قاعدة الحرام لا يفسد الحلال ولا يحرّمه

قاعدة الحرام لا يفسد الحلال ولا يحرّمه

من قواعد باب النكاح (قاعدة الحلال لا يُحرّم الحلال) أو ما يؤدّي مؤدّاها، وقد بلغت هذه القاعدة حدّ السنّة القطعية، وسيتضح ذلك من استعراض روايات تطبيق القاعدة، كما أنّها قد رويت عن النبيِّ وأخيه الوصي (صلوات الله عليهما وآلهما) من طرق العامّة(1)، ففي السنن الكبرى بإسناده عن عائشة قالت: سئل رسول الله[صلّى الله عليه وآله] عن الرجل يتبع المرأة حراماً أينكح ابنتها أو يتبع الابنة حراماً أينكح أمّها؟ قالت: قال رسول الله [صلّى الله عليه وآله]: «لا يحرّم الحرام الحلال، إنّما يُحرّم ما كان بنكاحٍ حلال».

ولعلّ الحديث قد جاء ردّاً على ما ورد عند العامّة نقلاً عن ابن مسعود موقوفاً عليه، فقد روى عبدالرزّاق عن الثوري عن جابر عن الشعبيّ قال: قال عبدالله: ما اجتمع حلال وحرام إلا غلب الحرام على الحلال، قال سفيان: وذلك في الرجل يفجر بامرأةٍ وعنده ابنتها أو أمّها، فإذا كان ذلك فارقها(2).

ومما يتصل بالقاعدة ويلقي ضوءاً عليها ما رواه في دعائم الإسلام عن الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «لبن الحرام لا يحرّم الحلال، ومثل ذلك امرأة أرضعت بلبن زوجها (رجلاً)(3)، ثمّ أرضعت بلبن فجور، قال: ومن أرضع من لبن فجور صبيّة لم يحرم نكاحها؛ لأن لبن الحرام لا يحرّم الحلال»(4). وقد استدلّ به صاحب الجواهر (رحمه الله) وغيره على أنّ اللبن لا ينشر الحرمة إذا كان عن زنا(5).

والمهمّ بحثه في هذه القاعدة جهات ثلاث: أولاها: في سعة القاعدة لغير باب النكاح من أبواب الفقه. والجهة الثانية: في المراد من الحلال وأنّه خصوص الحلال الفعلي أو الأعمّ منه ومن الشأنيّ التقديري، ومنه يعرف الحال في تطبيقات بعض الأعلام للقاعدة. والجهة الثالثة: في موارد تطبيق الروايات للقاعدة.

أما الجهة الأولى وهي سعة القاعدة لغير باب النكاح أو اختصاصها به

فالظاهر بدواً من ألسنتها خصوصاً: «ما حرَّم حرامٌ حلالاً قطّ» السعة بالعموم الوضعي لغير باب النكاح من أبواب الفقه، فلدى الشكّ في عروض التحريم لما هو محلّل بسبب اقترانه بأمرٍ محرّم أو سبقه عليه أو لحوقه له فمقتضى القاعدة بقاء الحلّيّة وعدم انقلابها إلى الحرمة بسبب ذلك، ولهذا قال في الجواهر في مسألة الولاية من قبل الجائر على ما يشتمل على محلّل ومحرّم: "نعم في حرمة ما كان منها محلّلاً كجباية الخراج والنظام بغير المحرّم ونحوها وعدمها- وجهان ينشئان من أنّها بمنـزلة الولايتين المستقلّتين إحداهما على عملٍ محلّل والأخرى على محرّم، فكلٌّ منهما له حكمه؛ إذ الحرام لا يحرّم الحلال..."(6).

ولكن قد يقال باختصاص القاعدة بباب النكاح لأمرين:

الأول: أنّ القاعدة إنما جاءت في مقابل ما عليه العامّة أو بعضهم من باطل القياس والاستحسان الذي كان متعارفاً في مدرسة الرأي بالكوفة آنذاك بأن لاحظوا حرمة الجمع بين البنت وأمّها في النكاح مثلاً فقاسوا السفاح على النكاح، وقد يشهد لذلك ما تقدّم عن ابن مسعود.

الثاني: ما قد يفهم من معتبرة زرارة الآتية من أنّ المراد بالحلال في لسان القاعدة هو النكاح لا مطلق الحلال، ويؤيّد ذلك رواية عائشة المتقدّمة عن السنن الكبرى.

إذن فالقاعدة ليست ناظرة إلى أنّ ارتكاب أيِّ محرّم لا يؤدّي إلى حرمة محلّل آخر أو موارد الخلط والاشتباه أصلاً(7). نعم مفاد القاعدة موافق لمقتضى الأصل، وهو أنّ كلّ قضيّتين اختلفتا موضوعاً فلا سراية لحكم إحداهما إلى الأخرى، فالسراية هي التي تحتاج إلى دليل، لا أن عدمها يحتاج إلى القاعدة؛ كي يبحث في تخصّصها بالنكاح أو عمومها لغيره.

الجهة الثانية: في دائرة الحلال: وأنّ الحرام كما لا يرفع الحلال هل لا يدفعه أم لا؟

فينبغي أولاً عرض جملةٍ من الكلمات حولها:

قال الشيخ الأعظم (قدِّس سرُّه) في كتاب النكاح معلِّلاً حرمة أمّ الموقب وبنته وأخته في فرض ما لو عقد على إحداهنّ ففارقها ثمّ فعل ذلك القبيح بأنّ: "عموم قوله: «لا يُحرّم الحرام الحلال» في الحلال بالفعل، وهكذا حكم غير المسألة من مسائل المصاهرة وما يلحقها"(8).

وقال الإمام الخوئي (قدِّس سرُّه) معلّلاً الحرمة في نفس المسألة: "إنّ أدلّة عدم إفساد الحرام للحلال ناظرة إلى الزوجيّة الثابتة بالفعل والحليّة الفعلية، فلا تشمل الزوجية السابقة والزائلة بالفعل، وأضاف (قدِّس سرُّه) بأنّ هذا الحكم لا يختصّ باللواط، بل يجري في ابنة العمّة وابن الخالة أيضاً، فإنّه لو زنى بالعمّة أو الخالة في حال كون ابنتهما زوجة له ثمّ طلّقها، وبعد ذلك أراد التزويج منهما؛ فإنّ أدلّة المنع تشمله؛ نظراً لاختصاص أدلّة عدم الإفساد بالزوجة بالفعل"(9).

وقال الإمام الحكيم (قدِّس سرُّه): "المستفاد من النصوص المتضمّنة أنّ الحرام لا يُحرّم الحلال أو لا يُفْسده -بعد ضمّ بعضها إلى بعض وملاحظة مواردها- أنّ الحرام لا يرفع الحليّة، ولا يدلّ على أنّه لا يدفع الحليّة"(10).

ولكنّه (قدِّس سرُّه) طبّق القاعدة على مورد فيه حليّة شأنيّة، فاستدلّ بالقاعدة على جواز نكاح الزانية غير ذات البعل بالزاني بها(11).

ثمّ إنّه (قدِّس سرُّه) استشكل في دعوى أنّ الظاهر من النبوي: «الحرام لا يُفسد الحلال أو يُحرّم الحلال» الحلال الفعلي وأنّها غير واضحة المأخذ(12).

هذا وجملة من روايات القاعدة وإن طبّقتها في مورد الحليّة الفعلية إلا أنّ جملة أخرى وافرة طبّقتها في مورد الحليّة الشأنية.

فمن روايات الطائفة الأولى صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) أنّه سئل عن الرجل يفجر بالمرأة أيتزوّج ابنتها؟ قال: «لا، ولكن إذا كانت عنده امرأة ثم فجر بأمّها أو ابنتها أو أختها لم تحرم عليه امرأته؛ إنّ الحرام لا يُفْسد الحلال»(13).

وصحيحة الحلبي عن أبي عبدالله (عليه السلام) في رجلٍ تزوّج جارية فدخل بها، ثمّ ابتلي بها ففجر بأمّها، أتحرم عليه امرأته؟ فقال: «لا؛ إنّه لا يحرّم الحلالَ الحرامُ»(14).

وصحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) أنّه قال: في رجلٍ زنى بأمّ امرأته أو بنتها أو بأختها، فقال: «لا يُحرّم ذلك عليه امرأته، ثمّ قال: ما حرّم حرامٌ حلالاً قط»(15).

وصحيحة مرازم قال: سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) وسئل عن امرأة أمرت ابنها أن يقع على جارية لأبيه فوقع؟ فقال: «أثمت وأثم ابنها، وقد سألني بعض هؤلاء عن هذه المسألة، فقلت له: أمسكها؛ فإنّ الحلال لا يُفْسده الحرام»(16)، وغيرها.

ومن روايات الطائفة الثانية صحيحة سعيد بن يسار قال: سألتُ أبا عبدالله (عليه السلام) عن رجلٍ فجر بامرأة يتزوّج ابنتها؟ قال: «نعم يا سعيد؛ إنّ الحرام لا يُفْسد الحلال»(17).

وصحيحة هشام بن المثنّى قال: كنت عند أبي عبدالله (عليه السلام)، فقال له رجل: رجلٌ فجر بامرأة، أتحلّ له ابنتها؟ قال: «نعم؛ إنّ الحرام لا يُفْسد الحلال»(18).

وصحيحة حنان بن سدير قال: كنت عند أبي عبدالله (عليه السلام) إذ سأله سعيد عن رجل تزوّج امرأة سفاحاً، هل تحلّ له ابنتها؟ قال: «نعم؛ إنّ الحرام لا يُحرّم الحلال»(19)، وغيرها.

فالمستفاد من أدلّة أنّ الحرام لا يُفْسد الحلال ولا يُحرّمه- بعد ضمّ بعضها إلى بعض وملاحظة تطبيقاتها- أنّ الحرام كما لا يرفع الحليّة لا يدفعها أيضاً(20)؛ فإنّ روايات الطائفة الأولى-ما عدا صحيحة ابن مسلم- وإن كان موردها الحلّيّة الفعليّة إلا أنّه لا مفهوم لها في عدم تناول القاعدة لمورد الحلّيّة الشأنيّة، وأمّا صحيحة ابن مسلم فهي وإن دلّت على الحرمة في صورة كون الحلّيّة تقديرية، إلا أنّها بعد معارضتها لروايات الطائفة الثانية فلا تصلح مخصِّصاً أو مقيِّداً للقاعدة(21).

كما أنّه قد دلّت بعض الروايات على ثبوت الحرمة حتى في صورة كون الحلّيّة فعلية ما لم يتفق الدخول، كما في رواية أبي الصباح الكناني عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: «إذا فجر الرجل بالمرأة لم تحلّ له ابنتها أبداً، وإن كان قد تزوّج ابنتها قبل ذلك ولم يدخل بها فقد بطل تزويجه، وإن هو تزوّج ابنتها ودخل بها ثمّ فجر بأمّها بعدما دخل بابنتها فليس يُفْسد فجوره بأمّها نكاح ابنتها إذا هو دخل بها، وهو قوله: لا يُفْسد الحرام الحلال إذا كان هكذا»(22).

وفي معتبرة عمّار عن أبي عبدالله (عليه السلام) في الرجل تكون عنده الجارية فيقع عليها ابن ابنه قبل أن يطأها الجدّ، أو الرجل يزني بالمرأة هل يجوز لأبيه أن يتزوّجها؟ قال: «لا، إنّما ذلك إذا تزوّجها فوطأها ثمّ زنى بها ابنه لم يضرّه؛ لأنّ الحرام لا يُفْسد الحلال، وكذلك الجارية»(23).

ولكنّ ضعف سند الأولى بمحمّد بن الفضيل مانع من الاعتماد عليها في تخصيص أو تقييد مفاد القاعدة، والثانية وإن كانت معتبرة -ولا يعيب سندها اشتماله على سهل؛ فإنّه ثقة على المختار- إلاّ أنّها قد تضمّنت بوضوح حرمة الزوجة لو زنى بها الابن قبل وطء الأب لها، وهو مما لم يلتزم به أحد إلا ابن الجنيد على ما حكي عنه(24)، وسيأتي مزيد كلام حول حرمة الجارية المذكورة، وكذا عن مورد رواية الكناني في الجهة الثانية إن شاء الله سبحانه.

مفهوم الحديث:

ثمّ إنّه قد استدلّ بمفهوم ( الحرام لا يُحرّم الحلال) -بناءً على كون المراد من الحلال الأعمّ من التقديري- على كون وطء المرأة شبهة السابق على التزويج موجباً لتحريم بنتها(25)، بتقريب أنّ مقتضى الحديث هو أنّ الحلال يُحرّم الحلال، وحيث إنّ الوطء شبهة من مصاديق الحلال فيكون محرّماً.

ويتوجّه عليه مضافاً لعدم كون وطء الشبهة حلالاً دائماً، بل بعضه حرام كما لو كان عن جهل بالحكم ناشئ عن تقصير-أنّ مفهوم تلك القضية ليس قضية كليّة، وهي كلّ حلال يُحرّم الحلال- كي يستدل بها في المقام؛ فإنّ الوصف سيما غير المعتمِد، وهو ما يعرف باللقب كما في موردنا (أولاً) لا مفهوم له، و(ثانياً) على فرض أنّ له مفهوماً فهو موجبة جزئية لا كلّيّة، نظير أن يقال: (الرجل لا يخلف وعده)، فإنّ غاية مفاده أنّ من ليس رجلاً قد يخلف وعده.

بل لمّا كان الحرام في مقابل النكاح لا في مقابل مطلق الحلال، ويشهد لذلك معتبرة زرارة قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): «إذا زنى رجلٌ بامرأة أبيه أو جارية أبيه فإن ذلك لا يُحرّمها على زوجها، ولا تحرم الجارية على سيّدها، إنما يحرم ذلك منه إذا أتى الجارية وهي حلال فلا تحل تلك الجارية أبداً لابنه ولا لأبيه، وإذا تزوّج رجلٌ امرأة تزويجاً حلالاً فلا تحلّ تلك المرأة لأبيه ولابنه»(26)، ويؤيّده ما ذيّل به الحديث في نقل العامّة كما تقدّم عن السنن الكبرى: «لا يحرّم الحرام الحلال، إنّما يُحرّم ما كان بنكاح حلال»، ولا أقل من أنّ ذلك محتمل فلئن كان للحديث مفهوم فلا يتناول مطلق الحلال إذا لم يكن نكاحاً كوطء الشبهة.

الجهة الثالثة: في تطبيقات القاعدة ومستثنياتها في نفس الروايات:

الأول: حرمة المزني بها على أب الزاني:

فقد دلّت معتبرة عمّار المتقدّمة على الحرمة فيما إذا كان الزنا سابقاً على العقد، فلا مناص من التزام التخصيص أو التقييد للقاعدة وإن لم يقم دليل على حرمة مطلق ذات البعل المزني بها على الزاني، فتثبت الحرمة في هذه الصورة.

كما أنّ مقتضى المعتبرة هو الحرمة فيما إذا كان الزنا لاحقاً للعقد قبل وطء الأب لها، ولكن قد عرفت مما مرّ في الجهة الأولى عدم إمكان التزام الحرمة؛ لعدم التزام أحد بها إلا شاذٌّ، على أنّها معارضة بما في ذيل معتبرة زرارة المتقدّمة، حيث حصرت حرمتها بفرض وطئها حلالاً، فالمرجِّح -بناءً على كون الإطلاق فعل المُطْلِق بالبناء للفاعل، وإن كان فهمه بتوسّط قرينة الحكمة كما هو المختار- أو المرجع بعد تساقطهما هو قوله سبحانه: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ}(27).

وقد طبّقت المعتبرة قاعدة (لا يُحرّم الحرام الحلال) في صورة ما إذا كان زنا الولد لاحقاً لعقد الأب بها ووطئه لها.

الثاني: حرمة مملوكة الأب بزنا ابنه بها:

وقد دلّت المعتبرة على الحرمة فيما لو كان زنا الابن بها سابقاً على وطء الأب لها، ولا تعارضهما صحيحة مرازم قال: سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) وسئل عن امرأة أمرت ابنها أن يقع على جارية لأبيه فوقع، فقال: «أثمت وأثم ابنها، وقد سألني بعض هؤلاء عن هذه المسألة فقلت له: أمسكها؛ فإنّ الحلال لا يُفْسده الحرام»(28)؛ لكونها أعمّ منها لشمولها فرضَي وطء الأب لها وعدمه، وكون التعليل صادقاً عليهما لا يمنع من تخصيصه بالمعتبرة.

نعم هي معارضة بمعتبرة زرارة المتقدّمة الدالّة على حصر الحرمة بفرض وطئها حلالاً، فالمرجّح أو المرجع بعد تساقطهما هو آية الحلّ.

وقد طبّقت المعتبرة القاعدة في صورة ما إذا كان زنا الولد بمملوكة أبيه لاحقاً لوطء الأب لها، وهذه الصورة هي القدر المتيقّن للقاعدة.

الثالث: حرمة أم المزني بها وبنتها وأختها على الزاني:

وقد تضمّنت كلّ روايات الباب الثامن من أبواب ما يحرم بالمصاهرة: أنّ من تزوّج امرأة ثمّ زنى بأمّها أو بنتها أو أختها لم تحرم عليه زوجته، كما عنونه بذلك الشيخ الحرّ (رحمه الله)، وقد طبّقت تلك الروايات القاعدة في هذه الصورة.

نعم أخذت الرواية الثامنة وهي الأخيرة في الباب، وهي رواية أبي الصباح الكناني قيد الدخول بالزوجة قبل طرؤ الزنا بأمّها في الحلّية، وقد تقدّم في الجهة الأولى عدم اعتبار هذا القيد.

ثمّ إنّ جملة من روايات الباب السادس قد تضمّنت حرمة أمّ المزني بها وبنتها على الزاني في فرض سبق الزنا كصحيحة ابن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) أنّه سئل عن الرجل يفجر بالمرأة أيتزوّج ابنتها؟ قال: «لا، ولكن إن كانت عنده امرأة ثمّ فجر بأمّها أو ابنتها أو أختها لم تحرم عليه امرأته؛ إنّ الحرام لا يُفْسد الحلال»(29).

وصحيحة العيص بن القاسم قال: سألتُ أبا عبدالله (عليه السلام) عن رجلٍ باشر امرأة وقبّل غير أنّه لم يفض إليها ثمّ تزوّج ابنتها، فقال: «إن لم يكن أفضى إلى الأمّ فلا بأس، وإن كان أفضى إليها فلا يتزوّج ابنتها»(30).

وصحيحة يزيد الكناسي قال: إنّ رجلاً تزوّج امرأة قد زعم أنّه كان يلاعب أمّها ويُقبّلها من غير أن يكون أفضى إليها، قال: فسألت أبا عبدالله (عليه السلام) فقال: «كذب، مُرْهُ فليفارقها، قال: فأخبرت الرجل فو الله ما دفع ذلك عن نفسه وخلّى سبيلها»(31).

وفي مقابل هذه الروايات جملة أخرى من روايات الباب السادس:

منها صحيحة سعيد بن يسار قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن رجل فجر بامرأة يتزوّج ابنتها؟ قال: «نعم يا سعيد؛ إنّ الحرام لا يُفْسد الحلال»(32).

وصحيحة هشام بن المثنّى عن أبي عبدالله (عليه السلام) أنّه سئل عن الرجل يأتي المرأة حراماً، أيتزوّجها؟ قال: «نعم، وأمّها وابنتها»(33).

وصحيحته الأخرى قال: كنت عند أبي عبدالله (عليه السلام) فقال له رجل: رجلٌ فجر بامرأة، أتحلُّ له ابنتها؟ قال: «نعم؛ إنّ الحرام لا يُفْسد الحلال»(34).

وصحيحة حنان بن سدير قال: كنت عند أبي عبدالله (عليه السلام) إذ سأله سعيد عن رجلٍ تزوّج امرأة سفاحاً، هل تحلّ له ابنتها؟ قال: «نعم؛ إنّ الحرام لا يُحرّم الحلال»(35).

الترجيح الجهتي:

وقد حمل صاحب الجواهر روايات الجواز على التقيّة، ورآه أحسن المحامل؛ معلّلاً ذلك بقوله: "وذلك لأنّ هذا الخبر -كما يظهر من الانتصار والغنية وغيرهما- نبوي، أي(لا يُفْسد الحرام الحلال)، وأنّه من رواياتهم عنه (صلَّى الله عليه وآله)، وهو صحيح، لكنّهم لم يفهموا المراد منه، فظنّوا أنّ المراد منه ما يشمل الحلال تقديراً، وهو ليس كذلك، ضرورة أنّ الصور ثلاثة(كذا) أحدها: أن يقع الوطء الحرام متعقّباً للوطء الحلال بالعقد أو الملك، ولا ريب في كون ذلك من أفراده. ثانيها: أن يقع بين العقد والوطء...ثالثها: أن يقع الحرام قبل إيجاد سبب الحلّ، ولا ريب في عدم تناوله لهذا الفرد؛ ضرورة كون المراد فعليّة الحلّ لا تقديرها(كذا)، ودعوى حليّة العقد عليها فعلاً يدفعها ظهور إرادة أنّ الحرام من ذلك الصنف لا يُفْسد الحلال منه، لا أنّ المراد ما يشمل ذلك والحلال من كلّيٍّ آخر، بل قد يدّعى ظهور  لفظ الإفساد في بعض هذه النصوص في المتعقّب لما هو قابل للإفساد من العقد الذي هو سبب حليّة الوطء أو الملك المتعقّب للوطء، وحينئذٍ تكون هذه النصوص المشتملة على التعليل المزبور الذي هو غير منطبق على ما هو الظاهر إنّما خرجت على مذاق العامّة وما يُعلّلون به، بل قوله (عليه السلام) في الخبر السابق، «ولقد سألني بعض هؤلاء عن هذه المسألة فقلت له» إلى أخره- مشعر بما قلناه من صدور ذلك ونحوه تقيّة، ولذا قد فصّلوا الأمر في النصوص التي قد عرفتها، وبيّنوا بها فساد ما فهمه العامّة من النبوي، فكان ذكر التعليل منهم فيما ليس من أفراده ظاهراً رمز(كذا) منهم على صدور ذلك منهم تقيّة..."(36).

ويتوجّه عليه أولاً: أنّه ليس في روايات المسألة ما فيه دلالة أو إشعار بأنّ مذهب المخالفين في المسألة هو التحريم أو الجواز، بما في ذلك صحيحة مرازم.

وثانياً: لا قرينة على تعيّن كون المراد من الحل في الحديث هو الحلّ الفعلي كما تقدّم في الجهة الأولى من البحث، وإن كان هو القدر المتيقّن، ومجرّد إرادة الحرمة الفعلية لا يعيّن أنّ المراد بالحل هو الحلّ الفعليّ، والحديث لا ينحصر لفظه في (لا يُفْسد الحرام الحلال) لو سُلِّمَ قصوره؛ فقد ورد كثيراً بلفظ(الحرام لا يُحرّم الحلال)، على أنّه قد طبّق بلفظ (لا يُفْسد) في مورد الحليّة التقديريّة كما في صحيحة هشام الثانية.

وثالثاً: إنّ النوبة لا تصل إلى الترجيح بمخالفة العامّة مع وجود المرجّح المضموني وموافقة إحدى الطائفتين للكتاب في قوله سبحانه {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ}.

ورابعاً: أنّه لو وصلت النوبة إلى المرجّح الجهتي فثمّة مبعِّد من حمل ما دلّ على الجواز على التقية، فإنّ بيان الحكم على خلاف الواقع للتقيّة أمر مضطرٌّ إليه إلا أنّ تعليل الحكم غير الواقعي بمثل(الحرام لا يُحرّم الحلال) ليس مضطراً إليه، حتى لو كان التعليل مشتركاً بيننا وبينهم، وليس مختصّاً بنا؛ فإنّ التعليل وإن كان بالمشترك قد يغري بمطابقة الحكم للواقع، بل يؤْذن بسعة التعليل لما لا يتناوله، فيغري بالتمسّك به فيه، وهو موارد الحل التقديري.

ومن مبعّدات حمل ما دلّ على الجواز على التقيّة- أنّ القول بالحرمة مشهور عند المخالفين؛ فقد حكاه في المغني عن عمران بن حصين والحسن وعطاء وطاووس ومجاهد والشعبي والنخعي والثوري وإسحاق وأصحاب الرأي(37).

الجمع العرفي بين الطائفتين:

وقد جمع في بعض الكلمات(38) بين الطائفتين بالتصرّف في المحمول وهو الحكم، بحمل ما دلّ على المنع على الكراهة، واعتبره أقرب الوجوه؛ تطبيقاً لقرينيّة النصّ على الظاهر، وأنّ ما دلّ على المنع أقصاه الظهور في الحرمة، فيرفع اليد عنه بصراحة ما دلّ على الجواز.

ويردّ عليه أولاً: إباء بعض روايات الطائفة الأولى عن الحمل على الكراهة كصحيحة يزيد الكنّاسي؛ إذ الأمر بمفارقتها ظاهر في بطلان النكاح وأنّها أجنبية عنه، وكذا صحيحة محمد بن مسلم؛ فإنّ(لا) في جواب السؤال بقرينة المقابلة مع قوله (لم تحرم) في الشق الآخر واضح في الحرمة.

وثانياً: إنّ الجمع العرفي بحمل ما دلّ على المنع على الكراهة إنّما يكون في الأوامر المولويّة، بينما الأوامر الإرشاديّة لنفوذ العقد وعدمه من الأحكام الوضعية التي لا مجال فيها للحمل على الكراهة.

جمع آخر:

وقد جمع أحد الأجلّة (سلّمه الله)(39) بين الطائفتين بالتصرّف في الموضوع بحمل الفجور الوارد في غالب روايات الجواز على ما دون الوطء، مستشهداً لعموميّة استعماله لما دون الوطء بما في صحيحة منصور بن حازم عن أبي عبدالله (عليه السلام) في رجلٍ كان بينه وبين امرأة فجور، هل يتزوّج ابنتها؟ فقال: "إن كان من قُبْلة أو شبهها فليتزوّج ابنتها، وإن كان جماعاً فلا يتزوّج ابنتها، وليتزوّجها هي إن شاء"(40).

وبما في موثّقة ابن بكير قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) في آخر ما لقيته عن غلام لم يبلغ الحُلُم وقد وقع على امرأة أو فجر بامرأة، أيّ شيء يصنع بهما؟ قال: «يضرب الغلام دون الحدّ ويُقام على المرأة الحدّ...»(41). 

ويرد عليه أولاً: إنّ استعمال الفجور فيما دون الوطء لقرينة لا يمنع من انصراف(فجر) في روايات الجواز إلى الوطء إذا خلا عن القرينة، على أنّ بعض هذه الروايات أخذت عنوان الإتيان كصحيحة هشام بن المثنّى الأولى، وبعضها أخذت عنوان التزوّج سفاحاً كصحيحة حنان بن سدير.

وثانياً: إنّ روايات الجواز وإن وقع السؤال فيها على عنوان الفجور المحتمل لما دون الوطء إلا أنّ جوابه بالجواز المذيّل (إنّ الحرام لا يُحرّم الحلال أو لا يُفْسده) يؤْذن بالتعميم للوطء.

وثالثاً: إنّ من المحتمل في عطف الفجور بامرأة على الوقوع عليها في الموثّقة هو الشرح والبيان لا المقابلة، وأنّ المراد بالفجور هو الوطء، ويشهد لذلك ذيل الموثّقة «قلت: جارية لم تبلغ وجدت مع رجل يفجر بها؟ قال: تضرب الجارية دون الحدّ، ويُقام على الرجل الحدّ[الكامل]»؛ فإنّ الفجور بقرينة إقامة الحدّ الكامل يراد منه الوطء، كما يُحْتمل في العطف الترديد في السؤال بين الوقوع على المرأة أو الفجور بها.

والمحصّلة أنّه حيث تعذّر الجمع العرفي واستحكم التعارض بين الطائفتين فتصل النوبة إلى ترجيح الطائفة الثانية الدالّة على الجواز والحلّ، بموافقة الكتاب العزيز، قال سبحانه: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ}، ولا تصل النوبة إلى الترجيح بمخالفة العامّة.

ثمّ إنّه توجد جملة موارد على تقدير ثبوت حرمة النكاح فيها تكون استثناءً من القاعدة (الحرام لا يُحرّم الحلال) كحرمة بنت الملوط وأخته على اللائط، وحرمة ذات البعل المزني بها على الزاني، وغيرهما، وحيث لا ثمرة مهمّة في بحث هذه الموارد فيما يتصل بالقاعدة أعرضنا عنها.

خاتمة: في جملة من تطبيقات القاعدة في الكلمات

وفي كلمات العلمين الحكيم والخوئي (قدِّس سرُّهما) جملة تطبيقات للقاعدة، وسأسرد تلكم التطبيقات للاستئناس كالتالي:

أ‌- تزويج المرأة الزانية غير ذات البعل للزاني(42).

ب‌- عدم حرمة الزوجة على زوجها بزناها(43).

ت‌- عدم حرمة الزوجة أو المملوكة بوطء أختها(44).

ث‌- الزواج بأخت الزوجة لا يُحرّمها(45).

ج‌- وطء الزوجة حال الإحرام(46).

 

* الهوامش:

(1) سنن ابن ماجة 1: 649 ب63 ح 2015، السنن الكبرى7: 168، 169.

(2) المصنَّف 7: 199، عنه كنز العمّال3: 797 (8790).

(3) كذا في الدعائم.

(4) مستدرك الوسائل 14: 373 ب11 من أبواب ما يحرم بالرضاع ح1.

(5) انظر: جواهر الكلام 29: 265، 266، فقه الصادق 21: 352.

(6) جواهر الكلام 22: 157، وانظر: قواعد الحديث 2: 148.

(7) وكان الشعبي من علماء الجمهور يتوهّم سعة القاعدة لغير باب النكاح، فردّ القاعدة رأساً، ففي السنن الكبرى (7: 168) بإسناده عن يحيى بن يعمر عن ابن عباسأنّه قال في رجلٍ زنى بأمّ امرأته أو بابنتها فإنّهما حرمتان تخطّاهما، ولا يُحرّمها ذلك عليه، قال: وقال يحيى بن يعمر: ما حرّمَ حرامٌ حلالاً قط، فبلغ ذلك الشعبي فقال: بل لو أخذتُ كوزاً من خمر فسكبته في حبٍّ لكان ذلك الماء حراماً، وكان رأي الشعبي أنّها قد حَرُمت عليه.

(8) كتاب النكاح= تراث الشيخ الأعظم (قدِّس سرُّه): 422.

(9) مباني العروة الوثقى (كتاب النكاح1) = موسوعة الإمام الخوئي (قدِّس سرُّه) 32: 308.

(10) مستمسك العروة الوثقى 14: 164.

(11) مستمسك العروة الوثقى 14: 152.

(12) انظر: مستمسك العروة الوثقى 14: 215.

(13) وسائل الشيعة 20: 428 ب8 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ح1.

(14) وسائل الشيعة 20: 428 ب8 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ح2.

(15) وسائل الشيعة 20: 429 ب8 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ح3.

(16) وسائل الشيعة 20: 420 ب4 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ح4.

(17) وسائل الشيعة 20: 425 ب6 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ح6.

(18) وسائل الشيعة 20: 425 ب6 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ح10.

(19) وسائل الشيعة 20: 425 ب6 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ح11.

(20) ودعوى كون الحلّ في آية {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} حلا تقديرياً قرينة على إرادة الحل التقديري في قاعدتنا (مستمسك العروة الوثقى 14/215)- ليست بيّنة ولا مبيّنة.

(21) وإنّما عبّرت بالتخصيص؛ لأنّ جملة من روايات القاعدة (ب 6 ح9، ب8 ح 3، 6) قد اشتملت على مفردة(قط) الظاهرة في العموم، وهي روايات زرارة الثلاث، ومنها صحيحته المتقدّمة.

(22) وسائل الشيعة 20: 430 ب 8 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ح8.

(23) وسائل الشيعة 20: 420 ب 8 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ح3.

(24) انظر: مختلف الشيعة 7: 39.

(25) انظر: مستمسك العروة الوثقى 14: 218، 219.

(26) الكافي 5: 419 ح7، وسائل الشيعة 20: 419 ب4 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ح1.

(27) سورة النساء: 24.

(28) وسائل الشيعة 20: 420 ب4 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ح4.

(29) وسائل الشيعة 20: 428 ب8 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ح1.

(30) وسائل الشيعة 20: 424 ب6 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ح2.

(31) وسائل الشيعة 20: 424 ب6 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ح5.

(32) وسائل الشيعة 20: 425 ب6 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ح6.

(33) وسائل الشيعة 20: 425 ب6 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ح7.

(34) وسائل الشيعة 20: 426 ب6 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ح10.

(35) وسائل الشيعة 20: 426 ب6 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ح11.

(36) جواهر الكلام 29: 372، 373.

(37) انظر: المغني لابن قدامة 7: 482.

(38) مستمسك العروة الوثقى 14: 215، 217.

(39) سند العروة الوثقى (ك النكاح)1: 361، 362.

(40) وسائل الشيعة 20: 424 ب 6 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ح3.

(41) الكافي7: 180 ح2.

(42) مستمسك العروة الوثقى 14: 152.

(43) مستمسك العروة الوثقى 14: 156.

(44) مستمسك العروة الوثقى 14: 242.

(45) مستمسك العروة الوثقى 14: 243.

(46) مباني العروة الوثقى 12(ك النكاح1)= موسوعة الإمام الخوئي (قدِّس سرُّه) 32/ 250.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا