إنّ الإمام الحسين× آية من آيات الله§ بعثه في خلقه إماماً هادياً وسيداً عاملاً وعبداً صالحاً، بذل نفسه في سبيل الله® ليخرج عباده من الجهالة وحيرة الضلالة فأبلغ في الموعظة وأجزل العطاء وأحسن البلاء.
كان× بشهادة الأعداء حسن السيرة طاهر السريرة عارفاً بالله مهديّاً بهداه محبوباً في الأرض معروفاً في السماء ذكرته الأنبياء واقتدت بهديه الأصفياء.
إنّ الحسين× مأوى كل مظلوم ونغمة يتغنى بها كل محروم فقد فاق في إخلاصه كل فائق، وأظهر ببذل مهجته دفائن الحقائق، وقد عرف الناس بعد الحسين كيف يتميّز الحق من الباطل، وسطّر للتاريخ درساً بليغاً حيّاً متجدداً خالداً تليداً عميقاً أصيلاً.
ولقد جمع صلوات الله عليه كل الصفات الحميدة والفضائل المجيدة، فلا يشذ منها شارد ولا يفوته منها فائت. فإن أتيته من حيث العبادة فهو العابد، ومن حيث الزهد فهو الزاهد، ومن حيث نظرته للدنيا فهو البصير الناقد. لا يغره شيء من زخرفها ولا يخدعه طيف من زبرجها. كان عالماً بالله لا ينطق غلطاً ولا يقول شططاً قد طهّره الجليل وشهد بذلك القرآن والتوراة والإنجيل.
عاش نبيلاً ومات عزيزاً ينظر بعين البصيرة، ويُقدِم بالحكمة والعزيمة. وهو الذي قال فيه بعض الرواة: "والله ما رأيت مكثوراً قط قد قتل ولده وأهل بيته وأصحابه أربط جأشاً ولا أمضى جناناً ولا أجرأ مقدماً منه، والله ما رأيت قبله ولا بعده مثله وإن كانت الرجالة لتشدّ عليه فيشدّ عليها بسيفه فتنكشف عن يمينه وعن شماله انكشاف المعزى إذا شدَّ فيها الذئب، ولقد كان يحمل فيهم فينهزمون من بين يديه كأنهم الجراد المنتشر"[1].
عفيراً متى عاينته الكماة يختطف الرعب ألوانها
فما أجلت الحرب عن مثله قتيلا يجبن شجعانهــا
وكان أول من رثاه وشرّع عليه البكاء هو الله§ من فوق عرشه.
ففي بحار الأنوار: >إنّ نبي الله موسى× ناجى ربه فقال: إنّ فلاناً عبدك الإسرائيلي أذنب ذنباً ويسألك العفو، قال: يا موسى أعفو عمن استغفرني إلا قاتل الحسين، قال موسى×: يا ربّ ومن الحسين؟ قال له: الذي مرّ ذكره عليك بجانب الطور، قال: يا ربّ ومن يقتله؟ قال يقتله أُمّة جدّه الباغية الطاغية في أرض كربلاء وتنفر فرسه وتحمحم وتصهل، وتقول في صهيلها: الظليمة الظليمة من أمّة قتلت ابن بنت نبيها فيبقى ملقى على الرمال من غير غسل ولا كفن، وينهب رحله، ويسبى نساؤه في البلدان، ويقتل ناصره، وتشهر رؤوسهم مع رأسه على أطراف الرماح، يا موسى صغيرهم يميته العطش، وكبيرهم جلده منكمش، يستغيثون ولا ناصر ويستجيرون ولا خافر وقال: يا ربّ وما لقاتليه من العذاب؟ قال: يا موسى عذاب يستغيث منه أهل النار بالنار، لا تنالهم رحمتي، ولا شفاعة جدّه، ولو لم تكن كرامة له لخسفت بهم الأرض، قال موسى×: برئت إليك اللّهمّ منهم وممّن رضي بفعالهم، فقال سبحانه: يا موسى كتبت رحمة لتابعيه من عبادي، واعلم أنه من بكى عليه أو أبكى أو تباكى حرَّمت جسده علىالنار<[2].
ولقد رثاه رسول الله| قبل مقتله وسالت بذلك مقلته، برثاء ما سمع من قبله، ولا يسمع بعده. فقد روى المجلسي في رثائه صلوات الله عليه روايات متعددة، منها ما عن أبي عبدالله× قال: >كان الحسن× مع أمّه تحمله فأخذه النبي| وقال: لعن الله قاتلك، ولعن الله سالبك وأهلك الله المتوازرين عليك، وحكم الله بيني وبين من أعان عليك، قالت فاطمة الزهراء÷: يا أبت أي شيء تقول؟ قال|: يا بنتاه ذكرت ما يصيبه بعدي وبعدك من الأذى والظلم والغدر والبغي، وهو يومئذ في عصبة كأنهم نجوم السماء، ويتهادون إلى القتل، وكأنّي أنظر إلى معسكرهم، وإلى موضع رحالهم وتربتهم، قالت÷: يا أبه! وأين هذا الموضع الذي تصف؟ قال|: موضع يقال له كربلاء، وهي دار كرب وبلاء علينا وعلى الأمة، يخرج عليهم شرار أمتي لو أنّ أحدهم شفع له من في السماوات والأرضين ما شفعوا فيه، وهم المخلّدون في النار. قالت÷: يا أبه فيقتل؟ قال|: نعم يا بنتاه، وما قتل قتلته أحد كان قبله ويبكيه السماوات والأرضون، والملائكة، والوحش، والنباتات، والبحار، والجبال ولو يؤذن لها ما بقي على الأرض متنفس، ويأتيه قوم من محبينا ليس في الأرض أعلم بالله ولا أقوم بحقنا منهم، وليس على ظهر الأرض أحد يلتفت إليه غيرهم أولئك مصابيح في ظلمات الجور، وهم الشفعاء، وهم واردون حوضي غداً أعرفهم إذا وردوا عليّ بسيماهم، وكلّ أهل دين يطلبون أئمتهم، وهم يطلبوننا لا يطلبون غيرنا، وهم قوام الأرض، وبهم ينزل الغيث، فقالت فاطمة الزهراء÷: يا أبه إنّا لله، وبكت فاطمة÷ إلى أن قال لها رسول الله|: أما ترضين أن يكون الملائكة تبكي لابنك، وتأسف عليه كلّ شيء؟ أما ترضين أن يكن من أتاه زائراً في ضمان الله ويكون من أتاه بمنزلة من حج إلى بيت الله واعتمر، ولم يخل من الرحمة طرفة عين، وإذا مات مات شهيداً وإن بقي لم تزل الحفظة تدعو له ما بقي، ولم يزل في حفظ الله وأمنه حتى يفارق الدنيا قالت÷: يا أبه! سلّمت، ورضيت وتوكّلت على الله، فمسح على قلبها ومسح عينيها، وقال|: إني وبعلك وأنت وابنيك في مكان تقرُّ عيناك، ويفرح قلبك<[3].
وكيف لا تجزع عليه الأرض، ولا تبكي له السماء دماً، وهو الذي قامت الملائكة لولادته بالتسبيح، وزخرفت لها الجنان، وأطفأ مالك لها النيران، كرامة له من الله المنّان.
فقد روى الشيخ إبراهيم الجويني الحمويني الشافعي أنّ الله§ أوحى إلى "مالك" خازن النيران أن أخْمِد النيران على أهلها؛ لكرامة وليد محمّدٍ| في دار الدنيا.[4]
وفي بحار الأنوار أنه أوحى تبارك وتعالى إلى "رضوان" خازن الجِنان أن زَخرِفِ الجنان وطيِّبْها، لكرامة مولود النبيّ المصطفى محمّد|. وكذا أوحى إلى الملائكة أن قوموا صفوفاً بالتسبيح والتحميد والتمجيد والتكبير. وقال الله تعالى لجبرئيل×: >أخبِرْه ـ يا جبرئيل ـ أنّي قد سمّيتُه الحسين، وعَزِّه، وقل له: يا محمّد، يقتله شرار أمّتك على شرار الدَّوابّ، فويلٌ للقاتل، وويلٌ للسائق، وويلٌ للقائد. قاتلُ الحسين، أنا منه بريء، وهو منّي بريء؛ لأنّه لا يأتي أحدٌ يومَ القيامة إلاّ وقاتلُ الحسين أعظمُ جُرماً منه<[5].
وهذا نبي الله إسماعيل صادق الوعد استثقل بأن لا يكون له بالحسين× أسوة، ولم يرضَ لنفسه دون مواساة الحسين× بنفسه. ففي علل الشرائع عن أبي عبد الله الصادق×: >إنّ إسماعيل الذي قال الله § في كتابه: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا}، لم يكن إسماعيل بن إبراهيم، بل كان نبياً من الأنبياء، بعثه الله § إلى قومه، فأخذوه فسلخوا فروة رأسه ووجهه، فأتاه ملَك، فقال: إنّ الله § بعثني إليك، فمرني بما شئت، فقال: لي أسوة بما يُصنع بالحسين<.
وفي العلل أيضاً عن أبي بصير، عن أبي عبد الله الصادق×: >إنّ إسماعيل كان رسولاً نبياً، سلط عليه قومه، فقشروا جلدة وجهه وفروة رأسه، فأتاه رسول من رب العالمين، فقال له: ربك يقرئك السلام ويقول: قد رأيتُ ما صنع بك، وقد أمرني بطاعتك، فمرني بما شئت، فقال: يكون لي بالحسين بن علي أُسوة<[6].
الأئمّة^ يقيمون العزاء على سيد الشهداء
وأما الأئمة^، فقد حملوا راية الرثاء وسنّوا للمؤمنين سنّة العزاء. وقالوا كلمات خالدة شيّدت أساس العزاء على مرّ العصور. فمهما اختلفت الأساليب وتعددت المشارب وتغيرت الأزمان إلا أنّ للمؤمنين في أئمتهم^ الأسوة والقدوة في إقامة العزاء على سيد الشهداء.
فمن ذلك ما رواه العلاّمة المجلسي عن دعبل الخزاعي قال: "دخلت على سيّدي ومولاي علي بن موسى الرضا‘ في مثل هذه الأيّام -يعني محرّم- فرأيته جالساً جلسة الحزين الكئيب، وأصحابه من حوله، فلمّا رآني مقبلاً قال لي: >مرحباً بك يا دعبل، مرحباً بناصرنا بيده ولسانه<، ثمّ وسّع لي في مجلسه، وأجلسني إلى جانبه، ثمّ قال لي: >أن تنشدني شعراً، فإنّ هذه الأيّام أيّام حزن كانت علينا أهل البيت، وأيّام سرور كانت على أعدائنا، خصوصاً بني أُمية، يا دعبل من بكى وأبكى على مصابنا ولو واحداً كان أجره على الله، يا دعبل من ذرفت عيناه على مصابنا وبكى لما أصابنا من أعدائنا حشره الله معنا في زمرتنا، يا دعبل من بكى على مصاب جدّي الحسين غفر الله له ذنوبه البتة<، ثمّ إنّه× نهض وضرب ستراً بيننا وبين حرمه، وأجلس أهل بيته من وراء الستر ليبكوا على مصاب جدّهم الحسين×، ثمّ التفت إليّ وقال لي: >يا دعبل إرث الحسين× فأنت ناصرنا، ومادحنا ما دمت حيّاً، فلا تقصّر عن نصرتنا ما استطعت<، قال دعبل: فاستعبرت وسالت عبرتي، وأنشأت أقول:
أفاطم لو خـلت الحسـين مجـدّلاً وقـد مـات عطشـانـاً بشط فراتِ
إذاً لـلطمـت الخـدّ عنــــــده وأجــريت دمع في الوجنات"[7].
وروى العلاّمة المجلسي عن بعض المؤلّفات، أنّه لمّا أخبر النبيّ| ابنته فاطمة÷ بقتل ولدها الحسين×، وما يجري عليه من المحن، بكت فاطمة بكاءً شديداً، وقالت: >يا أبت متى يكون ذلك؟ قال: في زمان خالٍ منّي ومنك ومن علي، فاشتدّ بكاؤها وقالت: يا أبت فمن يبكي عليه؟ ومن يلتزم بإقامة العزاء له؟ فقال النبيّ|: يا فاطمة إنّ نساء أُمّتي يبكون على نساء أهل بيتي، ورجالهم يبكون على رجال أهل بيتي، ويجدّدون العزاء جيلاً بعد جيل في كلّ سنة، فإذا كان القيامة، تشفعين أنت للنساء، وأنا أشفع للرجال، وكلّ من بكى منهم على مصاب الحسين أخذنا بيده، وأدخلناه الجنّة<[8].
وروى الشيخ الصدوق+ بسنده عن الإمام الرضا× أنّه قال: >إنّ المحرّم شهر كان أهل الجاهلية يحرّمون فيه القتال، فاستحلّت فيه دماؤنا، وهتكت حرمتنا، وسبي فيه ذرارينا ونساؤنا، وأضرمت النيران في مضاربنا.
ثمّ قال×: كان أبي (صلوات الله عليه) إذا دخل شهر المحرّم لا يرى ضاحكاً، وكانت الكآبة تغلب عليه حتّى تمضي عشرة أيّام منه، فإذا كان يوم العاشر كان ذلك يوم مصيبته وحزنه وبكائه، ويقول: هو اليوم الذي قتل فيه الحسين×<[9].
محطات من حياته صلوات الله عليه
وقد كان سلام الله عليه منذ صغر سنه إلى حين شهادته مظهراً من مظاهر الرحمة و العزة والإباء، وتتجلى فيه الحكمة وحسن التصرف وسمة الهدى وصبغة الله. فهو خير من قال فيهم أمير المؤمنين×: >فمن علامة أحدهم أنك ترى له قوة في دين، وحزماً في لين، وإيماناً في يقين، وحرصاً في علم، وعلماً في حلم، وقصداً في غنى، وخشوعاً في عبادة، وتجملاً في فاقة، وصبراً في شدة..<.
ونحن نذكر في ذكراه العطرة جملة من مواقفه، ليظهر أنّ إباء الحسين× وعزته وحكمته ونصرته للمظلوم وتحصينه للمحروم، ليس وليد خبراته المتراكمة، بمعنى أنّ هذه الصفات لم تكن معدومة فوجدت، بل ذلك من جبلته ومغروس في ناصيته، أليس هو وارث الأنبياء وسليل الأصفياء؟ فهو لم يترك واجب الأمر بالمعروف يوماً قط، ولم تزدد نفسه إلا كرماً على كرم، وبصيرة على بصيرة. وهذا إمامنا الرضا صلوات الله عليه يقول في وصف الإمام المعصوم:
>هيهات هيهات!.. ضلّت العقول، وتاهت الحلوم، وحارت الألباب، وحسرت العيون، وتصاغرت العظماء، وتحيّرت الحكماء، وتقاصرت الحلماء، وحصرت الخطباء، وجهلت الألبّاء، وكلّت الشعراء، وعجزت الأدباء، وعييت البلغاء عن وصف شأن من شأنه أو فضيلة من فضائله فأقرّت بالعجز والتقصير... وإنّ العبد إذا اختاره الله§ لأمور عباده، شرح صدره لذلك، وأودع قلبه ينابيع الحكمة، وألهمه العلم إلهاماً، فلم يعْيَ بعده بجواب، ولا يحير فيه عن الصواب، وهو معصومٌ مؤيَّدٌ موفقٌ مسدّدٌ، قد أمِنَ الخطايا والزلل والعثار، يخصّه الله§ بذلك، ليكون حجّته على عباده وشاهده على خلقه، وذلك فضل الله يؤتيه مَن يشاء، والله ذو الفضل العظيم، فهل يقدرون على مثل هذا فيختاره ؟ أو يكون مختارهم بهذه الصفة فيقدّموه؟<[10].
فمن شجاعته صلوات الله عليه أنه هزم أبا أيوب الأعور السلمي عن الماء يوم صفين، وكان قد حرزه عن الناس، فمضى إليه مع فوارس فأجلاه عن الماء وبنى خيمته وخط فوارسه[11].
ومن كياسته× ما أورده ابن أعثم في موقف له بصفين حيث أراد عبيد الله بن عمر خديعته×، ولكن جاء الرد من الحسين× حتى قال معاوية لابن عمر: "إن الحسين بن علي لا يخدع، وهو ابن أبيه"[12].
ومن رحمته ما روي أنه× مرَّ بمساكين قد بسطوا كساء لهم وألقوا عليه كسرات من الخبز فقالوا: هلم يا بن رسول الله، فأكل معهم ثم تلى: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} ثم قال: >قد أجبتكم فأجيبوني< قالوا: نعم. فقاموا معه حتى أتوا منزله فقال للجارية: >أخرجي ماكنت تدّخرين<.
ومن كرمه ما رواه عمرو بن دينار أنه دخل الإمام الحسين× على أسامة بن زيد وهو مريض وهو يقول واغماه فقال له الإمام الحسين×: >وماغمك يا أخي< قال ديني وهو ستون ألف درهم، فقال الحسين×: >هو عليّ<، قال: إني أخشى أن أموت، فقال الحسين: >لن تموت حتى أقضيها عنك<، فقضاها قبل موته.
ومن عزّته أنه وفد إلى الحسين× وفدٌ فقالوا: "يا ابن رسول الله إنّ أصحابنا وفدوا إلى معاوية ووفدنا نحن إليك. فقال: >إذن أجيزكم بأكثر مما يجيزهم<. فقالوا: جعلنا فداك إنما جئنا مرتادين لديننا. قال فطأطأ رأسه ونكت في الأرض وأطرق طويلا ثم رفع رأسه فقال: >قصيرة من طويلة، من أحبنا لم يحبنا لقرابة بيننا وبينه ولا لمعروف أسديناه إليه، إنما أحبنا لله ورسوله، فمن أحبنا جاء معنا يوم القيامة كهاتين< وقرن بين سبابتيه"[13].
ومن عزته أيضاً وأخذه بالحق ما أورده ابن أبي الحديد أنّ مالاً حمل من اليمن إلى معاوية، فلما مرّ بالمدينة وثب عليه الحسين بن علي× فأخذه وقسّمه في أهل بيته و مواليه، وكتب إلى معاوية: >من الحسين بن علي إلى معاوية بن أبي سفيان أما بعد فإنّ عيراً مرّت بنا من اليمن تحمل مالاً وحللاً وعنبراً وطيباً إليك لتودعها خزائن دمشق وتعل بها بعد النهل بني أبيك، وإني احتـجت إليـها فأخذتها والسلام<[14].
ومن مواقفه الخالدة إنكاره على معاوية أخذ البيعة لابنه يزيد، فقال× مخاطباً إياه: >فضح الصبح فحمة الدجى، وظهرت الشمس أنوار السرج، ولقد فضلت حتى أفرطت، واستأثـرت حتى أجـحفت، ومنعت حتى بخلت، وجرت حتى جاوزت، ما بذلت لذي حق من أتم حقه بنصيب حتى أخذ الشيطان حظه الأوفر، ونصيبه الأكمل، وفهمت ما ذكرته عن يزيد من اكتماله وسياسته لأمة محمد، تريد أن توهم الناس في يزيد، كأنك تصف محجوباً، أو تنعت غائباً، أو تخبر عما كان مما احتويته بعلم خاص، وقد دل يزيد من نفسه على مواقع رأيه، فخذ ليزيد فيما أخذ به من استقرائه الكلاب المهارشة عند التحارش، والحمام السبق لأترابهن، والقينات ذوات المعازف، وضروب الملاهي، تجده ناصراً، ودع عنك ما تحاول، فما أغناك أن تلقى الله بوزر هذا الخلق بأكثر مما أنت لاقيه، فوالله ما برحت تقدر باطلاً في جور، وحنقاً في ظلم، حتى ملأت الأسقية، وما بينك وبين الموت إلا غمضة، فتقدم على عمل محفوظ في يوم مشهود، ولات حين مناص<[15].
وأما صدقه صلوات الله عليه ورغبته عن الخديعة، فقد ظهرت في موقفه من أصحابه عشية عاشوراء. فقد روى أبو مخنف في مقتله: أنه لما كان الليل قال جملة أصحابه وأهل بيته: >هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً. ثم ليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي، ثم تفرّقوا في سوادكم ومدائنكم حتى يفرج الله، فإنّ القوم إنما يطلبوني، ولو قد أصابوني لهوا عن طلب غيري<. فقال له أخوته وأبناءه وبنو أخيه وابنا عبدالله بن جعفر: "لم نفعل لنبقى بعدك؟ لا أرانا الله ذلك أبداً". بدأهم بهذا القول العباس بن علي ثم إنهم تكلموا بهذا ونحوه. فقال الحسين×: >يا بني عقيل حسبكم من القتل بمسلم، اذهبوا قد أذنت لكم<، قالوا: "فما يقول الناس؟ يقولون: إنا تركنا شيخنا وسيدنا وبني عمومتنا خير الأعمام ولم نرم معهم بسهم، ولم نطعن معهم برمح، ولم نضرب معهم بسيف، ولا ندري ما صنعوا، لا والله لا نفعل ولكن نفديك أنفسنا وأموالنا وأهلونا ونقاتل معك حتى نرد موردك، فقبح الله العيش بعدك..."[16]. ثم دار نحو ذلك بينه وبين أصحابه.
فضل زيارته
وأما زيارته فقد ورد فيها الفضل العظيم والثواب الجزيل، فهي تجلب الرزق، وتدفع السقم، وترد البلاء، وتدفع مدافع السوء، وتصافحه غداً الملائكة، وتغفر له ذنوب سبعين سنة، بل ويخرج يوم القيامة وليس له ذنب يتبع به، ويورث الغرف المبنية في الجنة مع النبي|... ومن ترك زيارته رأى من الحسرة ما يتمنى أن قبره كان عنده.
وكيف لا تكون زيارته كذلك وهو دم يطلبه الله تعالى، وإنّ قبره لروضة من رياض الجنة وترعة من ترعها، وما بين قبره والسماء مختلف الملائكة بين صاعد شاكر ونازل متلهف، وقد وكل الله بالحسين سبعون ألف ملك شعثاً غبراً يصلون عليه منذ يوم قتل إلى ما شاء الله ويدعون لمن زاره، ويقولون: يا رب هؤلاء زوار الحسين افعل بهم وافعل بهم.
وإنّ يوم الحسين لأعظم الأيام فعن عبد الله بن الفضل الهاشمي قال: قلت للإمام جعفر الصادق×: يا ابن رسول الله كيف صار يوم عاشوراء يوم مصيبة و غم و جزع و بكاء دون اليوم الذي قبض فيه رسول الله| و اليوم الذي ماتت فيه فاطمة÷ و اليوم الذي قتل فيه أمير المؤمنين× و اليوم الذي قتل فيه الحسن× بالسم؟
فقال الإمام جعفر الصادق×: >إن يوم الحسين× أعظم مصيبة من جميع سائر الأيام؛ وذلك أنّ أصحاب الكساء الذين كانوا أكرم الخلق على الله تعالى كانوا خمسة، فلما مضى عنهم النبي| بقي أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين× فكان فيهم للناس عزاء وسلوة، فلما مضت فاطمة÷ كان في أمير المؤمنين والحسن والحسين للناس عزاء وسلوة، فلما مضى منهم أمير المؤمنين× كان للناس في الحسن والحسين عزاء وسلوة، فلما مضى الحسن× كان للنـاس في الـحسين× عزاء وسلوة، فلما قتل الحسين× لم يكن بقي من أهل الكساء أحد للناس فيه بعده عزاء وسلوة فكان ذهابه كذهاب جميعهم كما كان بقاؤه كبقاء جميعهم، فلذلك صار يومه أعظم مصيبة<[17].
ولقد جزعت على قتله الأملاك، وتقرحت لفقده عيون الأنبياء، و بكت له السماء بالدماء
ففي كتاب الكافي عَنِ الإمام الصَّادق× قَالَ فِي حَدِيثٍ: >إنّ أبا عبدالله الحسين× لما قضى بكت عليه السماوات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن، ومن ينقلب في الجنة والنار من خلق ربنا وما يرى ومالا يرى<[18].
وروى ابن قولويه بسنده قالوا: سمعنا أبا عبدالله× يقول: >إن أبا عبدالله الحسين بن علي‘ لما مضى بكت عليه السماوات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن ومن ينقلب عليهن، والجنة والنار، وما خلق ربنا، و ما يرى وما لا يرى<[19].
وعن أبي بصير، عن أبي جعفر× قال: >بكت الإنس والجن والطير والوحش على الحسين بن علي‘ حتى ذرفت دموعها<[20].
فعليك السلام يا أبا عبدالله ما بقيت وبقي الليل والنهار، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] تاريخ الطبري، محمد بن جرير الطبري، ج4، ص345.
[2] بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج44، 308.
[3] بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج44، ص214.
[4] فرائد السمطين في فضائل المرتضى والبتول والسبطين، الحمويني الجويني، ج2، ص153.
[5] بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج43، ص243.
[6] علل الشرائع، الشيخ الصدوق، ج1، ص73.
[7] بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج45، 257.
[8] البحار، ج44، ص293.
[9] أمالي الصدوق، الشيخ الصدوق، ص111.
[10] إكمال الدين وتمام النعمة، الشيخ الصدوق، ص 380.
[11] المنتخب للطريحي ج2، ص300، بحار الأنوار، ج44، 266.
[12] الفتوح ج3، 53.
[13] بحار الأنوار ج27، ص127، أعلام الدين 46.
[14] شرح نهج البلاغة، ج18، 409.
[15] الإمامة والسياسة، ابن قتيبة الدينوري، ج2، ص208.
[16] مقتل الحسين، لأبي مخنف الأزدي، ص 8.
[17] علل الشرائع، ج1، ص225- 226.
[18] الكافي، ج4، ص576.
[19] كامل الزيارات، ص166.
[20] كامل الزيارات، ص165.
0 التعليق
ارسال التعليق