مقدمة
يقول الباري(سبحانه وتعالى) في محكم كتابه المجيد: {فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى}(1)، {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} (2)، {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} (3).
وغيرها من آياتٍ كريماتٍ تتحدث عن التزكية، هذه الآيات تجعلنا في حجم الأهمية التي يوليها الباري سبحانه لتزكية النفس، التي تعني "التطهير من قذارات القلوب وتخليصها للعبودية"(4)، ويكمن سبب الأهمية لتزكية النفس وتطهيرها في أنَّ الصفاء والخلوص متى ما عاشته النفس فإنّها تتوافر على قابلية عالية واستعداد لقبول الملكات الكمالية التي تسمو بها النفس وتتعالى في مراتب ومدارج الكمال الروحي، فتحصل على الفلاح الدنيوي والأخروي.
وبعكس ذلك فإنّ النفس إذا بقيت ممتلئة بقذارات الذنوب والمعاصي فإنّها تسير وتقطع خُطىً أيضا..! لكن لا نحو التعالي والتكامل طبعا، وإنّما نحو التسافل والانحطاط الذي يعني الخيبة والخسران، هذه الحقيقة يحكيها القرآن الكريم كحقيقة يريد من الإنسان أن يقف عندها ليحكم بعد ذلك خطاه وغاية مسيره، فإمّا أن يسير في طريق يوصله للفلاح، وإمّا أن يسلك طريقا يوصله لغاية الخيبة والخسران. وبهذا يكون القرآن قد فتق فتقًا يسيراً لينفذ منه عقل الإنسان ويفكّر بعد ذلك في مستقبل حياته كلها.
وهذا النحو من الدعوة للتفكير بالمستقبل ليس مقتصرا على مثل هذه الآيات القرآنية، بل هو من صميم العقيدة الإسلامية من خلال جعل المعاد كأصل من أصول الدين، فالتفكير ببناء الدار الآخرة فكرة يجب أن يعيش معها الإنسان؛ ليتحرك نحو المقدمات التي تهيِّأ وتبني الدار الباقية بناءً سعيدًا.
ومما ذكرنا اتضح أنَّ التزكية التي هي التطهُّر من الذنوب والمعاصي ما هي إلا مقدمة لحصول ما به سعادة الإنسان، ولذلك احتلَّت هذه الأهمية حتى أصبحت هدفًا من أهداف بعث الرسل، يقول الباري سبحانه: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ...} (5)، {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ..}(6).
كيف نسير بالنفس نحو زكاتها؟
بعدما اتضح لدينا حجم العناية الكبيرة من قبل الإسلام بالتزكية، يتساءل الإنسان الناشد لها، كيف السبيل للوصول لهذا الصفاء النفساني والروحي الذي تتفتَّح معه مدارك العقل والذهن نحو التسامي والتكامل والقرب من الله (عزّ وجلّ) ؟
يمكن لنا أن نجيب عن هذا التساؤل من خلال تسليط الضوء على بعض آيات الله الحكيم، حيث يقول (عزّ وجلّ): {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}(7)،{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (8)،{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}(9).
نلاحظ في هذه الآيات الكريمات ثلاثةَ معانٍ مهمة عطف بعضها على بعض وهي (التلاوة للآيات، والتزكية، والتعلم للكتاب والحكمة)، وهي وإن كانت كل واحدة منها هدفا بمفرده إلا أنّ بينها ترابطا وثيقا متبادلا، فالتلاوة للآيات تساهم في التزكية، والتزكية تساهم في التعلم للكتاب والحكمة، وبمعنى آخر فإنّ الرسول عندما يوقف الإنسان على آيات الله يُحدث في النفس حضوراً وتجلياً إلهيًّا وإيماناً يمنع الإنسان من المعصية، لتتناقص بعد ذلك القذارات القلبية والرذائل الأخلاقية؛ فتكون النفس بذلك على استعداد لنيل واكتساب المعرفة والحكمة الإلهية التي تعطي العقل رجاحته وسموه؛ ليتمكن بذلك العارف من أن يحافظ على نفسه زكية صافية.
قوة الإيمان ورجاحة العقل
ما يزكّي النفس ويكمّلها:
فالقرآن بهذا يكون قد بيَّن لنا الطريق نحو الزكاية، بتبيين الروافد التي تغذِّي صفاء النفس وسموّها، فقوة الإيمان وزيادة المعرفة بالله سبحانه تعني الوصول للزكاية وتكامل النفس وقربها من الله(عزّ وجلّ). فإذا أراد الإنسان أن يضع خطّة عامة لمجمل حياته بحيث يصل بها إلى الفلاح الذي عبّرت عنه الآيات السابقة، يجب عليه أن يحافظ على غزارة هذه الروافد، من خلال:
1- المراقبة الدائمة والتعاهد المستمر لإيمانه ليحافظ على قوته وصلابته.
2- التغذي دوما بالمعرفة والعلم ليحافظ على رجاحة عقله.
ذلك لأنَّ مجمل المعاصي نلاحظ أنّها إما أن تكون معصية تلوث سلوك الإنسان، كسوء الأخلاق مثلا، أو معصية تلوّث الجانب العقائدي والفكري لديه، كالاعتقاد بخلاف ما فرضه الله سبحانه. ويمكن لنا من خلال قوَّة الإيمان ورجاحة العقل المتنوِّر بدين الله سبحانه أن نمنع وقوع المعاصي ونضائلها بكلا نوعيها، إذ أنَّ العلاقة في المقام طردية فكلما قوي الإيمان ورجح العقل وقوي بالمعرفة تناقصت معاصي الإنسان. فالقوة هذه هي الصلابة التي تحدثت عنها بعض المرويات، كمثل ما ورد عن الإمام الصادق(ع): «إن المؤمن أشد من زبر الحديد، إن زبر الحديد إذا دخل النار تغير، وإن المؤمن لو قتل ثم نشر ثم قتل لم يتغير قلبه» (10).
الضعف الإيماني والمعرفي فساد للقلب والنفس:
وعلى خلاف ذلك فإنَّ الضعف الإيماني والضحالة المعرفية تعني ضعفا في حجز النفس عن المعصية، لتتعاظم وتتكاثر المعاصي والذنوب ويفقد الإنسان سيطرته عليها، فيصل بالقلب إلى أقصى درجات التلوث، يقول الباري سبحانه: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (11)، ولنتوقف قليلا عند هذه الآية المباركة:
فما معنى الرين؟ "«ران»: من (الرين) على وزن (عين)، وهو: الصدأ يعلو الشيء الجليل (كما يقول الراغب (12)في مفرداته)، ويقول عنه بعض أهل اللغة: إنه قشرة حمراء تتكون على سطح الحديد عند ملامسته لرطوبة الهواء، وهي علامة لتلفه، وضياع بريقه وحسن ظاهره. وقيل: ران عليه: غلب عليه" (13).
ومعنى الآية يتضح أكثر من خلال قراءة ما ورد عن أهل بيت العصمة(ع): قال رسول الله(ص): «كثرة الذنوب مفسدة القلوب» (14)، وعن الصادق(ع): «كان أبي(ع) يقول: ما من شيء أفسد للقلب من خطيئة، إنَّ القلب ليواقع الخطيئة فما تزال به حتى تغلب عليه فيصير أعلاه أسفله» (15)، وعنه أيضا(ع): «إذا أذنب الرجل خرج في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب انمحت، وإن زاد زادت حتى تغلب على قلبه فلا يفلح بعدها أبداً» (16).
فما يحدثه استمرار الذنوب بالقلب هو الإحاطة الكلية به، والمحاصرة التامة له، ليصل بعد ذلك بالقلب إلى أقصى درجات التلوث وهي (الختم على القلب)، ومعها يقع الإنسان في طريق الضياع الذي تصعب معه العودة، يقول الباري سبحانه: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}(17).
ومرحلة الختم هذه لا يَفقدُ الإنسانُ فيها الحواجزَ والموانعَ عن المعاصي فحسب، بل يُغلق كلَّ الثغرات التي يمكن تخلل نور المعرفة والهداية منها، ويضع كل المصدَّات والمضادات التي تحول دون الإيمان وتزكية النفس.
بعث الرسل بالأديان إرشاد لما يزكِّي النفس:
قد ذكرنا أن ما يساعد على لجْمِ النفس عن ارتكاب المعاصي والذنوب هو قوة الإيمان ورجاحة العقل بالمعرفة، وهنا ينبغي لنا أن نعرف أنَّ الإيمان والمعرفة التي تحجز الإنسان عن المعاصي لا يمكن أن تكون غير المعرفة الإلهية والإيمان بالله، إذ الإيمان والمعرفة بغير الله سبحانه لا يمكن أن تتكامل بالنفس وتسمو بها، بل تسير بها سيراً عكسياً لا سيراً عروجياً، فما يسير بالنفس سيرا عروجيا هو الإيمان والمعرفة الإلهية التي جاء بها الرسل، {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} (18).
الإسلام بأحكامه طريقٌ للهداية وتزكية النفس:
تُمثِّل الأحكامُ الإسلامية التي جاء بها النبي الخاتم(ص) هدايةً تشريعيةً من قبل الله سبحانه لعباده، واختصارا لمسافات بعيدة، وإرشادا إلى أسرار وحيثيات روحية ونفسية تكاملية، لا يصل لها العقل لو خلي دونَها، ولهذا فإنَّ الإسلامَ بمختلف تشريعاته العقائدية والعبادية والروحية والسياسية والأخلاقية والاجتماعية وغيرها قدَّم للإنسان كلَّ ما يحتاجه، ورسم له طريقَ تكامله وسعادته، ومن يحجب عن نفسه المعرفة الإسلامية فإنَّه يقوم بما قد قام به السابقون {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} (19)، {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} (20)، {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ}(21).
فمثل هؤلاء لا يكون مصيرهم إلا الخسران والندم {فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} (22)، {أَلَمْ تَكُنْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ} (23).
وبعد كل ذلك ألا يكون الإسلامُ من حيث أنَّ السير على منهاجه وأحكامه طريقا لخلوص أنفسنا وتنقيتها جديراً بالعناية والاهتمام!! لنراجع أنفسنا قليلا: كم من الوقت نصرفه في سبيل معرفة أحكام الله سبحانه؟! ولو قارنَّا ما نصرفه من وقت في تسلية أنفسنا مع ما نصرفه في سبيل التعرف على الإسلام، لوجدنا أنَّ الوقتَ المبذولَ للتعرف على المعرفة الإسلامية ضئيلٌ جدا بل يكاد لا يذكر عند بعضنا نسبة بوقت التسلية.
ومن هنا نجد لزاما أن ننادي بأعلى أصواتنا، داعين كل المؤمنين للإطلاع على المخزون المعرفي الكبير والمتنوع الذي جاء به خاتم النبيين(ص) وبيَّنه الآل(ع)، يقول الباري سبحانه: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(24).
ويقول أمير المؤمنين(ع) في وصفه الإسلام: «إنّ الله تعالى خصَّكم بالإسلام واستخصَّكم له، وذلك لأنَّه اسم سلامة وجماع كرامة. اصطفى الله تعالى منهجه وبين حججه من ظاهر علم وباطن حكم. لا تفنى غرائبه، ولا تنقضي عجائبه. فيه مرابيع النعم، ومصابيح الظلم. لا تفتح الخيرات إلا بمفاتيحه، ولا تكشف الظلمات إلا بمصابيحه. قد أحمى حماه وأرعى مرعاه. فيه شفاء المشتفي، وكفاية المكتفي»(25).
القراءةُ أداةٌ للمعرفة:
لا شك أنَّ هناك طرقاً وأدوات عديدة للتعرف على المعرفة، لا سيما وهذا التطور التكنولوجي الهائل، فقد أصبحت المعرفة تصل إلى الإنسان وهو جالس في بيته من دون أي عناء ومشقة، عبر التلفاز والإنترنت والجرائد وغيرها.
رغم كلَّ هذا فإنَّ القراءة تبقى أداة يجب على الإنسان أن يفعَّلها ويخصص مساحة من الوقت لها، وذلك لما يأتي:
1- القراءة تمنح العقل صفاءًَ وخلوة مع الكتاب، مما يعطي مساحة أكبر للعقل للتفكير فيما يقرأ بهدوء، وهذا التريث يمنح المقروء حقه أيضا من جهة إمعان الفكر والتأمل.
2- القراءة بذلك تقدِّم وجبة مهضومة بشكل جيد، مما يسهِّل أمر تخزينها.
3- نظراً للخصوصيات السابقة فإنَّ مخزون أي مثقف وأيَّ مفكِّر يكون نتاجا للقراءة الجيدة الكثيرة والدائمة المتجددة.
4- القراءة تقدِّم ثقافة متنوعة، وبالقراءة يمكن أن نتعرف على أفكار مختلفة وتفسيرات ورؤى متنوعة تثري المخزون الثقافي لدينا.
5- بالقراءة الموجهة يمكن التعرف على الثقافة الصحيحة من غيرها.
6- القراءة تشكِّل قاعدة متينة من المعلومات والأفكار التي يمكن رد الشبهات بواسطتها.
القراءة تمثل نحواً من التدارس للعلم، وطلباً للمعرفة، يقول الإمام علي(ع): «لقاح المعرفة دراسة العلم» (26)،«اطلب العلم تزدد علما» (27).
توجيه القراءة نحو البناء لا الهدم:
من خلال الملاحظات السابقة ذكرنا مجموعة من الثمرات التي يمكن جنيها بالقراءة، وهي ثمار في الواقع لا يمكن جنيها إلا من خلال القراءة البنَّاءة، ذلك أنَّ هناك نوعاً من القراءة لا تبني النفس والعقل بل تهدمهما، وتكون القراءة بمثابة معاول الهدم.
كيف يكون ذلك؟ إنَّ الكتابَ يمثل لقارئه جليسا يخاطبه ويكلمُّه، والقارئ يستمع وكُلُّه آذانٌ صاغية، فإذا كان هذا الجليس يكلم صاحبه بكلام السوء والفحشاء والباطل فإنَّ القارئ يتأثر تبعا بهذا النوع من الكلام، وعندها لن يختلف هذا الكتاب عن وساوس الشيطان {وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا} (28).
ولأجل ذلك نجد حكماً شرعياً ينظِّم طريقة التعامل مع هذا النوع من الكتب، وذلك من خلال تحريم قراءة ما يلي:
1- كتب الضلال وهي الكتب المشتملة على الباطل المضلِّل.
2- الكتب المثيرة للغريزة الشهوانية وما تضمنت فحشا.
3- كتب السحر والشعوذة بغرض التعلم له.
4- كتب الشبهات التي تثار على المذهب الحق وغيرها وتسبب تأثيراً على قارئها.
فإنَّ قراءة هذه الكتب حرام على تفصيل يذكره الفقهاء في محله، من تجويز القراءة في بعض الفروض كما لو كان لغرض دفع الشبهات أو مع عدم احتمال التأثر بها، فهذا النوع من الكتب قراءتها لا تساهم في بناء النفس والعقل أبدا، وإلى مثل هذا يشير الأمير(ع): «ربَّ معرفة أدت إلى تضليل» (29)، «ربَّ علم أدَّى إلى مضلتك» (30).
المكابرة في قراءة كتب الضلال:
رغم وضوح الحكم الشرعي المتعلق بكتب الضلالة والتحذير من التعامل معها، إلا أنَّ البعضَ يكابر ويقوم بقراءة مثل هذه الكتب، اعتقاداً منه بقوة معرفته التي تمنع التأثر بها، وذكائه الذي سيحول دون تخلل وتسرب الضلالات الخفية.
وهنا آيات من القرآن الكريم يستدعي بنا المقام أن نقف عندها وهي:
{وَلاَ تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (31)،{مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ..} (32)،{يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ..} (33)،{فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} (34)،{فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} (35).
الإلباس الذي يعني التخليط.. والتحريف الذي يعني التغيير.. والتزيين الذي منه تغليف الظاهر بالوجوه الجميلة التي تحمل خبث الباطن.. أدوات يستعملها المضلِّلون بكثرة وقد تخفى عليك رغم حيطتك، لتجد نفسك بعد ذلك كما يقول الباري: {وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} (36).
نعم تتأثر من حيث لا تشعر، وتنقلب بعد ذلك رأسا على عقب كما حصل مع كثير. يقول الباري عنهم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} (37)، فإياك والمكابرة، فإنَّ مثل هذه الشبهات وهذه الكتب لها من يدفعها من المتخصصين، وأولي العلم الذين ينبرون للدفاع عن دين الله سبحانه؛ لأنَّ القراءة لهذه الكتب تتطلب استعدادا وتحصينا ذاتيا قبل التعامل معها.
التوجيهُ في القراءة مهمٌ:
كي نتحصَّل على الأهداف المرجوة من قراءتنا يجب أن نعرف أن القراءة تحتاج إلى توجيه، ففي كل مرحلة من نمو العمر والثقافة لديك تحتاج إلى نوع معين من القراءة. ففي مرحلة الطفولة مثلاً تحتاج إلى كتب مفاهيمها بسيطة، وكلماتها واضحة مفهومة، ونجعل الهدف المهم من قراءتها التعرف على أصول العقائد والأحكام الشرعية المبسطة، أما في مرحلة المراهقة فإنَّ الهدف يكون مختلفاً؛ إذ تحتاج إلى كتب تساعد على تقديم حلول وتوضيحات لمجمل الأسئلة المثارة لديك سواء الجنسية منها أو الروحية أو الفقهية أو غيرها وهكذا.
فنحن بحاجة إذن أن نحدد من خلال الاستعانة ببعض المربِّين والمتخصصين خطةً تنظِّمُ ما نقرأ على مدى سني أعمارنا، وتراعي أيضا تفاوت الوعي لدينا وتتناسب معه.
الملل والسأم صعوبات يواجهها القارئ:
من أبرز المشاكل التي نواجهها عند القراءة السأم والملل، وهذه الصعوبة حلها يكمن في الصبر عليها، فلا يتعجل القارئ ويترك القراءة بسبب ما يجده من ملل وسأم، فإنَّ الاستمرار والمداومة على القراءة من شأنه أن يزيل حالة الملل هذه، ويقلبها إلى أنس؛ لأنَّ المتعة التي سيجدها العقل بالقراءة لا تقلُّ عن متعة المعدة بالطعام، بل تفوقها بكثير ولا تُقارَنُ بها.
وما ذكرناه سابقا من التوجيه المناسب لما تقرأ، يساهم كثيراً في رفع حالة الملل والسأم؛ لأنَّ قراءةَ الكتاب المتناسب والقارئ أمرٌ في غاية الأهمية. كما وأن البداية المبكرة مع الكتاب تربي الإنسان على القراءة.
ختاماً.. القراءة بداية التغيير..
كثير أولئك الأشخاص الذين يطمحون في تغيير أنفسهم نحو الأفضل، ويضعون الخطط لذلك، وتتوالى المحاولات تلو الأخرى، بعض يفلح وبعض لا تجديه نفعا، إما لتكاسل النفس عن العمل، أو لعدم صحة نقاط الخطة الموضوعة، فكل إنسانٍ جادّ في إصلاح نفسه، عليه تكرار المحاولة وإعادة التجربة تلو الأخرى، ولا يسمح لليأس من أن يتطرق إليه، فإنَّ إصلاح النفس ليست مسألة سهلة، وإنَّما هي من أصعب الأمور حتى عدَّ رسولُ الله(ص) جهاد النفس هو الجهاد الأكبر.
القراءة أيها الأحبة تمثل أداة نافعة جداً في سبيل إصلاح النفس وتزكيتها، ولقد تسلسلنا بالأفكار لنصل لهذا المعنى على النحو التالي:
1- بيَّنَّا بدءاً أهمية تزكية النفس لأنَّها توفِّر الاستعداد والقابلية لتلقي الملكات الروحية العالية.
2- ثم ذكرنا أنَّ ما يعطي النفس زكايتها هي المعرفة والإيمان الصحيحان.
3- بعدها ذكرنا أنَّ الإسلام يقدِّم المعرفة والإيمان الصحيحين.
4- وأخيرا تناولنا كيف أن القراءة أداة لمعرفة الإسلام.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين
* الهوامش:
(1) النازعات 18.
(2) الشمس 9 - 10.
(3) الأعلى 14.
(4) تفسير الميزان، السيد الطباطبائي، ج1، ص323.
(5) الجمعة 2.
(6) آل عمران 164.
(7) ن م.
(8) البقرة 129.
(9) الجمعة 2.
(10) ميزان الحكمة -محمد الريشهري- ج1، ص 209.
(11) المطففين 14.
(12) مفردات غريب القرآن -الراغب الأصفهاني- ص 208.
(13) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل -الشيخ ناصر مكارم الشيرازي- ج20، ص 27.
(14) الدر المنثور، السيوطي، ج6، ص326.
(15) ميزان الحكمة -محمد الريشهري- ج2 - ص 994.
(16) م ن.
(17) البقرة 7.
(18) آل عمران 164.
(19) المطففين 13.
(20) فصلت 26.
(21) الأنعام 4.
(22) الأنعام 5.
(23) المؤمنون 105 - 106.
(24) الأنعام 153.
(25) نهج البلاغة، ج2، ص41.
(26) ميزان الحكمة -محمد الريشهري- ج2، ص862.
(27) م ن.
(28) النساء 38.
(29) ميزان الحكمة -محمد الريشهري- ج3، ص1871.
(30) م ن.
(31) البقرة 42.
(32) النساء 26.
(33) المائدة 13.
(34) النحل 63.
(35) التوبة37.
(36) البقرة 30.
(37) البقرة 16.
0 التعليق
ارسال التعليق