هناك تساؤلات كثيرة تدور في الأذهان وتتداول على الألسنة حول موقف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) قِبال أولئك الذين تقمَّصوا الخلافة بعد ارتحال رسول الله (صلّى الله عليه وآله).
وهى تتلخص في:
1- عليٌّ (عليه السلام) ذلك الرجل الذي قتل أبطال العرب وناوش ذؤبانهم، هو الذي قدَّ مرحباً وعمرو بن عبد وُدّ وهو الذي كانـت ضـرباته وتـراً، كيـف يمكـن تصـوُّر استسلامه
للغاصبين ومن ثم إخراجه من البيت قهراً، وتهديده بالقتل؟
2- هل يمكننا أن نتصور أنّ الزّهراء (عليها السلام)، وهي بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وفِلذة كبده وبضعته أن تُضربَ ويُكسرَ ضِلعُها ويُسقط جنينها بمرأى ومنظر من زوجها أمير المؤمنين عليٍ (عليه السلام)؟ من غير أن يكون هناك أيُّ ردَّة فعل منه (عليه السلام) في قِبال هذه الجريمة العظمى؟
3- ثم إنّ المسلمين عامَّةً هم الذين انتخبوا علياً (عليه السلام) خليفةً عليهم فلِمَ أكبُّوا بعد ذلك على مخالفته فخالفُوه وقاتلوه ثمَّ قتلوه في محرابه ظلماً؟
4- وأخيراً ما هي حصيلةُ السنوات الخمس التِّي استلم فيها عليٌّ (عليه السلام) إمرةَ المسلمين من الزاويتين العملية والنظرية؟
5- وما هو سرُّ سكوت الإمام المجتبى (عليه السلام) وصلحه مع معاوية من ناحيةٍ وصراخِ الإمام الحسين (عليه السلام) وخروجه على حكومة يزيد من ناحية أخرى؟ وكذا مواقف سائر أئمَّتنا (عليهم السلام) السلميَّةِ ظاهراً.
وأيضاً: عشرات من الأسئلة في هذا المجال.
ومن الطبيعي أنَّ حلَّ هذه الشبهات له الدور الحيويّ المهمّ في مسيرة الإنسان المؤمن ومواقفه الرساليَّة. فهل يمكننا الإجابة عليها وعلى غيرها من الأسئلة التي تدور حول نفس المحور؟
أقـول:
إنَّ الغرض من كتابةِ هذه الكلمة المتواضعة هو الوصول إلى حلٍّ مناسب بالنسبة إلى مثل هذه الشبهات ودفعها منطقيّاً كي نكون على بصيرة في ديننا ومذهبنا فنعانقه من دون أيّ تزلزل وتشكيك.
فأقول: قبل الورود في البحث ينبغي تقديم مقدمات:
الأولى:- الإسلام مدرسة متكاملة ومترابطة:
الإسلام أطروحة متكاملة تتركَّز على أسس وتشتمل على قوانين إلهية ثابتة لا يمكن أن يعتريها أيُّ خلل وترديد، والهدف من الإسلام هو نفس الهدف من خلق الإنسان أعني العبودية والرجوع إلى الله سبحانه وهو إيصال الإنسان إلى الكمال المطلوب أعني القرب من الكمال المطلق وهو الله سبحانه. فالإسلام ليس هو إلاّ تجلٍّ من تجليات الحق المطلق جلَّ وعلا فلا بدَّ أن يظهر على جميع أصعدته وزواياه وهذا من لوازمه غير المنفكة عنه.
الثانية:- أبعاد الإنسان الثلاثة:
وحيث إنّ للإنسان أبعاداً ثلاثة البعد العقلي والبعد النفسي (الجوانحي) والبعد العملي (الجوارحي) فالإسلام أيضاً قد ركَّز في توجيهاته على هذه الجهات الثلاثة في الإنسان ولاحظها بعين الاعتبار فطرح لها أطروحات وبرمج لكل واحدة منها برنامجاً يتناسب معه وهي:
1 عقائد الإسلام التِّي تعالج الجانب العقلي للإنسان.
2 الأخلاق وهي ما تتعلق بشئون النفس الإنسانيَّة.
3 الأحكام العمليَّة وهي القوانين المختصة بجوارح الإنسان وما يصدر منه من خير وشر.
ولا يخفى على من له أدنى معرفة واطِّلاع على الإسلام أنَّ هناك ترابطاً قوياً وعلاقةً وثيقة بين هذه الجوانب الثلاثة بحيث يستحيل التحلِّي بجانب مع غضِّ النظر عن الجانب الآخر.
مثال:
إعطاء الزكاة كواجب عملي يتوقَّف على قصد التقرب إليه تعالى كعقيدة وفي أسلوب العطاء والأخذ لا بدّ من التوجُّه إلى الجانب الروحي للمعطي والمعطى إليه {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(1).
وعلى هذا الأساس نقول: إنّه لا بدَّ وأن يُطبَّق الإسلام بحذافيره وبأكمله من دون فصلٍ بين الأبعاد الثلاثةِ أصلاً ومن يُفكِّر في تطبيق جانبٍ واحدٍ من الإسلام مع غضِّ النظر عن الجوانب الأخر فتفكيره شطط، ليس له أساس قويمٌ بل يبتني على الوهم والخيال.
وبعبـارة أخـرى:
الإسلام وَحدَةٌ شاملة ومتكاملة ومتكاتفة ومنسجمة لن تتفرق ولن تتفكك أبداً، وتفكُّكها يعني فنائها بالمرَّة وتغيُّر ماهيتها إلى ماهيَّة أخرى بل لو اختلفت الكمِّية والكيفيَّة في قبول أو ردّ معالمه لتغيَّرت الماهية أيضاً فلا بد من مراعاة الكميَّة والكيفيَّة في تلك الأبعاد الثلاثة لئلاّ ينجرّ الأمر إلى تضخَّم جانبٍ وضعف جانب آخر.
وذلك كالأوكسجين والهيدروجين فمن اللِّزام أن يتكوَّنا معاً ليُشكِّلا الماء كما أنّه لا بدَّ من رعاية النسبة بينهما كمّاً وكيفاً حصولاً على النتيجة فمع بروز أدنى اختلاف بين العنصرين سوف لا يبقى شيءٌ يُطلق عليه اسم الماء.
ومن هذا المنطلق نشاهد التأكيد البالغ على الإيمان بالكلِّ لا بالبعض سواء الكتاب أو الرسل أو أيّ شيء يرتبط بالدين.
قال تعالى:
{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}(2).
وقال تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا}(3).
الثالثة:- الدولة الإسلاميَّة العالميَّة:
مضافاً إلى أنه لا بدَّ من وجود دولة مقتدرة بأجهزتها القويَّة ورجالها المؤمنين، تستهدف التنسيق بين هذه الجوانب الثلاثة من الإسلام كي تُركِّز هذه الشجرة الطيِّبة جذورها فيرتفع أساسها فتتوزَّع وتنتشر أغصانها فتثمر فيأكل من ثمرها. فإذاً يستحيل أن نطبّق الإسلام في حياتنا بمعنى الكلمة إلاّ مع تأسيس دولة عالميَّة تستوعب أو بالأحرى تتسلَّط على جميع أرجاء البسيطة من غير استثناءٍ لمنطقة دون أخرى فكلُّ الأرض تكون تحت سلطة الإسلام وهذا لا ينافي وجود كفّار فيها مادام الحكم للإسلام. فلا معنى لطرح دولة إسلامية في هذا المكان وذاك كدولة مستقلّة تستهدف تطبيق بعض أو كلِّ جوانب الإسلام عملاً ولا تحمل إيديولوجيّة الإسلام العالمي أو تجعل هذه الغاية في المراحل المتأخرة من أفكارها. بل لو نظرنا نظرة شاملة إلى الكون وعرفنا خالقه لوصلنا إلى حقيقة أخرى وهي أنَّ الإسلام لا ينظر إلى البشرية منحصرة بل يستوعب ويُخيِّم على كلِّ زوايا الكون وجميع العوالم من الإنس والجن حتى عالم الجمادات والنباتات والحيوانات وحتى في الكواكب الأخرى حيث إنّ كلّ تلك العوالم لها نوعٌ من العلاقة بالإنسان.
الرسول (صلّى الله عليه وآله) ودولة إسلاميّة عالميَّة:
ومن هذا المنطلق شرع رسولنا محمّد (صلّى الله عليه وآله) في تأسيس دولة إسلاميّة من البداية تستهدف تطبيق الإسلام بجميع جوانبه وأبعاده وإزالة جميع الظواهر الزائفة الموروثة من الجاهليَّة فكتب إلى ملكي الفرس والروم آنذاك كتباً لأجل أن يهتديا وقومهما إلى الدين الإسلامي ويتحررا من عبوديّة غير الله. وقد استطاع الرسول (صلّى الله عليه وآله) -بسعيه المتواصل ودعمٍ من أخيه ووزيره عليٍّ (عليه السلام) وعدد قليل من الصحابة المخلصين-أن يكتسب النّجاح في المدَّة القليلة على رغم كلّ ما عاناه من مصاعبَ ومشاكل وأذى «ما أوذي نببيٌّ بمثل ما أوذيت» سواء من الكفّار الملحدين أو من المنافقين الحاقدين. فقد انبثق نور الإسلام وانتشر صيتُه وتوسعت دولته إلى أقصى العالم حتّى دخل الفرس والروم والحبشة وذلك لا على مستوى عامّة النّاس فحسب بل شمل حتّى رجال الدولة وأصحاب المناصب المختلفة.
الإسلام كان غريباً غير مألوف:
بعد ما كان الإسلام غريباً وذلك لأنَّ القيَم الإسلامية بطبيعتها لا تنسجم مع الوضع الذي كان يسود الجاهلية وذلك لاشتمال الإسلام على الجانب التعبدي الذي لا يلائم تلك الذهنيّات التّي لم تترسخ فيها سوى الدنيا وسوى المادّة وما يحوم حول المادّة، فقد انتشر الإسلام المحمَّديّ في أنحاء البلاد وأخذت الأفكار الإسلاميّة تتمركز في الأذهان وتعثر على مكانتها في المجتمع وأخذ المسلمون يستأنسون بالإسلام شيئاً فشيئاً حتّى صار تنفيذ حكم الله في مجتمعهم أمراً مألوفاّ وصار المسلمون يتعاملون مع الإسلام تعاملاً طبيعياً بعد ما كان غريباً عندهم غير مأنوس به.
المفروض والواقع:
المفروض أن يستلم الخلافة عليٌّ (عليه السلام) ويسير على نفس الأسلوب الذي سار عليه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وينتقل الحكم من إمامٍ إلى إمام حتَّى يأتي دور المهديّ المنتظر عجلَّ الله تعالى فرجه الشريف فيملأ الله به الأرضَ قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظُلماً وجوراً. ولكن الواقع كان خلاف ذلك حيث تسلَّم زمام الأمر من لا يليق به ولا أهليَّة له.
البـداية السـوداء:
بمجرد أن رُسّخت قواعد خلافة أوّل الخلفاء بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) اللاّشرعيَّة بدأ الوضع يتغيّر شيئاً فشيئاً، وبدأت المعادلات تنعكس.
واستمرَّ الوضع الجديد إلى أن وصل إلى مرحلة خطيرة حيث أخذ حُكَّام المسلمين ينسقون أفكارهم وأعمالهم مع الحضارات الدخيلة وعلى رأسها الروم والفرس فحاولوا تكييفَ أنفسهم مع المجتمعات المحاطة بهم وأخذوا في تنسيق برامجهم طبقاً لتلك الحضارات المزيّفة وذلك في جميع أبعادها حتى العقائديّة والأخلاقية!!..(والناس على دين ملوكهم) وهؤلاء نسَوا أو تغافَلوا عن أنّ للإسلام حضارةً وإيديولوجية مميزة تنبثق من الوحي والغيب وترتبط بالله الواحد القهار. وتدريجاً انقلب الإسلام الغريب عند المِلل غير المسلمة المأنوس لدى المسلمين إلى إسلام مأنوسٍ لدى الكلّ حتى الكفار والمنافقين لا يستوحش منه أحد إلاّ المسلمُ الحقيقيّ!!
والحاصل أنّ الجـوّ العام الذي أوجده الخلفاء بين المسلمين كان مصبوغاً بصبغةٍ خاصَّــة تتلائم والواقعَ المعاش آنذاك، ومسخه تماماً بل قلبه وجهاً على عقب وحينئذٍ تحققت مصداقيَّة قوله تعالى:
{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}(3).
فانحرف المسلون وتغيَّرت السنن وقلبت القيم، ومن ثَمَّ خَسِر المسلمون تلك الفرصة الذهبية التي أوجدها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وضحّى من أجلها بأبرز أنصاره، وكانت هي الخسارة العظمى التي جرَّت العالم الإسلامي إلى الخسائر المتوالية.
والتاريخ الإسلاميّ خير دليل على ما ندعيه فمن أراد أن يتطلَّع على جزئيّات الأمر فليراجع التاريخ.
السّـقيفة وآثـارها:
فهنا وقعت الجريمة العظمى وهي جريمة الانحراف والإغفال ومن ثَمّ حرف المُغفَلين وإغوائهم من زاوية وغرس شجرة النفاق ورعايتها من زاوية أخرى... ويالها من جريمة غبراء قاسية!! تلك الفجيعة الفضيعة التي نشأت من السقيفة، فهي مبدأ كلِّ عثرة وزلّة فجميع الفروع الخبيثة ليست هي إلاّ من تلك الشجرة المشؤومة.
البناء المعوج:
يقول أحد شعراء الفرس:
خِشت أول جون نهاد بنا كج
تا ثريّا ميرود بنيان كج
أي أنَّ البنّاء حيث وضع الأساس للبناء وضعاً معوجّاً فسوف يعوج البناء مهما يرتفع إلى الثريا. ومن الواضح أنَّ الذنب والعتاب كلّه يُوجَّه إلى أوَّل من أسس أساس الظلم والجور ومن هذا المنطلق نشاهد التأكيد البالغ في الأحاديث -كالأحاديث التِّي تتحدَّث حول يوم الاثنين وأنَّه يوم نحس قبض الله (عزّ وجلّ) فيه نبيّه وما أصيب آل محمّد (صلّى الله عليه وآله) إلاّ في يوم الاثنين فيتشائم أئمتنا (عليهم السلام) به ويتبرك به عدوُّهم- وأيضاً الزيارات خصوصاً زيارة عاشوراء، وأشعار كبار شعراء الإماميّة كدعبل الخزاعي وكبار العلماء كالعلامَّة الشيخ محمَّد حسين الأصفهاني (قدِّس سرُّه) بل حتّى بعض علماء العامَّة على هذه الحقيقة وتفصيل هذا الأمر سوف نذكره في موضع آخر فانتظر.
أمير المؤمنين (عليه السلام) والخلافة:
وهذا الوضع أو بالأحرى الجريمة استمرت ربع قرن -وليس بقليل- إلى أن استلم الحكم -وبعد اللتيّا والتي- أميرُ المؤمنين علي (عليه السلام). استلمها بعد ماذا؟ بعد أن تغيّرت جميع القيم والأسس التي بناها الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله).
فماذا يصنع عليُّ (عليه السلام) إذاً..؟
غير أن يصرخ في وجه المسلمين الذين أرادوا أن يبايعوه:
«دعوني والتمسوا غيري، فإنّا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان، لا تقوم له القلوب ولا تثبت عليه العقول، وإنّ الآفاق قد أغامت والمحجّة قد تنكرت، واعلموا أنِّى إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم ولم أَصغَ إلى قول القائل، وعتب العاتب، وإن تركتموني فأنا كأحدكم ولعلي أسمعَكُم وأطوعَكُم لمن وليتموه أمركم، وأنا لكم وزيرا خير لكم منى أميراً»(5).
قال ابن أبي الحديد: "ومعنى قوله: الآفاق قد أغامت والمحجة قد تنكرت أنَّ الشبهة قد استولت على العقول والقلوب وجهل أكثر الناس محجّة الحق أين هي، فأنا لكم وزير عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، أُفتى فيكم بشريعته وأحكامه خير لكم منّي أميراً محجوراً عليه مدبَّراً بتدبيركم، فإنّي أعلم أنّه لا قدرة لي أن أسير فيكم بسيرة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في أصحابه مستقلاً بالتدبير لفساد أحوالكم وتعذّر صلاحكم".
أقـول:
بقيت تلك الجذور الخبيثة متركّزة رغم محاولات أمير المؤمنين (عليه السلام) في أيام خلافته، وحيث قد اعتاد المسلمون على نمطٍ خاص من المعيشة فلم يمكنهم أن ينسِّقوا معيشتهم وأفكارهم مع ما أراده أمير المؤمنين (عليه السلام) بل لم يكونوا يستوعبوا أسلوب عليٍ (عليه السلام) في الحكم الذي كان هو أسلوب رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فلم يتقبّلوا عدالة عليٍ (عليه السلام) وقسطه وكما قال أحدهم "عدلُ عليٍّ قَتَله"
التكليف المزدوج بعد ارتحال رسول الله (صلّى الله عليه وآله):
(السكوت والصراخ)
مثـال:
لو وقعت سرقه كبيرة في بيت فيه أطفال وفيه أموال كثيرة تهمُّ السارقين لأنهم قد خطَّطوا تخطيطاً مستقبلياً شاملاً لبناء مشروع يبتني على هذه الأموال.. ولا يمكنهم الغضّ أو التغافل عنها أبداً، ومن ناحية أخرى تلك الأموال لها أهمية لصاحبها وتشكل العصب الرئيسي في حياتهم مضافاً إلى الأشياء الأثرية الثمينة التي لا يمكنهم التخلِّي عنها.
فيدور الأمر بين حالات ثلاث لها نتائج مختلفة:
1- الصراخ وإخبار الناس عن السرقة من أهل البيت جميعاً وبالنتيجة حرق البيت ومن فيه وما فيه.
2- التزام السكوت والهدوء من جميع العائلة وإسكات الآخرين وخلق جو إعلامي يؤكِّد للناس أن البيت وما فيه لم يسرق بل قد بِيع على هؤلاء في مقابل ثمن، فالبيت إذاً هو حقُّهم الشرعي والقانوني وليس لصاحبه الأول المطالبة به أصلا.
3- التزام الهدوء من صاحب البيت وتحريض الأولاد على السكوت حفاظاً على البيت علماً بأنّ هناك من يُعلن عن السارقين (وهي الأم) وتصرخ في وجههم لأجل أخذ وثائق البيت ليس إلاّ (والمفروض أنَّ الوثائق مسجّله باسمها).
فهنا نواجه ازدواجيّة المواقف موقف الوالد والأولاد وموقف الأم والمفروض على الوالد أن يُهدِّئ الكل، ولكن الأم لا تسكتْ حيث تطالب بحقِّها وهي الوثائق والمستندات، ولن تسمح بأن يسجَّل البيت باسم الغاصبين وإن أدَّى ذلك إلى موتها حيث يترجَّح ذلك الأهم على هذا المهمّ، حيث إنَّه من الطبيعي أن يرجع البيت في آخر الأمر إلى صاحبه وإن طال الأمد عليه.
الحـفاظ علـى الولايـة:
مادامت الخلافة قد انحرفت عن المسير الأساسي الذي أكّد عليه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في مواطن كثيرة، ومادامت قد اغتصبت باحتيال وأسلوب خبيث، فلا يمكن إرجاعها بالسكوت والتسليم لما حدث، لأن العدوّ سوف يستغلُّ هذا السكوت لصالحه إعلامياً وسوف يدَّعي أن هذا السكوت دليل على الرضا، ومِن ثَمّ سوف يكون الغاصب وكأنَّه هو المالك الحقيقي فيكتسب الشرعية في الوسط المسلم لا هو فحسب بل كل من يسير على خطاه إلى يوم القيامة!!..
وهذا هو التدمير الواقعي للإسلام أصلاً وفرعاً ولكن باسم الإسلام وإمرة المسلمين، ومن ناحية أخرى هناك خطورة ثانية لأصل الإسلام وهذا يتطلب السكوت والهدوء والتساير، وفي نفس الوقت الإشراف ومراقبة ما سيحدث ومحاولة دفع الانحرافات الأساسية التي ترجع إلى أصل الإسلام، تلك الانحرافات التي يخطِّط لها النظام الحاكم بين آونة وأخرى... من غير مساس وتعرّض للجهاز الحاكم، لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا، ذلك كلُّه حفاظاً على الإسلام،فلا بدَّ لعليّ (عليه السلام) من السكوت والتساير الظاهري معهم مادام الإسلام في أمان من شرّهم.
اللهم إلاّ إذا اشتد الخطر وصعب فحينئذ سوف يتطلب الشدّة نوعاً ما.
صعوبة الموقف و حسّاسيته:
عند ملاحظة جوانب الشخصيتين شخصيَّة الصدِّيقة الزهراء (عليها السلام) وشخصيَّة أمير المؤمنين (عليه السلام)، وأيضاً عند ملاحظة مدى الارتباط والتعلّق بينهما نعرف شدة البلاء الذي ابتليا به وعظمة الامتحان الإلهي ومستوى التكليف السماوي المخوَّل إليهما.
فلو أرادا (عليهما السلام) أن يتحقق الهدف -الذي هو الحفاظ على ظاهر الإسلام وهو تكليف علي (عليه السلام) والحفاظ على واقع الولاية وهو تكليف الزهراء (عليها السلام)- فلا بد من أن تتوفر أمورٌ كثيرةٌ لو اختل أحدها سوف لن يتحقق الهدف.
فمن ناحية أمير المؤمنين (عليه السلام) لا بد من:
خلق جوّ إعلامي واضح ينادي بصريح القول أنّ علياً (عليه السلام) ليس من المعارضين بل هو من المسالمين الذين يبتعدون عن تعكير الجوّ وزرع الخلاف بين المسلمين، وهذا يتطلّب:
1- التزام الهدوء والسكوت الكامل وعدم التعرض للحكم أصلاً.
2- التساير والتنسيق مع الخليفة وربما يقتضي ذلك الصلاة خلفه والجلوس في مجلسه.
ومن ناحية الزهراء (عليها السلام) ينبغي لها:
أن تخلق جواً مناقضاً تماماً لما أوجده علي (عليه السلام)، فتصرخ في وجه الطّغاة وتقف أمامهم وتفضحهم وتبيّن مثالبهم وتكشف عن جريمتهم العظيمة، وفي نفس الوقت تدافع عن عليّ (عليه السلام) كخليفةٍ للمسلمين، فتُبيِّن للناس فضائله ومناقبه ومواقفه وذلك من غير أن يكون ذلك -أعني ولاية عليٍّ (عليه السلام)- هو الأساس في قضيَّتها ظاهراً (وإن كان هو الأساس بالفعل).
وهذا أمر صعب للغاية لا يتحقَّق إلا من خلال أمور:
1- خروج الزهراء (عليها السلام) من البيت ولا مانع مادامت هي من المطهّرين الذين أذهب الله عنهم الرّجس.
2- خلق أجواء مثيرة للأحاسيس (بكائها وأنينها).
3- أن لا يشترك العدو المتظاهر بالإسلام في تشييع جنازتها وأن تدفن جنازتها سراً.
4- أن تكون مجهولة القبر فلا يعلم بمحلَّه.
5- وبالأخير عدم نشر وصيتها (عليها السلام) بل تبقى في مصحفها المبارك.
المعـاناة:
وأمّا أمير المؤمنين (عليه السلام) فهل يمكنه أن يتغافل عمّا سيحدث على بضعة الرسول -الزهراء (عليها السلام)-؟ وهل يمكن للإنسان أن يتصور شدّة المعاناة التي كان يعانيها أمير المؤمنين عليٍ (عليه السلام) وكذلك مستوى صبره (عليه السلام)؟ كيف وهو يرى تراثه المنهوب! ويعرف عن ضلع الزهراء المكسور؟.
يقول (عليه السلام): «أمَا والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة، وإنّه ليعلم أنَّ محَلّي منها محلُّ القطب من الرحا؛ ينحدر عنّى السّيل ولا يرقى إليََّّ الطّير فسدلتُ دونها ثوباً، وطويت عنها كشحاً، وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذّاء أو أصبر على طَخيَة عمياء، يهرم فيها الكبير، ويشيب فيها الصغير، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه؛ فرأيت أنَّ الصبر على هاتا أحجى فصبرت وفي العين قذًى وفي الحلق شجاً أرى تراثي نهباً»(6).
ويقول (عليه السلام) في موضع آخر:«فنظرت فإذا ليس لي رافد، ولا ذاب ولا مساعد، إلاّ أهل بيتي؛ فضننت بهم عن المنيَّة، فأغضيت على القذى وجرعت ريقي على الشّجا، وصبرت من كظم الغيظ على أمرَّ من العلقم، وآلم للقلب من وخز الشِّفار»(7).
الكفــؤ:
أعتقد أنّ التكافؤ بين الزهراء (عليها السلام) وعليٍّ (عليه السلام) الوارد في الأحاديث الكثيرة كالحديث التالي:
عن يونس بن ظبيان عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: سمعته يقول:«لولا أنّ الله خلق أمير المؤمنين لفاطمة ما كان لها كفو على الأرض»(8).
لا يعني التكافؤ في الحياة الزوجية فحسب ولا يعني أيضاً أنّهما مجمع النورين والبحرين بعد تفرقهما في عبدالله وأبي طالب حيث ورد في تفسير الآية:
محمد بن العباس عن محمد بن أحمد عن محفوظ بن بشر عن ابن شمر عن جابر عن أبي عبد الله قال (عليه السلام) في قوله (عزّ وجلّ) {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ}، قال: «علي وفاطمة..»(9).
بل هناك أمر أهمّ من ذلك وأرفع مستوى وهو التكافؤ في أداء التكليف الإلهي بحيث كل يكمّل الآخر، وكلّ يؤدي تكليفه المتناقض مع تكليف الآخر ظاهراً، والمطابق معه واقعا؛ فهو تكليف واحد، ولكن قد تجلّى وظهر في موقفين متضادين تماماً. ومن هنا نعرف السّر في الحديث القدسي حيث يقول:
«لولا علي لما خلقت فاطمة الخ..».
فـدك هو المبـرر لهذا المـوقف:
ومبرِّر ثورتها هي فدك وهذه فدك لها بعدان رئيسيّان:
أحدهما: أنَّها قرية في الحجاز، بينها وبين المدينة يومان، وقيل ثلاثة وهي أرض يهودية كانت تسكنها طائفة من اليهود، ولم يزالوا على ذلك حتى السّنة السّابعة حيث قذف الله الرعبَ في قلوب أهلها فصالحوا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) على النّصف من فدك، وروي أنّه صالحهم عليها كلها. وابتدأ بذلك تاريخها الإسلامي، فكانت مُلكاً لرسول الله (صلّى الله عليه وآله)، لأنّها مما لم يوجف عليها بِخَيل ولا ركاب، ثم قدّمها لابنته الزهراء (عليها السلام)، وبقيت عندها حتى توفّى أبوها (صلّى الله عليه وآله) فانتزعها الخليفة الأوّل وأصبحت من مصادر المالية العامة وموارد ثروة الدولة يوم ذاك حتى تولّى عمر الخلافة.
ثانيهما: أنَّها هي الولاية بعينها أو من لوازمها التي قد تجسَّدت في ذلك اليوم، وهى عصب حياة الخلافة الإسلامية لا يمكن الاستقرار على منصّة الحكم بدونها ومن حكمة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنّه منح فدك لابنته الزهراء (عليه السلام) وذلك حين نزل قوله تعالى {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ..}(10).
في مصباح الأنوار عن عطية قال:" لمّا نزلت وآت ذا القربى حقّه دعا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فاطمة فأعطاها فدك".
عن أبان بن تغلب عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال قلت:« أكان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أعطى فاطمة (عليها السلام) فدك؟ قال: كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وقفها فأنزل الله وآت ذا القربى حقّه فأعطاها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حقّها، قلت: رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أعطاها؟ قال: بل الله تبارك وتعالى أعطاها»(11).
فلو لم يفعل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ذلك ماذا ترى سيحدث بعد ارتحاله؟!.
كان الحاكم هو الذي يصطحبها بمبرّر شرعي لا غبار عليه، وهو أنَّ فدك من بيت مال المسلمين الذي هو تحت تصرف الخليفة المنصوب من قبلهم فليس لأحد أن يطالب بها أصلاً، وحينئذ لم يتواجد أيُّ مبرر لصراخ الزهراء (عليها السلام) ومواجهتها الحكم إلاّ دفاعاً عن زوجها، وهذا يعنى أنّ موقف زوجها هو موقفها لا فرق بينهما أصلاً، وحينئذٍ يمكن للخليفة أن يسكتها ويرغمها بحجة أنّها امرأة لا حق لها أن تتدخل في شئون الحكم، أو يجبر علياً (عليه السلام) على إسكاتها وتهدئتها، وإلاّ سوف يتخِّذ أيَّ قرار أراد ضدّ عليٍّ (عليه السلام) وضدّ فاطمة (عليها السلام)، وعلى فرض ما لو طلب عليُّ (عليه السلام) منها (عليها السلام) السكوت والتراجع فلا بد لها إذاً أن تهدأ لأنّه حسب الفرض أنَّ صاحبَ الحق قد تراجع عن حقّه فلا معنى للصراخ والمجابهة منها بعد ذلك، وإن أصرّت على ذلك فيمكن التعامل معها بالشدة وسوف لا يثير ذلك أحاسيس المسلمين لأن هذا التعامل له مبرر شرعي وهو الحفاظ على الوحدة الإسلامية والوقوف دون شق عصا المسلمين.
وهل بإمكان الخليفة إعطائها فدك؟ كلاّ؟ لأن ذلك يعني نجاح عليٍّ (عليه السلام)، ولقد عرف الخليفة هذا الأمر ولهذا لمّا سمع خطبتها شق عليه مقالتها فصعد المنبر وقال: «أيّها الناس ما هذه الرعة إلى كل قالة؟ أين كانت هذه الأماني في عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؟ ألاّ من سمع فليقل، ومن شهد فليتكلم، إنَّما هو ثعالة شهيدة ذنبه مرب لكل فتنه، هو الذي يقول: كروها جذعة بعد ما هرمت، يستعينون بالضعفة، ويستنصرون بالنساء..»(12).
أقـول: أما الرعة بالتخفيف أي الاستماع والإصغاء، والقالة القول، وثعالة اسم الثعلب.
ولكن: كل ذلك يتعاكس مع الفرض الآخر وهو مطالبة فدك -وهي المطالبة بالولاية في لباس آخر- فإرجاع فدك إليها يعني التخلّي عن الولاية والخلافة وهو المطلوب الأوّل.
وعدم إرجاعها إليها يعني أنّهم غصبوا حقها. والواضح عند كل المسلمين أنَّ الغاصب لا شرعية له ولا حق له بأن يحكم المسلمين خاصّة لو كان قد غصب حقّ ابنة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)!!.
أخلسـت الزهـراء (عليها السلام)!
إنَّ الكلمة الآتية كلمة عليٌّ (عليه السلام) عند دفنه الزهراء (عليها السلام). ويظهر للمتأمِّل فيها أمورٌ كثيرةٌ وحوادث جليلة وكأنَّه (عليه السلام) أراد بيانها ضمن السلام لتبقى مدى الدهر. ونحن ننقل النصّ الذي نقله المحدِّث الكليني (قدِّس سرُّه) حيث يقول:"أحمد بن مهران (رحمه الله) رفعه وأحمد بن إدريس عن محمّد بن عبد الجبّار الشيباني قال: حدّثني القاسم بن محمّد الرازي قال: حدّثنا عليّ بن محمّد الهرمزاني عن أبي عبدالله الحسين بن علي (عليه السلام) قال:«لما قبضت فاطمة (عليها السلام) دفنها أمير المؤمنين (عليه السلام) سرّاً وعفا على موضع قبرها ثم قام فحوّل وجهه إلى قبر رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فقال: السلام عليك يا رسول الله عنِّي، والسلام عليك عن ابنتك، وزائرتك...إلى أن قال:
قد استرجعت الوديعة، وأُخذت الرهينةُ، وأُخلست الزهراء فما أقبح الخضراء والغبراء يا رسول الله، أمّا حُزني فسرمد، وأما ليلي فمسهّد، وهمّ لا يبرح من قلبي أو يختار الله لي دارك التي أنت فيها مقيم كَمَدٍ مقيح، وهمّ مهيج سرعان ما فرق بيننا، وإلى الله أشكو، وستنبئك ابنتك بتظافر أمتك على هضمها فأحفّها السؤال، واستخبرها الحال، فكم من غليل معتلجٍ بصدرها لم تجد إلى بثّه سبيلا، وستقول ويحكم الله وهو خير الحاكمين، سلام مودع لا قالٍ ولا سئمٍ، فإن انصرف فلا عن ملالة، وإن أقم فلا عن سوء ظن بما وعد الله الصابرين.. واه واها والصبر أيمن وأجمل، ولولا غلبة المستولين لجعلت المقام واللبث لزاما معكوفاً ولأعولت إعوال الثكلى على جليل الرزيّة فبعين الله تدفن ابنتك سراً وتهضم حقّها وتمنع إرثها، ولم يتباعد العهد، ولم يخلق منك الذكر، وإلى الله يا رسول الله المشتكى وفيك يا رسول الله أحسن العزاء صلى الله عليك وعليها السلام و الرضوان»(13).
«مرضت فاطمة (عليها السلام) مرضاً شديداً ومكثت أربعين ليلة في مرضها إلى أن توفيت صلوات الله عليها فلمّا نعيت إليها نفسها دعت أم أيمن وأسماء بنت عُميس، ووجّهت خلف عليّ (عليه السلام) وأحضرته فقالت: يا ابن العم إنّه قد نعيت إليَّ نفسي وإنِّي لا أرى ما بي إلاّ أنَّني لاحقة بأبي ساعة بعد ساعة، وأنا أوصيك بأشياء في قلبي، قال لها على (عليه السلام): أوصيني بما أحببت»(14).
مفـاجـأة:
فما هي الحيلة التي ينبغي أن يتخذها الخليفة لإسكات بنت رسول الله (عليها السلام)؟ ليس هناك حلّ إلاّ الضرب والجرح والحرق ومن ثم القتل والشهادة، وهذا الأمر هو الذي سوف يفضح الخليفة ومن تبعه وشايعه كما فضحهم بين الأشهاد حين مارسوا ذلك فضيحة لا خلاص منها إلى يوم القيامة.
الهدف = السكوت مع الصراخ
وبالفعل قد تحقق الهدف المطلوب من هذا السكوت وذلك الصراخ فبقي الإسلام والقرآن كأطروحة حديثة في صون من شرّ الجاهلية الثانية، وانكشفت جرائم من أراد بالإسلام سوءاً، وذلك بعد استشهاد بنت الرسول (عليها السلام) على أيديهم وهي مبغضة لهم غير راضية عنهم بصريح الأحاديث الكثيرة التّي نقلها الجمهور، منها:"حدّثني محمّد بن رافع أخبرنا حجين حدّثنا ليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة أنّها أخبرته أنّ فاطمة بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أرسلت إلى أبي بكر الصديق، تسأله ميراثها من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مما أفاء الله عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر، فقال أبو بكر: إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: لا نورث ما تركنا صدقة، إنما يأكل آل محمّد (صلّى الله عليه وآله) في هذا المال، وإنّي والله لا أغيّر شيئا من صدقة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ولأعملنّ فيها بما عمل بها رسول الله (صلّى الله عليه وآله). فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة شيئا فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك، قال: فهجرته فلم تكلّمه حتى توفيت، وعاشت بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ستّة أشهر فلمّا توفيت دفنها زوجها علي بن أبي طالب ليلاً، ولم يؤذن بها أبا بكر وصلّى عليها علي..الخ"(15)
بقيت أطروحة الولاية ثابتة كأطروحة ليست إلاّ، وأخذ الخلَّص من الموالين لأهل البيت (عليهم السلام) يترصّدون الفرصة المناسبة لتنفيذ تلك الأطروحة المباركة، أعني الولاية، وبدأ مفهوم الانتظار يترسّخ في قلوب الشيعة المخلصين حتى صار أفضلَ عبادة.. وكان هو المطلوب.
هـذا: وقد استمرت غربة الإسلام المحمّدي الأصيل، أي إسلام الغدير، قروناً متوالية ومرّت على المؤمنين، وفي طليعتهم أئمة الشيعة (عليهم السلام)، ظروفٌ صعبة إلى الغاية وضحّوا ما ضحّوا من الأموال والأنفس الطاهرة، كل ذلك لأجل الحفاظ على أصالة الإسلام المحمّدي (الذي هو إسلام الرّفض)، ومن منطلقه تبلورت مدرسة الانتظار والتّرقّب، تلك المدرسة التي تمتلك روحية أخذ الثأر للحق إلى أن يأتي صاحب الثأر ولي العصر (عليه السلام).
ومن الواضح أن أئمتنا (عليهم السلام) كلهم كانوا يعيشون منتظرين للفرج ويحرّضون أصحابهم أيضاً على ذلك، وهم مع ذلك كانوا يسعون عملاً للتمهيد لتلك الدولة المباركة المأمولة، أعني دولة المهدي الموعود عجّل الله تعالى فرجه الشريف.
وقد حقق أئمتنا (عليهم السلام) ذلك الهدف ضمن مجالين:
الأوّل: تربية نخبة من المؤمنين الخُلَّص في كل عصر، لا أعني من الخُلَّص ما يستنبطه البعض من الكلمة بل أعني أولئك الذين قد فهموا الإسلام- بمعنى الكلمة -، حقّاً فهم بطبيعة الحال الغرباء بين الصديق والعدوّ وهم الحجّة على الآخرين وإن كان عددهم لا يتعدّى أصابع اليد في أكثر الأزمنة. والجدير أنّ التاريخ يذكرهم بأسمائهم وأوصافهم.
الثّاني: تثبيت الإسلام الخالص صريحاً أو إيماءً ضمن التراث العظيم من الأحاديث التي حافظ عليها السلف الصالح بقدر الإمكان حرفاً بحرف، وحيث لم يكن بإمكانهم فهمها فضلاً عن العمل بها لربما غفلوا عن محتواها أو فسّروها تفسيراً غير مرضيٍّ.
هذا واستمرَّ هذا الوضع إلى أن انتهى عصر الغيبة الصغرى للمهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف وبدأت الغيبة الكبرى وهو عصر اليُتم وانتظار فرج آل محمَّد (عليهم السلام).
ندعو الله سبحانه أن يجعلنا من المنتظرين الحقيقيين لوليِّه المهدي المنتظر أرواحنا لتراب مقدمه الفداء.
* الهوامش:
(1) التوبة/103.
(2) البقرة/85.
(3) النساء/150،151.
(4) آل عمران/144.
(5) نهج البلاغه لابن أبي الحديد ج7 باب91 ص33.
(6) نهج البلاغة لابن أبي حديد ج1 باب3 ص151.
(7) نهج البلاغه لابن أبي حديد ج11 باب211 ص109.
(8) بحار الأنوار ج43 ص97 روايه 6 باب 5.
(9) بحار الأنوار ج 24 ص 97 روايه 1باب 36.
(10) الإسراء/26.
(11) بحار الأنوار ج96 ص212 روايه18 باب25.
(12) نهج البلاغه ج16 باب45 ص213.
(13) الكافي ج1 ص458 رواية.3
(14) بحار الأنوار ج43 ص191 روايه20 باب7.
(15) صحيح مسلم كتاب الجهاد والسير الحديث3304.
0 التعليق
ارسال التعليق