قراءة التاريخ بين النّقل والعقل

قراءة التاريخ بين النّقل والعقل

الملخّص:

 (يتعرض الكاتب إلى توصيف واقع التعامل مع التاريخ قراءة وعرضاً، مؤكّداً على سبع مبرّرات تدعو إلى ضرورة التدقيق في قراءة التاريخ، ذاكراً مواصفات المحقق في التاريخ ومشيراً إلى أهم ضوابط التحقيق التاريخي، لينتهي إلى نتيجة مفادها ضرورة قراءة التاريخ قراءة سليمة بعيدة عن هوس الرفض أو حمى قبول الروايات التاريخية بلا تدقيق).

المقدمة

"يتطلّب منّا البحث والتنقيب في التاريخ جدٌّ ودقّةُ نظرٍ وموضوعيّة وموسوعية في ذلك كلِّه، علَّنا نصل إلى شيء من صورةٍ تقلُّ فيها الشوائب عن جملة من الأحداث التاريخية، ولذا يجب على كلِّ من يدخل في هذا المجال عدم الجزم السريع إلا بعد إعمال النَّظر الذي يستحقُّه الموضوع المبحوث عنه لا سيَّما إذا كان للحدث التاريخي انعكاسات على المستوى الديني، وأيّ مجال آخر يلقي بظلاله على فكر وسلوك المجتمع"([2]).

ولا يخفى أنَّ التاريخ كالأحداث اليوميَّة التي نعيشها وننقلها إلى الآخرين، فقد يضاف عليها أو يحذف منها لأغراضٍ مختلفة سواء لإعلاء شأن صاحب الحدث أو لخفض منزلته، أو غيرها من الأغراض ولو بأن يكون الحذف مبرِّرُه الخوف على النّفس أو المال أو العرض من نقل الحقّ من الأحداث، كما أنَّ من الأحداث فيها ما يقف العقل حائراً في قبولها مع وقوعها في الخارج فيبدأ التشكيك في عدم إمكان وقوعها وهي قد وقعت بالفعل كالمعجزات التي لا يؤمن بها الكثير لو لا إخبار القرآن بها.

مع هذا يلزم الأخذ بعين الاعتبار العوامل المختلفة لا سيَّما المتعلّقة بالجانب السياسي وما تفرضه الحروب الإعلامية بتعبير اليوم.

ومع هذا كلِّه لا ينبغي أن يُرفض كلُّ التاريخ بسبب أنّه قد ورد فيه مقدار من التشويش والتحريف، ولا أن نقبل كلَّ ما جاء فيه حتى لو كان متناقضاً في نقل الأحداث التاريخيّة بحجّة أنْ لا يضيع الواقع. وعلى هذا لا بدَّ من اقتناص الحقائق من التاريخ عبر ضوابط قراءة التاريخ، ولا يصلح إعمال الضوابط الأخرى كضوابط قبول الروايات الفقهية، فكلّ ضوابط لها مجاري ومواضع للتطبيق فلا ينبغي الخلط.

ولا نغفل أنَّ في الروايات التاريخية رواياتٌ لها جنَبات عقدية أو فقهية فهذا القسم من اللازم أن تُطبَّق عليه الضوابط المختصة بالجانب العقدي والفقهي، ولا بدَّ من أن يكون التطبيق من أهل الفنِّ خاصَّة لأنَّهم أهل اختصاص وأدرى بمواضع وكيفيّة التطبيق.

ولذا ينبغي التريّث في قبول أو رفض الروايات التاريخيّة والتعامل معها كما ينبغي؛ كي لا نقع في محذور الإعراض عن ما هو واقع فنحرم أنفسنا والأجيال من الاستفادة من ذلك الحدث، أو محذور الإضافة ما لم يقع أصلاً لا سيّما إذا كان له أثر على السلوك فضلاً عن المعتقد. وعلى هذا فكون التاريخ من الممكن تزييفه حقيقة لا ينبغي أن يوجد جدل فيها بأن يشكّك أحدهم بقوله: وهل يمكن للتاريخ أن يُزيّف!

فإن التاريخ قد كُتب بأيدٍ مختلفة في التوجه والمقاصد والأغراض، وكذا مختلفة من حيث التضييق والفسحة في الكتابة، ناهيك عن الفوارق الشخصية التي قد توجد بين مؤرّخ وآخر مما يوجِد زيادة ونقصاً في عرض الأحداث... ومن هنا تكمن أهميّة تجميع كلِّ ما يمكن جمعه من كتب التاريخ وتحليله وعرضه على الضوابط المختصّة بقراءة التاريخ لينطلق الباحث في التاريخ باحثاً عن الحقيقة المفقودة أو المغيّبة بين أخبار مدسوسة أو غير دقيقة، لا أن يبحث عن ما يدعّم موقفه الخاص من قضية من القضايا وهذا يكون ممن يساهم في تحريف التاريخ.

ولا بأس أن نؤكِّد على الحاجة إلى التدقيق والتحقيق في المسائل التاريخية كي لا يدخل لنا الدخيل والمكذوب والأساطير في موروثنا التاريخي، كما أنّه ليست المسائل التاريخيّة مسرحاً لإجراء قاعدة التسامح في أدلّة السنن، وليس ينبغي التوسّع في ما يعبّر عنه بلسان الحال لنفاجأ باختلاق أحداث جديدة لم تذكر ولم يشر إليها في كتب التاريخ، وليس جائزاً الاعتماد على أنّ الغاية تبرر الوسيلة.

التفكير النقدي للتاريخ:

قد يقع البعض في فخِّ تغييب الحقائق التاريخيّة أو المساهمة في تشويشها في الأذهان بسبب بعض العناوين البرّاقة كالتفكير النّقدي، فيدّعي الرّبط المنطقي للأحداث وتحليلها لينتهي إلى الرفض أو للتشكيك لما ورد من أحداث فيدقّق حيث لا ينبغي التدقيق ويتساهل حيث ينبغي التدقيق ويُعمل ضوابطاً في غير محلّها ليصل إلى مرامه، وبعنوان التفكير النّقدي يثير التشكيكات بعنوان التساؤلات وهو لم يحسم نتائجها.

ينبغي على من يدعي التفكير النّقدي أن يكون موضوعيّاً في تعريفه وتحليله للقضايا التاريخية بحيث يتجرّد عن ميولاته النفسية وقبلياته ومن ثمّ النظر في الكتب التاريخية ليجمع منها ما يوصله إلى أقرب صورة قد وقعت، واليوم للأسف عندما يدخل البعض في مسألة تاريخيّة على سبيل المثال نجده يحمل فكرة الرّفض لحدثٍ ما فيبدأ بالاستدلال عليه مُهمِلاً أيَّ دليلٍ يخالف قناعته؛ فيأخذ من كتب التاريخ ما يريد ويهمل الباقي، وعين الكلام في بعض من يريد إثبات حدث.

ولا يفهم ممَّا سبق الدعوة لمعارضة ورفض للتفكير النّقدي فهو مطلوب؛ لأنّه يعطي افتراضات وتساؤلات تفتح آفاقاً للتدقيق فيما ينقل وتعين الباحث على جمع ما يؤيّد ويعارض هذه الفرضيات أو التساؤلات ليتسنّى له الخروج بأدقّ النتائج بعد دراستها، ولكن المعارضة تكمن في استغلال هذا العنوان استغلالاً سلبياً.

أهميّة مفردات التاريخ

"لا بدَّ لمن يريد الإفادة من كتب التاريخ الإسلامي من أنْ يفتح عينه ووعيه لكلِّ كلمة منه، فيطالعها بوعي ويقظة وحذر، يسعى لاستخلاص ما ينسجم منه مع الواقع ويردّ ما عداه، ممَّا مال به القائل أو لعبت به الأهواء، ولا سيَّما ما يتعلَّق منه بصدر الإسلام، ممَّا يتحكَّم فيه الهوى المذهبي والتزلّف إلى الخلفاء والأمراء والحكَّام فيذكر الأمر منقطعاً عن علله وعوامله ومنفصلاً عن أسبابه وجذوره، وذلك بفعل التعصُّب البغيض والظلم الكثير، فالمؤرّخ كان لا يكتب ولا يثبت إلا ما ينسجم مع نفسيّة الحاكم، ويتّفق وقوله، مهما كان مخالفاً للواقع والحقيقة، ولاتجاه المؤرّخ عقيدته أيضاً، فهو يشوّه أموراً صدرت من الحاكم أو غيره ويحيطها بالغموض والإبهام، أو يهمل أحداثاً ويتجاهل شخصيّات لها أثرها في التاريخ، ويختلق أحداثاً أو شخصيّات لا وجود لها، أو يسهب الكلام في وصف غرام أو مجلس رقص أو غناء وشراب ويعنى بأمور حقيرة تافهة. بينما مهمّة المؤرّخ هي أن يعكس حياة الأمّة وما عرض لها من أزمات فكريّة واجتماعيّة وسياسيّة واقتصاديّة، وبصورة عامّة كلّ ما مرّت به من أوضاع وأحوال، وذلك بدقّة وأمانة وليس بخافٍ ما في ذلك من الأثر الكثير في حياة الأمّة ووضعها في الحال الحاضر: عقائديّاً وعلميّاً وأدبيّاً واجتماعيّاً، حسب اختلاف الأحداث عمقاً وشمولاً، ولا ينفى ترتّب هذا الأثر البارز أن يكون الحدث التاريخي قد مرّ على تاريخه أكثر من ألف عام."([3])

مبررات التدقيق في التاريخ:

1-  التأخّر في كتابة التاريخ الإسلامي خصوصاً.. فلم يشرع المؤرّخون في الكتابة إلا بعد ما يزيد على المائة سنة من ارتحال النبيّe، بل أكثر من ذلك حيث "نرى التعتيم الذي اصطنعه بنو أميّة وبنو مروان على معالم الشخصيّة النبويّة، مستفيدين من سياسة المنع من الحديث عن النبيe بل إحراق ما كتبه كبار الصحابة عنه: ابتداءً من الخليفة الأوّل إذ أحرق خمسمائة حديث كان قد جمعها هو من أحاديث رسول اللهe. ثمّ اشتدّ الأمر على عهد الخليفة الثاني فإنّه جمع ما كتبه الصحابة عن رسول اللهe وأحرقه.."([4])

2-  تفشّي الكثير من اختلاق الروايات والأحاديث التاريخية تستخدمها السلطات بالدرجة الأولى للغلبة وتثبيت العروش، بل إنّ سوق الوضّاعين قد ازدهرت لانعدام الروايات المدوّنة عن النبيe حتى حرّفت الفرائض ونبذ الكتاب، وتركت سنن النبيe([5]) حتى قال أنس ابن مالك: " لا اعرف شيئا مما أدركت الا هذه الصلاة وهذه الصلاة قد ضيعت"([6])! ومن أسباب ترك بعض سنن النبيe بغض عليّ بن أبي طالب حيث تركوا الجهر بالبسملة لذلك حتى "قال ابن عبّاس: "اللهم العنهم فقد تركوا السنّة من بغض عليّ"([7])، حتى بلغ الحال بالنّاس على عهد عليّ بن الحسينg أن كانوا لا يعرفون كيف يحجّون بل كيف يصلّون.."([8])

3-  إضافة أو حذف الكثير من المؤرّخين وغيرهم في التاريخ ما ليس فيه بسبب الحبّ أو البغض.

4-  حدّة الخلافات السياسيّة سبّب اختلاق الآلاف من الأخبار، وبدأ هذا الأمر من بعد ارتحال الرسولe مباشرة فيما يتعلّق بالزهراء وفدك وخلافة الأميرg وما جرى من أمر عائشة وكيف أشاع أنصارها ما يؤيّد دعواها.

5-  إيجاد التبريرات لتصرّفات الحكّام والانحرافات السخيفة عن طريق تصوير النبيe بصورة مشوّهة كي تتقارب سلوكياتهم مع سلوكياته.

6-  النظرة السلبية للنبيّe وأقواله وأفعاله مما يستدعي التدقيق في ما ينسب إليه من أحداث، حتى كانوا ينظرون إلى أقوال النبيe بنظرة مساوية لأقوال الصحابة فقد يرجّحون قول الصحابي على قول النبيّe عند التعارض([9]) وصار من يقرب من النبيّe منبوذاً حتى ترك ابن الزبير الصلاة على النبيe في خطَبه، وأجبر أربعة وعشرين رجلاً على بيعته ولما امتنعوا أخرجهم من مكّة ولم يراعي قرابتهم للرسول ومكانتهم عنده، منهم محمد بن الحنفيّة وعبد الله بن عبّاس فنفى الأول إلى رضوى والآخر إلى الطائف وتوفّي فيها([10]).

7-  كتّاب التاريخ كتبوا التاريخ إما للسلاطين أو لا للسلاطين إلا أن كلا الحالين وجودهم تحت السلطان لا يعطيهم الحرّية في نقل الأحداث كما هي وإن خالفت هوى السلطان. أمثال ابن إسحاق كتب سيرته للمنصور وابنه، والواقدي كتب للرشيد ووزيره يحيى البرمكي.

كتب تاريخية وصلت إلينا:

1-  محمد بن إسحاق بن يسار المدني -وقيل بشّار- بن خيار من سبي عين تَمْر بالعراق (م153هـ) كتب في سيرة النبيe، ووصل قسم مما كتبه برواية ابن هشام عن البكّائي، ومن هنا تكمن أهمّية كتاب سيرة ابن هشام وإن كان ينقل ما كتبه ابن إسحاق ويخضعه إلى الغربلة فقد يختصر وقد يضيف وقد يناقش أحياناً، ولذا فإنَّ سيرة ابن هشام هي في الواقع سيرة ابن إسحاق إلا أنَّ ابن هشام لمّا هذّبها ونقّحها وأضاف عليها سمّي الكتاب باسمه. لكنّه يسجّل عليه أنّه حذف ما ثبت عنده ولم يرق للبعض سماعه كما صرّح بذلك في مقدّمة كتابه، وهذا يعني أنَّ هناك قسماً من التاريخ قد تعمّد تغييبه ابن هشام.

2-  أبو مخنف لوط بن يحيى الأزدي الكلبي الكوفي (م157هـ).. ولهذا الكتاب طبعة قديمة غير محققة قد كثر فيها الطعن والذمّ... ولأهميّة الكتاب أعاد تحقيقه الشيخ محمد هادي اليوسفي الغروي فطبعه بعنوان مقتل أبي مخنف، ولا كلام على المؤلف فقد قال عنه النجاشي: "لوط بن يحيى بن سعيد بن مخنف بن سالم الأزدي الغامدي أبو مخنف، شيخ أصحاب الأخبار بالكوفة ووجههم، وكان يسكن إلى ما يرويه"([11]).

3-  محمد بن عمر بن واقد المعروف بالواقدي كتب كتاباً في السيرة باسم (المغازي) (م207). ولهذا الكتاب منزلة خاصّة عند أصحاب السير لما للواقدي من إعمال للمنهج التاريخي العلمي الفنّي، وتظهر دقّته في النّقل فيذكر أولاً أسماء من نقل عنهم الحادثة وترتيب الحوادث والغزوات ترتيباً تاريخياً محدّداً، ويذكر تفاصيل الغزوة غير مغفل أدقّها، فمثلاً يذكر الموقع الجغرافي بدقّة، وأسماء من استخلفهم النبيe في المدينة، وشعار المسلمين في تلك الغزوة محاولاً إسناد ما يذكر من أحداث أيضاً. وحكي عن من اختبره وسأله عن بعض الأحداث والمواضع فبيّنها وكان كما ذكر.

وينقل أنّ هارون الرشيد زار المدينة فأراد من يدلّه على القبور فدلّوه على الواقدي فلم يبقَ قبرٌ إلا ووقف عنده وأخبره بصاحبه وما فيه. وله كتاب (فتوح الشام وفتوح العراق) ويظهر أنَّه لم يصل إلينا إلا من خلال ما نقل منه البلاذري في كتابه (فتوح البلدان)، وابن كثير نقل حوادث عام 64هـ في كتابه (البداية والنهاية)، والطبري نقل عنه كثيراً من حوادث النصف الثاني من القرن الثاني في كتابه تاريخ الطبري.

مواصفات الباحث التاريخي:

وهنا نشير إشارة عابرة إلى أهمّ ما ينبغي أن يتصف به الباحث في التاريخ:

1-  سعة الاطلاع، وبعد النظر.

2-  شدّة الحبّ للحقّ مما يسترعي منه اتباعه، مبتعداً عن كلّ تعصّب مذهبيّ مقيت، مع عدم الانشداد لما ورثه من أهله وقومه.

3-  المعرفة بأمراض التاريخ وعلله، والإلمام بظروفه ومراحله.

4-  الورع في إصدار الأحكام.

5-  الخبرة بطرق الاستنباط.

هل في ما ذكر من شروط تعقيدٌ لمن يريد قراءة التاريخ؟

لا، لأنَّ التاريخ لا بدَّ من فحصه بدقّة لمساسه بمختلف نواحي الحياة، فمنه قد تؤخذ العقيدة وأحكام الإسلام ومعارفه وعلومه وأدبه وأخلاقه، وعلى أساسه يقرأ الأجيال مستقبلهم ويعيش الناس حاضرهم.

هذا كي نقرأ التاريخ قراءة منصفة ونكون الحدّ الوسط بين الإفراط والتفريط ممن تعاملوا مع التاريخ الذين هم على صنفين: من يُقبِل على التاريخ أخذاً لا يردّ شيئاً فيقبَلُ كلَّ ما فيه غثّه وسمينه، ويعتبر كلّ ما فيه من المسلّمات. ومن يتشاءم ويتنكّر للتاريخ فيردَّ كلّ ما فيه بحجج وجود الغث فيه. ولا يخفى الظلم الكبير الذي تحدثه هاتان الفئتان للأجيال وحرمان من تأخر من دراسة أحوال من تقدّم والنهل من دروسهم.

محاكمة النصّ التاريخي:

يمكننا أن نحاكم النصوص التاريخية بمجموعة من الأمور، وهذه يمكن اعتبارها أدوات نعرض التاريخ عليها، ولا يعني أنَّ كلَّ حدثٍ لا بدَّ من إجراء هذه الضوابط عليه، بل بعض الأحداث يصلح لها ضابط واحد وبعضها قد يصلحها عدد من الضوابط، ولذا ليس من الصواب أن نجعل أحدها -حصراً- محاكِماً لكلِّ النصوص لعدم جدوائيّة ذلك لمن تتبّع التاريخ ونظر فيه.

1-  بالقرآن:

من الممكن أن نعرض بعض ما وصل من التاريخ على القرآن الكريم ونحاكمه به.. ولا أقصد مطلق التاريخ بل خصوص تاريخ الأنبياء والنبيّ الأعظمe، فقد وردت آيات تحكي بعض ما جرى عليهم من أحداث، ونمط آخر تذكر ضوابط عامة لا تخرج عنها سيرهم لا سيّما النبيe فأيّ رواية تاريخية تخالف هذا القرآن لا نتردّد في رفضها.

أمثلة على ذلك:

-        {وإنك لعلى خلق عظيم} فأيّ رواية تروى مفادها نفي الخلق عن النبي(ص) فهي مرفوضة لما تشكِّل من معارضة مع صريح القرآن وأنّه صاحب الخلق الرفيع.. ومن هذا وأمثاله سننفي ما نسب إلى النبيe أنّه حمل عائشة -بناء على طلبها وإبرازاً لمقدار حبّه لها- كي ترى رقص السودان في مسجده! وغيرها من أمثال هذه الروايات، التي وردت في "المجاميع الحديثية وكتب السيرة! وفيها عن حياته الزوجية ما نتذمّر من ذكره فضلاً عن القيام بأمره! وأدهى ما في الأمر وأمرّ أنّها مدوّنة في الكتب التي توصف بأنّها أصحّ كتاب بعد الذكر الحكيم، وهي تحاول أن تصوّر لنا سيّدنا ومولانا ونبيّنا أفضل الأنبياء والمرسلين وأشرف السفراء المقرّبين!!"([12])

- {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} عندما تأتي هذه الآية واصفة الرسولe بأعلى صور الكمال الإنساني لمقدار اتصافه بأسمى صفات الفضل حتى جعله الله أسوة في كلِّ شيء، فلا يمكن عندئذٍ أن نقبل برواية تحكي ضعفاً في شخصيّة النبيe القيادية أو الاجتماعية أو ما شاكل أو رواية تحكي سخفاً في فعلٍ من أفعاله أو فضولاً وما شاكل، فسنرفض تدخّله في تلقيح النّخل في غير أوانه، أو خوفه وعدم معرفة أنّه قد صار نبيّاً إلا بعد أن استشار من يطمئنه على ذلك، وشرب النبيذ أو البول قائماً وما شاكل من أحداث.

وقفة:

قد ثبت عندنا نحن الإماميّة مقام الإمام المعصومg، وأنَّه الخليفة للنبيe، وأنّ كثيراً مما قد ثبت للنبيe فهو ثابت للإمام المعصومg، وعلى هذا يمكن استخلاص الضوابط العامّة للمعصوم وهي التي بها يتم المحافظة على مقامه وعصمته فنحاكم الروايات على وفق ذلك.. وهذا مما ينبغي عدم إغفاله كما ينبغي عدم المغالاة فيه.

2-  بالعقل:

نريد بالعقل: ذلك العقل الذي يحاكم النّصوص التاريخية بالنظر إلى الواقع الخارجي، ابتداءً بالرواة ومقدار احتمال صدقهم أو كذبهم، ووجود المصلحة من عدمه، ودراسة الظروف المحيطة بالحدث، تلك الظروف والملابسات السياسية والاجتماعية والجغرافية وما شاكل مما له مدخلية في القول بإمكان أو منع وجود الحدث.. وبعد هذا النظر كلِّه يمكن إعمال العقل في قبول ما ورد من أحداث وردّها.. ولا نريد بالعقل ذلك العقل الذي يدخل على التاريخ بقرارات مسبقة فيعكس ما في ذهنه محمّلاً التاريخ ذلك، وما هذا عقل، بل هو هوى تذرّع بالعقل وغلّف هواه بتحليل العقل، فما عساك تعمل عقلك فيما ثبت أنّه وقع، ولا أظنُّ حادثة أعظم من الإسراء والمعراج التي لو لم تثبت من القرآن لأنكرها الكثير بالقول بأنَّ عقولهم لا تقبل وقوعها، وذلك لأنَّ التاريخ هو: "علمٌ نقليٌّ ليس للمتأخّر إلا ما كتبه المتقدّم، اللهمَّ إلا في كيفيّة الإخراج والتأليف والتصنيف والترتيب والتنظيم والتنسيق، ثمّ توجيهه وتحليله كلّ في حدود إمكانه وطاقته"([13]).

وهنا من الجيد أن نلحظ تطبيق هذه الضابطة وهي:

1-  إمكان الحدث ووجود مقتضي التصديق؛ فلو أخبر مخبر بسقوط الثلج في وضح النهار فإنّ إخباره هذا لا يمكن قبوله لانعدام مقتضي التصديق.

2-  وانعدام المانع من تكذيب المخبر؛ سواء كان المانع عقلياً كما لو ادعى المخبر نوم النبيe عن صلاة الفجر فهو متنافٍ عقلاً مع العصمة، وهذا مانع عقلي، وقد يكون مانعاً آخر من الموانع الطبيعية كما لو كان الخبر يتحدّث عن توقف الزمن مثلا في وقت من الأوقات.

3-  وانعدام دوافع الكذب. كما لو أخبر المخبر ما يفيد المدح وإعلاء كلمة خصمه.

فإن تمّت هذه كفى في جعل الخبر في دائرة القبول وإن لم يكن قبولاً جزمياً لكنّه لا يكون خبراً مرفوضاً.

هذا كلّه في الخبر الذي لم يثبت قطعاً، أما ما ثبت ثبوتاً قطعيّاً مما يتناسب مع المعصوم كالمعجز فهو مورد القبول العقلي فضلاً عن النقلي.

3-  بالتدقيق السندي:

يكون بحث الأسناد حسناً في الروايات التاريخية التي نسبت إلى المعصومينg لما فيها من نسبة الكلام إليهم، وهذا لا يجوز إلا بعد الاطمئنان بصدور الكلام عنهم.

وعليه ليس من الصحيح أن نعمل البحث السندي في كلّ الروايات التاريخية التي رويت في الكتب المختلفة لا سيّما كتب السيَر.. وهذا لا يعني أنّا نقبل من هذه الكتب بلا تدقيق، بل لا بدَّ من دراسة هذه المصادر التاريخيّة المختلفة والاهتمام بها وعدم التساهل في طرح ما ورد فيها، وذلك لأنَّه وإن نقل التاريخ مَن كَذب ومن زاد أو أنقص، إلا أنّه يوجد مَن نقل التاريخ بأمانة وأسند كلّ ما يرويه، وهناك من كان يدقِّق في نقله فلا ينقل إلا بعد التدقيق والفحص... ومع الاهتمام البالغ في تدوين التاريخ الإسلامي يجعلنا نقف أكثر عند ما يروى فلا نتسرّع في الرفض أو القبول، ولا سيّما بعض الأحداث التي لم يرَ الساسة أنّها تشكلُّ خطراً عليهم أو أؤلئك المتعصّبون للمذاهب غفلوا عن بعض الروايات فوصل إلينا الكثير من بين هذا وذاك.

ختام:

- من الضروري جداً قراءة الواقعة التاريخيّة في المصادر التاريخيّة المعتبرة كي نصل إلى الحقائق. ونؤكّد على كونها مصادر معتبرة.

- قد يقع البعض في فخ تغييب الحقائق التاريخية أو المساهمة في تشويشها في الأذهاب بسبب بعض العناوين البراقة كالتفكير النقدي.

- لا بدَّ من التفريق بين مقام البحث التاريخي والعرض للأحداث؛ ففي المقام الأول نحن في حاجة إلى البحث بالدرجة الأولى عن مفردات المسائل التاريخية وقد لا يلحظ المجموع للحدث فهذا ليس غرضاً في هذا المقام، بينما في العرض سواء كان عرضاً تلفزيونياً أم خطابياً فهو يلحظ المجموع لإيصال الحدث بصورة درامية وهو ما يستدعي الربط بين الأحداث التفصيلية، فيكون الربط بما هو ممكن وقد أشار إليه المؤرخون مما لا يخدش في مقام المعصوم، وهذا ما لا يكون للمحقق في التاريخ. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

([1]) هذه المقالة هي عبارة عن اختصار مع التصرّف لمقدّمة كتاب الشيخ محمد هادي اليوسفي الغروي على موسوعة التاريخ الإسلامي وكانت بعنوان (كيف ينبغي أن ندرس تأريخ الإسلام)، مع إضافات في غير مورد في جهات وعناوين مختلفة.

([2]) مجلة رسالة القلم- عدد53، السنة الرابعة عشرة، عام2017م.

([3]) موسوعة التاريخ الإسلامي، الشيخ اليوسفي الغروي، ج1، ص57.

([4]) موسوعة التاريخ الإسلامي، الشيخ اليوسفي الغروي، ج1، ص40.

([5]) كما ورد في دعاء الإمام زين العابدينg في يوم الجمعة والأضحى>اللهمّ إنّ هذا المقام لخلفائك، ومواضع أمنائك في الدرجة الرفيعة التي اختصصتهم بها قد ابتزّوها، حتى عاد صفوتك وخلفاؤك مغلوبين مقهورين مبتزّين، يرون حكمك مبدّلاً، وكتابك منبوذاً، وفرائضك محرّفة عن جهات شرعك، وسنن نبيّك متروكة<.

([6]) صحيح البخاري، ج1، ص134.

([7]) سنن البيهقي، ج5، ص113.

([8]) موسوعة التاريخ الإسلامي، الشيخ اليوسفي الغروي، ج1، ص43.

([9]) موسوعة التاريخ الإسلامي، الشيخ اليوسفي الغروي، ج1، ص51، عن كتاب الإمام مالك لأبي زهرة، ص290.

([10]) موسوعة التاريخ الإسلامي، الشيخ اليوسفي الغروي، ج1، ص51، عن اليعقوبي، ج2، ص261.

([11]) رجال النجاشي: 224.

([12]) موسوعة التاريخ الإسلامي، الشيخ اليوسفي الغروي، ج1، ص38.

([13]) موسوعة التاريخ الإسلامي، الشيخ اليوسفي الغروي، ج1، ص60.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا