هناك مقولةٌ ترى عدم لزوم قيمومة العلماء على العمل الإسلامي، فالفكر الإسلامي فكر واسع وعميق يتسع لجميع أفراد الأمة الإسلامية، وبالتالي فإن لكل مسلم مثقف حق قيادة الحركة الإسلامية ولو بمعزل عن الفقهاء والعلماء، كما أن له حق تشخيص التكليف من قيام وتحرك وغير ذلك ولو خالف ذلك رأي الفقهاء والعلماء، فحق التنظير وتقرير المصير هو لمن يتحرك من أبناء الأمة الإسلامية ولو كان بمعزل عن العلماء، حيث إن مجرد تصديه للحركة يُعطيه حق حسم المواقف مهما اختلفت الرؤى والينابيع، والخلاصة إنّ هذه المقولة تدّعي صواب فكرة (إسلام بلا علماء).
وفي مقام مناقشة هذه الفكرة وبيان سقمها نقدّم مقدمة، وهي أنّ نسبة أي فكرة ومفهوم إلى فكر معين ومدرسة بعينها لابدّ أن يكون مستنداً إلى المصادر الأصيلة والأساسية لذلك الفكر، فلو أردنا نسبة مفهوم معين إلى المذهب الرأسمالي أو الاشتراكي أو غيرهما من المذاهب والأفكار نكون ملزمين ببيان مصادر ذلك المذهب التي استندنا إليها في مقام نسبة ذلك المفهوم إليه.
ولكي نرى أنّ فكرة (إسلام بلا علماء) صحيحة أم لا، لابد من الرجوع إلى المصادر الإسلامية الأصيلة لنرى أنها هل تقرر هذه الفكرة أم لا؟
أولاً: القرآن الكريم:
نلاحظ من مجموع عِدّة آياتٍ قرآنية أن القرآن الكريم أشار إلى لزوم الرجوع إلى أهل العلم والمعرفة وذمّ من ينحرفون عن هذا السبيل، ونحن هنا نشير إلى خمس طوائف من الآيات يُرشد مجموعها إلى ذلك وهي كما يلي:
1) بعض الآيات أشارت إلى أهل الاختصاص ولزوم الرجوع إليهم بالسؤال وغير ذلك كما في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوْحِي إِلَيْهِمْ فَاسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}(1)، فالآية تشير إلى رجالٍ خصهم الله بالوحي وأمر الناس بالرجوع إليهم وسؤالهم.
2) بعض الآيات نهت النبي عن اتباع الآخرين بعد أن جاءه العلم كما في قوله تعالى {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ}(2)، {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَالَكَ مِنَ اللهِ مِن وَّلِيٍّ وَّلاَ نَصِيرٍ}(3)، {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَالَكَ مِنَ اللهِ مِن وَّلِيٍّ وَّلاَ وَاقٍ} (4).
3) بعض الآيات نهتنا عن اتّباع أيّ شيء واقتفاء أثره من دون علم كما في قوله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}، فإذا نُهينا عن اتباع شيء من دون علم فمن بابٍ أولى يكون خوضنا وتنظيرنا لشيء ليس من اختصاصنا مورداً للنهي.
4) أدبنا القرآن بالإقرار بعدم العلم في مقابل أهله، وذلك يتجلى في خلق الملائكة عندما عرضت عليهم المسألة حيث {قَالُوْا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}(5).
5) أشارت بعض الآيات إلى وجود حالة لدى الكثير من الناس وهي أنهم يجادلون بعد تبين معالم العلم وتجليها ولذا استنكر عليهم لعدم توفرهم على العلم كما في قوله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أوْتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُم}(6)، {فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ}(7)، {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلمٍ إِلاَّ اتِّبَاع الظَّنِّ}(8).
فلو جمعنا هذه الطوائف الخمسة من الآيات لرأينا أنها تشير إلى لزوم تقدم أهل العلم وعدم جواز ركونهم إلى من لا يمتلكون ذلك الرصيد العلمي، كما أنها نهت غير أهل العلم عن عدم اتباع العلماء وذمتهم وأمرتهم بالرجوع إليهم.
ثانياً: السنة المطهرة:
توجد الكثير من الروايات التي تحث على قيادة العلماء نقتصر على ذكر خمسةٍ منها اختصاراً:
1) قال رسول الله(ص): (العلماء قادة والمتقون سادة)(9).
2) قال الإمام علي(ع): (العلماء حكام على الناس)(10).
3) قال الإمام علي(ع) في الخطبة الشقشقية قبل الخلافة بعد انهيال الناس عليه لبيعته أنّه ما قَبِلَ البيعة إلا لـ(ما أخذ الله على العلماء ألا يقادما على كظةِ ظالم ولا سغب مظلوم)(11).
4) قال الإمام الحسين(ع): (مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله، الأمناء على حلاله وحرامه)(12).
5) قال الإمام الصادق(ع): (الملوك حكام على الناس، والعلماء حكام على الملوك)(13).
فهذه النصوص الشريفة تنص على حاكمية خط العلماء على جميع الناس بلا استثناء.
ثالثاً: العقل:
فالعقل يدرك ضرورة الأخذ بكلام أهل الاختصاص لاسيما فيما لو تعارض كلامهم مع كلام غير المختصين، بل نلاحظ أنّ العقلاء يرجعون إلى الأعلم فيما لو اختلفت رؤى أهل الاختصاص مع بعضهم البعض، فإننا نلاحظ أن المريض يرجع إلى الطبيب لا إلى المهندس، كما أنه لو اختلف الأطباء فيما بينهم لرأينا أنّ العقلاء يأخذون بكلام أحذقهم وأعلمهم، وهكذا الأمر بالنسبة إلى السياسة والتحرك، فمن المقطوع به أنّ السياسة جزء لا يتجزأ من الدين، فلا بد فيها من الرجوع إلى أهل الدراية الكاملة للدين وهم العلماء الذين هم أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا، وفيما لو تعارضت أقوالهم أخذ بقول أفقههم وأعلمهم وأبعدهم عن زخارف الدنيا.
قد يقال إنّ أمر الشريعة الناسَ باتباع العلماء والسير خلفهم أمرٌ مسلم في الكتاب والسنة كما أنّ العقل يُدرك ذلك، إلا أننا نلاحظ عملياً أنّ العلماء لا يتحركون بل إن البعض منهم يقف ضد التحرك، كما أنّ من يتحرك منهم ليس لديه الإلمام الكافي. كقول السياسة والاقتصاد وما آل إليه المجتمع الدولي من تطور وتشعبات، فهم ليسوا أكفاء لذلك في واقعنا العملي، فهل يقف المسلم المثقف مكتوف الأيدي منتظراً ظهور ذلك المصلح في عالم الخيال والأوهام؟
إن من يتبع التاريخ في مختلف حقبه يلحظ أنه في كل عصر و مصر يظهر مصلح من العلماء يحمل على عاتقه أعباء نهضة الأمة مما يدلل على خطأ هذا التصور بضرس قاطع، وهنا نسوق بعض الملاحظات -التي تدلل على ذلك، والتي تكشف عن وجود مخطط مدروس لبث هذه الأفكار- باختصار شديد:
1) نلاحظ نجاح تجربة الثورة الإسلامية في إيران بقيادة الإمام الخميني(قده) علمياً، وها هي الثورة تواصل مسيرتها بقيادة الإمام الخامنئي بخطىً ثابتة رغم التحديات الجمة التي واجهتها ولا زالت تواجهها، وما ذلك إلا ببركة التمسك بولاية الفقيه التي حث الإمام الخميني(قده) الشعب الإيراني على التمسك بها حتى لا يُصاب النظام بشيء، كما نلاحظ أنه (قده) قد حذر من مقولة (إسلام بلا علماء) في بيان رجب 1419 هـ الذي كتبه للحوزات العلمية وعلماء الدين، وبين خطورتها.
2) إننا عندما نقول بقيادة العلماء لا نعني قيادة كل من درس العلوم الإسلامية وحسب، وإنما نعني كل من درسها وتوفر على الورع والتقوى وحسن تدبير الأمور وإدراك الحقائق، فالعالم العامل بعلمه الذي تتحقق فيه شروط القيادة هو الأجدر بقيادة الأمة، كما أنه حين يقود الأمة لا يقودها لشخصه وذاته، وإنما يقودها لتوفر الخصائص والخصال القيادية التي أمرت الشريعة بها واشترطتها في قائد الأمة، ولذلك فإن مجرد زوال تلك الخصال -كالعدالة- كفيل بإسقاط قيادته للأمة، كما أن توفر شخص على تلك الخصال كفيل بجعله قائداً لها، هذه الأمور كلها تلحظ مع مراعاة الظروف الخاصة والموضوعية لكل بلدٍ ولكل زمان.
3) هذه المقولة شبيهة بمقولة فصل الدين عن السياسة إلا أنها جاءت من باب آخر، فهي تقول إننا نقبل أن السياسة جزء من الدين إلا أننا لا نتصور أن العلماء هم أهل للسياسة، وما ذلك إلا لأن العلماء هم المنبع الذي ننهل منه من معين الدين، فإذا قضينا على المنبع أصبحنا نأخذ السياسة من عيد الدين وإن كنّا نقول في الظاهر إنّ السياسة من صلب الدين.
4) نلاحظ في الكثير في الدول أنّ من يحكمها أو يرشح نفسه لرئاستها إما عسكري أو مهندس أو متان، بل قد يتعدى الأمر في بعض الدول إلى أن ترشح الراقصة نفسها لذلك، ولا نجد من يعترض على ذلك، ولكن حينما يتقدم المعمم لقيادة الأمة ولمّ جراحاتها التي هي عين اختصاصه نلاحظ أن الأصوات ترتفع من هنا وهناك مستنكرةً ذلك مما يدلل على وجود مؤامرة تخطط لعزلهم عن واقع الأمة الدامي.
5) نلاحظ أن الطبيب لا يتدخل في اختصاص المهندس، كما أن المهندس لا يتدخل في اختصاص الطبيب، وهكذا لا يتدخل صاحب كل اختصاص في اختصاص الآخر، إلا أننا نلاحظ أنه حينما تصل النوبة إلى الدين فإن الكل يُشمِّر عن ساعد الجد لكي يُلقي الفتاوى والآراء والمفاهيم التي ينسبها للدين كأنّ الدين ليس له علماء يختصون بدراسته وبيان حقائقه.
* الهوامش:
(1) النحل، الآية: 43.
(2) البقرة، الآية: 145.
(3) البقرة، الآية: 120.
(4) الرعد، الآية: 37.
(5) البقرة، الآية: 32.
(6) آل عمران، الآية: 19.
(7) آل عمران، الآية: 66.
(8) النساء، الآية: 157.
(9) راجع ميزان الحكمة، ج3، ص 2087.
(10) راجع ميزان الحكمة، ج3، ص 2087
(11) راجع ميزان الحكمة، ج3، ص 2087
(12) راجع موسوعة كلمات الإمام الحسين(ع)، ص 276.
(13) راجع ميزان الحكمة، ج3، ص 2087.
0 التعليق
ارسال التعليق