بسم الله الرحمن الرحيم، وصلّى الله على محمّد وآله.
هذه القاعدة من ضروريات الفقه -كما قيل(1)-، فإن ثبتت فهي لا تختصّ بباب من أبواب الفقه دون باب، بل لها مساحاتٌ كبيرة في كلّ باب فقهيّ.
دليليّة الكتاب
وهذه الرسالة ممحّضة في مدركها؛ تعقّباً لما ذكر من عدم الدليل عليه(2)، وإيراداً لما أُغفل ولم يُذكر، فأقول: عمدة الدليل عليها من الكتاب العزيز مقطعان:
الأول: قول الله (عزَّ وجلَّ): {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}(3)، فإنّ واضحه نفي الحكم الذي يستلزم الحرج ورفعه عن المكلّفين، ومقتضاه أنّ كلّ حرج في الدين مرفوع سواءً كان حرجاً في أصل الحكم أو حرجاً طارئاً عليه اتفاقاً(4).
مناقشاتٌ ودُفوع
وهنا مناقشتان رئيستان، إحداهما: احتمال أنّه لبيان أنّ دين الله سبحانه المجعول فعلاً واسعٌ وليس حرجيّاً، أو أنه لبيان أنّ الغرض من الأحكام ليس جهة الحرج، بل الغايات المهمّة المترتّبة عليها. وثانيتهما: احتمال اختصاص المخاطَب بـ (عليكم) ببعض المكلّفين.
المناقشة الأولى ودفعها:
أمّا احتمال أنّه لبيان أنّ الغرض من الأحكام ليس جهة الحرج، وإن كانت حرجيّة، وإنّما هو الغايات المهمّة الشريفة المترتِّبة عليها(5)- فإنّه وإن كان ظاهرَ ذيل آية الوضوء: {وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}(6)- إلا أنّه خلاف ظاهر المقطع جدّاً، فلا يندفع بمثله الاستدلال به للقاعدة.
وما ذكره أحد الأعلام (قدِّس سرُّه) من ورود المقطع في الجهاد، وهو من أظهر مصاديق الحرج سواءً أريد به جهاد العدو أو جهاد النفس، ومثل هذا الحكم لا يرتفع بدليل نفي الحرج لو ثبتت قاعدته، ومعه فلا بدّ من رفع اليد عن ظهور المقطع في القاعدة، وإلا للزم خروج موردها، وهو مستهجن عرفاً(7)- أمرٌ غير بيّن ولا مبيّن، بل ظاهر المقطع بقرينة قوله سبحانه: {فِي الدِّينِ}، وقوله: {فِي اللَّهِ} في المقطع السابق: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ}- إرادة غير الجهادين المذكورين، وهو إخلاص العمل وإضافته إلى الله سبحانه، فهو على حدّ قوله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}(8)، المعلوم عدم إرادة واحد من الجهادين منه.
وتعقيب المقطع بقوله: {مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ} كما يتناسب مع مقام الترغيب في امتثال الأحكام ولو كانت حرجيّة(9)- فإنّه يتناسب مع مقام الترغيب والتحضيض على امتثال الأحكام بعد عدم الحرج فيه، فلا يكون هذا المقطع قرينةً على إرادة بيان أنّ الغرض من الأحكام ليس جهة الحرج وإن اتفق، بل هو على وزان أن يقال: (تصدّق بدرهم فإنّه لا يثقلك).
وأمّا ما ذكره أحد الأعلام (قدِّس سرُّه) من عدم نظر: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} إلى نفي الحكم الثابت بمقتضى دليله إذا كان مستلزماً للحرج، بل نظره إلى بيان أنّ دين الله سبحانه المجعول فعلاً واسع سهل ليس بحرجيّ في قبال بعض الأديان السابقة التي كانت تتضمن الأحكام الشاقّة التي يعسر تحمّلها، ومعه فلا دلالة لها على المدّعى(10)- فإنّ نفس هذا الوجه كافٍ -كما أفاده (قدِّس سرُّه)- في استفادة نفي الحكم في مورد الحرج؛ وقد علّل ذلك بأنّ جعل الحكم في مورد الحرج يتنافى مع المدلول المطابقي للمقطع، وهو كون الشريعة الإسلاميّة سهلةً لا ضيق فيها، فنفي الحكم الحرجيّ يكون بالملازمة لا بالمدلول المطابقي.
وأمّا ما تعقّب به هذا الوجه من أنّا نعلم بورود أحكام في الشريعة كموارد الجهاد، بحيث لا يمكن الالتزام بارتفاعها في مورد الحرج، فيدور الأمر في عموم المقطع بين حمله على بيان عدم الحرج في الدين بلحاظ نوع أحكامه وغالب تشريعاته بحسب غالب موارد الحرج، وبين حمله على العموم الأفرادي الذي يستتبع الحكم الحرجي وتخصيصه بالموارد التي يقوم الدليل فيها على ثبوت الحكم الحرجي بالخصوص، ولازم ذلك تحقّق التعارض بينه وبين ما يدلّ على ثبوت الحكم مطلقاً في موارد الحرج وغيرها تعارض العامّين من وجه(11)- فيتوجّه عليه أنّ نفس تشريع ما طبعه الحرج من التكاليف كاشفٌ عن عدم تناول {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} له أصلاً، وإن كانت النسبة بينه وبين أدلّة تلكم التكاليف هي العموم من وجه.
وبعبارة فنّية: إنّ احتفاف الآية عند نزولها بالمرتكز القائم على وجود أحكام حرجيّة في الدين موجبٌ لانصرافها عن الأحكام الحرجيّة بطبعها، بل قد يقال: إنّ الأحكام الحرجيّة لا تصلح مخصّصاً؛ لأنها مشمولةٌ للنفي إذا زاد الحرج فيها عمّا يقتضيه المأمور به بطبعه.
المناقشة الثانية ودفعها:
وقد أفاد أحد الأعلام (قدِّس سرُّه)(12) ما محصّله: أنّ المخاطَب بـ (عليكم) في المقطع ليس عامّة الناس والمكلّفين، ومعه فلا يتمّ الاستدلال بالمقطع للقاعدة؛ فإنّ قوله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ..} قد تضمّن مشخّصات للمخاطَب تخصّه في فئة من المكلّفين من اجتبائهم واصطفائهم وكون إبراهيم أباهم حقيقةً لا مجازاً وتوسّعاً، وهم ذريته، وأنّ الله سمّاهم المسلمين من قبل وفي هذا الكتاب، وأنّهم أصحاب مقام الشهادة على الناس، فليسوا هم كلّ الناس، والشاهد غير الناس المشهود عليهم، سيّما بعد الالتفات إلى طبيعة التناسب بين {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} وبين {هُوَ اجْتَبَاكُمْ}، فنفس هذا الخطاب لا يمكن أن يكون موجّهاً إلى كلّ الناس والمكلّفين، بل المخاطَب من خلال الآية الأئمة المعصومون (عليهم السلام).
ويشهد لذلك صحيحة بريد العجلي -المرويّة في أصول الكافي- قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام).. قلت: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ}، قال: إيانا عنى، ونحن المجتبون، ولم يجعل الله تبارك وتعالى {فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}، فالحرج أشدّ من الضيق، {مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} إيانا عنى خاصّة، و{سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ} الله سمّانا المسلمين {مِن قَبْلُ} في الكتب التي مضت {وَفِي هَذَا} القرآن {لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ} فرسول الله (صلّى الله عليه وآله) الشهيد علينا بما بلّغنا عن الله تبارك وتعالى، ونحن الشهداء على الناس، فمن صدق يوم القيامة صدقناه ومن كذب كذبناه(13).
وأجاب (قدِّس سرُّه) بنفسه عن هذا بأنّ مسألة رفع الحرج في الدين الإسلامي مسألة عامّة، فتوجيه الخطاب إلى الأئمة (عليهم السلام) لا يعني أنّ الحكم يختصّ بهم؛ فإنّ قوله سبحانه {فِي الدِّينِ} شاهد على أن نفي الحرج إنّما يتعلّق بأحكام الدين، فلا تختصّ هذه الميّزة بأفراد معينيين(14)، وإلا لقال: وما جعل عليكم من حرج، هذا أولاً، ويلاحظ عليه أنّ كلمة الدين ما هي إلا ظرف للحرج المرفوع، وهذا لا يثبت عموم رفع الحرج في الدين عن غير الأئمّة (عليهم السلام). وقد يقال:
ثانياً: إنّ الآية {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ..} محكومة بسياق عامّ تحتّمه الآية السابقة عليها، وهي قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، فخطاب المؤمنين إطار عامّ للآيتين معاً.
ولكن لا يمكن العمل بالسياق بعد ورود الصحيحة المخصّصة.
وثالثاً: إنّه لا يحتمل رفع الأحكام في حقّ الأئمّة (عليهم السلام) دون بقيّة الأمّة؛ فإنّه خلاف ما ورد من شفقة النبيّ (صلّى الله عليه وآله) على أمّته بالتسهيل ورفع المشقّة. وأقول:
رابعاً: إنّ الروايات التي استشهدت بالمقطع طرّاً طبّقته على أحكام لا تختصّ بفئة من المكلّفين، كما سترى عند عرض جملة منها إن شاء الله، وهذا بنفسه شاهد على دفع ما تقدّم من كون تعقيب المقطع بـ {مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ..} إنّما يتناسب مع مقام الترغيب في امتثال الأحكام ولو كانت حرجيّة؛ فإنّ المقطع إنما سيق في الروايات إمّا لتبرير ارتفاع الحكم الحرجي أو من باب النكتة للحكم الميسّر، ولو كان بصدد الترغيب في امتثال الحكام ولو كانت حرجيّة لما ناسب ما ذكر، ولذكر هذا المقطع في الروايات ترغيباً في امتثال حكم حرجيّ ولو لمرّة واحدة.
ولو قيل بأنّ روايات تطبيق الآية على رفع الأحكام الحرجيّة تعارض صحيحة الحصر في الأئمّة (عليهم السلام) فتجري قواعد التعارض- فإنّا نقول إنّ الروايات بلغت حدّ السنّة القطعيّة فيُردّ معارضها.
وخامساً: إنّ صحيحة بريد -التي سيقت شاهداً على الاختصاص- قد اشتملت على المقطع القرآني مضمّناً مع كلام الإمام (عليه السلام)، فقال (عليه السلام): «ولم يجعل الله تبارك وتعالى {فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}، فالحرج أشدّ من الضيق»، وظاهره أنّ الحرج مرفوع بنحو مطلق.
فتحصّل أنّ قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} وافٍ كافٍ في إثبات القاعدة.
المقطع الثاني: قول الله (عزَّ وجلَّ): {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا..}(15)،(16) بتقريب أنّ النبيّ محمّداً (صلّى الله عليه وآله) سأل ربّه ليلة المعراج أموراً، منها ما تضمّنه هذا المقطع القرآني من رفع الإصر والشاقّ من الأمور عن أمّته، ومن نقل الله (عزَّ وجلَّ) دعاء أحد رسله واهتمامه بأمره ثمّ يسكت- يستكشف استجابته له، وإلا لما نقله ممتنّاً؛ لعدم المناسبة.
فالمتحصّل أنّ الله سبحانه لم يحمل على أمّة نبيّه محمّدٍ (صلّى الله عليه وآله) إصراً وشدّة، وهذا المقطع -هو الآخر- يستفاد منه العموم الأفرادي.
ففي تفسير الشيخ عليّ بن إبراهيم القمّي في تفسير قوله تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا..} حدّثني أبي عن ابن أبي عمير عن هشام عن أبي عبد الله (عليه السلام): أنّ هذه الآية مشافهة الله تعالى لنبيّه (صلّى الله عليه وآله) ليلة أسري به إلى السماء، قال النبيّ (صلّى الله عليه وآله) انتهيت إلى محلّ سدرة المنتهى...، فقال الله: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}، فقلت: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}، وقال الله: لا أؤاخذك، فقلت: {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا}، فقال الله: لا أحمّلك، فقلت: {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}، فقال الله تعالى: قد أعطيتك ذلك لك ولامّتك، فقال الصادق (عليه السلام): ما وفد إلى الله تعالى أحد أكرم من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حيث سأل لأمّته هذه الخصال(17).
ونحوه في تفسير العيّاشي بدون ذكر قول الصادق (عليه السلام) في ذيله(18).
وفي احتجاج الطبرسي عن الكاظم (عليه السلام) عن آبائه عن أمير المؤمنين (عليه السلام) -في حديث طويل في مناقب النبيّ (صلّى الله عليه وآله)- إنّه أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى مسيرة شهر، وعرج به في ملكوت السماوات مسيرة خمسين ألف عام في أقل من ثلث ليلة حتى انتهى إلى ساق العرش فدنا بالعلم فتدلّى -إلى أن قال- فقال: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ} من خير، {وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} من شرّ، فقال النبيّ (صلّى الله عليه وآله) لما سمع ذلك: أما إذ فعلتَ ذلك بي وبأمّتي فزدني، قال: سل، قال: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}، قال الله (عزَّ وجلَّ): لستُ أُواخذ أمّتك بالنسيان والخطأ؛ لكرامتك عليّ، وكانت الأمم السالفة إذا نسوا ما ذكّروا به فتحت عليهم أبواب العذاب، وقد رفعت ذلك عن أمّتك، وكانت الأمم السالفة إذا أخطأوا أُخذوا بالخطأ وعوقبوا عليه، وقد رفعت ذلك عن أمّتك؛ لكرامتك عليّ، فقال النبيّ (صلّى الله عليه وآله): اللهم إذ أعطيتني ذلك فزدني، فقال الله تعالى له: سل، قال: {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا} يعني بالإصر الشدائد التي كانت على من كان قبلنا، فأجابه الله إلى ذلك، فقال تبارك اسمه: قد رفعت عن أمّتك الآصار التي كانت على الأمم السالفة، كنت لا أقبل صلاتهم إلا في بقاع من الأرض معلومة اخترتها لهم وإن بعدت، وقد جعلت الأرض كلّها لأمّتك مسجداً وطهوراً، فهذه من الآصار التي كانت على الأمم قبلك فرفعتها عن أمتك، وكانت الأمم السالفة إذا أصابهم أذىً من نجاسة قرضوها من أجسادهم، وقد جعلت الماء لأمّتك طهوراً، فهذه من الآصار التي كانت عليهم فرفعتها عن أمّتك، وكانت الأمم السالفة تحمل قرابينها على أعناقها إلى بيت المقدس، فمن قبلت ذلك منه أرسلت عليه ناراً فأكلته فرجع مسروراً، ومن لم أقبل ذلك منه رجع مثبوراً، وقد جعلت قربان أمّتك في بطون فقرائها ومساكينها، فمن قبلت ذلك منه أضعفت ذلك له أضعافاً مضاعفة، ومن لم أقبل ذلك منه رفعت عنه عقوبات الدنيا، وقد رفعت ذلك عن أمّتك، وهي من الآصار التي كانت على من كان قبلك، وكانت الأمم السالفة صلاتها مفروضة عليها في ظلم الليل وأنصاف النهار، وهي من الشدائد التي كانت عليهم فرفعتها عن أمّتك، وفرضت عليهم صلواتهم في أطراف الليل والنهار وفي أوقات نشاطهم، وكانت الأمم السالفة قد فرضت عليهم خمسين صلاة في خمسين وقتاً، وهي من الآصار التي كانت عليهم فرفعتها عن أمّتك، وجعلتها خمساً في خمسة أوقات، وهي إحدى وخمسون ركعة، وجعلت لهم أجر خمسين صلاة، وكانت الأمم السالفة حسنتهم بحسنة وسيئتهم بسيئة، وهي من الآصار التي كانت عليهم فرفعتها عن أمّتك، وجعلت الحسنة بعشرة والسيئة بواحدة، وكانت الأمم السالفة إذا نوى أحدهم حسنة ثم لم يعملها لم تكتب له، وإن عملها كتبت له حسنة، وإن أمّتك إذا همّ أحدهم بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة، وإن عملها كتبت له عشراً، وهي من الآصار التي كانت عليهم فرفعتها عن أمّتك، و كانت الأمم السالفة إذا همّ أحدهم بسيئة ثم لم يعملها لم تكتب عليه، وإن عملها كتبت عليه سيئة، وإن أمّتك إذا همّ أحدهم بسيئة ثم لم يعملها كتبت له حسنة، وهذه من الآصار التي كانت عليهم فرفعت ذلك عن أمّتك، وكانت الأمم السالفة إذا أذنبوا كتبت ذنوبهم على أبوابهم، وجعلت توبتهم من الذنوب أن حرمت عليهم بعد التوبة أحبّ الطعام إليهم، وقد رفعت ذلك عن أمّتك وجعلت ذنوبهم فيما بيني وبينهم، وجعلت عليهم ستوراً كثيفة، وقبلت توبتهم بلا عقوبة، ولا أعاقبهم بأن احرّم عليهم أحبّ الطعام إليهم، وكانت الأمم السالفة يتوب أحدهم من الذنب الواحد مائة سنة أو ثمانين سنة أو خمسين سنة ثم لا أقبل توبته دون أن أعاقبه في الدنيا بعقوبة، وهي من الآصار التي كانت عليهم فرفعتها عن أمّتك، وإنّ الرجل من أمّتك ليذنب عشرين سنة أو ثلاثين سنة أو أربعين سنة أو مائة سنة ثم يتوب ويندم طرفة العين فأغفر له ذلك كلّه، فقال النبيّ (صلّى الله عليه وآله): اللهم إذ أعطيتني ذلك كلّه فزدني، قال: سل، قال: {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ}، فقال تبارك اسمه: قد فعلت ذلك بأمّتك، وقد رفعت عنهم عظم بلايا الأمم، وذلك حكمي في جميع الأمم أن لا أكلّف خلقاً فوق طاقتهم(19).
ومما يصلح مؤيّداً من الآيات قوله سبحانه: {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} تعقيباً على قوله: {وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}؛ فإنّ رفع صوم شهر رمضان عن المسافر لا ينحصر بمورد الحرج، بل صريح النصوص الكثيرة وما عليه فقهاء الإماميّة رفع الصوم عنه وإن لم يستلزم الحرج، والأمر كذلك في رفع المرض للصوم؛ فإنّه لا يعتبر فيه أن يكون حرجيّاً، بل يكفي خوف الضرر واحتماله، وهو قرينةٌ على أنّ المراد بالآية بيان حكمة الرفع، وهو العسر النوعيّ لا علّته، فلا يستفاد منها قاعدة كلّيّة تفيد نفي الحكم الحرجيّ.
على أنّه لا إطلاق في الآية بحيث يستفاد منها قاعدة كلّيّة في جميع الموارد.
دليليّة الأخبار
وأمّا الأخبار التي ادّعي استفادة القاعدة منها فكثيرة، وقد ادّعي بلوغها حدّ التواتر معنوياً(20)، ولكن معظم الروايات التي سيقت كسند للقاعدة إنّما يتكفّل إثبات حكم سهل أو نفي حكم متوهّم الثبوت، ثمّ بيان أن ذلك مقتضى سهولة الدين وعدم الضيق فيه، فراجعها(21)، بينما محلّ البحث ما إذا كان الدليل متكفّلا رفع الحكم الذي يكون له مقتضى الثبوت بلحاظ دليله ويكون حاكماً عليه.
والعمدة -بموجب ما تقدّم- روايتان:
الأولى: رواية عبد الأعلى مولى آل سام قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) عثرت فانقطع ظفري، فجعلت على إصبعي مرارة، فكيف أصنع بالوضوء؟ قال: يُعرف هذا وأشباهه من كتاب الله عز وجل، قال الله تعالى: {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}، امسح عليه(22).
ومجرّد عدم تكفّل الآية التي استُشهد بها في الرواية للمسح على البشرة لا يؤذن بعدم الاعتماد عليها، فإنّه يكفي للاعتماد عليها قوله: (يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله (عزَّ وجلَّ)، قال الله تعالى: وما جعل عليكم في الدين من حرج)، وأمّا قوله (امسح عليه) فأمرٌ زائد على مقتضى الآية لا صلة لها به، جاء به الإمام (عليه السلام) تفريعاً على سقوط الأمر بالمباشرة.
وعلى تقدير إجمال أمر المسح فلا يخدش ذلك في فقرة الاستدلال.
نعم الرواية ضعيفة السند بعبد الأعلى؛ إذ لم يتمّ وجهٌ لوثاقته أو لقبول هذه الرواية.
الثانية: رواية حمزة بن الطيّار عن أبي عبد الله (عليه السلام) -في حديث- ثمّ قال أبو عبد الله (عليه السلام): وكذلك إذا نظرت في جميع الأشياء لم تجد أحداً في ضيق ولم تجد أحداً إلا ولله عليه الحجّة، ولله فيه المشيئة، ولا أقول: إنهم ما شاؤوا صنعوا، ثمّ قال: إن الله يهدي ويضلّ، وقال: وما أمروا إلا بدون سعتهم، وكلّ شيء أمر الناس به فهم يسعون له، وكلّ شيء لا يسعون له فهو موضوع عنهم، ولكن الناس لا خير فيهم، ثم تلا (عليه السلام): {لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ}، فوضع عنهم، {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ}، قال: فوضع عنهم؛ لأنّهم لا يجدون(23).
وهذه الرواية -بملاحظة صدر هذه الفقرة وذيلها- ظاهرة في إثبات قاعدة نفي الضيق والحرج، ولكنها -هي الأخرى- ضعيفة؛ لعدم نهوض وجهٍ بوثاقة راويها حمزة بن الطيّار.
وزبدة المخض هو تماميّة ثبوت القاعدة بما تقدّم من المستند القرآني.
فرعان
وأذيّل هذه الرسالة بذكر فرعين ذوي صبغة كبرويّة:
الأول: في تكفّل أدلّة نفي الحرج لرفع الأحكام غير الإلزاميّة، فقد علّل الفقيه الهمداني (قدِّس سرُّه) انتفاء كراهة الكلام حال التخلّي إذا اضطر إليه- بانتفاء الحرج والضرر؛ لحكومة أدلّتهما على العمومات المثبتة للأحكام(24).
ويتوجّه عليه ما أفاده السيّد الخوئي (قدِّس سرُّه) من أنّ أدلّة الحرج والضرر ناظرة إلى نفي الأحكام الإلزاميّة الحرجيّة أو الضرريّة، ولا تشمل الأحكام غير الإلزاميّة؛ إذ لا حرج في فعل المستحب وترك المكروه، ولا امتنان في رفعهما؛ لمكان الترخيص في ترك الأول وارتكاب الثاني، والحال أنّ أدلّة الحرج والضرر مسوقة للامتنان، فلا تجري فيما لا امتنان فيه(25).
الثاني: في اختصاص أدلّة نفي الحرج برفع الأحكام الأصليّة، فقد احتُمل في مسألة ما لو نذر أن يحجّ ماشياً أو حافياً، ثمّ عرض الحرج بعد ذلك- (احتُمل) عدم ارتفاع وجوب الوفاء بالنذر؛ لاختصاص أدلّة نفي الحرج برفع الأحكام الأصليّة؛ وذلك لأن دليل نفي الحرج امتناني، ومفاده أنّ الله تعالى لم يجعل في حقّ أحد حكماً حرجيّاً، وأمّا إذا التزم المكلّف بنفسه بما هو حرجيّ عليه فلم يكن الحرج ناشئاً من حكم الشارع وجعله، بل نشأ من التزام المكلّف.
ويتوجّه عليه -هو الآخر- ما أفاده السيّد الخوئي (قدِّس سرُّه) من أنّ الوقوع في الحرج في موارد الالتزام والنذر مستند إلى إلزام الشارع أيضاً؛ فإنّ وجوب المشي في نذر المشي إلى الحجّ مثلاً إنما نشأ من الشارع، والحرج آتٍ من قبله، ونذر المكلّف والتزامه بشيء مقدّمة لإلزام الشارع؛ لأن التزامه من دون ضمّ إلزام الشارع لا أثر له(26).
والحمد لله أولاً وآخراً، وصلّى الله على محمّد وآله،
كتبتُ هذه الأسطر وأنا عائذٌ لائذٌ بقبر الإمام الرؤوف عليّ بن موسى الرضا (عليه السلام)، (صلّى الله عليك يا أبا الحسن، صلّى الله على روحك وبدنك، صبرت وأنت الصادق المصدّق، قتل الله من قتلك بالأيدي والألسن). واتفق الفراغ منها في يوم المبعث السابع والعشرين من رجب الأصبّ من سنة 1433هـ، اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد أفضل ما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم إنّك حميد مجيد.
ثمّ إني راجعتها ونقّحتها في مكّة المكرّمة ليلة الرابع عشر من ذي الحجّة الحرام من نفس العام، ولله الحمد في الآخرة والأولى، وصلّى الله على محمّد وآله أولي الحجى والنهى.
* الهوامش:
(1) انظر: القواعد للسيّد محمّد كاظم المصطفوي: 297.
(2) منتقى الأصول للسيّد عبد الصاحب الحكيم (قدِّس سرُّه)، تقرير أبحاث السيّد محمّد الروحاني (قدِّس سرُّه)4: 340.
(3) سورة الحجّ: 78.
(4) انظر: الميزان في تفسيرالقرآن14: 414.
(5) منتقى الأصول4: 345.
(6) سورة المائدة: 6.
(7) منتقى الأصول4: 345.
(8) سورة العنكبوت: 69.
(9) منتقى الأصول4: 346.
(10) منتقى الأصول4: 346.
(11) منتقى الأصول4: 346، 247.
(12) انظر: ثلاث رسائل (قاعدة نفي الحرج) للفاضل اللنكراني (قدِّس سرُّه): 12- 43.
(13) الكافي(الأصول)1: 191 ك الحجّة ب في أنّ الأئمة (عليهم السلام) شهداء الله (عزَّ وجلَّ) على خلقه ح4.
(14) انظر: ثلاث رسائل (قاعدة نفي الحرج) للفاضل اللنكراني (قدِّس سرُّه): 42، 43.
(15) سورة البقرة: 286.
(16) وقد أغفل إيرادها كمستندٍ للقاعدة من أنكر ثبوت القاعدة، أعني السيّد الروحاني (قدِّس سرُّه).
(17) تفسير القمّي1: 95.
(18) تفسير العيّاشي1: 159 ح531.
(19) انظر: بحار الأنوار10: 41- 43.
(20) انظر: الرسائل التسع(قاعدة نفي الحرج) للميرزا الآشتياني (قدِّس سرُّه): 217، 229.
(21) انظر: الرسائل التسع للآشتياني (قدِّس سرُّه): 217- 222، القواعد الفقهيّة للشيخ ناصر مكارم الشيرازي1: 165- 176.
(22) وسائل الشيعة1: 464 ب39 من أبواب الوضوء ح5.
(23) الكافي (الأصول) 1: 164، 165، ك التوحيد، ب حجج الله على خلقه ح4.
(24) انظر: مصباح الفقيه2: 122.
(25) انظر: التنقيح في شرح العروة الوثقى(ك الطهارة3)= موسوعة الإمام الخوئي (قدِّس سرُّه)4: 425، 426.
(26) انظر: معتمد العروة الوثقى(ك الحجّ1)= موسوعة الإمام الخوئي (قدِّس سرُّه)26: 367.
0 التعليق
ارسال التعليق