نقف في هذه الوريقات المعدودة على بعض ما نقل في شأن شخصية فضة النوبية خادمة الزهراء (عليها السلام)، وننطلق في هذا الإلماح من خلال الأجواء التي استقبل بها بيتُ الوحي هذه الخادمة التي نالت كرامة خاصة بخدمتها لسيدة نساء العالمين (عليها السلام) دون بقية العبيد والإماء.
فاطمة تريد خادما
روي أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال لرجل من بني سعد: «ألا أحدثك عني وعن فاطمة الزهراء أنها كانت عندي فاستقت بالقربة حتى أثر في صدرها، وطحنت بالرحى حتى مجلت يداها، وكسحت البيت حتى اغبرت ثيابها، وأوقدت تحت القدر حتى دكنت ثيابها، فأصابها من ذلك ضرر شديد، فقلت لها: لو أتيتِ أباك فسألته خادما يكفيك حر ما أنت فيه من هذا العمل، فأتت النبي (صلّى الله عليه وآله) فوجدت عنده حداثا(1) فاستحيت فانصرفت، فعلم (صلّى الله عليه وآله) أنها قد جاءت لحاجة، فغدا علينا ونحن في لحافنا، فقال: السلام عليكم، فسكتنا واستحيينا لمكاننا، ثم قال: السلام عليكم(2) فسكتنا، ثم قال: السلام عليكم، فخشينا إن لم نرد عليه أن ينصرف وقد كان يفعل ذلك فيسلم ثلاثا فإن أذن له وإلا انصرف، فقلنا: وعليك السلام يا رسول الله ادخل، فدخل وجلس عند رؤوسنا ثم قال: يا فاطمة ما كانت حاجتك أمس عند محمد؟ فخشيْتُ إن لم نجبه أن يقوم، فأخرجت رأسي فقلت: أنا والله أخبرك يا رسول الله إنها استقت بالقربة حتى أثر في صدرها، وجرت بالرحى حتى مجلت يداها، وكسحت البيت حتى اغبرت ثيابها، وأوقدت تحت القدر حتى دكنت ثيابها فقلت لها: لو أتيت أباك فسألته خادما يكفيك حر ما أنت فيه من هذا العمل. قال: أفلا أعلمكما ما هو خير لكما من الخادم؟ إذا أخذتما منامكما فكبرا أربعا وثلاثين تكبيرة، وسبحا ثلاثا وثلاثين تسبيحة، واحمدا ثلاثا وثلاثين تحميدة، فأخرجت فاطمة (عليهما السلام) رأسها وقالت: رضيت عن الله وعن رسوله، رضيت عن الله وعن رسوله»(3).
طلب الخادم واستحياء الزهراء (عليها السلام) من أبيها
جاء في كتاب مناقب آل أبي طالب: "وفي الصحيحين.. وكان عند النبي (صلّى الله عليه وآله) أسارى فأمرها [علي] أن تطلب من النبي خادما، فدخلت على النبي (صلّى الله عليه وآله) وسلمت عليه ورجعت فقال أمير المؤمنين: «مالك»؟ قالت: «والله ما استطعت أن أكلم رسول الله من هيبته»، فانطلق علي معها إلى النبي... وعلمها تسبيح الزهراء.
كتاب الشيرازي: إنها لما ذكرت حالها وسألت جارية بكى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فقال: «يا فاطمة والذي بعثني بالحق إن في المسجد أربعمائة رجل ما لهم طعام ولا ثياب ولولا خشيتي خصلة لأعطيك ما سألت، يا فاطمة إني لا أريد أن ينفك عنك أجرك إلى الجارية، وإني أخاف أن يخصمك علي بن أبي طالب يوم القيامة بين يدي الله (عزّ وجلّ) إذا طلب حقه منك»، ثم علمها صلاة التسبيح، فقال أمير المؤمنين: «عليه مضيتِ تريدين من رسول الله الدنيا فأعطانا اللهُ ثواب الآخرة». قال أبو هريرة فلما خرج رسول الله من عنده فاطمة أنزل الله على رسوله: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا} يعني عن قرابتك وابنتك فاطمة ابتغاء، يعني طلب رحمة من ربك، يعني رزقا من ربك ترجوها {فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً} يعني قولا حسنا، فلما نزلت هذه الآية أنفذ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) جارية إليها للخدمة وسماها فضة"(4).
فضة النوبية
جاء في كتاب الإصابة لابن حجر العسقلاني: "فضة النوبية جارية فاطمة الزهراء"(5). وأما ابن الأثير فقد ذكر في كتابه «أسد الغابة»: "فضة النوبية جارية فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم.." وذكر رواية نذر الصوم-الآتية- وأن فضة قالت: إن برأ سيداي صمت لله (عزّ وجلّ) شكرا"(6).
فضة ومرض الحسنين (عليهما السلام):
عن ابن عباس قال في قوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} قال: مرض الحسن والحسين فعادهما جدهما رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم وعادهما عامة العرب فقالوا: يا أبا الحسن لو نذرت على ولدك نذرا فقال علي: «إن برآ مما بهما صمت لله (عزّ وجلّ) ثلاثة أيام شكرا»، وقالت فاطمة كذلك، وقالت جارية يقال لها فضة نوبية: إن برأ سيداي صمت لله (عزّ وجلّ) شكرا فألبس الغلامان العافية وليس عند آل محمد قليل ولا كثير، فانطلق علي إلى شمعون الخيبري فاستقرض منه ثلاثة أصوع من شعير فجاء بها فوضعها فقامت فاطمة إلى صاع فطحنته واختبزته، وصلى علي مع رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين يديه إذ أتاهم مسكين فوقف بالباب فقال: السلام عليكم أهل بيت محمد، مسكين من أولاد المسلمين، أطعموني أطعمكم الله (عزّ وجلّ) على موائد الجنة فسمعه علي فأمرهم فأعطوه الطعام ومكثوا يومهم وليلتهم لم يذوقوا إلا الماء، فلما كان اليوم الثاني قامت فاطمة إلى صاع وخبزته، وصلى علي مع النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم ووضع الطعام بين يديه إذ أتاهم يتيم فوقف بالباب وقال: السلام عليكم أهل بيت محمد يتيم بالباب من أولاد المهاجرين استشهد والدي أطعموني فأعطوه الطعام، فمكثوا يومين لم يذوقوا إلا الماء، فلما كان اليوم الثالث قامت فاطمة إلى الصاع الباقي فطحنته واختبزته فصلى علي مع النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم ووضع الطعام بين يديه إذ أتاهم أسير فوقف بالباب وقال: السلام عليكم أهل بيت النبوة تأسروننا وتشدوننا ولا تطعموننا أطعموني فإني أسير فأعطوه ومكثوا ثلاثة أيام ولياليها لم يذوقوا إلا الماء فأتاهم رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم فرأى ما بهم من الجوع فأنزل الله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ} إلى قوله: {لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُوراً}(7).
ابن تيمية ينكر وجود فضة النوبية:
أراد ابن تيمية أن ينفي صحة هذا الخبر المتقدم وكون الآيات نازلة في أهل البيت (عليهم السلام)، فاضطر لتكذيب أصل الخبر من خلال نفي وجود خادمة لأهل البيت اسمها فضة، فهو يقول: "إن عليا وفاطمة لم يكن لهما جارية اسمها فضة، بل ولا لأحد من أقارب النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم، ولا نعرف أنه كان بالمدينة جارية اسمها فضة، ولا ذكر ذلك أحد من أهل العلم الذين ذكروا أحوالها دقها وجلها، ولكن فضة هذه بمنزلة ابن عقب الذي يقال: إنه كان معلم الحسن والحسين، وأنه أعطي تفاحة كان فيها علم الحوادث المستقبلة، ونحو ذلك من الأكاذيب التي تروج على الجهال... وهكذا هذه الجارية فضة"(8).
الجواب على زعم ابن تيمية:
يجيب السيد الميلاني على الزعم المتقدم بما تقدم من إقرار كبار الحفاظ بوجود هذه الشخصية، حيث يقول في بحثه: "أقول: انظر إصراره على التكذيب بقلة حياء.. وهو الكاذب!! وإليك عبارة الحافظ ابن الأثير: فضة النوبية، جارية فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم.. وعبارة الحافظ ابن حجر العسقلاني: فضة النوبية، جارية فاطمة الزهراء... ثم ذكر رواية علي (عليه السلام): إن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أخدم فاطمة ابنته جارية اسمها فضة النوبية، وكانت تشاطرها الخدمة، فعلمها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) دعاء تدعو به"(9).
وصية الرسول (صلّى الله عليه وآله) بفضة ومعاملة الزهراء (عليها السلام) معها
يذكر ابن مردويه في رواية: "ثم غزا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ساحل البحر، فأصاب سبيا فقسمه، فأمسك امرأتين أحدهما شابة، والأخرى امرأة قد دخلت في السن ليست بشابة، فبعث إلى فاطمة، وأخذ بيد المرأة فوضعها في يد فاطمة وقال: «يا فاطمة، هذه لك ولا تضربيها، فإني رأيتها تصلي، وإن جبرئيل نهاني أن أضرب المصلين»، وجعل رسول الله يوصيها بها، فلما رأت فاطمة ما يوصيها بها التفتت إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وقالت: «يا رسول الله عليَّ يوم وعليها يوم»، ففاضت عينا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بالبكاء وقال: {اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} و{ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}"(10).
رسول الله يعلم فضة الدعاء:
روى ابن حجر في كتابه «الإصابة»: "عن علي[عليه السلام]: «أن رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم أخدم فاطمة[ (عليها السلام)] ابنته جارية اسمها فضة النوبية وكانت تشاطرها الخدمة فعلمها رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم دعاء تدعو به فقالت لها فاطمة: أتعجنين أو تخبزين، فقالت: بل أعجن يا سيدتي وأحتطب، فذهبت واحتطبت وبيدها حزمة وأرادت حملها فعجزت فدعت بالدعاء الذي علمها وهو: «يا واحد ليس كمثله أحد تميت كل أحد وتفني كل أحد وأنت على عرشك واحد ولا تأخذه سنة ولا نوم» فجاء أعرابي كأنه من أزدشنوءة فحمل الحزمة إلى باب فاطمة»"(11).
دعاء علي (عليه السلام) لفضة:
في الرواية عن أبي عبد الله الصادق عن آبائه (عليهم السلام)، قال: «أتى أمير المؤمنين (عليه السلام) منزل عائشة، فنادى: يا فضة، ائتينا بشيء من ماء نتوضأ به، فلم يجبه أحد، ونادى ثلاثا، فلم يجبه أحد، فولى عن الباب يريد منزل الموفقة السعيدة الحوراء الإنسية فاطمة (عليها السلام)، فإذا هو بهاتف يهتف ويقول: يا أبا الحسن دونك الماء فتوضأ به. فإذا هو بإبريق من ذهب مملوء ماء عن يمينه، فتوضأ، ثم عاد الإبريق إلى مكانه، فلما نظر إليه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: يا علي ما هذا الماء الذي أراه يقطر كأنه الجمان؟ قال: بأبي أنت وأمي، أتيت منزل عائشة فدعوت فضة تأتينا بماء للوضوء ثلاثا فلم يجبني أحد، فوليت، فإذا أنا بهاتف يهتف وهو يقول: يا علي دونك الماء. فالتفت فإذا أنا بإبريق من ذهب مملوء ماء. فقال: يا علي تدري من الهاتف؟ ومن أين كان الإبريق؟ فقلت: الله ورسوله أعلم. فقال (صلّى الله عليه وآله): أما الهاتف فحبيبي جبرئيل (عليه السلام)، وأما الإبريق فمن الجنة، وأما الماء فثلث من المشرق، وثلث من المغرب، وثلث من الجنة. فهبط جبرئيل (عليه السلام) فقال: يا رسول الله، الله يقرئك السلام ويقول لك: أقرئ عليا السلام مني، وقل: إن فضة كانت حائضا. فقال النبي (صلّى الله عليه وآله): منه السلام، وإليه يرد السلام، وإليه يعود طيب الكلام. ثم التفت إلى علي (عليه السلام) فقال: حبيبي علي، هذا جبرئيل أتانا من عند رب العالمين، وهو يقرئك السلام ويقول: إن فضة كانت حائضا. فقال علي (عليه السلام): اللهم بارك لنا في فضتنا»(12).
حديث فضة مع عمر:
عن أبي عبد الله جعفر بن محمد صلوات الله عليه، قال: «كانت لفاطمة (عليها السلام) جارية، يقال لها: فضة، فصارت من بعدها إلى علي بن أبي طالب صلوات الله عليه، فزوجها من أبي ثعلبة الحبشي، فأولدها ابنا، ثم مات عنها أبو ثعلبة، وتزوجها من بعده سليك الغطفاني(13)، ثم توفي ابنها من أبي ثعلبة، فامتنعت من سليك أن يقربها، فشكاها إلى عمر وذلك في أيامه، فقال لها عمر: ما يشتكي منك سليك يا فضة؟ فقالت: أنت تحكم في ذلك، وما يخفي عليك لم منعته من نفسي! قال عمر: ما أجد لك رخصة. قالت: يا أبا حفص، ذهبت بك المذاهب، إنَّ ابني من غيره مات فأردت أن أستبرئ نفسي بحيضة، فإذا أنا حضت علمت أن ابني مات ولا أخ له. وإن كنت حاملا كان الذي في بطني أخوه. فقال عمر: شعرة من [آل] أبي طالب أفقه من عدي(14).
فضة وحديثها بالقرآن:
نقل المحدث الشيخ عباس القمي (رحمه الله) في كتابه «بيت الأحزان» رواية عن أبي القاسم القشيري في كتابه، قال بعضهم: "انقطعت في البادية عن القافلة فوجدت امرأة، فقلت لها: من أنت؟ فقالت: {وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} فسلمت عليها، فقلت: ما تصنعين هيهنا؟ قالت: {مَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ}، فقلت: أمن الجن أنت أم من الإنس؟ قالت: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ}، فقلت: من أين أقبلت؟ قالت: {يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ}، فقلت: أين تقصدين؟ قالت: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ}، فقلت: متى انقطعت؟ قالت: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ}، فقلت: أتشتهين طعاما؟ فقالت: {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ}، فأطعمتها. ثم قلت: هرولي وتعجلي قالت: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}، فقلت: أردفك؟ فقالت: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}، فنزلتُ فأركبتها، فقالت: {سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا}، فلما أدركنا القافلة، قلت: ألك أحد فيها؟ قالت: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ}، {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ}، {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ}، {يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ}، فصحت بهذه الأسماء، فإذا أنا بأربعة شباب متوجهين نحوها، فقلت: من هؤلاء منك؟ قالت: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، فلما أتوها، قالت: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ}، فكافوني بأشياء، فقالت: {وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ}، فزادوا علي، فسألتهم عنها؟ فقالوا هذه أمنا فضة جارية الزهراء (عليها السلام)، ما تكلمت منذ عشرين سنة إلا بالقرآن"(15).
فضة وطعام علي (عليه السلام):
من كرم المرء أن يعرف الكرامة لأهلها، وهكذا كانت فضة، وهي الخادمة والأمة السوداء التي تنور قلبها بالهدى، فالروايات تحدثنا عن أمير المؤمنين (عليه السلام) وأنه كان مستنا بسنة النبي الأعظم (صلّى الله عليه وآله) في أكله ومشربه.. وإن مقتضى العبودية هو أن يمتثل هذا العبد لأمر مولاه، وتطيع هذه الجارية سيدها في أمره ونهيه، ولكن الكرامة هو أن يستشعر قلب هذه الخادمة الرقة على سيدها ومولاها، وأن تسعى في الإحسان إليه في غير دائرة الواجبات، وهكذا كانت فضة النوبية، حيث نهاها أمير المؤمنين (عليه السلام) عن تطييب طعامه، فامتثلت، ثم أشفقت، ثم بادرت بالمعروف في تطييب طعامه من غير أن يعلم كما هو ظاهر بعض النقولات، وأخيرا عرفت أن التزام أمره بعد إصراره على الزهد هو أفضل الإحسان والمعروف إلى سيدها (عليه السلام).
في الرواية عن الأسود بن قيس قال: "كان علي يطعم الناس بالكوفة بالرحبة، فإذا فرغ أتى منزله فأكل، فقال رجل من أصحابه: قلت في نفسي: أظن أمير المؤمنين يأكل في منزله طعاما أطيب من طعام الناس، فتركت الطعام مع العامة، ومضيت معه، فقال:«أتغديت»؟ قلت: لا. قال: «فانطلق معي». فمضيت معه إلى منزله فنادى: «يا فضة»، فجاءت خادم سوداء [كذا] فقال: «غدينا»، فجاءت بأرغفة وبجرة فيها لبن فصبتها في صحفة فثردت الخبز [قال] فإذا فيه نخالة، فقلت: يا أمير المؤمنين لو أمرت بالدقيق فنخل. فبكى ثم قال: «الله ما علمت أنه كان في بيت رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم منخل قط»"(16).
كانت تضع الطعام الطيب في جراب علي (عليه السلام):
يقال "أن عمرو بن حريث ترصد غداء أمير المؤمنين (عليه السلام) فأتت فضة بجراب مختوم فأخرج منه خبزا متغيرا خشنا فقال عمرو: يا فضة لو نخلت هذا الدقيق وطيبته! قالت: كنت أفعل فنهاني، وكنت أضع في جرابه طعاما طيبا فختم جرابه"(17).
نكره أن نؤجر ويأثم:
عن سويد بن علقمة، قال: "دخلت على علي (عليه السلام) بالكوفة، فإذا بين يديه قعب لبن أجد ريحه من شدة حموضته، وفي يده رغيف، ترى قشار الشعير على وجهه، وهو يكسره، ويستعين أحيانا بركبته، وإذا جاريته فضة قائمة على رأسه، فقلت: يا فضة، أما تتقون الله في هذا الشيخ! ألا نخلتم دقيقه؟ فقالت: إنا نكره أن نؤجر ويأثم، نحن قد أخذ علينا ألا ننخل له دقيقا ما صحبناه"(18).
كرامة لحفيدة فضة:
ليس من البعيد أن تنال فضة لخدمتها لأهل بيت النبي (صلّى الله عليه وآله) كرامة ورعاية خاصة، وأن تحظى حفيدتها برعاية ربانية كرامة لجدتها فضة، ففضة هي التي عاشت آلام الرسالة بما للكلمة من معنى، حيث شاركت في النذر والصوم والجوع، ولا زالت مع آل النبي (صلّى الله عليه وآله) إلى أن تشرفت بخدمتهم في أشد المصائب على قلوبهم وهي مصيبة كربلاء.
ومما يروى في كرامة حفيدتها، ما رواه مالك بن دينار قال: "رأيت في مودع الحج امرأة ضعيفة على دابة نحيفة والناس ينصحونها لتنكص، فلما توسطنا البادية كلَّت دابتها فعذلتها في إتيانها فرفعت رأسها إلى السماء وقالت: لا في بيتي تركتني ولا إلى بيتك حملتني فوعزتك وجلالك لو فعل بي هذا غيرك لما شكوته إلا إليك، فإذا شخص أتاها من الفيفاء وفي يده زمام ناقة فقال لها: اركبي فركبت وسارت الناقة كالبرق الخاطف، فلما بلغت المطاف رأيتها تطوف فحلفتها من أنت؟ فقالت: أنا شهرة بنت مسكة بنت فضة خادمة الزهراء"(19).
فهرسة إجمالية لمآثر فضة النوبية
ورد في كتاب مستدرك سفينة البحار ما يشير إلى هذه المآثر لفضة النوبية بنحو الإجمال: "مدح فضة جارية فاطمة الزهراء (عليه السلام) في تصدقها على المسكين واليتيم والأسير مع أهل بيت النبوة، ونزول هل أتى فيهم وهي معهم. رواية البرسي أن فضة كانت بنت ملك الهند، وكانت عندها ذخيرة من الإكسير، فصنعت النحاس سبيكة ذهب لأمير المؤمنين (عليه السلام)، فأراها أمير المؤمنين كنوز الأرض. في أنها (رضي الله عنها) ما تكلمت عشرين سنة إلا بالقرآن، منها: قصتها في السفر وتكلمها بآيات القرآن. رواية ورقة بن عبد الله عن فضة كيفية وفاة فاطمة الزهراء (عليها السلام). وفيها قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه: فلما هممت أن أعقد الرداء ناديت: يا أم كلثوم، يا زينب، يا سكينة، يا فضة، يا حسن، يا حسين، هلموا تزودوا من أمكم - إلخ. قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه: أخذت علي فاطمة صلوات الله عليها عهد الله ورسوله إنها إذا توفت لا أعلم أحدا إلا أم سلمة زوج رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأم أيمن وفضة، ومن الرجال ابنيها - إلخ. خبر فضة والأسد في كربلاء. جلالة شهرة بنت مسكة بنت فضة وطوافها وقصتها الدالة على كمالها وفضلها. القضايا الراجعة في تزويج فضة الخادمة وأولادها في البحار. جملة من قضاياها مع أمير المؤمنين (عليه السلام) ونخلها دقيقه، ومنعه إياها عن ذلك"(20).
ويكفيها فخرا أن تكون خادمة لفاطمة الزهراء (عليها السلام) تجلس معها في بيت واحد، وتنظر إليها كل غدوة وعشية، ويكفيها أن يجعلها أمير المؤمنين (عليه السلام) في عداد أبناء الزهراء (عليها السلام)، في قوله (عليه السلام) لما أراد تكفين الزهراء (عليها السلام): «يا فلان يا فلان.. يا فضة.. هلموا تزودوا من أمكم».
موضع قبر فضة خادمة الزهراء (عليها السلام)
وأما موضع قبرها فقيل أنه في دمشق، يقول الحموي في معجمه: "وفي قبلي دمشق قبر يزعمون أنه قبر أم عاتكة أخت عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعنده قبر يروون أنه قبر صهيب الرومي وأخيه، والمأثور أن صهيبا بالمدينة، وأيضا بها مشهد التاريخ في قبلته قبر مسقوف بنصفين وله خبر مع علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، وفي قبلي الباب الصغير قبر بلال بن حمامة وكعب الأحبار وثلاث من أزواج النبي، صلى الله عليه [وآله] وسلم، وقبر فضة جارية فاطمة"(21). والحمد لله رب العالمين.
* الهوامش:
(1) أي جماعة يتحدثون وهو جمع على غير قياس (النهاية).
(2) هذا سلام الاستيذان، ووجوب الرد فيه لم يثبت، بل عدمه مشهور لأن صاحب البيت مخير. والواجب رد سلام التحية (المعلق على الكتاب علي أكبر الغفاري).
(3) من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ج1، ص320، ح947.
(4) مناقب آل أبي طالب، ابن شهرآشوب، ج3، ص120.
(5) الإصابة، ابن حجر العسقلاني، ج8، ص281.
(6) أسد الغابة، ابن الأثير، ج5، ص530- 531.
(7) أسد الغابة، ابن الأثير، ج5، ص530- 531، وفي رواية الاحتجاج: فانطلق علي رضي الله عنه إلى رجل من اليهود يقال له: (شمعون بن حابا) فقال له: «هل تؤتيني جزة من صوف تغزلها لك بنت محمد (صلّى الله عليه وآله) بثلاثة أصواع من شعير» قال: نعم فأعطاه... فلما أن كان في اليوم الرابع وقد قضوا نذرهم، أخذ علي بيده اليمنى الحسن وبيده اليسرى الحسين رضي الله عنهم، وأقبل نحوهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وهما يرتعشان كالفراخ من شدة الجوع، فلما أبصرهم صلى الله عليه وآله انطلق إلى ابنته فاطمة رضي الله عنها فانطلقوا إليها وهي في محرابها تصلي وقد لصق بطنها بظهرها من شدة الجوع، وغارت عيناها - فلما رآها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: «واغوثاه أهل بيت محمد يموتون جوعا» فهبط جبرئيل (عليه السلام) فأقرأه: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً} إلى آخر السورة. (الاحتجاج، الطبرسي، ج1، ص165).
(8) مجلة تراثنا، ج49، ص51، نقلا عن منهاج السنة.
(9) مجلة تراثنا، ج49، ص51- 52.
(10) مناقب علي بن أبي طالب، ابن مردويه، ص200- 201.
(11) الإصابة، ابن حجر العسقلاني، ج8، ص281- 282.
(12) الثاقب في المناقب، ابن حمزة الطوسي، ص280- 281.
(13) وفي بحار الأنوار أبو مليك الغطفاني.
(14) شرح الأخبار، القاضي النعمان المغربي، ج2، ص328- 329.
(15) بيت الأحزان، الشيخ عباس القمي، ص48- 49.
(16) أنساب الأشراف، البلاذري، ص187.
(17) مناقب آل أبي طالب، ابن شهرآشوب، ج1، ص367.
(18) شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج2، ص398.
(19) مناقب آل أبي طالب، ابن شهرآشوب، ج3، ص117.
(20) مستدرك سفينة البحار، الشيخ علي النمازي، ج8، ص212- 213.
(21) معجم البلدان، الحموي، ج2، ص468.
0 التعليق
ارسال التعليق