مقدِّمة
لقد منَّ اللهُ تعالى علينا بنعمة كبيرة متمثِّلة بالأئمَّة المعصومينi، وإنَّ شكر هذه النِّعمة العظيمة يستدعي أن نتعرَّف عليهمi بشكلٍ أكبر، ونحيط بكلماتهم النيِّرة بشكلٍ أوسع، ونقرأ في سيرتهم العطرة بشكل أدقّ، ونستلهم منها العِبر والمواعظ، والحِكَم والفوائد؛ لتكون لنا نوراً نستضيء به في طريقنا نحو الله تعالى، فنتأسَّى بهم، ونسير على دربهم؛ لأنَّه الدَّرب الوحيد الموصل إلى الله تعالى.
وإذا ما فتَّش الإنسانُ المنصف في التَّاريخ، وقَلَّب صفحات كتبه، لوجد أنَّ حياة الإمام الباقرg مليئة بتلك العِبر والمواعظ، ولوجد أنَّ فيها غَنَاءً كبيراً، وثروةً ضخمةً، ومواقف عظيمة، تستحقُّ أن يوقَف عليها، وتتمُّ دراستها دراسة تحليليَّة تنعكس إيجاباً على واقعنا المعاصر.
من هنا ارتأت مجلَّة رسالة القلم أن تعقد حواراً خاصّاً حول الإمام الباقرg مع سماحة العلَّامة الشَّيخ محمَّد جواد الطَّبسيّB؛ لما لديه من اطّلاع كبير في التَّاريخ الإسلاميّ، وهو صاحب المؤلَّفات العديدة في هذا المجال، راجين من الله تعالى أن يكون حواراً شيِّقاً مفيداً للقارئ الكريم.
- بداية نرحِّب بسماحة الشَّيخ العزيز، وليسمح لنا بعرض هذه الأسئلة واحداً تلو الآخر، ونبدأ بهذا السُّؤال؛ ما هي أهمُّ ملامح حياة الإمام الباقرg؟
إنَّ شخصيَّة الإمام الباقرg لم تتلخَّص في الموارد المذكورة في التَّواريخ والسِّيرة، بل هي أكثر وأكثر وإن لم تصل إلينا، وإليك بعض الملامح:
الأوَّل: قال أبو حمزة الثُّماليّ: لمَّا كانت السَّنة التِّي حجَّ فيها أبو جعفر محمَّد بن عليّg ولقيه هشام بن عبد الملك، أقبل النَّاس ينثالون عليه، فقال عكرمة: من هذا عليه سيماء زهرة العلم لأجرِّبنَّه؛ فلمَّا مثل بين يديه ارتعدت فرائصُه، وأُسقط في يد أبي جعفرg وقال: يا بن رسول الله، لقد جلستُ في مجالس كثيرة، بين يدي ابن عباس وغيره، فما أدركني ما أدركني آنفاً، فقال له أبو جعفرg: «ويلك يا عُبَيْد أهل الشَّام، إنَّك بين يدي بيوتٍ أذن اللهُ أن تُرفع ويُذكر فيها اسمُه»(2).
الثَّاني: وفي الإرشاد بسنده عن عبد الله بن عطاء المكِّيّ قال: "ما رأيتُ العُلماء عند أحدٍ قطّ أصغر منهم عند أبي جعفر محمَّد بن عليّ بن الحسين، ولقد رأيتُ الحكم بن عتيبة مع جلالتِه في القوم بين يديه كأنَّه صبيٌّ بين يدي معلِّمه".
وكان جابر بن يزيد الجعفيّ إذا روى عن محمَّد بن عليّ شيئاً قال: "حدَّثني وصيُّ الأوصياء، ووراثُ علم الأنبياء، محمَّدُ بن علي بن الحسينg(3)".
الثَّالث: وفيه أيضاً: عن عبيد الله بن الزُّبير عن عمرو بن دينار وعبيد الله بن عبيد بن عمير أنَّهما قالا: ما لقينا أبا جعفر محمَّد بن عليّ إلَّا وحمل إلينا النَّفقة والصِّلة والكسوة، ويقول: >هذا معدّه لكم قبل أن تلقوني<(4).
الرَّابع: وفيه أيضاً: عن سليمان بن قرم قال: "كان أبو جعفر محمَّد بن عليّg يجيزنا بالخمسمائة إلى السِّتمائة إلى الألف درهم، وكان لا يملُّ من صلة إخوانه وقاصديه ومؤمِّليه وراجيه"(5).
الخامس: وقال الجاحظ في كتاب البيان والتَّبيين: قد جمع محمَّد بن عليّ بن الحسينg صلاح الدِّنيا بحذافيرها في كلمتين؛ فقال: >صلاح جميع المعايش والتَّعاشر ملءُ مكيال؛ ثلثاه فطنة، وثلثٌ تغافل<(6).
السَّادس: وعن أفلح مولى أبي جعفرg قال: خرجت مع محمَّد بن عليّ حاجّاً، فلمَّا دخل المسجد نظر إلى البيت فبكى حتى علا صوتُه، فقلتُ: بأبي أنت وأمي، إنَّ النَّاس ينظرون إليك فلو رفعت [رفقت] بصوتك قليلاً. فقال لي: >ويحك يا أفلح، ولمَ لا أبكي، لعلَّ اللهَ تعالى أن ينظر إليَّ منه برحمة فأفوز بها عنده<. قال: ثمَّ طاف بالبيت، ثمَّ جاء حتى ركع عند المقام، فلمَّا رفع رأسَه من سجوده فإذا موضع سجوده مبتلٌّ من كثرةِ دموع عينيه، وكان إذا ضحك قال: >اللهمَّ لا تمقتني<(7).
السَّابع: وقالت سلمى مولاة أبي جعفرg: وكان يدخل عليه إخوانه فلا يخرجون من عنده حتى يطعمهم الطَّعام الطَّيِّب، ويكسوهم الثِّياب الحسنة، ويهبُ لهم الدَّراهم، فأقول له في ذلك ليقلّ منه، فيقول: >يا سلمى، ما حسنة الدُّنيا إلَّا صلة الإخوان والمعارف<. وكان يجيز بالخمسمائة والسِّتمائة إلى الألف، وكان لا يملُّ من مجالسة إخوانه. وقال: >اعرف المودَّة لك في قلب أخيك بما له في قلبك<. وكان لا يُسمَع من داره: يا سائل بورك فيك، ولا: يا سائل خذ هذا، وكان يقول: >سمّوهم بأحسن أسمائهم<(8).
- وُلد الإمام الباقرg في حدود العام ٥٧ للهجرة، ويعني ذلك أنَّه قد أدرك عاشوراء، وكونه صغيراً لا يضرُّ بنقله للأحداث بعد كونه معصوماً، فلماذا لم ينقل أحداث عاشوراء بشكلٍ مفصَّل؟
أوَّلاً: إنَّ أكثر حوادث كارثة كربلاء وعاشوراء الإمام الحسينg منقولة عن أربعة من الأئمَّةi؛ أي الإمام زين العابدين والباقر والصَّادق والرِّضاi، ومع ذلك لم ينقل عنهم بقدر ما نُقل عن السَّيدة زينب بنت عليّj، فلو كان الأمر كذلك فلماذا لا يقال بأنَّه قلَّ نقل أخبار عاشوراء عن الإمام زين العابدينg بالنِّسبة إلى روايات السَّيدة زينب بنت عليّj؟!
وثانياً: إنَّ ما نُقل عن الإمام الباقرg وإن كان هو ما شهده في عهد صغره، ولكن ما نقله كان في عهد شبابه وكبره، فلو كان أكثر ممَّا نقله لنقله.
وثالثاً: إنَّه من الممكن أنْ يكون عدم نقله تفصيلاً للأحداث راجع لمجموعة من العلل:
منها: ضغط الحكم الأمويّ، كما ورد هذا الضَّغط على أبيه الإمام زين العابدينg، وهذا ما أدَّى به إلى ألَّا ينقل الأحداث تفصيلاً، وإنَّما ينقلها على نحو الإشارة والإجمال.
ومنها: أنَّه من الممكن أنَّه نقل أحداث عاشوراء تفصيلاً، لكنَّه لم يُنقل إلينا كما ذكره بعض أرباب المقاتل، فقد تكون مرويَّة في الكتب ولكن ضاعت هذه النّسخ ولم تصل بأيدينا.
- ما هي دلالات رواية جابر بن عبد الله الأنصاريّ الواردة عن النَّبيّe في إبلاغه سلامه الخاصّ إلى الإمام الباقرg؟ فهل للإمام خصوصيَّة معيَّنة؟
إنَّ في روايات جابر دلالات كثيرة وواضحة تشير إلى شخصيَّة الإمام الباقرg وتثبيت مكانته السَّامية، نشير إلى بعضٍ منها:
الأولى: إنَّ النَّبيe قد أخبر بشكلٍ غيبيّ أنَّ جابراً سيبقى إلى زمان اللِّقاء بولد للإمام زين العابدينg الَّذي لم يولد بعد، وإهداء سلامه إليه.
الثَّانية: إنَّ سلامه كان تأييداً لمكانته العِلميَّة، وأنَّ ما يقوله فيما بعد هو حقّ، وأنَّ ما يقولهg إنَّما هو قول رسول اللهe.
الثَّالثة: إنَّ جابراً لمَّا كان صحابيّاً وله الفضل عند المسلمين فإنَّ المسلمين لم يشكُّوا أنَّ السَّلام من رسول اللهe لم يكن كذباً.
الرَّابعة: أخبر النَّبيّe إنَّ ولد الحسين -أي الباقرg- سيبقر علم الدِّين بقراً.
الخامسة: تصديق النَّاس كلام الإمام الباقرg عن رسول اللهe.
السَّادسة: إثبات أنَّ الأئمَّةi هم من أولاد رسول اللهe على حدِّ تعبير جابر عن رسول الله: >أبوك رسول الله يقرئك السَّلام<(9).
السَّابعة: إنَّ الإمام الباقرg هو الإمام دون سائر أولاد الإمام السَّجادg.
الثَّامنة: تأييد ما رواه الإمام الباقرg عن اللهa وعن رسولهe.
- كيف كان الإمامُ الباقرg يتعامل مع حكَّام بين أُميَّة الَّذين عاصروه؟ حيث نقرأ بعض المواقف في هذا الشَّأن من قبيل إرجاع عمر بن عبد العزيز فدكاً إلى الإمامg، ومن قبيل اقتراحهg على عبد الملك بن مروان أنْ يسكَّ العملة بالسّكة الإسلاميَّة.
لا شكَّ ولا ريب في أنَّ معاملة الإمامg مع حكَّام بني أُميَّة لم تكن على سبيل الخضوع والتَّسليم لهم، بل كانت معاملة لمصلحة معيَّنة، والدَّليل على ذلك أنَّهg كان ينفيهم ويتبرَّأ منهم، وهذه كانت سيرتهم مع الأعداء على الخصوص السُّلطة الجائرة.
وسنذكر لكم بعض الشَّواهد على ذلك:
الشَّاهد الأوَّل: روى الثَّعلبيّ في نزهة القلوب قال: رُوِي عن الباقرg أنَّه قال: >أشخصني هشام بن عبد الملك، فدخلت عليه وبنو أميَّة حوله، فقال لي: ادن يا ترابيّ، فقلت: من التُّراب خُلقنا، وإليه نصير، فلم يزل يدنيني حتى أجلسني معه، ثمَّ قال: أنت أبو جعفر الَّذي تقتل بني أُميَّة؟ قال: فقلت: لا. قال: فمن ذاك؟ فقلت: ابن عمِّنا أبو العبَّاس بن محمَّد بن عليّ بن عبد الله بن العبَّاس. فنظر إليَّ وقال: والله ما جَرَّبْتُ عليك كذباً، ثمَّ قال: ومتى ذاك؟ قلت: عن سَنِيّاتٍ، والله ما هي ببعيد<(10).
الشَّاهد الثَّاني: إنَّه قد أخبرg يوماً بهلاك هشام حينما مرَّ على بيته وهي تُبْنى؛ قال يزيد بن حازم: كنتُ عند أبي جعفرg فمررنا بدارِ هشام بن عبد الملك وهي تُبْنى فقال: >أما والله لتهدمنَّ، أما والله لينقلنَّ ترابها من مهدمها، أما والله لتبدونَّ أحجار الزَّيت، وإنَّه لموضع النَّفس الزَّكية<، فتعجَّبتُ، وقلت: دار هشام من يهدمها! فسمعت أذني هذا عن أبي جعفرg. قال: فرأيتها بعد ما مات هشام وقد كتب الوليد أن تُسْتَهْدَم ويُنقل ترابها، فنقل حتى بدت الأحجار ورأيتها(11).
وأمَّا مسألة فدك، فقد كانت مسألة غامضة في تاريخ أهل البيتi بعد رسول اللهe؛ حيث كانت فدكاً متناولة في أيدي الخلفاء الغاصبين وزمرتهم الفاسقة، فكانت تُؤخذ وتُردّ حقداً أو حبّاً ظاهراً لفاطمة وأولادها.
نعم، إنَّ فدكاً كانت في أيدي السُّلطة إلى أن ولي عمر بن عبد العزيز، ثمَّ انتزعها يزيد بن عبد الملك بعد عمر بن عبد العزيز، ثمَّ دفعها السَّفَّاح إلى الحسن بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب، ثمَّ أخذها المنصور، ثمَّ أعادها المهديّ، ثمَّ قبضها الهادي، ثمَّ ردَّها المأمون، إلى أن تولَّى المتوكِّل العباسيّ فقبضها، وأقطعها حرملةَ الحجَّام(12).
وأمَّا ردُّ عمر بن عبد العزيز فدكاً فمن المظنون قويّاً أنَّه ردَّها بعد موعظة الإمام الباقرg له، حيث قال له: >اتقِ اللهَ يا عمر، وافتح الأبواب، وسهِّل الحجاب، وانصر المظلوم، وردَّ المظالم<. ثمَّ قال: >ثلاث من كنّ فيه استكمل: الإيمان بالله<. فجثا عمر على ركبتيه وقال: إيه يا أهل بيت النبوّة، فقال: >نعم يا عمر، من إذا رضي لم يدخله رضاه في الباطل، وإذا غضب لم يخرجه غضبه من الحقِّ، ومن إذا قدر لم يتناول ما ليس له<، فدعا عمر بدواة وقرطاس وكتب: "بسمِ الله الرَّحمن الرَّحيم، هذا ما ردَّ عمر بن عبد العزيز ظلامة محمَّد بن عليٍّh فدك"(13).
فأين هذا من مداهنة الإمام الباقرg لحكَّام زمانه، فإنَّ موعظة الإمام الباقرg كانت لكلِّ المسلمين، حاكماً أو محكوماً على حدٍّ سواء، فكيف لا يكون ردُّ فدك إلى أهلها على إثر موعظة الإمام الباقرg.
وأمَّا قضية مشورة عبد الملك بن مروان مع الباقرg فنقول: إنَّ هذه المشورة لم تكن مع الإمام الباقرg، وعلى نقل ابن الأثير في الكامل في التَّاريخ كانت هذه المشورة مع خالد بن يزيد بن معاوية(14).
وعلى فرض كون المشورة مع الإمام الباقرg حسب ما نقله الدميَريّ في حياة الحيوان(15)، فنقول:
أوَّلاً: إنَّ دخول الإمام الباقرg على عبد الملك كان بالإجبار من عبد الملك، لا باختياره حتى يحمل على التَّعامل مع عبد الملك بن مروان.
وثانياً: إنَّ هذه المشورة كانت لصالح المسلمين، وهي غالبة على التَّعامل، بل ولا يُفهم من هذا الرُّجوع والمشورة تعامل أصلاً.
وثالثاً: إنَّه اتَّفق هذا المعنى في زمان الإمام أمير المؤمنينg، حيث منع الإمامُ الخليفةَ أن يحضر بنفسه بعض الفتوحات، فالكلام هنا هو الكلام.
- ما هي أهمُّ الفرق المنحرِفة في زمن الإمام الباقرg؟ وكيف واجهها الإمامg؟
من الفرق المنحرِفة الضَّالة الفرقة المُغيريَّة، وهي المنتسبة إلى المُغيرة بن سعيد الَّذي كان يكذب وينسبه إلى الإمام الباقرg.
وقد ورد فيه الذمُّ واللَّعن عنهمi، حيث قال فيه الرَّضاg: >كان يكذب على أبي جعفر<(16).
وعن يونس عن هشام بن الحكم أنَّه سمع أبا عبد اللهg يقول: >كان المغيرة بن سعيد يتعمَّد الكذب على أبي، ويأخذ كتب أصحابه، وكان أصحابه المستترون بأصحاب أبي يأخذون الكتب من أصحاب أبي، فيدفعونها إلى المغيرة، فكان يدسُّ فيها من الكفر والزَّندقة ويسندها إلى أبي، ثُمَّ يدفعها إلى أصحابه، فيأمرهم أن يبثُّوها في الشِّيعة، فكلَّما كان في كتب أصحاب أبي من الغلو، فذاك ممَّا دسَّه المغيرة بن سعيد في كتبهم<(17).
وقد ذمَّه الإمام الباقرg وقال لسليمان اللَّبان: >أتدري ما مثل المغيرة بن سعيد؟< قال: قلت: لا. قال: >مثله مثل بلعم الَّذي أُوتيَ الاسم الأعظم الَّذي قال الله: {آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الغاوِين}<(18).
ومن الطَّوائف الضَّالّة المنحرِفة في عهد الإمام الباقرg هم المرجئة والقدريَّة والحروريَّة والزَّيديَّة. فنفاهم الإمام الباقرg في لقائه مع محمَّد الطيَّار، وأمَّا قصة الطيّار فهي عن الكشيّ بسنده عن حمزة الطَّيَّار عن أبيه محمَّد قال: جئت إلى باب أبي جعفرg أستأذن عليه، فلم يأذن لي وأذن لغيري! فرجعتُ إلى منزلي وأنا مغموم، فطرحت نفسي على سرير في الدَّار وذهب عنّي النَّوم، فجعلت أفكِّر وأقول: أليس المرجئة تقول كذا؟ والقدريَّة تقول كذا؟ والحروريَّة تقول كذا؟ والزيديَّة تقول كذا؟ فيفسد عليهم قولَهم، فأنا أفكِّر في هذا حتّى نادى المنادي، فإذا الباب يدقّ! فقلت: من هذا؟ فقال: رسولٌ لأبي جعفر، يقول لك أبو جعفرg: >أجب<، فأخذت ثيابي ومضيت معه فدخلت عليه فلمَّا رآني قال: >يا محمَّد لا إلى المرجئة ولا إلى القدريّة ولا إلى الحروريَّة ولا إلى الزيديّة، ولكن إلينا؛ إنَّما حجبتك لكذا وكذا<، فقبلتُ وقلتُ به(19).
وأيضاً من الفرق الضَّالة الَّتي خاصم أحدُهم الإمام الباقرg هم الخوارج، حيث كانوا يرون الإمام عليّg قد كفر بتحكيم الرِّجال.
فمن الَّذين كان يرى رأيَهم هو عبد الله بن نافع الأزرق، فقابله الإمام الباقرg ودعا أبناء المهاجرين والأنصار فقال: >من كانت عنده منقبة لعليٍّ فليقم وليتحدَّث<.
قال: فقام النَّاس فسردوا تلك المناقب، فقال عبد الله بن نافع: أنا أروى لهذه المناقب من هؤلاء، وإنَّما أحدث عليٌ الكفرَ بعد تحكيمه الحكمَين. حتى انتهوا إلى حديث خيبر: >لأعطينَّ الرَّاية غداً رجلاً يحبُّ اللهَ ورسولَه ويحبُّه اللهُ ورسولُه، كرّاراً غير فرَّار، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه<.
فقال أبو جعفرg: >ما تقول في هذا الحديث؟<.
قال: هو حقٌّ لا شكَّ فيه، ولكن أحدثَ الكفرَ بعدُ.
فقال له أبو جعفرg: >ثكلتك أمُّك، أخبرني عن اللهa أحبَّ عليَّ بن أبي طالب يوم أحبَّه وهو يعلم أنَّه يقتل أهل النَّهروان أم لم يعلم؟! فإنْ قلت لا كفرت<.
فقال: قد علم.
قال: >فأحبَّه اللهُ على أن يعمل بطاعته أو على أن يعمل بمعصيته؟<.
فقال: على أن يعمل بطاعته.
فقال له أبو جعفرg: >فقمْ مخصوماً<.
فقام وهو يقول: حتى يتبيَّن لكم الخيطُ الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، الله أعلمُ حيثُ يجعلُ رسالتَه(20).
- كيف كانت تربيَّة الإمام الباقرg لأصحابَه؟
إنَّ لذلك أمثلة كثيرة ذكرها المجلسيّ وغيرُه في كتبهم، وإليك بعضها:
الأوَّل: ربَّاهم على التآلف بين الإخوان
عن أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ: کُنْتُ زَمِيلَ أَبِي جَعْفَرٍg، وَکُنْتُ أَبْدَأُ بِالرُّکُوبِ، ثُمِّ يَرْکَبُ هُوَ، فَإِذَا اسْتَوَيْنَا سَلِّمَ وَسَاءَلَ مُسَاءَلَةَ رَجُلٍ لا عَهْدَ لَهُ بِصَاحِبِهِ وَصَافَحَ، قَالَ: وَکَانَ إِذَا نَزَلَ نَزَلَ قَبْلِي، فَإِذَا اسْتَوَيْتُ أَنَا وَهُوَ عَلَى الأَرْضِ سَلِّمَ وَسَاءَلَ مُسَاءَلَةَ مَنْ لا عَهْدَ لَهُ بِصَاحِبِهِ، فَقُلْتُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللِّهِ، إِنِّكَ لَتَفْعَلُ شَيْئاً مَا يَفْعَلُهُ مَنْ قِبَلَنَا، وَإِنْ فَعَلَ مَرِّةً فَکَثِيرٌ، فَقَالَ: >أَمَا عَلِمْتَ مَا فِي المُصَافَحَةِ! إنِّ المُؤْمِنِينَ يَلْتَقِيَانِ فَيُصَافِحُ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فَمَا تَزَالُ الذُّنُوبُ تَتَحَاتُّ عَنْهُمَا کَمَا تَتَحَاتُّ الوَرَقُ عَنِ الشِّجَرِ، وَاللِّهُ يَنْظُرُ إِلَيْهِمَا حَتِّى يَفْتَرِقَا<(21).
الثَّاني: ربَّاهم على تعظيم بيتِ الله
عَنْ أَفْلَحَ مَوْلَی أَبِي جَعْفَرٍg قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ مُحَمِّدِ بْنِ عَلِيّ حَاجّاً، فَلَمِّا دَخَلَ المَسْجِدَ نَظَرَ إِلَی البَيْتِ فَبَکَی حَتِّی عَلَا صَوْتُهُ، فَقُلْتُ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي إِنِّ النِّاسَ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ فَلَوْ رَفَعْتَ بِصَوْتِكَ قَلِيلاً، فَقَالَ لِي: >وَيْحَكَ يَا أَفْلَحُ، وَلِمَ لا أَبْکِي، لَعَلِّ اللِّهَ تَعَالَی أَنْ يَنْظُرَ إِلَيّ مِنْهُ بِرَحْمَةٍ فَأَفُوزَ بِهَا عِنْدَهُ غَداً<(22).
الثَّالث: ربَّاهم على الإطعام وصلة الإخوان
قالت سلمى مولاة أبي جعفرg: كان يدخل عليه إخوانه، فلا يخرجون من عنده حتى يطعمهم الطعام الطيِّب، ويكسوهم الثِّياب الحسنة، ويهب لهم الدَّراهم، فأقول له في ذلك ليقلَّ منه. فيقول: >يا سلمى! ما حسنة الدُّنيا إلَّا صلة الإخوان والمعارف<. وكان لا يملُّ من مجالسة إخوانه. وقالg: >اعرف المودّة لك في قلب أخيك بما له في قلبك<(23).
الرَّابع: ربّاهم على رعاية الزِّينة
ففي الكافي عن الحكم بن عتيبة قال: رأيتُ أبا جعفرg وقد أخذ الحنَّاء وجعله على أظافره. فقال: >يا حكم، ما تقول في هذا؟<، فقلت: ما عسيت أن أقول فيه وأنت تفعله، وأنَّه عندنا يفعله الشُّبَّان. فقال: >يا حكم، إنَّ الأظافر إذا أصابتها النُّورة غيَّرتها حتى تشبه أظافر الموتى، فغيِّرها بالحنَّاء<(24).
الخامس: ربَّاهم على التَّسليم لقضاء الله
ففي البحار عن يونس بن يعقوب عن بعض أصحابنا: كانَ قَومٌ أتَوا أبا جَعفَرٍg فَوافَقوا صَبِيّاً لَهُ مَريضاً، فَرَأَوا مِنهُ اهتِماماً وغَمّاً وجَعَلَ لا يَقِرُّ، قالَ: فَقالوا: وَاللّهِ لَئِن أصابَهُ شَيءٌ إنّا لَنَتَخَوِّفُ أن نَرى مِنهُ ما نَكرَهُ.
قالَ: فَما لَبِثوا أن سَمِعُوا الصِّياحَ عَلَيهِ، فَإِذا هُوَ قَد خَرَجَ عَلَيهِم مُنبَسِطَ الوَجهِ في غَيرِ الحالِ الِّتي كانَ عَلَيها.
فَقالوا لَهُ: جَعَلَنَا اللّهُ فِداكَ، لَقَد كُنّا نَخافُ مِمّا نَرى مِنكَ أن لَو وَقَعَ أن نَرى مِنكَ ما يَغُمُّنا.
فَقالَ لَهُم: >إنَّا لَنُحِبُّ أن نُعافى فيمَن نُحِبُّ، فَإِذا جاءَ أمرُ اللّهِ سَلِّمنا فيما أحَبِّ<(25).
- ما هو تقييمكم للرِّواية الَّتي ينقلها القطب الرَّاونديّ في الخرائج والجرائح والَّتي تقول بأنَّ الإمام الباقرg قد قُتل على يد ابن عمِّه زيد بن الحسن المجتبى، عن طريق سرجٍ مسموم؟ وهل ثبت أنَّ الإمامg قد قُتل ودُسَّ إليه السُّم بطريقة معيَّنة؟
لا شكَّ في أنَّ الأئمَّةi كانوا مهدَّدين من قبل السُّلطة أوَّلاً، ومن قبل الأشخاص العادِّيين ثانياً، ومن قبل أبناء عمومتهم ثالثاً، وخصوصاً الإمام الباقر والصَّادقh.
بل حتى إنَّ الإمام الصادقg قد هُدِّد بشفرة مثل السِّكين، وكانوا يستهينون في بعض الأوقات بهم، أو كانوا يثيرون السُّلطان الجائر عليهم، وهذا ممَّا لا شكَّ فيه ولا غبار عليه، بل كان يعضهم يشترك في دم المعصومينi، كاشتراك عليّ بن إسماعيل في دمِ الإمام الكاظمg.
وأمَّا بالنِّسبة إلى قتل الإمام الباقرg، وإن كان زيد بن الحسن من المسيئين للإمامg وكان يسعى به إلى عبد الملك بن مروان، حيث دخل عليه وقال: "إنَّ محمَّد بن علي الباقر ساحر كذَّاب لا يحلُّ لك تركه"، ثمَّ رضي بأن يقتله إن أمره عبد الملك، ولكن لم يثبت أنَّه قد أقدم على قتله(26).
وأمَّا ما جاء في الخرائج عن الإمام الصَّادقg من أنَّ الإمام قال لزيد: >ويحك يا زيد، ما أعظم ما تأتي به وما يجري على يديك، إنِّي لأعرف الشَّجرة الَّتي نحتَّ منها، ولكن هكذا قدّر، فويل لمن أجرى الله على يديه الشَّر». فأسرج له فركب أبي ونزل متوِّرماً، فأمر بأكفان له وكان فيه ثوب أبيض أحرم فيه، وقال: اجعلوه في أكفاني. وعاش ثلاثاً ثمَّ مضى لسبيلهg، وذلك السِّرج عند آل محمَّد معلَّق<. ثمَّ إنَّ زيد بن الحسن بقي بعده أياماً فعرض له داء فلم يزل يتخبَّط، ويهوي، وترك الصَّلاة حتى مات(27).
فيمكن الملاحظة عليه بالتالي:
أوَّلاً: إنَّ هذه الرِّواية لم تُنقل في أيِّ مصدرٍ غيره.
ثانياً: إنَّ القطب الرَّاونديّ لم يذكر لذلك سنداً.
ثالثاً: إنَّ هناك سقطاً في آخر الحديث -كما أشار لذلك العلامة المجلسيّ(28)- ممَّا يضعِّف الحديث، وإن كان من المحتمل أنَّ قتل الإمام الباقرg كان بتواطؤ من عبد الملك وزيد بن الحسن.
- في الختام لا يسعنا إلَّا أن نشكر سماحة الشَّيخ العزيز على تفضُّله بقبول هذا الحوار مع مجلَّة رسالة القلم، ونسأل الله تعالى أن يطيل في عمر سماحة الشَّيخ في صحَّة وعافية، وأن تستفيد الأمَّة الإسلاميَّة من علمه وأفضاله، والحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على سيّدنا محمَّدٍ وآلِه الطَّيِّبين الطَّاهرين.
(1) سماحة الشَّيخ محمَّد جواد بن محمَّد رضا المروِّجيّ الطَّبسيّ، وُلد في النَّجف الأشرف ٩/ذو الحجّة/١٣٧٢ هجريّة قمريّة، برفقة والده الَّذي كان من العلماء، وقد درس لمرحلة اللُّمعة الدِّمشقيَّة في النَّجف الأشرف، إلى أن هُجِّروا من النَّجف من قبل نظام البعث، فرجعوا إلى قمِّ المقدَّسة، وتتلمذ على كوكبة من علمائها وفقهائها.. اشتغل بالتَّأليف والكتابة، وله مجموعة كبيرة من الكتب وعشرات المقالات في التَّاريخ والسِّيرة والأخلاق والتَّربية والفقه، منها: (المقتل الحسينيّ المأثور)، (قم عاصمة الحضارة الشِّيعيَّة)، (الزَّواج الموفَّق)، (حوار هادئ بين المعصومين والنَّصارى).. ولا زالB نشطاً في التَّأليف وإلقاء المحاضرات والتَّبليغ.
(2) مناقب آل أبي طالبi، ابن شهر آشوب، ج٤، ص١٨٢.
(3) الإرشاد، المفيد، ص٢٨٠.
(4) المصدر نفسه، ص٢٨٤.
(5) المصدر نفسه.
(6) لاحظ: مناقب آل أبي طالبi، ابن شهر آشوب، ج٤، ص٢٠٤، وقد روى الخزَّاز القمِّيّ في كفاية الأثر (ص٢٦٠)، الرِّواية على لسان الإمام زين العابدينg في وصيَّته لابنه الباقرg فقال: >واعلم يا بنيّ، أنَّ صلاح شأن الدُّنيا بحذافيرها في كلمتين؛ إصلاح شأن المعاش ملؤ مكيال؛ ثلثاه فطنة، وثلثه تغافل؛ لأنَّ الإنسان لا يتغافل عن شيء قد عرفه ففطن فيه<.
(7) بحار الأنوار، المجلسيّ، ج٤٦، ص٢٩٠.
(8) المصدر نفسه.
(9) بحار الأنوار، المجلسيّ، ج٤٦، ص٢٢٦.
(10) المصدر نفسه، ص٢٦٢.
(11) كشف الغمَّة، الإربليّ، ج٢، ص٣٤٦.
(12) سفينة البحار، المحدِّث القمِّيّ، ص٣٥١.
(13) الخصال، الصَّدوق، ج١، ص١٠٥.
(14) انظر: الكامل لابن الأثير، ج٤، ص١٦٨، في حوادث سنة ٧٦.
(15) انظر: حياة الحيوان للدميَريّ، ج١١، ص٩١٦.
(16) اختيار معرفة الرِّجال (رجال الكشيّ)، الطُّوسيّ، ص١٤٧.
(17) اختيار معرفة الرِّجال (رجال الكشيّ)، الطُّوسيّ، ص١٤٨.
(18) تفسير العيَّاشيّ، العيَّاشيّ، ج٢، ص٤٢.
(19) اختيار معرفة الرِّجال (رجال الكشيّ)، الطُّوسيّ، ص٣٤٨.
(20) الكافي، الكلينيّ، ج٨، ص٣٤٩.
(21) الكافي، الكلينيّ، ج٢، ص١٧٩.
(22) المصدر نفسه، ص٣١٩.
(23) المصدر نفسه، ص٣٢٠.
(24) الكافي، الكلينيّ، ج٦، ص٥٠٩.
(25) المصدر نفسه، ج٣، ص٢٢٦.
(26) انظر: الثاقب في المناقب، ابن حمزة الطُّوسيّ، ص٣٨٩، والخرائج والجرائح، الراونديّ، ج٢، ص٦٠٢.
(27) الخرائج والجرائح، الراونديّ، ص٢٣٠.
(28) بحار الأنوار، المجلسيّ، ج٤٦، ص٣٣١.
0 التعليق
ارسال التعليق