كون المِائتي حُلَّة من أصناف الدية

كون المِائتي حُلَّة من أصناف الدية

بسم الله الرحمن الرحيم، وصلّى الله وسلّم على محمّد وآله.

أفاد سيّد الرياض (قدّس سرّه) أن المِائتي حُلَّة من أصناف الدية على الأشهر الأظهر(1)، ونفى عنه الخلاف في المفاتيح(2)، وادّعى عليه الإجماع في الغنية(3)، ولكن تأمّل أحد الأعلام المعاصرين (دام ظله) في كونها من أصناف الدية(4).

وجوه المسألة

وقد يحتجّ لذلك بأحد وجوه:

الأول: الإجماع والتسالم المقطوع به بين الأصحاب، وقد اعتُبِر عمدة الأدلّة على المسألة(5).

ويلاحظ عليه أنه وإن أرسل -كون المِائتي حلّة من أصناف الدية- في جلِّ كلماتهم إرسال المسلّمات، إلا أن الشيخ (قدّس سرّه)في النهاية- رغم إرساله (قدّس سرّه) ذلك في سائر كتبه إرسال المسلّمات- قد نسب فرديّة المِائتي حُلّة للدية إلى الرواية، قائلاً: "ودية العمد ألف دينار جياداً إن كان القاتل من أصحاب الذهب، أو عشرة آلاف درهم إن كان من أصحاب الورِق جياداً، أو مائةٌ من مسانّ الإبل إن كان من أصحاب الإبل، أو مائتا بقرة مسنّة إن كان من أصحاب البقر، أو ألف شاة. وقد روي ألف كبش إن كان من أصحاب الغنم، أو مائتا حُلَّة إن كان من أصحاب الحُلَل"(6)، والنسبة إلى الرواية في كتاب النهاية المعدِّ للفتاوى ظاهرة في عدم وجود إجماع وإلا لاستند إليه، ونضيف إلى ذلك على سبيل التأييد أن ابن أبي عقيل من الأقدمين لم يذكر ذلك في أصناف الدية، كما حكاه العلامة (قدّس سرّه) عنه في المختلف قائلاً: "وقال ابن أبي عقيل: الدية في العمد والخطأ سواء، على أهل الورِق عشرة آلاف، قيمة كلّ عشرة دراهم دينار، وعلى أهل العين ألف دينار، وعلى أهل الإبل والبقر والغنم من أيّ صنف كان قيمته عشرة آلاف درهم، وأطلق‏"(7)، وكذا الصدوق (قدّس سرّه) في كتاب الهداية قائلاً: "والدية على أصحاب الإبل مائة من الإبل، وعلى أصحاب الغنم ألف شاة، وعلى أصحاب البقر مائتا بقرة، وعلى أصحاب العين ألف دينار، وعلى أصحاب الورِق عشرة آلاف درهم‏"(8)؛ فإنه قد يقال: بأن عدم الذكر أعمّ من المخالفة، وبأن مخالفة ابن أبي عقيل (رحمه الله) لا تقدح في تحقّق الإجماع بلحاظ أصول تفكيره المعروفة.

وفي ضوء هذا فتحقّق التسالم والإجماع المحصّل في مسألتنا غير واضح. نعم ذلك هو المشهور، لا أنه الأشهر كما في الرياض.

الوجه الثاني: صحيح عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَجَّاجِ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي لَيْلَى يَقُولُ: كَانَتِ الدِّيَةُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِائَةً مِنَ الإِبِلِ، فَأَقَرَّهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلّى الله عليه وآله)، ثُمَّ إِنَّهُ فَرَضَ عَلَى أَهْلِ الْبَقَرِ مِائَتَيْ بَقَرَةٍ، وَفَرَضَ عَلَى أَهْلِ الشَّاةِ أَلْفَ شَاةٍ ثَنِيَّةٍ، وَعَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفَ دِينَارٍ، وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ عَشَرَةَ آلافِ دِرْهَمٍ، وَعَلَى أَهْلِ الْيَمَنِ الْحُلَلَ مِائَتَيْ حُلَّةٍ، قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَجَّاجِ: فَسَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) عَمَّا رَوَى ابْنُ أَبِي لَيْلَى، فَقَالَ: كَانَ عَلِيٌّ (عليه السلام) يَقُولُ: الدِّيَةُ أَلْفُ دِينَارٍ، وَقِيمَةُ الدِّينَارِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، وَعَشَرَةُ آلافٍ [درهم] لأَهْلِ الأَمْصَارِ، وَعَلَى أَهْلِ‏ الْبَوَادِي مِائَةٌ مِنَ الإِبِلِ، وَلأَهْلِ السَّوَادِ مِائَتَا بَقَرَةٍ أَوْ أَلْفُ شَاة(9).

ويتوجّه على الاستدلال به أولاً: أن ابن الحجّاج عرض نقل ابن أبي ليلى على الإمام (عليه السلام)، فتعقّبه (عليه السلام) بمقولة عليٍّ (عليه السلام)، وليس فيها للحُلَّة ذكرٌ أصلاً ناهيك عن عددها.

وأجيب عنه بأن عدم ذكر الحلل لا يدلّ على أنها ليست من أصناف الدية(10).

والإنصاف أنه ظاهر في الإعراض، وهو مانع من الاستناد إليه.

وثانياً: إن قوله: (وَعَلَى أَهْلِ الْيَمَنِ الْحُلَلَ مِائَتَيْ حُلَّةٍ) إنما هو في نقل التهذيب(11)، ولكنه في نقل الكافي والفقيه والاستبصار بل في بعض نسخ التهذيب(مِاْئَةُ حُلَّة)(12)، وقد أفتى بموجب هذا النقل الصدوق (رحمه الله) في المقنع(13).

وفيه: إن النقل الثاني يعطي كفاية المائتي حلّة بالأولويّة.

وثالثاً: -أنه لو تنزَّلنا عمَّا تعقّبنا به إجابة الإشكال الأول- أن ابن الحجّاج لم يروه عن الإمام (عليه السلام)، بل نقله عن ابن أبي ليلى عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مرسَلاً، ولا اعتبار بمسانيد الرجل فضلاً عن مراسيله.

الوجه الثالث: صحيح جَمِيلِ بْنِ دُرَّاجٍ فِي الدِّيَةِ، قَالَ: أَلْفُ دِينَارٍ أَوْ عَشَرَةُ آلافِ دِرْهَمٍ، وَيُؤْخَذُ مِنْ أَصْحَابِ الْحُلَلِ الْحُلَلُ، وَمِنْ أَصْحَابِ الإِبِلِ الإِبِلُ، وَمِنْ أَصْحَابِ الْغَنَمِ الْغَنَمُ، وَمِنْ أَصْحَابِ الْبَقَرِ الْبَقَر(14).

مناقشات وإجابات

وقد أُورد على الاستدلال بها عدّة مناقشات:

الأولى: إن الصحيحة مقطوعة؛ فإن جميل لم يسند متنها إلى الإمام (عليه السلام)(15).

وقد أجيب عنها بأنه من غير المحتمل التزام مثل جميل بن دُرَّاج بما لم يسمعه من الإمام (عليه السلام)(16)، سيما بعد انحصار طريق ما التزم به في التلقِّي منه، ولا مجال للاجتهاد فيه.

أقول: إن جميلاً لمّا كان يروي عن المعصوم (عليه السلام) بالمباشرة وبالواسطة، وروايته بالواسطة ليست متمحِّضة في النقل عن الثقة، فكما يروي عنه يروي عن غيره، ومعه فما نقله جميل مقطوعاً -وإن استبعدنا تلقّيه له عن غير المعصوم (عليه السلام)- إلا أنه من المحتمل روايته بالواسطة غير المعتمدة، فلا يعود حجّة. وهذه الملاحظة غير مختصٍّة بمقطوعة جميل، بل تتعداها إلى مقطوعات غيره ممن يشترك معه في التلقِّي عن المعصوم مباشرةً وبالواسطة معتمَدةً وغيرَ معتمدة.

نعم لمّا كان ما يزيد على النصف من روايات جميل-البالغة خمسمائة وسبعين مورداً- هي عن المعصوم (عليه السلام) مباشرة، وباقي رواياته -إلا عشرين أو تزيد قليلاً- والبالغة ما يزيد على الثلاثمائة مورداً هي عن الثقات من أصحابه، وأما العشرون مورداً أو يزيد عليها قليلاً فيرويها عمن ثبت ضعفه أو لم تثبت وثاقته، فيروي جميل إذن هذا المقدار عن هؤلاء في مقابل روايته في خمسمائة وخمسون مورداً بالمباشرة عن المعصوم أو بواسطة الثقات، (نعم لما كان ذلك) فيتضاءل جدَّاً لدى المقايسة احتمال كون مقطوعة جميل عمن ثبت ضعفه أو لم تثبت وثاقته، خصوصاً وأن جميل لا يروي عن كلِّ واحد منهم ما يزيد عن ثلاث روايات، فإنه يروي عن أغلبهم رواية رواية، وقد يروي عن بعضهم روايتين، وإذا زاد عن ذلك فلا يتجاوز الثلاث، بينما يروي عن المعصوم مباشرة ما قد عرفت، وعن زرارة ما يزيد على تسعين رواية، وعن محمّد بن مسلم خمساً وخمسين رواية، فالانصاف أن المطمئن به إن لم تكن المقطوعة عن المعصوم (عليه السلام) مباشرة، فهي عن أحد الثقات؛ لضآلة احتمال كونها عن الضعيف من أصحابه أو المجهول.

وهناك طريق آخر لإثبات أن ما نقله جميل نقل لقول المعصوم (عليه السلام) وبلا واسطة، وبيانه كما يلي: إن ما نقله جميل لا يخلو إما أن يكون فتوى له، أو فتوى لغيره، أو رواية عن المعصوم (عليه السلام)، ويبعِّد الأول نقل أصحاب الحديث له واعتناؤهم بروايته، كما يبعِّد الثاني جلالة جميل، فيتعيّن الثالث، وهو كون النقل روايةً عن المعصوم (عليه السلام)، ولكن يدور أمر هذه الرواية بين الرواية بالمباشرة وبين الرواية بالواسطة المجهولة، ويندفع الاحتمال الثاني ببركة أصالة الحسّ العقلائية، فيتعيَّن الأول.

كما أن هناك احتمال يوصل إلى نفس النتيجة ولا دافع له -بعد إبطال الاحتمالات المتقدّمة بما عرفت- وهو أن مضمون المقطوعة الذي نقله جميل كان من الواضحات والمسلّمات الفقهيّة المفروغ عنها، سيما أنه من عموميات الأحكام لا تفريعاتها.

المناقشة الثانية: ما في الرياض من أن في بعض نسخ التهذيب (الخيل) بدل (الحلل)، ومعه تعود الصحيحة أجنبيّة عمّا نحن بصدده(17).

ويلاحظ عليها أولاً: ما أجاب به عنها في الرياض من أن نسخة الكافي بما نقلناه واحدة، وأنها أرجح من نسخة التهذيب المزبورة، سيّما مع أن بعض نسخه أيضاً له موافقة(18). بل ليس فيما بأيدينا فعلاً من نسخ التهذيب نسخة تشتمل على لفظ (الخيل)؛ فإن نقل الشيخ الحرّ (قدّس سرّه) للرواية في الوسائل خالٍ من الإشارة إلى نسخة (الخيل)، وكذا نقل الفيض الكاشاني (رحمه الله) في الوافي(19)، ونقل السيّد البروجردي (قدّس سرّه) لها في الجامع(20)، فلاحظ.

وثانياً: إن المطمئَن به هو الثاني ولو بقرينة الفقرات اللاحقة.

المناقشة الثالثة: إن ذيل صحيحة ابن الحجّاج يدلّ على نفي كون المائتي حلّة من أصناف الدية، فيتعارض مع مدلول صحيح جميل(21).

ويلاحظ عليه أن صحيح جميل أظهر في دلالته على ثبوت دية الحلل من دلالة ذيل صحيحة ابن الحجاج في نفيها.

المناقشة الرابعة: إن الصحيحة مطلقة من جهة عدد الحُلَل؛ فإنه ليس فيها سوى الدلالة على ثبوت أصل الحُلَّة دون عددها(22)، فلا بدَّ من الأخذ بالقدر المتيقَّن كونه ديةً من الحلل، وهو مائتا حلّة، والاكتفاء بمائة -وهو مختار الصدوق (رحمه الله) في المقنع، كما تقدّم- غير ثابت؛ فإن مائتي حلّة هو نقل التهذيب لصحيحة ابن الحجّاج المتقدِّمة، وهو محتمل في الواقع بلا دافع(23).

ويلاحظ عليها أنه لا إطلاق للصحيحة؛ لعدم كونها بصدد البيان من هذه الجهة -لا أن لها إطلاقاً ولا يمكن الأخذ به؛ لعدم الاكتفاء بثلاث حلل، وهو أقل الجمع- فلا محالة من الأخذ بالقدر المتيقَّن كونه ديةً من الحلل، وهو ما يساوي بحسب القيمة ألف دينار أو عشرة آلاف درهم؛ فإنهما الأصل في الدية في نفس هذه المقطوعة، لا مائتا حلّة بلا شرط؛ فإن هذا الاحتمال إنما يدفع ما دون المائتين ولا يدفع ما فوقها.

اللّهم إلا أن يقال: بأن النوبة لا تصل إلى الأخذ بالقدر المتيقّن؛ لأنّه وإن لم يتم الإجماع التعبّدي والمحصّل على كون المائتي حلّة صنفاً من أصناف الدية -لما تقدّم-، إلا أنه -بعد أن ثبت أصل كون الحلل من أصناف الدية بمقطوعة جميل- توجد مفردات فتوائية تشكِّل إجماعاً فتوائياً على كون المائتي حلّة لا أقل ولا أكثر هو عدد الحلل في الدية، لا يشذّ منه أحد من العصابة الكرام، فيدخل فيه الشيخ الصدوق (رحمه الله) بملاحظة اكتفائه بالمائة حلّة في كتاب المقنع، فبالأولوية تكفي المائتان، ويدخل فيه شيخ الطائفة (قدّس سرّه) أيضاً بملاحظة غير النهاية من كتبه المتأخِّرة عنها التي أرسل فيها كون المائتي حلّة من أصناف الدية. فتأمّل.

فتحصّل تماميّة صحيحة جميل-بعد ضم الإجماع الفتوائي إليها- على كون المائتي حلَّة صنفاً من أصناف الدية، ولو تنزّلنا عن الإجماع المذكور فكذلك لو ضممناها إلى عنصر القدر المتيقّن بمساواة الحلل قيمة للألف دينار أو العشرة آلاف درهم، ولو نوقش في كون الدنانير والدراهم أصلاً، فتتم دلالة الصحيحة أيضاً بعد ضم عنصر القدر المتيقّن، والمتيقّن من عدد الحلل ما يساوي بحسب القيمة واحداً من الأصناف الأخرى للدية كالألف دينار مثلاً.

تفصيلات في فروع

الأول: الظاهر أن الحلّة لا تكون أقل من ثوبين، فقد صرح أكثر فقهائنا بكون كلّ حلّة ثوبين، وفي الجواهر المفروغيّة عن ذلك(24)، وقد فسّرت الحلة في كلمات أهل اللّغة مرّة بالثوب الجيّد، وأخرى بالثوب الجيّد الجديد، وثالثة بالثوبين، ورابعة بالثوبين بقيد كونهما من جنس واحد، وخامسة بالأثواب الثلاثة القميص والإزار والرداء(25)، إلا أن أكثرهم على تفسيرها بالثوبين، فعن أبي عبيد: الحلل: برود اليمن، والحلة: إزار ورداء، لا تسمّى حلّة حتى تكون ثوبين(26)، وعن ابن الأثير: الحلة: واحدة الحلل، وهي برود اليمن، ولا تسمّى حلّة إلا أن تكون ثوبين من جنس واحد(27)، ومثله في المصباح المنير من غير تقييد بكونها من برود اليمن(28)، وعن عين الخليل: الحلّة إزار ورداء، برد أو غيره، لا يقال لها حلّة حتى تكون ثوبين، وفي الحديث تصديقه(29)، وعن القاموس: لا تكون الحلّة إلا من ثوبين أو ثوب له بطانة(30). وفي ضوء تفسير معظم أهل اللغة للحلّة بالثوبين تسكن النفس وتطمئن بذلك، والاطمئنان حجّة عقلائيّة غير مردوع عنها، والأدلّة الناهية عن العمل بالظن لا تتناوله؛ لخروجه عن موضوعها في نظر العقلاء؛ فإنه علم عندهم يتعاملون معه تعاملهم مع العلم الوجداني.

ثمّ إنك قد عرفت من عرض كلمات اللغويين اختلافها في خصوصيات الحلّة فلا مجال للخدشة في عقلائية منشأ الاطمئنان، بأن يقال بتسلسل كلمات أهل اللّغة زماناً بحيث يتأثر اللاحق بالسابق، فيعود منشأ الاطمئنان غير عقلائي، والحال أن الاطمئنان الحجّة هو ما كان له منشأ عقلائي.

الثاني: اعتبر الفاضلان والشهيدان قدِّست أسرارهم في الثوبين كونهما من برود اليمن(31)، وبعض ما تقدّم من كلمات أهل اللغة وإن اشتمل على ذلك، إلا أن بعضاً آخر منها مطلق أو صريح في الأعم من البرود كعبارة العين، فمع صدق الحلّة على غير برود اليمن يكتفى بها، ولا ضرورة للأخذ بالقدر المتيقّن كما عن بعض الأعلام(32)، نعم بناء على ثبوت كون الحلل من أصناف الدية بالإجماع يقتصر على القدر المتيقّن لهذا الدليل اللّبي، ولا يكتفى بصدق الاسم كما عن بعض الأعاظم (قدّس سرّه)(33).

ودعوى أن المنساق من الحلّة حلّة اليمن(34) غير بيِّنة ولا مبيَّنة.

ولو شككنا في اعتبار كون الحلة يمنية ففي بعض الكلمات أن الأصل يقتضي عدم الاعتبار(35). والأصل الجاري في المقام ليس هو أصالة البراءة؛ لأن جريانها فيه خلاف الامتنان، بل المقام من موارد الشك في اشتغال الذمّة بالقيد، فإن لم يكن مجرى للبراءة، فهو مجرى لاستصحاب عدم الاشتغال، ودليل الاستصحاب لم يرد مورد الامتنان، وإلا لجاء الإشكال في كلّ شكٍّ في مقدار اشتغال الذمّة من حقٍّ أو دَين.

هذا وفي المقام لا نرى بأساً في إجراء أصالة عدم اعتبار مطلق الثوبين في الدية، ولا يعارضها أصالة عدم اعتبار كون الثوبين من برود اليمن في الدية، والوجه في عدم التعارض أن الثوبين من برود اليمن يجزيان قطعاً، فلا مجال لأصالة عدم اعتبارهما ديةً حيث لم يثبت كون الدية مطلق الثوبين(36).

ثمّ إنه -بناءً على اختصاص الحلّة بحلّة اليمن إمّا لقول اللغويين أو لأنها القدر المتيقّن أو لغير ذلك- لا شاهد على التعدّي منها إلى حلّة نجران -كما اتفق من ابن إدريس (قدّس سرّه)(37)- لو اختلفا في الجنس، حتى لو بنينا على أن نجران من اليمن.

الثالث: نقل بعض أهل اللّغة في تفسير الحلّة بالثوبين اعتبار كونهما من جنس واحد كما عن ابن الأثير والمصباح المنير، وهذا القيد وإن لم يعارضه إطلاق البعض الآخر، إلا أنه قد يقال بعدم حجّيّة قول اللّغوي؛ لاختصاص البناء العقلائي بقول الخبير في الأمور الحدسيّة، وأن تحديد معاني المفردات اللغوية ليس منها.

ولكن يقال في مقابله: إنه ليس من الجزاف في القول من دعوى شمول البناء العقلائي لقول الخبير إذا كان الأمر الحسّي مما لا ينال عادة إلا بالحدس كالأوضاع اللغوية في زماننا نظراً لبعد المدّة، فلنا أن نأخذ بقول اللغوي الخبير مثل الخليل أو الجوهري في قوله أن المفردة الكذائية موضوعة للمعنى الكذائي اعتماداً على تبادر المعنى من اللفظ لديه.

الرابع: يعتبر في ثوبي الحلّة صدق اسم الثوب عرفاً عليهما، فلا يُكتفى بمجرد ما يستر العورة خاصّة.

 

* الهوامش:

(1) رياض المسائل16: 345.

(2) مفاتيح الشرائع2: 143.

(3) غنية النزوع إلى عملي الأصول والفروع: 412.

(4) منهاج الصالحين المحشّى بتعليقة الشيخ الوحيد الخراساني (دام ظله) 3: 537 (تكملة منهاج الصالحين) م204.

(5) رياض المسائل16: 345، موسوعة الإمام الخوئي (قدّس سرّه)42 = مباني تكملة المنهاج 2: 233.

(6) النهاية في مجرد الفقه والفتاوى: 736.

(7) مختلف الشيعة 9: 288 م3.

(8) الهداية في الأصول والفروع 1: 301.

(9) وسائل الشيعة 29: 193- 194 ب1 من أبواب ديات النفس ح1.

(10) الموسوعة الفقهيّة للميرزا التبريزي (قدّس سرّه) = تنقيح مباني الأحكام(الديات): 14.

(11) تهذيب الأحكام10: 160 ح19.

(12) الكافي 7: 280 ح1، الفقيه 4: 78 ح245، الاستبصار 4: 259 ح975.

(13) المقنع: 514.

(14) وسائل الشيعة 29: 195 ب1 من أبواب ديات النفس ح4.

(15) موسوعة الإمام الخوئي (قدّس سرّه) 42 = مباني تكملة المنهاج2: 233.

(16) الموسوعة الفقهيّة للميرزا التبريزي (قدّس سرّه) = تنقيح مباني الأحكام(الديات): 14.

(17) رياض المسائل16: 346.

(18) رياض المسائل16: 346.

(19) الوافي16: 598 ب90 من أبواب القصاص والديات ح10.

(20) جامع أحاديث الشيعة 26: 308 ب1 من أبواب الديات ح13.

(21) أشار إليه في الموسوعة الفقهيّة للميرزا التبريزي (قدّس سرّه) = تنقيح مباني الأحكام(الديات): 14.

(22) رياض المسائل16: 346، الموسوعة الفقهيّة للميرزا التبريزي (قدّس سرّه)= تنقيح مباني الأحكام(الديات): 16.

(23) الموسوعة الفقهيّة للميرزا التبريزي (قدّس سرّه)= تنقيح مباني الأحكام(الديات): 16

(24) جواهر الكلام43: 9.

(25) لاحظ تاج العروس14: 160.

(26) حكاه عنه في الجوهري في الصحاح4: 1673.

(27) النهاية في غريب الحديث لابن الأثير1: 432.

(28) المصباح المنير1: 148.

(29) العين3: 28.

(30) القاموس المحيط3: 370.

(31) شرائع الإسلام4: 251، قواعد الأحكام3: 666، الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقيّة4: 487 ط مجمع الفكر الإسلامي.

(32) تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة (ك الديات): 17. الموسوعة الفقهيّة للميرزا التبريزي (قدّس سرّه)= تنقيح مباني الأحكام(الديات): 16، نعم ذيّل كلامه بقوله (قدّس سرّه): «الّلهم إلا أن يقال بعدم الإهمال في صحيحة جميل إلا من حيث العدد، وأمّا من كونها من برود اليمن فالإطلاق يدفعه» وهو كما أفاد.

(33) موسوعة الإمام الخوئي (قدّس سرّه)42= مباني تكملة المنهاج2: 234.

(34) مهذب الأحكام29: 72.

(35) فقه الصادق26: 180.

(36)  لاحظ الموسوعة الفقهيّة للميرزا التبريزي (قدّس سرّه)= تنقيح مباني الأحكام(الديات): 16.

(37) السرائر3: 323.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا