموضوع.

الرأي الأول (الرأي الفقهي):

 ما ذكر في الفقه و ذهب إليه الفقهاء، وهو أن كل ذنب أوعد عليه بالنار أو تعدد الخطاب فيه والنهي عن الإصرار والتكرار هذا يعد ذنباً كبيراً وهذا هو المقياس في تحديد الكبائر في الإسلام.

لذلك في الرسائل العملية لفقهائنا الأعلام يذكرون في مسألة من يجوز تقليده يذكرون أمور من ضمنها العدالة ومن تعاريفها أن لا يعمل الكبائر ولا يصر على الصغائر.

الرأي الثاني (الرأي التفسيري):

اختلف المفسرون في تحديد الضابطة لمعرفة الذنوب الكبيرة فالبعض قال بما قال به الفقهاء، والبعض قال أن الكبائر ما اشتملت عليه سورة النساء من أول السورة إلى تمام الثلاثين آية و كأن المراد أن قوله ( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ)، إشارة إلى المعاصي المبينة في الآيات السابقة عليه كقطيعة الرحم وأكل مال اليتيم والزنا ونحو ذلك، و هناك آراءٌ أخرى يذكرها صاحب كتاب الميزان في تحديد الضابطة لمعرفة الذنوب الكبيرة ويطرح مناقشته عليها (3).

ما هو السبب في اختلاف الأعلام في مسألة تحديد الضابطة في الذنوب الكبيرة؟

إذا كانت هذه الذنوب الكبيرة تمتلك هذه الأهمية بحيث أن المجتنب لها يحظى بالتكفير من قبل المولى ويدخل المدخل الكريم الذي وعد به الله سبحانه وتعالى نقول: لماذا لم توجد آية في القرآن تبين لنا ما هي هذه الذنوب الكبيرة حتى يتسنى للإنسان أن يجتنبها، كذلك بسبب اختلاف الروايات في هذا الصدد اختلف العلماء في تحديد الضابطة لمعرفة هذه الذنوب، فما هو السر في ذلك؟

نكتة يشير إليها صاحب كتاب مواهب الرحمن:

صاحب المواهب يشير إلى نكتة في السبب في اختلاف الأعلام في تحديد الضابطة لمعرفة الذنوب الكبيرة يقول (قده) : (إن اختلاف العلماء في تعريف الكبائر لا يرجى زواله، ولعل الحكمة في عدم تعيين الشرع لها، هي الإبقاء على إبهامها وإجمالها، ليكون العباد على وجل منها، فلا تهتك حرمات الله تعالى فيها، فلا يتجرؤوا على ارتكابها اعتماداً على التكفير بل يعزموا على ترك المعاصي كلها لاحتمال وجود الكبائر فيها كما أبهم عز و جل بعض الأمور مثل ليلة القدر ليعظم الناس باقي الليالي ويجدوا في العبادة وكذلك إخفاء أولياء الله بين الناس ليحترموا جميع الأفراد في المجتمع) (4).

إذن على الإنسان أن يجتنب كل الذنوب خشية الوقوع في ذنب كبير من حيث لا يشعر أو يصر على ذنب معين فيُصَيَّرَ إلى ذنبٍ كبيرٍ كما هو لسان بعض الروايات أن الإصرار على الصغيرة يُصَيِّرَها كبيرةً.

ثالثاً: هل من صدرت منه الكبائر يعد كافراً؟

في آخر البحث هناك نقطة حري أن نقف عندها، خلاصة هذه النقطة هي أنه من صدرت منه بعض الكبائر كالزنا أو كقطيعة الرحم فهل يعدّ هذا المذنب كافراً لعمله هذه الكبيرة؟

طبعاً هناك مذهب من المذاهب يكفر من صدرت منه الكبائر وهذا المذهب هو مذهب الخوارج حيث كفروا علي بن أبي طالب (ع) لما قبل بالتحكيم، ومذهبهم مبني بأن صاحب الكبيرة كافر. ويستدلون على صحة دعواهم بآيات من القرآن الكريم مثال ذلك قوله تعالى ( وَ للهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ)  (5) فقالوا أن تارك الحج كافرٌ.

كذلك من الآيات التي استدلوا بها قوله تعالى (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَّمِنْكُمْ مُّؤْمِنٌ) (6) وهذا يقضي أن من لا يكون مؤمناً فهو كافرٌ والفاسق ليس بمؤمنٍ، فوجب أن يكون كافراً.

وقد رد عليهم أمير المؤمنين (ع) بردٍّ وافٍ بين بطلان ما ذهبوا إليه فيقول(ع):( فإن أبيتم إلا أن تزعموا أني أخطأت وضللت، فلم تضللون عامة أمة محمد (ص) بضلالي، وتأخذونهم بخطئي، وتكفرونهم بذنوبي -إلى أن يقول- وقد علمتم أن رسول الله (ص) رجم الزاني المحصن ثم صلى عليه ثم ورّثه أهله، وقتل القاتل وورث أهله وقطع يد السارق وجلد الزاني غير المحصن ثم قسم عليهما من الفيء ونكحا المسلمات فآخذهم رسول الله (ص) بذنوبهم وأقام حق الله فيهم ولم يمنعهم سهمهم من الإسلام ولم يخرج أسماءهم من بين أهله ).

وقفة مع كلام الأمير (ع):

يقول (ع) إن كنتم تدّعون أن صاحب الكبيرة كافر فرسول الله(ص) رجم الزاني غير المحصن وقد عمل كبيرة من الكبائر ومع ذلك صلى عليه مع أنه لا تجوز الصلاة على الكافر فلو كان كافراً لما صلى عليه، وقطع يد السارق وجلد الزاني غير المحصن وكلها ذنوبٌ كبيرةٌ إلا أنه قسم عليهم من الفيء،فلو كانوا كافرين لما جاز لرسول الله (ص) أن يعطيهم من فيء المسلمين، لذلك قال أمير المؤمنين (ع):(فآخذهم رسول الله (ص) بذنوبهم وأقام حق الله فيهم ولم يمنعهم سهمهم من الإسلام) لكونهم لم يخرجوا عن ملة الإسلام بل أخطؤوا وأذنبوا وحتى لو كان الذنب كبيراً فإنه لا يخرج الإنسان من الإيمان إلى الكفر.

 

* الهوامش:

(1) سورة النساء، آية 31.

(2) راجع المواهب ج 8 ص117.

(3) راجع الميزان ص333/334.

(4) راجع المواهب ج 8 ص 113.

(5) راجع المواهب ج 8 ص 113.

(6) سورة التغابن، الآية 2.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا