مقدّمة: في مفردة (القِيَم) في الكتاب العزيز:
قال الله سبحانه: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[1].
قرأ ابن عامر وأهل الكوفة >قِيَماً< بكسر القاف وتخفيف الياء وفتحها، [وقرأ] الباقون بفتح القاف مع تشديد الياء[2]، فأما من قرأ بالتخفيف فإنّه أراد المصدر، مثل الشبع..[3]، والقِيَم- بالكسر فالفتح كالصِغَر والكِبَر- مخفّف القيام وصف به الدين للمبالغة في قيامه على مصالح العباد[4]، كما حذفت في خِيَم[5]، [المخفّفة عن خيام جمع خيمة]، [وفي مقابل ذلك ما ذكره ابن خلويه بقوله:] والحجّة لمن خفّف أنّه أراد جمع قيـمة وقِيَم كقولهم حيلة وحيل[6]، وقد قرأ عاصم وابن عامر >قياماً< في قوله تعالى: {جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} >قِيَماً< بدون الألـف[7]، وقال الراغب: "وقرىء >قِيَماً< بمعنى قياماً، وليس قول مَن قال: جمعُ قيمة- بشيء"[8].
مفهوم القيم:
وبعد هذه الإطلالة القرآنية تعالَوا -أيّها الإخوة والأخوات الكرام- لنتعرف جملةَ أمور تدخل في موضوع الورقة المقدّمة بين يدي حضراتكم:
أحدها، القيم مفهوماً، فنقول: القيم- التي هي جمع قيمة- عبارة عن المُثُل العُليا والمبادىء السامية، التي يراد لها أن تتّبع وتأخذ طريقها إلى سلوك الفرد والجماعة، والتي بتمثّلها يرقيان، وبالتخلّف عنها يتسافلان، والتي يقاس تمدّن وتحضّر الفرد والمجتمع بالإضافة إليها، وهي قد تضاف إلى الإنسان كعنصر أو نوع لا تمايز بحسبه بين أصنافه، فيقال عنها بأنّها قيم إنسانية، وقد تضاف إلى الإيجابي من أخلاقه، فيقال عنها بأنّها قيم أخلاقية، ولما لم يكن بين القيم الإنسانية والأخلاقية تمام المباينة- جاز أن تكون واحدة من القيم إنسانية وأخلاقية.
القيم الإنسانية:
وحينما تقيّد القيمة وتحدّد سعتها بالإنسان كعنصر أو نوع -كما تقدّم- فهذه القيمة تحتّم أن يعامل الذكر والأنثى على أساسها من حيث هما صنفان للإنسان، ويعامل الصغير كما الكبير، والفقير كما الغني، والأسود كما الأبيض، والضعيف كما القوي، في ظلّ الإنسانية الجامعة لهم أجمع وبلا لحاظ أيّة امتيازات أو سيئات (نعم يتحتّم أن يعاملوا وأن يتعاطى معهم سلباً وإيجاباً) بنسق واحد وبلا أدنى تمييز بعد عدم لحاظ التمايز.
ولا يراد بالقيم حين تضاف إلى الإنسان فيقال القيم الإنسانية أنّ الإنسان هو الحاكم بها وأنّها من أحكامه ومنتجاته وإملاءاته، بل هي قيم لصالح كلّ أفراد الإنسان على خلفيّة إنسانيته، وغالب تلكم القيم تفرضها الفطرة والعقل السليمان من النوازع والأهواء والمصالح الخاصّة، ويكون دور الشرع المقدّس دور المرشد لما يحتّمه سليم الفطرة والعقل.
ومن القيم الإنسانية بلحاظ الذكورة والأنوثة والعنصر واللون والقوميّة والوضع المعيشي قيمة الكرامة، وقد أرشد إليها الكتاب العزيز قال الله سبحانه: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ}[9]، ومن القيم الإنسانية بلحاظ الذكورة والأنوثة مثلاً حقّ وقيمة الحياة، وقال سبحانه: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}[10]، فالحكم بالموت على الأنثى من حكم الجاهلية الجهلاء، على خلاف ما يقرّه العقل الفطري.
القيم الأخلاقية:
وحينما تقيّد القيمة وتضيّق دائرتها بالأخلاق فيراد بها مجموعة الأخلاق السويّة والنبيلة، التي لا يُنكر فردٌ فضيلتها، وإن تخلّف عن موافقتها، بلا فرق بين ما يراد للفرد أن يتحلّى بها وتعود طبعاً له كالعدل والصدق والأمانة والإحسان والصبر والشجاعة والحلم والعفو والإيثار والمواساة والمداراة والرفق والقناعة والعفّة وشبيهات هذه الفضائل من القيم الأخلاقية، أو يراد للمجتمع أن يتمثّلها وتغدو طابعاً له كالتكافل والتعاون والتناصح والتراحم ومُشاكلاتها.
ولا ينبغي إغفال ما للوحي والدين من دور في بلورتها في الأذهان وتركيزها في النفوس وتمكينها في السلوك سيّما بعد ربطه مجملَ السلوك وكلَّ حركة -وإن كانت للقلب- بالجزاء واليوم الآخر.
وقد استحثّنا الكتاب العزيز على تلكم القيم الأخلاقية، فقال الله سبحانه عن العدل والإحسان: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ..}[11]، وقال سبحانه عن الأمانة: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا..}[12]، وقال سبحانه عن الصدق والصبر وعفّة الفرْج: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ... وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}[13]، وقال سبحانه عن عفّة يوسف الصدّيقg: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}[14]، وقال سبحانه عنها على لسان امرأة العزيز: {..وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ..}[15]، وقال سبحانه عن العفو والحلم: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}[16]، وقال سبحانه عن الإيثار: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا}[17]، وقال سبحانه عن التكافل والمواساة: {..وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[18]، وقال سبحانه عن التعاون: {..وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى..}[19].
القيم الأخلاقية وتأثيرها في السلوك الإنساني (فلسفة القيم الأخلاقية):
ثمّ إنّ لكلّ واحدة من تلك القيم الأخلاقية ونظيراتها فلسفةً أو فلسفاتٍ تخصّها -ولسنا بصدد التعرّض إليها فعلاً-، كذلك لمجموع تلك القيم فلسفةٌ أو فلسفاتٌ عامّة تستند عليها، فالسلوك الإنساني على مستوى الفرد والمجتمع حين يستجيب إلى تلكم القيم، ويصدر عنها، وتكون رائده والمهيمنة عليه فلا محالة تتجلّى تلك الفلسفات العامّة، وهي ما يلي:
أوّلاً: الحفاظ على طهر القلوب وزكاة النفوس، فما من عقيدة أو طريقة إلا وتوصي بضرورة ذلك، فـ(العفّة) والنأي بالقلب عن منبّهات الشهوة مثلاً مما يؤمِّن طهره، قال الله سبحانه: {..وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ..}[20] ، وطهر القلب وزكاته يفضيان إلى سعادة الإنسان، قال سبحانه بعد الأَيمان المؤكّدة: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا}[21][22].
ثانياً: صلاح شؤون الفرد والمجتمع، وقربها من الإيجابيات؛ فإنّ (العدل) مثلاً قيمة أخلاقية أساسية تؤمِّن ذلك، فعن أمير المؤمنينg: >أكرم الأخلاق السخاء، وأعمُّها نفعاً العدل<[23]، وعن النبيِّ الكريمe: >العدل حَسَن، ولكن في الأمراء أحسن<[24].
ثالثاً: أن يعمّ لدى الأفراد الشعور بالأمن على أنفسهم ومصالحهم ومكتسباتهم.
رابعاً: شيوع الطُمأنينة والثقة بين أفراد المجتمع.
خامساً: قيام الحضارات الراقية ونهضة الأمم الخيّرة.
سادساً: أن تنعم الإنسانية بالخير والمحبّة والسلام.
ونعود لنقول بأنّ الإيمان بالله واليوم الآخر وبما وعد وتوعّد به فيه يُعقِب مخافةً من الله سبحانه تأخذ بالفرد في صراط القيم الأخلاقية، وتجعل سلوكه في ضوئها سلوكاً سويّاً، وقد حدّثنا الكتاب العزيز عن رائد الخير والمحبّة والسلام هابيل بأنّه واجه تصميم أخيه بقتله بقوله- كما حكاه الله سبحانه على لسانه-: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ}[25]، فبنى (السلام) كقيمةٍ إنسانيةٍ وأخلاقيةٍ سويّةٍ وراقيةٍ على مخافة الله سبحانه، و>الإسلام -كما عن النبيِّ الكريم|- أن تُسلِمَ قلبَك، ويَسلَمَ المسلمون من لسانك ويدك<[26]، و>المسلم -كما عن الإمام الصادقg- مَنْ سلِم الناس من يده ولسانه<[27]، و>المؤمن -كما رواه أبو حمزة عنهg- مَن آمن جارُه بَوَائِقَه قُلْتُ: ومَا بَوَائِقُه؟ قَال: ظلمُهُ وغَشَمُه<[28].
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، وأستغفر الله لي ولكم، وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أفكار الورقة باختصار:
ـ (كمقدّمة للورقة): جاءت مفردة (القيم) في الكتاب العزيز في قوله سبحانه: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[29]، ومن المحتمل أن تكون جمع قيمة بحذف الألف، كما في خيم المخفّفة عن خيام جمع خيمة.
ـ القيم هي المُثُل العُليا والمبادئ السامية، وبتمثّلها من الفرد والمجتمع في السلوك يرقيان، ويقاس التحضُّر وعدمه بذلك.
ـ القيم الإنسانية قيم عُليا لا يُمايز على قاعدة الإنسانية بين فردٍ فيُعطاها، وآخرَ فيُحرم منها، ومن القيم الإنسانية التي أرشد إليها الكتاب العزيز قيمة (الحياة) و(الكرامة).
ـ القيم الأخلاقية: هي مجموعة الأخلاق السويّة، ومنها (العدل)، (الصدق)، (الأمانة)، (الإحسان)، (الصبر)، (الحِلم)، (الإيثار)، (الرفق)، و(العفّة)، وشبيهاتها، وقد استحثّنا الكتاب العزيز عليها أجمع.
ـ للقيم الأخلاقية -وبنحو المجموع- فلسفتها وتأثيرها في السلوك الإنساني، ومن الفلسفات لمجموع القيم الأخلاقية ما يلي:
- صلاح شؤون الفرد والمجتمع.
- أن يعمّ الأمن على الأنفس والمصالح والمكتسبات.
- شيوع الطُمأنينة والثقة بين أفراد المجتمع.
- قيام الحضارات الراقية ونهضة الأمم الخيّرة.
- أن تنعم الإنسانية بالخير والمحبّة والسلام.
(إلفات) الوازع الأكيد للالتزام بالقيم الأخلاقية والإتيان بها هو الخوف من الله سبحانه؛ استلهاماً من مقولة رائد المحبّة والخير والسلام (هابيل) -التي حكاها الكتاب العزيز عنه- {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ}[30].
التوصيات:
ـ أُؤكّد على أهميّة بل ضرورة العمل على موضوع هذا المؤتمر، وأرغب بصورةٍ أكيدة على تفعيل العديد من الفعاليات من محاضرات ومواسم ولقاءات وكتابات..(إلخ) في هذا الموضوع.
ـ التواصي والتنسيق مع سائر الفعاليات من خطباء وأئمة الجماعة وبرامج المساجد ووو على أن يأخذ موضوع المؤتمر المساحة الواسعة.
ـ التركيز على الأخلاق العملية من جهة، والبُعد عن التعاطي النظري والتنظيري المجرد من جهة أخرى، ومن البرامج المجدية للمبلّغين والوعّاظ في هذا الجانب أبواب جهاد النفس من كتاب وسائل الشيعة.
ـ التركيز على بعض القيم الأخلاقية باهتمام استثنائي، وأخصّ منها قيمة (العفّة).
والحمد لله أوّلاً وآخراً، وصلّى الله على محمّد وآله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وقع الفراغ من تحريرها في الثاني من رجب 1436هـ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
* ورقتي في (مؤتمر القيم الأخلاقية) الذي أقامته جمعية التوعية الإسلامية -برعاية سماحة الشيخ محمّد صالح الربيعي(سلّمه الله)- يوم العشرين من رجب الأصبّ 1436هـ الموافق للتاسع من مايو 2015م، تلا هذه الورقة الشيخ عليّ حسن أحمد عاشور الصددي (دام موفّقاً).
[1] الأنعام: 161.
[2] التبيان في تفسير القرآن 4: 332.
[3] م. ن: 333.
[4] الميزان7: 393، مواهب الرحمن14: 505.
[5] إملاء ما منّ به الرحمن1: 167.
[6] الحجّة من القراءات السبع: 127.
[7] معجم القراءات القرآنية2: 239.
[8] المفردات: 434.
[9] سورة الإسراء: 70.
[10] سورة النحل: 58- 59.
[11] سورة النحل: 90.
[12] سورة النساء: 58.
[13] سورة الأحزاب: 35.
[14] سورة يوسف: 23.
[15] سورة يوسف: 32.
[16] سورة الأعراف: 199.
[17] سورة الإنسان: 8.
[18] سورة الحشر: 9.
[19] سورة المائدة: 2.
[20] سورة الأحزاب: 53.
[21] سورة الشمس: 7- 9.
[22] أضفته على الورقة لاحقاً لقراءتها.
[23] ميزان الحكمة1: 808.
[24] كنز العمّال15: 900.
[25] سورة المائدة: 28.
[26] كنز العمّال1: 26 ح17.
[27] معاني الأخبار: 239 ب معنى المسلم ح1.
[28] الكافي2: 668 ب حقّ الجوار ح12.
[29] الأنعام: 161.
[30] سورة المائدة: 28.
0 التعليق
ارسال التعليق