من أراد أن يرّبي نفسه تربية روحية يعني ذلك أنّه يريد أن يغيّر أو ينظّم سلوكه وفقاً لما يعتقد به من خلق رفيع ومبادئ عالية استمدّها من السماء عن طريق الأنبياء والرسلi الذين تركّزت دعوتهم في ذلك متّخذين صورة اللجوء إلى الله وعبادته، إذ بها يختصر الإنسان طريقه في مسير تربية نفسه تربية روحية.
وحقيقة دعوتهم هي الدعوة إلى الله تعالى وإلى عبادته، وترك عبادة الآلهة المصطنعة سواء كانت من الحجارة أم الحيوان أم الناس بل حتى من الذوات، فكما لا تجوز عبادة الأصنام الحجرية، كذلك لا تجوز عبادة الأصنام البشرية، إذ المطلوب من الإنسان أن يعبد الله وحده من دون أن يعبد غيره.
عبادة الله هي الأساس
لذا قام رسول اللهe بكتابة كتاب إلى أساقفة نجران جاء فيه: >من محمد رسول اللهe إلى أسقف نجران وأهل نجران، إن أسلمتم فإنّي أحمد إليكم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، أما بعد فإنّي أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد، وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد، فإن أبيتم فالجزية، وإن أبيتم فقد آذنتم بحرب، والسلام<[1].
فالعبادة هي الأساس في المفهوم الديني لأنّ من يعبد الله تعالى سيسخّر نفسه إلى طاعته تعالى ولزوم مرضاته واتباع أوليائه وهذا غاية ما يريد الوصول إليه المربّي نفسه.
فلا بدّ من أن تتصف العبادة بما وصفها صاحب الرسالة حيث يقولe: >اعبد الله كأنّك تراه فإن لم تكن تراه، فإنّه يراك<[2]... ومن يعتقد بأنّ معبوده يراه فإنّه لن يعصيه أبداً، ولك عبرة بما جرى بين نبي الله يوسفg وزليخا لمّا همّت بيوسف عمدت إلى صنم وغطّته، فقال لها يوسف: ما صنعت؟ قالت: طرحت عليه ثوباً أستحي أن يرانا، فقال يوسف: فأنت تستحين من صنمك وهو لا يسمع ولا يبصر، ولا أستحي أنا من ربي[3]؟!
وما نريد الوصول إليه هو أنّ كلّ من أراد أن يربّي نفسه عليه أن يستشعر أولاً وقبل كلّ شيء أنّه في محضر الله... وأنّه تعالى نعم الشاهد... يعلم كلّ ما يُفعل، بل يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور... يعلم سركم وجهركم... يعلم مثواكم ومنقلبكم...
لا بدّ من استشعار السالك أنّه في محضر الله، يقول الإمام الصادقg في قوله تعالى: {وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا} >كان رسول اللهe إذا قرأ هذه الآية بكى بكاءً شديداً<[4].
لِمَ هذا البكاء من رسول اللهe وهو آمنٌ من عذاب الله وسخطه ونحن لا نستحي حتى!!!
ماذا عليّ فعله إذا استشعرت أنّي في محضر الله تعالى؟
لكي نجيب على هذا السؤال لا بدّ من الوقوف على موقف نبي الله موسىg وماذا فعل عندما كان في محضر الله...
1ـ أراد أن يطيل الحديث مع اللهa، فلمّا سأله: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى}؟ كان بإمكانه أن يرفعها من دون كلام فيتضح أنّها عصا، وكان بإمكانه أن يجيب بكلمة واحدة ويقول: عصا، لكنه لمّا علِم أنّه في محضر الله تعالى وهو يحبّ الله ويعشقه فكان هذا الموقف موقف حديث بين العاشق والمعشوق فأطال في الجواب وقال: {هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى}.
2ـ الطاعة والتسليم إلى اللهa، بعد ذلك قال اللهa إلى موسى: {أَلْقِهَا يَا مُوسَى}. هنا موسىg لم يسأل اللهa عن سبب رمي العصا ... فلمّا صارت حيّة تسعى وكانت ضخمة جداّ أو أنّ نفس التحوّل غير المتوقّع سبب الفزع في قلب موسى فما كان منه إلا الفرار... ولكن اللهa لما أمره بالرجوع إليها وأخْذِها، رجع من دون اعتراض... فلمّا كان موسى بهذا المستوى من التسليم استحق من الله التكريم وأيّده بالمعجزات وكلّفه بتبليغ الرسالة فقال له: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى}... إنّك يا موسى لمّا أظهرت تسليمك للهa وأنّك قادر على مقارعة نفسك فأنت أهل أن تقارع مثل فرعون وأمثاله من الظلمة.
3. طلب العون من الله تعالى: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي} وكذا لا بدّ من طلب العون من اللهa لكلّ سالك لنتقرّب إلى الله بالفرار من المعاصي والذنوب ونعبد اللهa حق العبادة.
ولا بدّ من التنبه إلى ضرورة أن نعبد الله حق العبادة، أي: أنّا نعبد الله في كلّ مكان، وفي كلّ زمان، وفي كلّ فعل لا بدّ أن يرتسم بصورة عبادية.
طلب الكسب الحلال عبادة بل هو من أفضل العبادات ثوابا، ورد في حديث المعراج: >يا أحمد! إن العبادة عشرة أجزاء تسعة منها طلب الحلال، فإن أطيب مطعمك ومشربك فأنت في حفظي وكنفي<[5]. في النظر توجد عبادة لله تعالى قال رسول اللهe: >نظر الولد إلى والديه حبا لهما عبادة<[6]... وعنهe: >النظر إلى العالم عبادة<... وعنهe: >حسن الظن بالله من عبادة الله<[7]... وعن أمير المؤمنينg: >إنّ من العبادة لين الكلام وإفشاء السلام<[8]... و عن إمامنا الصادقg: >إنّ فوق كل عبادة عبادة، وحبّنا أهل البيت أفضل عبادة<[9]. المحافظة على العفاف من الرجال والنساء عبادة، الإخلاص في العمل عبادة، التواضع، التفكر، التفقّه، أداء حق المؤمن، قضاء حاجة المؤمن، غض البصر عن ما حرّم الله ... كل هذه تمس حياتنا اليومية وكلها عبادات بل من أفضل العبادات.
يقول الإمام زين العابدينg: >يقول الله: ابن آدم! اعمل بما افترضت عليك تكن من أعبد الناس<.
إن تحقق هذا سهلت التربية الروحية بل ليست التربية الروحية إلا هذه.
رئيس التحرير
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] المجلسي، بحار الأنوار، ج21، ص344.
[2] الفيض الكاشاني، الوافي، ج26، ص185.
[3] المجلسي، بحار الأنوار، ج12، ص300.
[4] السيد هاشم البحراني، تفسير البرهان، ج3، ص37.
[5] إرشاد القلوب، ص٢٠٣.
[6] تحف العقول، ص٤٦.
[7] الدرة الباهرة، ص٢٤.
[8] غرر الحكم، ح٣٤٢١.
[9] المحاسن: ج١، ص247، ح462.
0 التعليق
ارسال التعليق