قرآننا، وظهور الأمر في جملة {فَسئَلُوهُنَّ} على الوجوب
جاء هذا الحكم في باب الحجاب، حيث يقول تعالى: {وَإِذَا سَأَلتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَسئَلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ}(1).
إنّ هذا الأمر كان ولا يزال متعارفاً بين العرب وكثير من النّاس أنّهم إذا احتاجوا شيئاً من لوازم الحياة ووسائلها فإنّهم
يستعيرونها من جيرانهم مؤقتاً، ولم يكن بيت النبي (صلّى الله عليه وآله) مستثنى من هذا القانون، بل كانوا يأتون إليه سواءٌ كان الوقت مناسباً أم غير مناسبٍ، ويستعيرون من نساء النّبي (صلّى الله عليه وآله) شيئاً، ومن الواضح أنَّ جعل نساء النبي (صلّى الله عليه وآله) عرضةً لأنطار النّاس -وإن كنّ يرتدين الحجاب الإسلامي- لم يكن بالأمر الحسن، ولذلك صدر الأمر إلى النّاس أن يأخذوا الأشياء من خلف حجاب أو من خلف الباب.
«الحجاب» في اللغة هو الشيء الذي يحول بين شيئين(2)، ولذلك أُطلق على الغشاء الموجود بين الأمعاء والقلب والرئة اسم (الحجاب الحاجز). وقد استعمل القرآن الكريم هذه الكلمة بمعنى الحائل أو الساتر في عدة مواضع كقوله تعالى: {جَعَلنَا بَينَك وبَينَ الَّذِينَ لا يؤمِنُونَ بالآخرَةِ حِجَاباً مَّستُوراً}(3) أي: وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبينهم حجاباً مستوراً عن الحسّ يحجبهم عن فهم ما تقرأ.
ونقرأ في قوله تعالى: {حتى تَوَارَت بِالحِجَابِ}(4) أي: استترت، وهي حينما استمرّ سليمان ينظر إلى الخيل وهي تمرّ أمامه حتى توارت بحجاب البعد عن نظره. وجاء في قوله تعالى: {وَ مَا كانَ لِبَشَرٍ أَن يكلِّمَهُ اللّهُ إِلا وَحياً أَو مِن وَرَآءِ حِجَابٍ}(5) أي: وما كان لإنسانٍ أن يكلمه الله إلا بطرق ثلاثة:
1- يكلّمه وحياً مباشرةً بدون واسطةٍ بأن يُلقي في قلبه ما يشاء.
2- أو يكلّمه من وراء حجاب كما كلّم الله موسى (عليه السلام) من شجرة طور سيناء، وكما أوحى الله لإبراهيم (عليه السلام) في منامه.
3- أو يرسل ملَكاً رسولاً كجبرئيل فيوحي بإذن الله ما يشاء الله سبحانه.
وهو تعالى يُوحي بهذه الطرق لأنّه علا عن صفات المخلوقين فلا يُدرك بالأبصار ولا يُكلّمهم كما يكلّم بعضهم بعضاً، ولأنّه حكيم يفعل ما يريد بأفضل الأساليب.
أمّا في كلمات الفقهاء فقد استعملت كلمة «الستر» فيما يتعلّق بلباس النّساء منذ قديم الأيّام وإلى يومنا هذا، وورد أيضاً في الروايات الإسلاميّة هذا التعبير أو ما يشبهه، واستعمال كلمة «الحجاب» في شأن لباس المرأة اصطلاح ظهر في عصرنا، وإذا وجد في التواريخ والروايات فقليلٌ جدّاً.
والشاهد الآخر هو ما نقرؤه في الحديث المروي عن أنس بن مالك خادم النبي (صلّى الله عليه وآله) الخاص، حيث يقول: أنا أعلم الناس بهذه الآية -آية الحجاب- لما أُهديت زينب إلى رسول الله كانت معه في البيت صنع طعاماً، ودعا القوم فقعدوا يتحدثون، فجعل النبي (صلّى الله عليه وآله) يخرج ثمّ يرجع وهم قعود يتحدثون، فأنزل الله: {يا أَيّهَا الذَّينَ آمَنُوا لا تَدخُلُوا بُيوتَ النَّّبِي} إلى قوله: {مِن وَرَآءِ حِجَابٍ} فضرب الحجاب وقام القوم(6). وفي رواية أخرى عن أنس أنَّه قال: أرخي الستر بيني وبينه، فلمَّا رأى القوم ذلك تفرّقوا(7)، وبتعبيرٍ آخرٍ: إنَّ النَّاس قد أُمروا أن يسألوا نساء النبي (صلّى الله عليه وآله) ما يبتغونه من وراء حجاب، خاصة وأنَّ التعبير بـ «وراء» يشهد لهذا المعنى. ولذلك بيّن القرآن الكريم فلسفة هذا الحكم فقال: {ذَلِكم أَطهَرُ لِقُلُوبِكم وقُلُوبِهِنَّ}(8).
حيث يتّضح لنا من خلال حكمة هذا التشريع الوقاية من الذنب، والتي لا تتمّ إلا بطهارة القلب، وهذه الطهارة لا تتأتّى إلا بابتعاد الإنسان عن أسباب المعصية، والتي من بينها حديث المرأة مع الرجل وبالذات إذا لم يكن ثمَّة حجاب بين الطرفين، ذلك أنّ من طبيعة المرأة كما من طبيعة الرجل أن يميل أحدهما للآخر بالغريزة، ولعلّ الحديث بينهما بغير الصورة التي تهدي لها الآية ينتهي إلى المعصية.
وبالرغم من أنّ مثل هذا التعليل لا يُنافي الحكم الاستحبابي، إلا أنّ ظهور الأمر في جملة {فَسأَلُوهُنَّ} لا يتزلزل في دلالته على الوجوب، لأنّ مثل هذا التعليل قد ورد أحياناً في موارد أحكام واجبة أخرى.
استدلال الأصوليين من عبارة {فَليحذَرِ الَّذِينَ يخَالِفُونَ عَن أَمرِهِ}(9) بأنَّ أوامر الرسول (صلّى الله عليه وآله) تدلّ على الوجوب
أنَّ احترام القيادة في قراراتها يجب أن ينعكس على احترامها في الظاهر أيضاً، فلو نطقت باسم الرسول (صلّى الله عليه وآله)، أو باسم قيادتك كما تنطق باسم الآخرين دون أيّ احترام، أو إذا جلست إلى الرسول (صلّى الله عليه وآله) ترفع صوتك أمامه، كما ترفعه أمام الآخرين أو تناديه من وراء الحجرات كما تنادي الآخرين، فإنَّك لن تكون مستعداً بعد ذلك لتلقي أوامره ومن ثمَّ تنفيذها، إذاً لا بدَّ من إعدادٍ نفسيّ كامل سلفاً، لتلقي أوامر الرسول (صلّى الله عليه وآله) أو القيادة الرسالية التي تمثله على الواقع، كأن يتوضأ الفرد قبل الذهاب إلى مجلس الرسول (صلّى الله عليه وآله)، أو يغتسل إن كان عليه غسل، ثمّ يجلس في محضره مجلس المستفيد، ليقتبس من علمه بتركيز تفكيره في كلامه، وتفريغ نفسه لتطبيق تعاليمه، وهكذا حتى ينتهي الأمر به إلى تنفيذ أوامر القيادة بشكل دقيق جداً. فحينما تُحترم القيادة تطبق أوامرها وتوجيهاتها.
{لا تَجعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بينكم كدُعَاء بَعضِكم بَعضُاً}(10)، أي: لا تجعلوا -أيّها المسلمون- نداء الرسول (صلّى الله عليه وآله) كنداء بعضكم بعضاً باسمه ورفع الصوت به، ولكن اجعلوا نداءه بلقبه مثل: يا نبي الله، يا رسول الله، بتعظيم وتواضع وخفض الصوت )أو: لا تجعلوا نداء الرسول (صلّى الله عليه وآله) لكم واستدعاءه إياكم كاستدعاء بعضكم بعضاً، فإنَّ المبادرة إلى تلبية دعوته واجبة والانصراف من حضرته بدون إذنه حرام، خلافاً لدعوة بعضكم بعضاً) احذروا من ذلك {قَد يعلَمُ اللهُ الَّذِينَ} يخرجون منكم و{يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ} أي: يخرجون برفق وحيلة أي: شيئاً فشيئاً {لِوَاذاً} أي: مستترين بعضهم ببعض، فيتسلّلون خلسة دون أن يشعر بهم الرسول (صلّى الله عليه وآله) أو يراهم وهم يخرجون من مجلسه بدون استئذان غير عابئين بدعوة الرسول (صلّى الله عليه وآله) ولا معتنين بها {فَليحذَرِ الَّذِينَ يخَالِفُون} النبي (صلّى الله عليه وآله) بهذه الأعمال ويُعرضون عن أمره من {أَن تُصِيبَهُم فِتنَةٌ} أي: محنة ومصيبة في الدنيا {أَو يصِيبَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ} في الآخرة. وفي حديث مأثور عن الإمام الصادق (عليه السلام): «يسلّط عليهم سلطاناً جائراً، أو عذاباً أليماً في الآخرة»(11)، والواقع يقول: أنّ هناك رابطة وثيقة بين سيطرة الطغاة وبين مخالفة أوامر القيادة الشرعية.
إنّ المقصود -كما يعرف قارئي النبيه- أنّ المقصود من {الَّذِينَ يخَالِفُون عَن أَمرِهِ} ليس فقط مخالفة الأوامر الظاهرة، بل أيضاً مخالفة روح القيادة. إنّهم استطاعوا أن يتسلّلوا لوذاً وأن يهربوا خلسة، ولكن هل أصبحوا في مأمن كما يزعمون؟!
كلا، بل إنَّهم يعرّضون أنفسهم للفتنة، وللعذاب الأليم، فإذا استدعاهم الرسول (صلّى الله عليه وآله) في يوم ما، وأصدر إليهم أوامر مباشرة بحمل السلاح، والتوجه إلى الغزو -مثلاً-، فإنّهم في هذه الحالة أمام موقفين، فإمّا الانصياع إلى الأوامر، وهذا خلاف ما يريدون، وإمّا الرفض فيخرجون –بذلك- ظاهراً وباطناً عن الإسلام، ويضعون أنفسهم تحت طائلة العقاب الشرعي في الدنيا وفي الآخرة.
وعلى فرض أنَّهم اختاروا الأمر الأوّل، فإنّهم سيجدون صعوبة بالغة في تنفيذ الأوامر، لأنّ الذي لم يربّ نفسه على تنفيذ الأوامر الصغيرة لا يستطيع ذلك في القضايا الكبيرة، والذي يهرب اليوم من الحر والبرد، وسهر الليل ومشاكل التدريب وما أشبه، كيف لا يهرب غداً من الحرب والقتال؟! إذن فعلى الإنسان أن يربي نفسه على الطاعة والانضباط وتحمّل الصعاب حتى يكون على أتمّ الاستعداد نفسياً وبدنياً لتطبيق الأوامر الهامة.
قرآننا، وكون الأمر والنهي إرشادياً
قال الله تعالى: {وَلَقَد عَهِدنَا إلى آدَمَ مِن قَبلُ فَنَسِي} لقد حدّد الله سبحانه الهدف من القرآن الكريم (التقوى والتذكّر)، وكمثال على هذين الهدفين يذكر الله قصة آدم (عليه السلام) عندما نهاه عن الشجرة وحذّره من الشيطان أن يخرجه من الجنّة، فلا هو اتّقى الشيطان ولا هو تذكّر نهي الله له.
ومن كلمة «نسي» نستنتج أنّ عصيان آدم لم يكن متعمّداً، ويدلّ على ذلك عجز الآية {وَلَم نَجِد له عَزماً} أي: عزماً على ترك المعصية، كما أنّ النسيان ضدّ التذكّر، وعهدنا بمعنى أمرنا، فهو لم يتحدّ ذلك الأمر إنّما نسيه.
{وَ لَم نَجِد له عَزماً} وهناك تفسيران لهذه الآية:
1- أنّ آدم (عليه السلام) نسي العهد الإلهي ولكن لم نجد له عزماً على الخطيئة أي تعمّداً.
2- لم يكن آدم من أولي العزم وأولوا العزم خمسة هم: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد (صلّى الله عليه وآله)، وهذا التفسير تأكيد للقول بأنَّ الإرادة (العزم) تمنع الغفلة والنسيان.
{وَإذ قُلنَا لِلمَلائِكةِ اسجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبليسَ أَبَى} إنّ سجود الملائكة الموكلة بالطبيعة للإنسان يعني أنَّ الله سخرها للبشر، بلى يبقى إبليس موكّل بالنّفس الأمارة التي لن تسجد لله إلا أن يجبرها الإنسان على ذلك.
{فَقُلنَا يا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّك وَلِزَوجِك فلا يخرِجَنَّكمَا مِنَ الجَنَّةِ فَتَشقَى} بيّن الله لآدم وزوجته، أنّ إبليس عدوّ لها، يسعى لإخراجهما من الجنّة، ونستفيد من هذه الآية عدّة أفكار:
1- أنّ الإنسان بحاجة إلى أن يعرف عدّوه إبليس ويتذكّر ذلك أبداً.
2- أنّ عداوة إبليس للمرأة كعداوته للرجل، وبالتالي على المرأة أن تكون على أشدّ الحذر كما على الرجل سواءً بسواء.
3- أنّ هدف الشيطان هو إضلال البشر وجرّهم إلى الشقاء الماديّ والمعنويّ، ووسيلته في ذلك التغرير والمكر والخداع.
{إِنَّ لَك أَلا تَجُوعَ فِيهَا ولا تَعرَى، وأََنَّك لا تَظمَؤُا فِيهَا ولا تَضحَى}، هذه أربع من النّعم المادية التي أودعها الله في الجنّة وهي نعمة: الأكل، واللباس، والشراب، والمسكن. ولكن هل يترك الشيطان الإنسان لسبيله؟ كلا. {فَوَسوَسوَسَ إِلَيهِ الشَّيطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هل أَدُلُّك عَلَى شَجَرَةِ الخُلدِ ومُلك لا يبلَى} نستوحي من هذه الآية الكريمة أفكاراً عديدة تعالج قضايا هامّة، لا زال بعضها موضع بحث ودراسة عند المفسرين:
1- أنّ الشيطان يوسوس للإنسان، فيستثير طبائعه الدفينة، ويدغدغ تمنياته المكبوتة، ويحرّك تلك الغرائز الخامدة، وهو يفعل كل ذلك بهدف التشويش على بصره، والتمويه عليه، وزرع الشبهات في قلبه، وإلقاء التبريرات والتسوّلات في نفسه. وهكذا لا يكفي الحذر من إغواء الشيطان المباشر، بل علينا أن نعرف أنّه يشوّش علينا، ويشبّه الأمور ويخلط الحقّ بالباطل، ويمكر ويكيد، ويغرّ ويخدع، إنَّ علينا أن نكون في قمّة الحذر، وإلا وقعنا في شركه.
2- وآدم أوّل من وقع في مصيدة إبليس، فهو لم يعزم عصيان ربه، بل أنساه الشيطان أمر الربّ، وخدعه حيث حلف له بالله كذباً أنّ الله لم ينهه عن تلك الشجرة.
ولم يكن آدم يعلم أنّه من الممكن أن يحلف أحد بربّه كاذباً، ثمّ شبّه عليه بأنّ المنهي عنه إنّما هو شجرة معيّنة من الحنطة، وليس كل أشجار الحنطة، وهنا استفاد إبليس من نقطة ضعيفة عند البشر، وكانت أداة وسوسته إثارة مشاعر حب الخلود والملك عند البشر، جاء في حديث شريف عن جميل بن درّاج عن أحد الصادقين (عليهما السلام): «سألته: كيف أخذ الله آدم بالنسيان؟ فقال: إنّه لم ينسَ، وكيف ينسى وهو يذكره ويقول له إبليس: ما نهاكما ربّكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين»(12).
3- غريزتا الملك وحب الخلود غريزتان متأصّلتان في أعماق الإنسان، فبالرغم من أنّ الله أسكن آدم وحواء الجنة -وهي دار الخلود- إلا أنّهما لا زالا ينتابهما الشعور بالنّهاية، وقد أثار الشيطان فيهما هاتين الغريزتين، وهكذا انخدع آدم بإبليس الذي زيّن له الأكل من الشجرة المحرّمة، وكانت النتيجة أنّه طرد من الجنة وأُهبط إلى الأرض. وإنّما خدع آدم حين أثار إبليس فيه غريزتي (حب الملك، وحب الخلود)، ومن المعلوم أنّه لم يكن الهدف من خلق هاتين الغريزتين في النّفس أن يستخدمهما الشيطان في إغوائه الإنسان، إنّما أعطاه الله حب الملك والسيطرة، لكي يستعمر الأرض ويتحمّل الصعاب والمشاق في سبيل ذلك، وأعطاه حب الخلود لكي يحافظ على نفسه من جهة، ولكي يعرف أنّه خلق للبقاء ولكن ليس في هذه الدنيا، بل في الآخرة، وأنّه لو لم يخلد في الدنيا، فإنَّ هناك داراً أخرى سيخلد فيها.
ولكن إبليس كعادته يحرف غرائز الإنسان، التي لو استفاد منها استفادة سليمة، لكانت وقوده في الطريق الصاعد، أمّا لو استخدمها بصورة غير سليمة، فإنّها ستكون سببًا لهبوطه وتردّيه.
والشيطان حينما يوسوس للبشر فهو قد لا يتراءى له، ولكنّه يأتيه في صورة خواطر وأوهام {فَأَكلا مِنهَا فَبَدَت لَهُمَا سَوءَاتُهُمَا وطَفِقَا} أي: شرعاً وأخذا {يَخصِفَانِ} أي: يلزقان {عَلَيهِمَا مِن وَرَقِ الجَنَّةِ} حتى لا يتعرَّيا. وكانت نتيجة اقترافهما السيئة أن بدت لهما سوآتهما بعد أن ألبسهما الله الرّياش.
{وَ عَصَى آدَمُ} نصيحة {ربه فَغُوَى} أي: عصى باقترافه الخطيئة، أو تركه الهدى، وغوى عن رحمة ربّه إلى دار الشقاء إذ من معاني الغواية الضياع.
هل ارتكب آدم معصية؟
مع أنّ العصيان يأتي في عرف اليوم ـ عادةً ـ بمعنى الذنب والمعصية، إلا أنّه في اللغة يعني الخروج عن الطاعة وعدم تنفيذ الأمر سواء كان الأمر واجباً أو مستحباً، وبناءً على هذا فإنّ استعمال كلمة العصيان لا يعني بالضرورة ترك واجب أو ارتكاب محرّم، بل يُمكن أن يكون ترك أمر مستحب أو ارتكاب مكروه.
إضافةً لما مرّ، فإنّ الأمر والنهي يكون إرشادياً، كأمر ونهي الطبيب حيث يأمر المريض أن يتناول الدواء الفلاني، وأن يجتنب الغذاء الفلاني غير المناسب، ولا شك أنّ المريض إذا خالف أمر الطبيب فإنّه لا يضرّ إلا نفسه، لأنّه لم يعبأ بإرشاد الطبيب ونصيحته. وكذلك كان الله قد أمر آدم أن لا تأكل من ثمرة الشجرة الممنوعة، فإنّك إن أكلت ستخرج من الجنة، وستبتلى بالألم والمشقة الكبيرة في الأرض، فخالف هذا الأمر الإرشادي، ورأى نتيجة مخالفته أيضاً، وإذا لاحظنا أنّ هذا الكلام كان في مرحلة وجود آدم في الجنّة، وهي مرحلة اختبار لا تكليف، فسيتّضح معناه بصورة أجلى(13).
النهي الإرشادي والنهي المولوي
إنّ نهي آدم عن الشجرة الممنوعة لم يكن نهياً تحريمياً، بل كان ترك للأولى، ولكن نظراً إلى مكانة آدم ومقامه ومرتبته عُدَّ صدوره أمرًا مهماً وخطيراً، واستوجب مخالفة هذا النهي -وإن كان نهياً كراهتياً وتنزيهيّاً- تلك العقوبة والمؤاخذة من جانب الله تعالى.
هذا وقد احتمل بعض المفسرين أيضاً أنّ نهي آدم عن الشجرة الممنوعة كان {نهياً إرشادياً لا نهياً مولوياً}، وتوضيح ذلك: أنّه قد ينهى الله تعالى عن شيء من منطلق كونه مالك الإنسان وصاحب أمره ومولاه، وطاعة هذا النوع من النهي واجبة على كل أحد من النّاس، وهذا النوع من النهي واجب على كل أحد من النّاس، وهذا النوع من النّهي يُسمّى نهياً مولوياً.
ولكنّه قد ينهى عن شيء لمجرد أن ينبّه الإنسان على أنَّ ارتكاب هذا النَّهي ينطوي على أثرٍ غير محمود تماماً، مثل نهي الطبيب عن الأطعمة المضرّة، ولا شك في أنّ المريض لو خالَفَ الطبيب لا يكون قد أهان الطبيب، ولا أنّه خالف شخصه، بل يكون بتجاهله نهيَ الطبيب قد تجاهَلَ إرشاده، وجرّ إلى نفسه التَعَب.
وفي قصة آدم أيضاً قال الله تعالى له: إنَّ نتيجة الأكل من الشجرة الممنوعة هي الخروج من الجنّة، والوقوع في التعب، وكان هذا مجرد إرشاد وليس أمراً مولوياً، وبهذا فإِنّ آدم خالفَ نهياً إرشادياً فقط، لا أنّه أتى عصياناً وذنباً واقعياً.
من هنا فإنّ النهي الإرشادي لا يحتاج إلى مغفرة، في حين أنّ آدم (عليه السلام) كما في آيات القرآن الكريم يطلب من الله تعالى الغفران، هذا مضافاً إلى أنّ فترة الجنّة كانت تعدّ فترةً تدريبيّة وتعليميّة بالنسبة لآدم، فترة الوقوف على التّكاليف والأوامر والنّواهي الإلهيّة، فترة معرفة الصديق والعدوّ، فترة الوقوف على نتائج العصيان وثمرة مخالفة الأمر الإلهيّ واتّباع الشيطان وقبول وساوسه، ونحن نعلم أنّ النّهي الإرشاديّ ليس في حقيقته تكليفاً، ولا ينطوي على تعهّد، ولا يورّث مسؤولية.
ونذكّر القارئ الكريم بأنّ كلمة (النّهي والعصيان والغفران والظلم) تبدو في بادئ النّظر وكأنّها تُعطي معنى المعصية المطلقة والذنب الحقيقي وآثاره، ولكن نظراً لمسألة عصمة الأنبياء الثابتة بالدليل العقلي والنقلي تحمل جميع هذه التعابير على العصيان النسبي وهذا الأمر لا يبدو بعيداً عن ظاهر اللفظ بالنّظر إلى منزلة آدم وسائر الأنبياء العظيمة وسمّو مقامه.
يُستفاد من الكتب المقدّسة -لدى اليهود والنصارى- أنّهم يعتقدون بأن آدم (عليه السلام) ارتكب معصية، بل ترى كتبهم أنّ معصيته لم تكن معصية عادية، وإنّما كانت معصية كبيرة وإثماً عظيماً، بل إنّ الذي صَدَرَ عن آدم هو مضادّة الله والطموح في الألوهية والربوبية، ولكنّ المصادر الإسلامية -عقلاً ونقلاً- تقول لنا: إنّ الأنبياء لا يرتكبون إثماً، وإنّ منصب إمامة الناس وهدايتهم لا يعطى لمن يرتكب ذنباً ويقترف معصية، ونحن نعلم أنّ آدم كان من الأنبياء الإلهيين، وعلى هذا الأساس فإنّ كل ما ورد في هذه الآيات مثل غيرها من التعابير التي جاءت في القرآن الكريم حول سائر الأنبياء الذين نُسب إليهم العصيان، جميعها تعني (العصيان النسبي) و(ترك الأولى) لا العصيان المطلق.
وتوضيح ذلك: أنّ المعصية على نوعين: المعصية المطلقة، والمعصية النسبية.
أماالمعصية المطلقة فهي مخالفة النهي التحريمي، وتجاهل الأمر الإلهي القطعيّ، وهي تشمل كلَّ نوع من أنواع ترك الواجب وإتيان الحرام.
ولكن المعصية النسبيّة هي أن يصدر من شخصية كبيرة عمل غير حرام لا يناسب شأنه ولا يليق بمقامه، وربّما يكون إتيان عمل مباح -بل ومستحب- لا يليق بشأن الشخصيات الكبيرة، وفي هذه الصورة يُعدّ إتيان ذلك العمل )معصية نسبية(، كما لو ساعد مؤمنٌ واسع الثراء فقيراً لإنقاذه من مخالب الفقر بمبلغ تافه، فإنّه ليس من شكّ في أنّ هذه المعونة الماليّة مهما كانت صغيرة وحقيرة لا تكون فعلاً حراماً، بل هي أمر مستحب، ولكن كل من يسمع بها يذُم ذلك الغنيّ حتى كأنّه ارتكب معصية واقترف ذنباً، وذلك لأنّه يتوقع من مثل هذا الغني المؤمن أن يقوم بمساعدة أكبر. وانطلاقاً من هذه القاعدة وعلى هذا الأساسِ تقاس الأعمال التي تصدر من الشخصيات الكبيرة بمكانتهم وشأنهم الممتاز، وربما يُطلق على ذلك العمل -مع مقايسته بذلك- لفظ العصيان والذنب. فالصلاة التي يقوم بها فرد عادي قد تعتبر صلاةً ممتازة، ولكنّها تعدّ معصية إذا صدر مثلها من أولياء الله، لأنّ لحظة واحدة من الغفلة في حال العبادة لا تناسب مقامهم ولا تليق بشأنهم، بل نظراً لعلمهم وتقواهم ومنزلتهم القريبة يجب أن يكونوا حال عبادة الله تعالى مستغرقين في صفات الله الجمالية والجلالية، وغارقين في التوجّه إلى عظمته وحضرته.
وهكذا الحال في سائر أعمالهم، فإنّها على غرار عباداتهم، يجب أن تقاس بمنازلهم وشؤونهم، ولهذا إذا صدر منهم (ترك الأولى) عوتبوا من جانب الله، والمراد من ترك الأولى، هو أن يترك الإنسان فعل ما هو الأفضل، ويعمد إلى عمل جيد أو مُستحب أدنى منه في الفضل.
فإنّنا نقرأ في الأحاديث الإسلامية أنّ ما أُُصيب به يعقوب من محنةِ فراقِ ولده يوسف، كان لأجل غفلته عن إطعام فقير صائم وقف على باب بيته عند غروب الشمس يطلب طعاماً، فغفل يعقوب عن إطعامه، فعاد ذلك الفقير جائعاً منكسراً خائباً.
فلو أنّ هذا الصنيع صدر من إنسان عادي من عامة الناس لما حظي بمثل هذه الأهمية والخطورة، ولكن يُعدّ صدوره من نبي إلهيًّ كبير، ومن قائد أُمة أمراً مُهماً وخطيراً استتبع عقوبةً شديدةً من جانب الله تعالى(14).
ويتلّخص لنا ممّا مضى: أنّ نهي الله لآدم إرشادي، مثل قول الطبيب: لا تأكل الطعام الفلاني فتمرض، والله سبحانه قال لآدم: لا تقرب هذه الشجرة فتخرج من الجنّة، وآدم في أكله من الشجرة خالف نهياً إرشادياً.
قرآننا والأمر بعد الحظر والنّهي دليل على الجواز والإباحة
لأنّ الإسلام جاء منهجاً كاملاً وشاملاً لأبعاد الحياة الإنسانية جعله الله متوازناً في أصوله وأحكامه بحيث لا يتضخّم بسببه جانب في حياة الإنسان على حساب جانب آخر، فهو منهج الدنيا والآخرة، والدين والسياسة، والروح والجسد، وحيث تتكامل شخصية الإنسان بالوصول إلى المصالح المشروعة من جانب وبالالتزام بالواجبات المفروضة من جانب آخر، فقد دعاه الدّين إلى مصالحه جنباً إلى جنب دعوته للالتزام بواجباته، ولم يجعل فروضه بديلاً عمّا يطمح إليه النّاس من المصالح والتطلّعات، ولذا نجد القرآن الكريم إلى جانب أمره بالسعي إلى صلاة الجمعة يأمر بالانتشار لممارسة الحياة الطبيعيّة وبلوغ المآرب والأهداف، والحصول على الرزق ولقمة العيش، وإنّ الدعوة للصلاة يوم الجمعة وتحريم البيع حينها هي منهجيّة لتأسيس انتشار الإنسان المؤمن لابتغاء فضل الله على هدى القيم والإيمان.
{فَإذَا قُضِيَتِ الصَّلاة فَانتَشِرُوا فى الأَرضِ} كلٌّ إلى مقصده، وهذه الدعوة المنطوية على الأمر بالسعي لشؤون الدنيا تهدينا إلى أنّ الصلاة والعبادة ليست بديلاً عن ممارسة الحياة الطبيعية والاجتماعية، كما فهمها بعض المتصوّفة، فالدّين منهج لتوجيه الإنسان وقيادة الحياة، يجد النّاس فيه فرصةً للعبادة ومنهجاً للسعي والعمل، وقد قال الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير الآية: «إنّي لأركب في الحاجة التي كفاها الله، ما أركب فيها إلا التماس أن يراني الله أضحى في طلب الحلال، أمّا تسمع قول الله عز اسمه: {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله} أرأيتَ لو أنّ رجلاً دخل بيتاً وطيّن عليه بابه ثمّ قال: رزقي ينزل عليّ أكان يكون هذا؟ أمّا إنّه أحد الثلاثة الذين لا يستجاب لهم، قال الراوي: قلتُ من هؤلاء؟ قال:... والرجل يكون عنده الشيء فيجلس في بيته فلا ينتشر، ولا يطلب، ولا يلتمس حتى يأكله، ثمّ يدعو فلا يُستجاب له»(15). بلى، إنّ فضل الله ورزقه يُنال بالسعي والعمل الحثيث من أجله، لذلك يقول تعالى بعد الدعوة للانتشار: {وَابتَغُوا مِن فَضلِ اللهِ} ورغم أنّ هذه العبارة المباركة أو ما يشابهها من تعابير، وردت في القرآن الكريم للحثّ على طلب الرزق والكسب والتجارة، لكنّ الظاهر أنّ مفهوم هذه الجملة أوسع من ذلك بكثير، لهذا فسّرها بعضهم بعيادة المريض وزيارة المؤمن وطلب العلم والمعرفة، ولم يحصروها بهذه المعاني كذلك.
من الواضح أنّ الانتشار في الأرض وطلب الرزق ليس أمراً وجوبياً، ولكن -كما هو معلوم أُصولياً- (أمر بعد الحظر والنهي) دليل على الجواز والإباحة، مع أنّ البعض فهم من هذا التعبير أنّ المقصود هو استحباب طلب الرزق والكسب بعد صلاة الجمعة، وإشارة إلى كونه مباركاً أكثر. وجاء في الحديث أن الرسول (صلّى الله عليه وآله) كان يمشي في السوق بعد صلاة الجمعة(16).
قرآننا، وعدم جواز النّسخ قبل العمل
هذا الموضوع هو أحد الموضوعات المهمّة والمؤثرة في عملية التفسير، وبالنّظر لأهميته فقد كتب فيه علماء التفسير أبحاثاً كثيرة. والنّسخ في اللغة هو: إبطال الشيء وإقامة آخر مقامه، يُقال: نسخت الشمس الظلّ أي أذهبته وحلّت محلّه، وأصل الباب الإبدال من الشيء غيره.
رسالات الله وتطوّر الزمن:
ليست الثقافة الإسلامية أقل شأناً من ثقافة الآخرين، وإذا كان للآخرين كتاب فللمسلمين كتاب كريم أيضاً، لأنّ ينبوع فضل الله الذي أنزل ذلك الكتاب أنزل كتاباً أفضل منه لأنّه كتاب جديد فيه ما ينفع الحياة الحاضرة والمستقبل.
{مَا نَنسَخ} أي: ما ننزّل {من آية} تشريعيّة أو تكوينيّة، {أو نُنسِهَا} أي: أو نزيل حفظها من القلوب، فما ننسخ من آية إلا و{نَأتِ بخَيرٍ مِّنهَآ أَو مِثلِهَآ} في الكمال والصلاح، فإذا توفي نبيّ وبعث نبيّ آخر، وهما آيتان من آيات الله تعالى أحدهما ناسخ للآخر، كان ذلك جرياناً على ما يقتضيه اختلاف مصالح العباد بحسب اختلاف الأعصار وتكامل المجتمع الإنساني، وإذا نسخ حكم ديني بحكم ديني كان الجميع مشتملاً على مصلحة الدين، وكلّ من الحكمين متطابق مع مصلحة الزمان، وأصلح لحال المؤمنين، كحكم العفو في أوّل الدعوة وليس للمسلمين بعد عُدة، وحكم الجهاد بعد ذلك حينما قوي الإسلام وأعد فيهم ما استطاعوا من قوة وأدخل الرعب في قلوب المشركين، {أَلَم تَعلَم أَنَّ اللهَ علَى كلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ}.
فتأخذ مسألة وقوع النسخ في القرآن الكريم جديّتها حينما نجد الكتاب المبارك نفسه يتعرّض لهذا الموضوع، حيث يظهر من قوله المتقدّم الاعتراف بوقوع النسخ في بعض الآيات القرآنيّة. وقد اتّفق المفسّرون على أنّ الآية دالة على وقوع النّسخ في القرآن الكريم، واختلفوا في قوله تعالى: {أَو نُنسِهَا} فهل المقصود هو نسيان المسلمين ومنهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) للآية بحيث لم يعودوا يذكرونها ولا يقرأونها، كما هو ظاهر الكلمة؟ أم أنّ المقصود بكلمة {نُنسِهَا} نتركها على حالها فلا ننسخها ولا نغيرها، فالكلمة، هنا في مقابل النّسخ بمعنى الإبقاء.
ربما يكون هذا المعنى الثاني هو الأقرب، حيث لم يُعرف على عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنّ المسلمين قد أنساهم الله آية من الآيات القرآنيّة، كما أنّ نسيان الآية القرآنية ممتنع على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لقوله تعالى: {سَنُقرِئُك فَلا تَنسَى}(17) أي سنعلّمك القرآن ونحفّظك إيّاه على ما أنزل بحيث لا تنساه أبداً، حيث أخبر الله تعالى عن نبيّه بعدم النسيان للقرآن الكريم. هذا كلّه إذا كنّا قد حملنا الآية على النّسخ التشريعي، ولم نحملها على النسخ التكويني الذي يعني أنّ الله تعالى ينسخ بعض الحقائق الكونية ببعض آخر، ومنه ما جاء في بعض الأخبار عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أنّ «موت إمام وقيام إمام آخر مقامه من النسخ»(18).
معنى النّسخ
يأتي النسخ في الاستعمال اللغويّ بمعنى (نقل الصورة) ومنه جاءت كلمة (استنساخ) المستعملة في هذا المعنى.
أمّا في المعنى الاصطلاحيّ فهو: تطوير أسلوب الحكم بما يتناسب مع تطور الحياة بالرغم من وجود ذات الحكم، مثل القبلة، كانت إلى المسجد الأقصى في الشرايع السابقة، فتحولت إلى الكعبة، وقد يكون النّسخ، هو: بإلغاء الحكم رأساً مثل المحرّمات التي كانت على بني إسرائيل في الأكل فألغيت في الشريعة الإسلامية. والله حين ينسخ شريعة ينسخ قيادة تلك الشريعة أيضاً، فموسى وعيسى (عليهما السلام) نسخت شرائعمها وانتهت فترة قيادتهما للنّاس، والآية بهذا المعنى تشمل الإنسان القائد الذي يجسّد آيات الله عملياً، إذاً كلام الله يدلّ على أنّ لكل عصر قادته الذين يستمدون من الدّين الأحكام المتصلة بظروفهم، والله قادر على إبداع آيات جديدة، وبعث قادة جُدد، وقد جاء في النصوص تفسير هذه الآية -مورد البحث- بوفاة إمام عادل وقيام إمام آخر مقامه.
وهنا أودّ إلفات نظر قارئي الكريم إلى هذا السؤال المهم الذي يطرح نفسه في هذا البحث: هل أنّ إبراهيم (عليه السلام) كان حقًا مكلّفًا بذبح ابنه أم أنّه كان مكلفًا بتنفيذ مقدّمات الذبح؟ فإن كان مكلّفًا بالذبح، فكيف ينسخ هذا الحكم الإلهي قبل تنفيذ عملية الذبح، في حين أنّ النسخ قبل العمل غير جائز، وهذا المعنى ثابت في علم أُصول الفقه. وإن كان مكلفًا بتنفيذ مقدمات عملية الذبح، فهذا لا يعتبر فخرًا له، وما قيل من أنّ أهميّة المسألة نشأت من أنّ إبراهيم (عليه السلام) بعد تنفيذه لهذا الأمر وتهيئة مقدماته كان ينتظر نزول أمر بشأن الذبح وكان هذا هو الامتحان الكبير له، فهو كلام غير جدير بالردّ.
باعتقادنا، أن التقوّلات هذه ناشئة من عدم التفريق بين الأوامر الامتحانية وغير الامتحانية، فالأمر الصادر إلى إبراهيم (عليه السلام) هو أمر امتحانيّ، وكما هو معروف فإنّ الأوامر الامتحانية لا تتعلّق فيها الإرادة الحقيقيّة بطبيعة العمل، وإنمّا الهدف منها توضيح مقدار الاستعداد الموجود عند الإنسان الممتحن بالنسبة إلى طاعته للأوامر؟ كما أنّ الشخص الممتحن ليس له اطّلاع بخفايا الأُمور، وبهذا الشكل فإنّ عمليّة النّسخ لم تحصل هنا حتى تناقش قضية صحتها ووقوعها قبل العمل(19).
قرآننا، وقاعدة قبح العقاب بلا بيان
لا شك ولا ريب أنّ شهادة الله (عزّ وجلّ) أعظم شهادة فهي من ربّ العالمين {قُل} يا محمد لهؤلاء الكفار: {أيُّ شَيءٍ أكبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللهُْ} أعظم شهادة، وهو{شَهِيد بَينِي وبَينَكم} وهل هناك دليل أكبر من هذا القرآن؟ {وَأُوحِى إِلَى هَذَا القُرآنُ} المعجز الذي هو أكبر شاهد على صدق نبوتي، ثمّ تأتي الإشارة إلى هدف نزول القرآن ويقول: {لأُنذِرَكم بِهِ وَمَن بَلَغَ} أي أنّ القرآن قد نزل عليّ لكي أنذركم، وأنذر جميع الذين يصل إليهم إلى يوم القيامة، وأحذرهم عواقب عصيانهم.
بعض العلماء استدلّوا بهذا التعبير وأمثاله على ختم النبوة برسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فهذه الجملة تعني أنّ الرسول (صلّى الله عليه وآله) قد بعث إلى جميع الذين تصلهم دعوته، وهذا يشمل جميع الذين يردون الحياة حتى نهاية العالم. وتفيد الأحاديث الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام) أنّ مفهوم إبلاغ القرآن لا يعني مجرّد وصول نصوصه إلى الأقوام الأُخرى فحسب، بل إنّ المفهوم يشمل وصول ترجماته بمختلف اللغات إلى تلك الأقوام. جاء عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه عندما سئل عن هذه الآية قال: «بكل لسان»(20).
كما أنّ من أُصول الفقه المسلم بها هو مبدأ (قبح العقاب بلا بيان) وهذا ما تفيده الآية المذكورة. فقد ثبت في أصول الفقه أنّه ما دام الحكم لم يبلغ شخصاً، فإنّه لا يتحمّل مسؤولية تنفيذه إلا إذا كان مقصرًا في استيعاب الحكم، فهذه الآية تقول بأنّ الذين تصلهم الدعوة يتحمّلون مسؤوليتها، أمّا الذين لم تصلهم الدعوة، بدون تقصير، فلا مسؤولية عليهم.
في تفسير المنار رواية عن أُبي بن كعب قال: أُتي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بأسارى فقال لهم: هل دُعيتم إلى الإسلام؟ قالوا: لا، فخلّى سبيلهم، ثم قرأ {وَأُوحِيَ إليَّ هَذَا القُرآنُ لأُنذِرَكم بِهِ وَمَن بَلَغَ}، ثم قال: خلوا سبيلهم حتى يأتوا مأمنهم من أجل أنّهم لم يدعوا(21).
قرآننا، وآية أخرى حول قاعدة قبح العقاب بلا بيان
إنّ الأمم السالفة كذبت أنبياءها واحدًا بعد الآخر، وبمقتضى قوله تعالى: {وَمَا كان أَكثَرُهُم مُّؤمِنِينَ}(22) الوارد في نهاية تلك القصص إنّ أكثرهم لم يؤمنوا بالرسل، بالرغم من قوّة الحجة وتظافر الآيات والعبر الكثيرة، فإنّ العيون مغلقة، والقلوب محجوبة، ولكنّ أكثر النّاس عندما تمرّ عليهم مثل هذه العبر لا يؤمنون بها، ولا يتعظون بها، ولا يستفيدون من أخطاء الماضين، فعلام يأتي الأنبياء منذرين ومبشرين؟!
فالقرآن يجيب على هذا السؤال بأنّ ذلك سنة الله {وَمَا أَهلَكنَا من قَريَةٍ إَلا لَهَا مُنذِرُونَ}(23) ما أرحم الله بعباده، حتى بعد انحرافهم وفسادهم لا يأخذهم حتى يبعث فيهم رسولاً، ويقيم عليهم الحجة بعد الحجة. وما أعزّه من إله مقتدر جبَّار، يأخذهم إذا تمرّدوا على رسله بأشدّ العذاب في الدنيا، ولعذاب الآخرة أشدّ وأخزى. ومع كل تلك الآيات ترى أكثر الناس لا يؤمنون، حتى يحلّ بهم العذاب مباشرة.
ولو كنّا نأخذهم بدون إتمام الحجة، وذلك بإرسال المنذرين والمبشرين -من قِبَلِ الله- لكان ظلماً منّا {ذِكرَى وَمَا كنَّا ظَالِمِينَ}(24) وما ورد في هذه الآيات هو في الحقيقة بيان للقاعدة العقلية المعروفة بـ (قاعدة قبح العقاب بلا بيان) أجل... إنّ العقاب بدون البيان الكافي قبيح، كما أنّه ظلم، والله العادل الحكيم محال أن يفعل ذلك أبداً، وهذا ما يعبّر عنه في علم الأصول بـ (أصل البراءة) ومعناه أنّ كل حكم لم يقم عليه الدليل، فإنّه يُنفى بواسطة هذا الأصل.
قرآننا، وقاعدة أصل البراءة وآية ما كنّا معذبين
في علم الأصول، وفي بحث (البراءة) استدلوا بقوله تعالى: {وَمَا كنّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبعَثَ رَسُولاً}(25) على أنّ فهم الآية يُوَضِّح أنَّ المسائل التي لا يمكن للعقل إدراكها أو القطع بها، لا يُعاقب عليها الإنسان حتى يبعث الله الرسل والأنبياء ليبيّنوا الأحكام والتكاليف والوظائف، وكلمة «الرسول» هنا عامّة تشمل كل من حملة رسالة التوحيد بصورة مباشرة كرسول الله (صلّى الله عليه وآله) أو غير مباشرة مثل الأئمة المعصومين (عليهم السلام) أو الفقهاء المجتهدين وهذا بحدّ ذاته دليل على عدم العقاب في الأُمور التي لم تُقم الحجة عليها، وقاعدة (أصل البراءة) لا تعني شيئاً غير هذا، أي لا عقاب بدون حجة مِن العقل أو النّقل، إذًا لا بدّ من بيان التكليف وإلقاء الحجة.
هناك نقاش بين المفسّرين حول نوع العذاب المقصود هنا، وهل هو نوع من أنواع العذاب الذي يقع في الدنيا أو في الآخرة، أم المقصود به هو عذاب «الاستيصال» الذي يعني العذاب الشامل المُدمِّر كطوفان نوح مثلاً؟ إنَّ ظاهر الآية الكريمة يدلّ على الإِطلاق، وهو بالتالي يشمل كلّ أنواع العذاب(26).
قرآننا، وإثبات (أصل البراءة)
استدل بقوله تعالى: {لا يُكلِفُ اللهُ نَفسًا إلا مَا آتَاهَا}(27) على إثبات (أصل البراءة) في مباحث علم الأُصول، فمن لا يعلم حكماً ليس عليه مسؤولية تجاه ذلك الحكم. ونظراً لأنّ عدم الاطّلاع يؤدي أحياناً إلى عدم المقدرة، فمن الممكن أن يكون المقصود هو الجهل الذي يكون مصدراً للعجز. وبناءاً على هذا فإنّه سيكون للآية مفهوم واسع يشمل عدم القدرة والجهل الذي يؤدي إلى عدم القدرة على إنجاز التكليف.
وبتعبيرٍ آخر في التوضيح نقول: إنّ تشريع الله (عزّ وجلّ) تشريع واقعي عملي، وحاشا له أن يكلّف أحدًا ما لا يطيق، وهذه الآية لا تقتصر على مسألة النّفقة على الزوجة حين العدّة، بل هي قاعدة لتنظيم الاقتصاد الفردي، وحلّ المشاكل المتصلة به في المجتمع والأسرة، فلا غرو أن يوسع الغني على نفسه من المال الحلال لأنّ الله إذا أنعم على عبد نعمةً أحب أن يراها فيه، قال أبو عبد الله (عليه السلام) وقد سأله أحد أصحابه عن الرجل الموسر يتخذ الثياب الكثيرة الجياد والطيالسة والقمص الكثيرة يصون بعضها بعضاً يتجمّل بها أيكون مسرفًا؟ قال «لا، لأنّ الله عزوجل يقول: {ينفق ذو سعة من سعته}(28)، ومن جهة أُخرى يجب أن لا ينفق الفقير أكثر من طاقته تلبية لرغباته الشخصية أو تظاهراً بين النّاس أو لكي يوافق المجتمع المحيط في معيشته ومظاهره، فإنّ ذلك يوقعه في مشاكل اقتصادية تنتهي إلى انحرافات خطيرة بعض الأحيان.
قرآننا، وأصل الحليّة
قال الله تعالى: {يا أيُّهَا النَّاسُ كلُوا مِمَّا في الأرضِ حَلالاً طَيّبًا وَلا تَتّبعُوا خُطُوَاتِ الشَّيطانِ إنَّهُ لَكم عَدُوٌّ مُّبِينُ}(29).
إنّ الأصل في كل الأشياء، ومنها الأغذية الموجودة على ظهر الأرض الحليّة، حتى يثبت أنّها حرام والتعبير بـ {مِمَّا في الأرضِ} تعبير يدل على الإطلاق، من هنا فإنّ الحرمة تحتاج إلى دليل لا الحليّة.
لهذا نعرف أنّ مجتمع الحرية هو مجتمع التقدم والرفاه، ويربط القرآن الحكيم بين التحرر من اتّباع شياطين الثروة والسلطة والدين، وبين الانتفاع التامّ بما في الحياة من نعم طيبة. هؤلاء الشياطين يحرّمون على النّاس الطيّبات من الرزق لجهلهم، أو لأنّهم يريدون أن يستأثروا بها، أو لأنّهم يحاولون إبقاء النّاس ضعفاء مقهورين، ولكنّ الله خلق الأشياء لنا، وعلينا أن نعمل من أجل الحصول عليها ونتجاوز العقبات من أجلها. ففي هذه الآية دعوة للنّاس بكل صراحة إلى الاستفادة ممّا في الأرض وهي دعوة ضمنيّة لكسر حواجز العبوديّة التي ترتبط في القرآن الكريم بأمر الشيطان الذي يأمر بالسوء والفحشاء.
{وَلا تَتَّبعُوا خُطُوَاتِ الشَّيطَانِ إنَّهُ لَكم عَدُوٌّ مُّبِينٌ}(30) إنّه لا يريدكم أن تتنعموا بالحياة فلماذا تتّبعوه؟ الذين يمنعون زراعة الأرض بحجة أنّها لفلان هم أعداء الإنسان، والذين يمنعون التجارة ويضعون حواجز في طريق الله هم أعداء الإنسان، والذين يمنعون عمارة الأرض هم أعداء الانسان، وعلى الإنسان ألا يتبع أعداءه.
ويتلّخص لنا ممّا مضى: أنّ ما خلقه الله لا بدّ أن ينطوي على فائدة لعباده، من هنا فلا معنى أن يكون الأصل الأوّلي للأطعمة على ظهر الأرض التحريم، فكل غذاء إذن حسب هذه الآية الكريمة حلال ما لم تثبت حرمته بدليل صحيح، وما دام لا يشكل ضرراً على الفرد والمجتمع.
قرآننا، وجملة {مَا عَلَى المُحسِنِيِنَ مِن سَبِيلِ}
إنّ جملة {مَا عَلَى المُحسِنِينَ مِن سَبِيلٍ} أصبحت منبعًا قانونياً واسعاً في المباحث الفقهية حيث استفاد الفقهاء منها أحكامًا كثيرة، فمثلاً: إذ تلفت الوديعة في يد الأمين بدون أيّ إفراط أو تفريط منه، فإنّه لا يكون ضامناً، ومن جملة الأدلّة على هذه المسألة هي الآية المذكورة، لأنّه محسن، ولم يرتكب مخالفة، فإذا اعتبرناه مسؤولا وضامناً، فإنّ هذا يعني أنّ المحسن مؤاخذ.
ليس هناك شك في أنّ الآية المذكورة قد وردت في المجاهدين، إلا إنّا نعلم أنّ مورد الآية لا ينقص من عموميتها، وبعبارة أخرى، فإنّ مورد الآية لا يخصّص الحكم مطلقًا.
قرآننا، وقاعدة لا حرج
يريد القرآن الكريم بالنّاس اليسر ولا يريد بهم العسر، كما أشار إليها في موضوع الصوم وفوائده وحكم المسافر والمريض، لكن أُسلوبها العام يجعلها قاعدة تشمل كل الأحكام الإسلامية، ويصير منها سنداً لقاعدة (لا حرج) المعروفة.
أحكام الإسلام أحكام سهلة، فالذين لا يصلّون يتصوّرون أنّ الصلاة صعبة، ولكنّ الذين يؤدون الصلاة بخشوع لله فإنّهم ليسوا فقط يرونها سهلة، بل يجدون فيها اللّذة أيضاً، وقد يسّر الإسلام كلّ العبادات فلم يجعل من الصلاة حركات رياضيّة صعبة مرهقة كتسلّق الجبال إنّما جعلها خفيفة، وكذلك فإنّه لم يجعل الصيام عملية تجويع متعبة، وإنّما هي سويعات صبر وبعدها نعود إلى مآكلنا ومشاربنا، هذا من ناحية ومن ناحية ثانية فإنّ الإسلام يخفّف بعض الأحكام في الحرج، حيث لا يستطيع الإنسان أن يؤدي الفرض كاملاً.
جاء رجل إلى الإمام الصادق (عليه السلام) وقال: جرح إصبعي فوضعت عليه مرارة حتى يندمل الجرح، فكيف أتوضأ؟ فقال الإمام (عليه السلام): هذا وأمثاله يعرف من القرآن، إنّ الله سبحانه وتعالى يقول: {وَمَا جَعَلَ عَلَيكم في الدِّينِ مِن حَرَجٍ} امسح عليه. وعن الرسول (صلّى الله عليه وآله) قال: «بُعِثتُ عَلَى الشَّريعةِ السَّمحَة السَّهلَةِ».
وقال الله تعالى في آية أخرى حول الحرج: {مَا يُريِدُ اللهُ لِيجعَلَ عَلَيكم من حَرَجٍ}(31) إنّ أي حكم شرعي يصل في صعوبته إلى درجة الحرج وهي الصعوبة الشديدة التي لا تحتمل فإنّه يُلغى أو يُبدل بما هو أخفّ منه فالحج والصوم والصلاة و... و... إذا كانت تحتوي على صعوبات جسدية لا يحتملها ولا يطيقها الشخص فإنّها تخفّف فيسقط بعض واجبات الحجّ ويبقى البعض فقط، ونستطيع أن نستأنس بهذه الأمثال التي ساقها القرآن الحكيم في آياته الكريمة، في تفصيلات قاعدة الحرج وتعميماتها على الأحكام الجزئية الأخرى.
ولا يخفى على قارئي الفطن أنّ هناك من الأحكام الإلهية ما يظهر فيها الصعوبة والمشقة بذاتها مثل حكم الجهاد، إلا أنّه ولدى مقارنة المصالح التي تتحقق بالجهاد مع الصعوبات والمشاق التي فيه، تترجح كفة المصالح وأهميتها فلا تكون المشاق أمامها شيئاً يذكر، وقد سمّي القانون الذي أثبتته الجملة القرآنية المتقدمة بقانون (لاحرج) وهو مبدأ أساسي يستخدمه الفقهاء في أبواب مختلفة ويستنبطون منه أحكاماً كثيرة.
قرآننا وقانون لا ضرر
كما يعلم قارئي الكريم أنّه لدينا في الإسلام قانون مسلّم به، وهو قانون (لا ضرر) يُمكن من خلاله تحديد أيّ حكم يكون منبعًا ومصدراً للضرر والخسارة في المجتمع، وعن هذا الطريق ترفع كثير من الاحتياجات.
ويُمكن أن يطرح هنا، وهو: أنّنا نعلم أنّ مقتضيات الأزمنة والأمكنة ومتطلّباتها متفاوتة، وبتعبير آخر فإنّ حاجات الإنسان في تغيّر مستمرّ، في حين أنّ للشريعة الخاتمة قوانين ثابتة، فهل تقوى هذه القوانين الثابتة على أن تؤمن حاجات الإنسان المتغيّرة على مدى الزمان؟ ويُمكن الإجابة على هذا السؤال بملاحظة المسألة التالية، وهي: أنّه لو كانت لكل قوانين الإسلام صفة الجزئية، وأنّها قد عيّنت لكل موضوع حكماً جزئياً معيناً لكان هناك مجال لهذا السؤال، أمّا إذا عرفنا بأنّ في تعليمات الإسلام سلسلة من الأصول الكلية الواسعة جداً، والتي تقدّر على أنّ تطابق الحاجات المتغيرة وتؤمنها، فلا يبقى مجال لهذا الإشكال(32).
قرآننا، وجانب من أحكام الطلاق
يتناول قوله تعالى: {يا أَيُّّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نَكحتُمَ المُؤمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقتُمُوهُنَّ مِن قَبلِ إَن تَمَسُّوهُنَّ} أي: تدخلوا بهنّ{فَمَا لَكم عَلَيهِنَّ مِن عِدَّةٍ تَعتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ} أي: فأعطوهنّ شيئًا من المال يناسب حالهنّ يتمتعن به{وَسرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً}(33).
الحديث عن العلاقة الزوجية عند الرسول (صلّى الله عليه وآله) وبعض محدداتها، وقبل الدخول في تفصيل الآية هناك ملاحظتان:
1- أنّ وجود آيات في القرآن الحكيم تنهى الرسول (صلّى الله عليه وآله) عن بعض الأمور دون الآخرين، أو تفرض عليه واجبات من دونهم، أو تزجره على بعض أفعاله، وتكشف بعض ما أخفاه، كما في زواجه بزينب بنت جحش، كلّ ذلك يدل على أنّ القرآن الكريم ليس من عند الرسول نفسه، وإنّما هو وحي من الله له، فلحن القرآن، يهدينا إلى أنّ المتكلّم غيره، إذ لو كان هو المتحدّث لما تكلّم على نفسه بزجر أو نهي.
2- توجد في القرآن الكريم كما في الأحاديث بعض الأحكام الخاصة بالرسول ذاته، كوجوب صلاة الليل عليه، وجواز زواجه بأكثر من أربع، وبمن تهب نفسها له، وخصائص أخرى رفعها بعض العلماء إلى أكثر من سبعة عشر خصيصة، ومع أنّ هذه الأمور لا تنسحب إلى غير الرسول (صلّى الله عليه وآله) حتى إذا كان من القيادات الإسلامية، إلا أنّ ذلك يدلّ على أنّ بعض الأمور تخصّ القائد بصورة مجملة، وينبغي للجميع معرفتها ومراعاتها، ومن أهمّ هذه الأمور هو الوقت الهام عند القيادة.
إنّ آيات سورة الأحزاب جاءت على شكل مجموعات مختلفة، والخطاب في بعضها موجه إلى النبي (صلّى الله عليه وآله)، وفي بعضها الآخر إلى كلّ المؤمنين، ولذلك تقول أحيانًا: «يا أيها النبي»، وأحيانًا أُخرى: «يا أيها الذين آمنوا» قد وردت فيها الأوامر اللازمة يوازي بعضها بعضاً، وهذا يعني أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) كان مراداً بهذه التعليمات، كما أنّ عموم المؤمنين يرادون بها أيضاً.
والآية التي نبحثها من الآيات التي توجه خطابها إلى كل المؤمنين، في حين أنّ الآيات السابقة خاطبت شخص النبي (صلّى الله عليه وآله) ظاهراً ويتوجه الخطاب إلى النبي (صلّى الله عليه وآله) في الآيات القادمة مرّة أخرى. تقول الآية: {يا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذا نَكحتُمُ المُؤمِنَاتِ ثم طَلَقتُمُوهُنَّ مِن قَبلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكم عَلَيهِنَّ مِن عِدَّةٍ تَعتَدُّونَهَََََََا فَمَتِّعُوهُنَّ وسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً}.
وفي توضيح هذه الآية نقول: إذا عقد المؤمن على امرأة، ثم طلّقها من قبل أن يمسّها، فلا تجب عليها العدة، بل يجوز لها أن تتزوج بعد الطلاق مباشرة، وإذا كان فرض لها مهراً محدّداً وجب عليه دفع النصف لها، وعند كون المهر محدداً، فإنّ لها عليه أن يمتعها بأن يدفع لها شيئًا من المتاع ذهبًا أو مالاً أو لباساً مما يجبر كسر شأنها عند قريناتها، من دون نزاع أو جدل، أو تهمة يلقيها كل طرف على الآخر، تبريراً للفرقة، أو تشفياً من صاحبه، وهذا الأمر ينبغي أن ينسحب على جميع العقود والمعاملات الاجتماعية والمالية وغيرهما.
ثمّ إنّه يستفاد من تعبير «لَكم» وكذلك جملة «تَعتَدُّونَهَا» أنّ انتظار عدّة المرأة يعتبر حقاً للرجل، ويجب أن يكون هكذا، لأنّ من الممكن أن تكون المرأة حاملاً في الواقع، وتركها العدة وزواجها برجل آخر يجعل حال الولد غير معلوم، ويؤدي إلى ضياع حقّ الرجل إضافةً إلى أنّ انتظار العدة يمنح الرجل والمرأة فرصة لتجديد النظر والرجوع إلى بعضهما، فقد يقع الطلاق نتيجة انفعالات شديدة، ومثل هذه الفرصة والتفكير حقّ للرجل والمرأة معاً.
وأمّا ما أورده البعض على هذا الحكم، بأنّ العدة إن كانت حقاً للرجل، فبإمكانه أن يسقط حقّه، فلا يصح، لأنّ في الفقه حقوقاً كثيرة لا يمكن إسقاطها، كالحق الذي لورثة الميت في أمواله، أو الحق الذي للفقراء في الزكاة، إذ لا يقدر أيّ أحد على إسقاط هذا الحق الشرعيّ.
ثم تتطرق الآية إلى حكم آخر من أحكام النساء اللاتي يطلقن قبل المباشرة الجنسية فتقول: {فَمَتِّعُوهُنَّ} أي: أعطوهنّ هدية مناسبة.
ولا شك أنّ تقديم هدية مناسبة إلى المرأة يكون واجباً في حالة عدم تعيين المهر من قبل، كما جاء في قوله تعالى: {لا جُنَاحَ عَلَيكم إن طَلَّقتُمَ النِسَاءَ مَا لَم تَمَسُّوهُنَّ} أي: تجامعوهنّ {أَو تَفرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} أي: صداقاً، أو مهراً، {وَمَتِّعُوهُنَّ} أي: أعطوهنّ هدية يتمتعن بها {عَلَى المُوسِعِ} أي: الغنيّ، {قَدَرُهُ وَعَلَى المُقتِرِ} أي: الفقير {مَتَاعَا بِالمَعرُوفِ} أي: يقدّم بطريقة لائقة بعيداً عن الإسراف والبخل، {حَقًّا} أي: واجباً {عَلَى المُحسِنِينَ}(34).
ولهذه الهدية -كما يعرف قارئي الكريم- أثر كبير في القضاء على الحقد وروح الانتقام، وفي الحيلولة دون إصابة المرأة بعقد نفسية بسبب فسخ عقد الزواج.
وآخر حكم في الآية مورد البحث هو: {وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} السراج الجميل هو: الطلاق المقترن بالمحبة والاحترام، وترك كل خشونة وظلم وجور واحتقار، والخلاصة هو ما ورد في قوله تعالى: {فَإِمسَاك بِمَعرُوفٍ أَو تَسرِيحٌ بإِحسَانٍ}(35) أي: إمّا زواج صالح ومعاشرة معروفة، أو إنهاء العلاقة الزوجية للأخير، وإعطاءها حقوقها وإضافة الإحسان إلى الحقوق.
وعند الطلاق يبقى المهر عند المرأة ولا يحلّ للرجل أن يسترجع المهر إلا في حالة واحدة هي: تنازل المرأة عن مهرها في مقابل قبول الرجل بطلاقها، إذا هي أرادت الطلاق، وبالطبع في هذه الحالة يجب أن يتدخل الناس ليعرفوا ما إذا كان طلب الطلاق من قبل الزوجة مستنداً إلى تضييع الزوج لحقوق الزوجية، وعدم رعاية حدود الله فيها، أم نابع من شهوة أو غضبة عابرة.
من هنا، فإنّ الاستمرار في الحياة الزوجية يجب أن يكون قائماً على أساس المعايير الإنسانية، والطلاق كذلك، فلا يجوز للرجل -إذا صمّم على طلاق زوجته- هضم حق الزوجة ومهرها، وبذاءة الكلام والخشونة معها، فإنّ هذا السلوك غير إسلامي قطعاً، ولا يمتّ إلى الإسلام بصلة.
قرآننا، وعبارة (الإسلام يجبُّ ما قبله)
من المعلوم في أُسلوب القرآن الكريم هو الجمع بين البشارة والنذارة، أي إنّه كما ينذر أعداء الحق بالعقاب والعذاب، فإنّه يفتح أمامهم في الوقت نفسه طريق العودة.
وقوله تعالى: {قُل لِلَّذِين كفَرُوا إن يَنتَهُوا يُغفَر لَهُم مَّا قَد سَلَفَ}(36). فهذه الآية تتّبع هذا الأُسلوب ذاته حتى أُُمر النبي (صلّى الله عليه وآله) بها. ويستفاد من الآية المباركة أنّ قبول الإسلام يوجب محو كل سابقة وهو ما ورد في الروايات على أنّه أصل عام، كما في عبارة (الإسلام يجبُّ ما قبله) أو ما جاء عن أهل السنة في تعبير آخر عن النبي (صلّى الله عليه وآله) أنّ «الإسلام يهدم ما كان قبله، وأنّ الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأنّ الحج يهدم ما كان قبله»(37).
والمقصود هو أنّ كل ما عمله الإنسان من سيئات وحتى تركه للفرائض والواجبات قَبلَ إسلامه فسوف يُمحى عنه بقبوله الإسلام، ولا يكون قبوله للإسلام أثر رجعي لما سبق، لهذا ورد في كتب الفقه عدُم وجوب قضاء ما فات من العبادات على من أسلم(38). والحمد لله رب العالمين.
* الهوامش:
(1) سورة الأحزاب، الآية 53.
(2) لسان العرب مادة حجب.
(3) سورة الإسراء، الآية 45.
(4) سورة ص، الآية 32.
(5) سورة الشورى، الآية 51.
(6) صحيح البخاري، ج 6، ص 149.
(7) نفس المصدر.
(8) تفسير الأمثل، ج 13، ص 236.
(9) سورة النور، الآية 63.
(10) {دعاء الرسول}: دعوة الرسول للمسلمين لأمر من الأمور كدعوتهم للتجمع أو للقتال، وقيل: نداء الرسول.
(11) تفسير نور الثقلين، ج 3، ص 629.
(12) نفس المصدر، ج3، ص402.
(13) تفسير الأمثل،ج10، ص68، بتصرف.
(14) تفسير نور الثقلين،ج2،ص411، نقلاً عن كتاب علل الشرائع، بتصرف.
(15) تفسير نور الثقلين، ج5، ص327.
(16) تفسير الأمثل، ج18، ص244، بتصرف.
(17) سوره الأعلی، الآية6.
(18) وللمزيد يرجی من قارئي النبيه مراجعة كتاب الميزان للطباطبائي، وكذلك مجمع البيان للطبرسی.
(19) تفسير الأمثل، ج14، ص272،بتصرف.
(20) تفسير البرهان، للبحراني، ذيل الآية.
(21) تفسير المنار، ج7، ص 341.
(22) سورة الشعراء، الآية 67.
(23) نفس السورة، الآية208.
(24) نفس السورة، الآية209.
(25) سورة الإسراء، لآية 15.
(26) تفسير الأمثل، ج8، ص 313.
(27) سورة الطلاق، الآية7.
(28) تفسير نور الثقلين، ج5، ص363.
(29) سورة البقرة، الآية168.
(30) {خطوات} الخطوة بعد ما بين القدمين للماش وخطوات الشيطان آثاره.
(31) سورة المائدة، الآية6.
(32) تفسير الأمثل، ج13، ص204، بتصرف.
(33) سورة الأحزاب، الآية49.
(34) سورة البقرة، الآية236.
(35) نفس السورة، الآية229، والإمساك هو خلاف الإطلاق، كالممسك البخيل.
(36) سورة الأنفال، الآية38.
(37) صحيح مسلم وفقاً لما نقله صاحب المنار في تفسيره، ج9، ص665.
(38) تفسير الأمثل، ج5، ص289، بتصرف.
0 التعليق
ارسال التعليق