المقدمة
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم، اللهمَّ صلِّ على محمَّدٍ وآلِ محمَّد..
ورد في الأحاديث الشَّريفة أنَّ من ضمنِ شعارات أصحاب الإمام القائمl: >يا لثارات الحسين<، ففي حديث الإمام الرضاg: >يا بن شبيب.. ولقد نزل إلى الأرض من الملائكة أربعة آلاف لنصره فوجدوه قد قتل، فهم عند قبره شعْثٌ غبْرٌ إلى أن يقوم القائم، فيكونون من أنصاره، وشعارهم: يا لثارات الحسين<([1]).
ونقل الشيخ النُّوري عن السيد علي بن عبد الحميد، نقلاً من كتاب الغيبة للفضل بن شاذان، بإسناده إلى الفضيل بن يسار، عن أبي عبد اللهg في حديث في أصحاب القائمg قال: >وهم من خشية الله مشفقون، يدعون بالشهادة، ويتمنون أن قتلوا في سبيل الله، شعارهم: يا لثارات الحسينg، إذا ساروا يسير الرُّعب أمامهم مسيرة شهر<([2]).
وهذا ممَّا يخلق تساؤلاً مهمّاً وملحّاً في وجه العلاقة بين المشروع المهدويّ وبين الثَّورة الحسينية، فإنَّ الإمام الحجَّة l إنمَّا يطبَّق مشروع الأنبياء والأئمة كلِّهمq، وليس خصوص الثَّورة الحسينية، وثورة الإمام الحسينg كذلك كانت مشروع إصلاح للأمَّة، وهي نفس مشروع النَّبيe.
وربما ينصرفُ الذِّهن إلى أنَّ هذا الشَّعار هو شعار سياسي بحت، وهذا تصوُّرٌ خاطئ وتحجيم لهذه الثَّورة الإلهية العظيمة الواسعة، ولهذا ينبغي النَّظر والتَّحليل الدَّقيق في وجه العلاقة بين النَّهضتين والثَّورتين الإلهيتين بما يسهم بفهم أكبر لأهدافهما العظمية وغاياتهما المقدَّسة.
وحول هذا الموضوع نذكر عدَّة نقاطٍ:
النُّقطة الأولى: المنطلق واحدٌ بين الثَّورتين الإلهيتين
لا شكَّ ولا ريبَ أنَّ المصدر لهاتين الثَّورتين والحركتين هو مصدرٌ واحدٌ، وهو الوحي والسَّماء، بمعنى أنَّ التَّحرك إنمِّا هو بأمرٍ إلهي خاص، وتشخيصٍ سماوي محدَّد، وليس هو مجرَّد عمل أيّ مؤمن ومصلح في الأمَّة يعتمد على تشخيصه الخاص والذي ربما يصيب وربما يخطئ.
منطلق الثَّورة الحسينية
وما ورد من روايات شريفة في حقِّ الحسينg تثبت أنَّه إمامُ حقٍّ، وإمامُ هدىً، وأنَّه ليس مجرَّد سبطٍ لرسول اللهe وابن من أبنائه الصُّلحاء، بل هو إمامٌ افترض اللهُ طاعتَه، فعنهe بصريح العبارة في حق الإمامين الحسن والحسين عليهما السلام: > ابْنَايَ هَذَانِ إِمَامَانِ قَامَا أَوْ قَعَدَا < ([3]) ، وعنه e > ..الْحَسَنَ وَ الْحُسَيْنَ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ.. < ([4]) وعنهe >حُسَيْنٌ مِنِّي وَ أَنَا مِنْ حُسَيْن..<([5]) وهذه ليست مجرَّد فضائل، بل لها معانٍ واضحة؛ فهي تدلُّ على الإمامة والانتماء الأصيل لخطِّ النُّبوة.. فإنَّ المتحدِّث ليس هو محمَّد الأب والجدe ، بل هو محمَّد النَّبي والرَّسولe.
وهذا المقدار من الرِّوايات يكفي لتصحيح كلِّ ما يصدر عن الإمام الحسينg، ويجعل الإنسان المسلم متيقِّناً من صوابية ما قام به الإمام في كربلاء، وأنَّه من الله تعالى وليس اجتهاداً قد يصيب وقد يخطئ.
وإضافة إلى ذلك ما ورد في شأن التَّحرك بشكلٍ خاص، وهي روايات كثيرة، منها ما ورد في شأن مقتل الإمام الحسينg على لسان رسول اللهe، فقد روى الصفار في البصائر وابن بابويه في الإمامة والتبصرة بعدة طرق عنهK: >من أراد أنْ يحيى حياتي، ويموت مماتي، ويدخل جنَّةَ ربي، جنَّة عدنٍ غرسها بيده، فليتولَّ علياً، وليتولَّ وليَّه، وليعاد عدوَّه، وليأتمَّ بالأوصياء من بعده، فإنِّهم عترتي من لحمي ودمي، أعطاهم الله فهمي وعلمي، إلى الله أشكو من أمتي، المنكرين لفضائلهم، القاطعين فيهم صلتي، وأيم الله ليقتلنَّ ابني[الحسين] لا أنالهم الله شفاعتي<([6]).
فنرى سياق الحديث عن أهل البيتi وأنَّهم جزء من النُّبوة المحمدية، ثمَّ يذكر مظالمهم، ويخصُّ الإمام الحسينg بذكر مقتله، وهذا يدلُّ على أنَّ مقتله ضمن عمل النُّبوة والإمامة.
وكذلك ما ورد في جواب الإمام الحسينg لأخيه محمد بن الحنفية لمَّا أراد الخروج من مكة وقال له: "فما حداك على الخروج عاجلا؟ فقال الإمامg: >أتاني رسول اللهe بعد ما فارقتك، فقال: يا حسين أخرج فإنَّ الله قد شاء أن يراك قتيلاً<، فقال له ابن الحنفية: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، فما معنى حملك هؤلاء النِّساء معك وأنت تخرج على مثل هذه الحال؟ فقال له: >قد قال لي: إنَّ اللهَ قد شاء أن يراهنَّ سبايا<([7]).
ونرى هنا بوضوح أنَّ المنطلق للتَّحرك إنَّما هو بمشيئة الله تعالى، وهو أمرٌ إلهي وتكليف رباني.
منطلق الثَّورة المهدوية
إذا كان هناكَ من المسلمين من يتوقَّف في قيام الإمامِ الحُسينg وصوابيَّته من باب أنَّ الإمامg ليس معصوماً وأنَّه تحرَّكَ باجتهادٍ شخصي، وكان محتملَ الخطأ في ذلك التَّحرك، فلا أحد يتوقَّف في أنَّ ما سيقوم به الإمام الحجَّةl هو بأمرٍ إلهي بحت ولا يمكن أن يتخلَّله الخطأ والاشتباه؛ وذلك لأنَّ نبأ خروج الإمام في آخر الزَّمان وحركته من الأمور التي ثبتت بالقطع واليقين من خلال تواتر الأخبار من الفريقين، فلا يشكُّ مسلمٌ في صوابية ما سيقوم به الإمامx، ولا بكونه مأموراً من قِبل الله تعالى في كلِّ خطواتِه، كما هو أمر جميع الأنبياء.
ويدل على ذلك ما ورد:
1ـ ما رواه أبو داوود وغيره عن النبيe أنَّه قال: >لو لم يبق من الدهر إلا يوم لبعث الله رجلاً من أهل بيتي يملأها عدلاً كما ملئت جوراً<([8]).
فالتعبير بـ>لبعث الله<، يدلُّ على كون حركتهg من قِبل الله تعالى.
2ـ وفي المعجم الأوسط للطبراني عن رسول اللهe: >لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطوَّل اللهُ ذلك اليوم حتى يبعث رجلاً من أهلي، يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً<([9]). وفي هذا الحديث زيادة حتميَّة خروج الإمامg.
3ـ ما ورد في صلاة السيد المسيحg خلف الإمام المهديg، كما ورد في الحديث: >منَّا الذي يصلِّي عيسى ابن مريم خلفه<([10])، وهو يدلُّ على كون الحركة المهدوية حركة مرتبطة بمشروع الأنبياءi، وهذا الحديث وما في معناه يدلُّ على أفضلية الإمام المهديg على السيد المسيحg.
وليس في ذلك عجب، وقد نقل عن ابن سيرين قيل له: "المهدي خير أو أبو بكر وعمر؟ قال: هو أخبر[خير وأخير] منهما ويعدل بنبي"، وعن ابن شوذب عن محمد بن سيرين أنَّه ذكر فتنة تكون، فقال: "إذا كان ذلك فاجلسوا في بيوتكم حتى تسمعوا على النَّاس بخير من أبي بكر وعمر، قيل: يا أبا بكر، خير من أبي بكر وعمر؟! قال: قد كان يفضل على بعض الأنبياء"([11]).
دلالة الثَّورة المهدويَّة على مشروعية الثَّورة الحسينيَّة
وبعد إثبات أنَّ حركة الإمام المهديx حركة إلهية، سماوية، مرتبطة بمشروع الأنبياء تماماً، وأنَّهg لا يقلُّ منزلة عن الأنبياءq، بل يفضل عليهم، فكلُّ ما يصنعه الإمام حينئذٍ فإنَّما هو بأمرٍ إلهي، وليس اجتهاداً منهg، وهذا يعني أنَّ ما يرفع من شعار في الحركة المهدويَّة الإلهيَّة -وقد مرَّ أنَّه يرفع شعار >يا لثارات الحسينg<- يدلُّ على: 1ـ أنَّه هو شعار حقٍّ أولاً، 2ـ وأنَّه شعار محوريّ ثانياً.
ويترتَّب على هذين الأمرين:
أولاً: أنَّ الثَّورة الحسينية كانت ثورة محقَّة، وأنَّها تمثِّل جبهة الحقِّ مقابل جبهة الباطلِ المتمثِّلِ بخطِّ يزيد بن معاوية. فمن يسير في طريق الحسين فهو على حقٍّ، ومن يسير في طريق يزيد فهو على باطل.
ثانياً: أنَّه كان من الواجب والتَّكليف الشَّرعي على المسلمين جميعاً أن ينصروا الإمام في ثورته، كما كان ينبغي عليهم نصرة النَّبيK، وأنَّه ليس قتاله فقط يمثل جريمة، بل التَّخاذل عنه كان جريمةً كبرى.
ثالثاً: وهو الأهمُّ -بعد بيان حقانيَّة هذه الثَّورة- ألا وهو محورية الثَّورة الحسينية في الإسلام، فهوg ليس مجرَّد أنَّه على حقِّ، فإنَّ كثيراً من الثَّورات كانت محقَّة، بل هذه الثَّورة كانت تمثِّل الدِّين والإسلام، ولولاها لضاع الإسلام، وإلا فما هو المبرِّر لرفع هذا الشِّعار(يا لثارات الحسين) في الثَّورة التي ادَّخرها الباري تعالى إلى البشرية لتكون كلمةُ الحقِّ هي العليا وكلمة الباطل هي السُّفلى!!
رابعاً: أنَّ الأمَّة التي تنتظر الإمام الحجَّةl وتنتظر النَّصر الإلهي الشَّامل على الكفر، وتؤمن به، وبكونه مذخوراً من قِبل الله تعالى، وتتمنَّى أن تسير في ركابه، لا بدَّ لها من سلوك النَّهج الحسيني.
فلا بدَّ للأمَّة التي تنتظر النَّصر الإلهي الشَّامل على الكفر، والهدى الذي لا ضلال فيه، والخلاص من كلِّ أنواع الشِّرك والكفر والنِّفاق والفساد أن تنتهج نهج الإمام الحسينg، فطريق الإمام الحسينg علامة على صحَّة الانتماء إلى الحركة المهدوية، ولا يمكن لمسلمٍ أن يدَّعي أنَّه من المنتظرين ثمَّ يخطئ طريقَ الإمام الحسينg.
فالحركة المهدويَّة تأتي لتُأكِّد أنَّ ثورة الإمام الحسينg هي ثورة إلهية لا تختلف عن ثورات الأنبياء، وأنَّها كانت تمثِّل الإسلام الصَّحيح، وأنَّ الانحراف عن أهداف الثَّورة الحسينية هو انحراف عن أهداف الإسلام.
وقد بيَّن الإمام الحسينg منطلقه وغايته من الثَّورة في كتابه لأخيه محمد بن الحنفية، حيث قال فيه: >وأنّي لم أخرج أشراً، ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمَّة جديe أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدِّي، وأبي علي ابن أبي طالبo، فمن قبلني بقبول الحقِّ فالله أولى بالحق، ومن ردَّ علي هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين<([12]).
ومن الواضح البيِّن أنَّ هذا اللسان الذي يتحدَّث به الإمام الحسينg هو لسان الأنبياء، وأنَّ حركته كانت حركة إلهية، وبأمر منه سبحانه.
النُّقطة الثَّانية: هويَّة هذا الشِّعار الإلهي
تقدّم بأنَّه قد يتعامل البعض مع عنوان "الثَّأر" الوارد في ذلك الشِّعار(يا لثارات الحسينg) بصورة ضيِّقة جداً تحجِّم من حقيقته والمراد به وغاياته العُليا، ويحمله على المعنى السِّياسي البحت، وأنَّه مجرَّدُ انتقامٌ لمجموعةٍ من القتلة الذين ارتكبوا أشنع جريمة في تاريخ البشرية جمعاء.
وهذا ما ربَّما يصوِّره بعض المغرضين، بأنَّ الصِّراع إنمِّا هو بين بني هاشم وبين بني أميَّة وهو صراع عائلي، وهذا الأمر غريبٌ جداً حينما يصدر من شخص يدعي أنَّه مسلم، وذلك لأنَّ أحدَ طرفي هذا النِّزاع هو رسول اللهe وهو سيِّد بني هاشم.
إذن، النَّظر إلى "الثأر" بأنَّه يأتي لعملية القصاص من مجموعة من القتلة ليس صحيحاً، لا بالنَّظر إلى أهداف ثورة الإمام الحسينg ولا أهداف ثورة الإمام الحجةx، فلم يقم الإمام الحسينg ليقتل ثمَّ يقتصُّ من قاتله، ولا أنَّ الله تعالى ادَّخر الإمام الحجةg كلَّ هذه المدَّة لكي يظهر ويقتصّ من مجموعة من القتلة، فهذا التَّصور ظلمٌ لهاتين الثَّورتين الإلهيتين.
والانتقام بواسطة عملية القتل وإن كان مطلوباً وهو جزءٌ من جزاء أولئك الظَّلمة، ولكنَّه بالتَّأكيد ليس هو الهدف الأكبر.
وقد ورد في قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} (السجدة:22)، ذكر الانتقام، ولكن الانتقام إنمَّا نتيجة الظُّلم والابتعاد عن آيات الله تعالى والصدِّ عنها، يعني أنّ الانتقام الإلهي سواء كان في الدُّنيا أو في الآخرة إنَّما هو نتيجة الصدِّ عن دين الله تعالى ومحاربة التَّوحيد، ونشر الفساد في الأرض، ومنع النَّاس من الهدى، فالله سبحانه ينتقمُ من المعرضين عن آيات الله تعالى بعد التَّذكير بها.
يقول الشَّهيد الحكيمO: "وفكرة الانتقام والثَّأر -بالمعنى السَّليم لها الذي يعني الثَّأر للقيم والمبادئ والحقِّ والعدل- هي فكرة صحيحة وإسلامية تحدَّث عنها القرآن الكريم في أكثر من موضع مثل قوله تعالى: {قاتِلُوهُم يُعَذّبْهُمُ اللّهُ بأيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدورَ قَوْم مُؤمِنينَ}( التوبة:14)"، إلى أن يقول: "وقد اهتمَّ الإسلام بتوجيه هذا الدَّافع والإحساس، لكي لا ينحرف فيتحوَّل إلى مجرّد تعبير عن الغريزة دون أن يصبَّ في مسيرة الكمال الإنساني، فوضع الثَّأر والانتقام والتَّشفّي في طريق القيم والمبادئ -لا لمجرَّد التَّعبير عن الإحساس النَّفسي والنَّزعة الشَّهوية- شأنُه في ذلك شأن بقيَّة الأحاسيس والغرائز التي اهتمَّ بها الإسلام عاملاً محرِّكاً باتِّجاه الكمال. ومن الواضح أنَّ مسألة الثَّأر والانتقام في قضية الإمام المهديg ليست انتقاماً وثأراً من الأشخاص، بل هي انتقام وثأر من الواقع الفاسد الذي كان يعيشه الإنسان، وذلك بتغييره وتحويله إلى واقع العدل والحقِّ والخير"([13]).
فالانتقام والثَّأر الذي يُرفعُ كشعارٍ في ثورة الإمامg إنِّما هو انتقام لدين الله تعالى، انتقام للإسلام، انتقام لرسول الله، ولذا ورد في زيارة وارث: >السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا ثَارَ اللَّهِ وَ ابْنَ ثَارِه<([14])، فالثأر لله تعالى، ويتحقَّق على يدِ الإمامl.
وهذا المعنى قد يفهم بشكل واضح من بعض الرِّوايات الشريفة، منها:
1ـ عن الحلبي، قال لي أبو عبد اللهg: >لما قتل الحسينg سمع أهلنا قائلاً يقول بالمدينة: اليوم نزل البلاء على هذه الأمَّة، فلا ترون فرحاً حتى يقوم قائمكم، فيشفي صدوركم، ويقتل عدوَّكم، وينال بالوتر أوتاراً، ففزعوا منه، وقالوا: إنَّ لهذا القول لحادثاً قد حدث ما لا نعرفه، فأتاهم خبر قتل الحسينg بعد ذلك، فحسبوا ذلك، فإذا هي تلك الليلة التي تكلَّم فيها المتكلِّم<([15]). ولا شكٍّ أنَّ هذا النداء هو نداء سماوي.
2ـ عن الإمام الصادقg: >لمَّا كان من أمر الحسينg ما كان، ضجَّت الملائكة إلى الله بالبكاء وقالت: يفعل هذا بالحسين صفيك وابن نبيك؟ قال: فأقام اللهُ لهم ظلَّ القائمg وقال: بهذا أنتقم لهذا<([16]).
وهنا ارتباط الثَّأر بالسماء أمر جلي وواضح، ضجيج الملائكة، ووعد الله سبحانه بحتمية الانتقام والثَّأر، كلُّه دالٌّ على كون المسألة لها علاقة وثيقة بالدِّين والعقيدة، وليست المسألة شخصيَّة وسياسيَّة بحتة.
3ـ قول الإمام الحسينg لولده زين العابدينg: >يا ولدي يا علي، والله لا يسكن دمي حتى يبعث الله المهدي فيقتل على دمي من المنافقين الكفرة الفسقة سبعين ألفاً<([17]).
فالله يبعث الإمام الحجةg لينتقم للإمام الحسينg، ولا شكَّ أنَّ ذلك لأمر إلهي.
وروى الحاكم النيسابوري في مستدركه عن ابن عباس قال: >أوحى اللهُ تعالى إلى محمَّدe إنِّي قتلت بيحيى بن زكريا سبعين ألفاً، وإنِّي قاتل بابن ابنتك سبعين ألفاً، وسبعين ألفاً<، هذا لفظ حديث الشافعي، وفي حديث القاضي أبي بكر بن كامل: >إنِّي قتلت على دمِ يحيى بن زكريا، وإنِّي قاتل على دمِ ابن ابنتك<، هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه<([18]).
إذن، فالثَّأر الحاصل للإمامg يدلُّ على كون الثَّورة الحسينية ثورة إلهية سماوية، وبأمرٍ من الله تعالى، وليست اجتهاداً شخصيَّا من الإمام الحسينg، بل هي من أعظم الحركات في الإسلام بحيث يبعث الله تعالى حجَّته المدَّخرة للانتقام له.
النُّقطة الثَّالثة: الثَّأر للحسينg زمن الإمام الحجَّةl
تأكيداً لما مرَّ من كون شعار حركة الإمام المهديl هو >يا لثارات الحسينg<، فإنَّ بعض الرِّوايات تؤكِّد أنَّ خروج الإمامg سيكون في يوم عاشوراء، فقد روى الطوسي في التهذيب
عن الإمام الباقرg: >يخرج القائمg يوم السَّبت يوم عاشوراء، اليوم الذي قتل فيه الحسينg ويقطع أيدي بني شيبة، ويعلِّقها في الكعبة<([19]).
وروى الشيخ المفيد في الإرشاد عن الإمام الصادقg قوله: >ينادى باسم القائمg في ليلة ثلاث وعشرين، ويقوم في يوم عاشوراء، وهو اليوم الذي قتل فيه الحسين بن عليh، لكأنِّي به في يوم السَّبت العاشر من المحرم قائماً بين الرُّكن والمقام، جبرئيلo على (يده اليمنى) ينادي: البيعة لله، فتصيرُ إليه شيعتُه من أطراف الأرض تطوى لهم طيًّا حتى يبايعوه، فيملأ اللهُ بهِ الأرضَ عدلاً كما مُلئتْ ظلماً وجوراً<([20]).
وفي غيبة الطوسي عن الإمام الباقرg: >كأنِّي بالقائم يوم عاشوراء يوم السَّبت قائماً بين الرُّكن والمقام، بين يديه جبرئيلg ينادي: البيعة لله، فيملأها عدلاً كما مُلئتْ ظلماً وجوراً<([21]).
وبناء على حتمية حصول الثَّأر الإلهي للإمام الحسينg على يد الإمام الحجةl، قد يطرأ إشكالٌ عند البعض، مفاده:
إنَّ الثَّأر إنَّما يصحُّ ويكون صواباً إذا حصل ممَّن ارتكب الجريمة، وقتلة الإمام الحسينg إنمِّا هم مجموعة من الأفراد قد توفوا ورحلوا، بل حصلوا على جزائهم في الدُّنيا في الغالب على يد المختار الثَّقفي، فما معنى أن ينتقم الإمامx لجدِّه الإمام الحسينg في آخر الزَّمان الخالي من أولئك القتلة؟!
والجواب على ذلك:
أولاً: ما دام الثَّأر لله)، فإنَّ الأمر قطعاً سيكون وفق العدالة الإلهيَّة، ولن يُظلم أحدٌ من البشر بجرم ما فعل غيره، كما يقول تعالى: {وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}(الأنعام:164)، فضرورة الجواب على هذا الإشكال لا يختصُّ بفئة معيَّنة بعد ثبوته، بل كلُّ مؤمن بالله تعالى عليه أن يحلَّ هذا الإشكال وفق عقيدته في العدالة الإلهية.
ثانياً: ممَّا تقدَّم أصبح الجواب واضحاً، وهو أنَّ الثَّأر ليس هو ثأر قاتل ومقتول وتنتهي القضيَّة، بل هو ثأر للدِّين، وللقيم، وللمبادئ التي قام من أجلِها الإمام الحسينg، ويترتَّبُ على ذلك أنَّ كلَّ فردٍ وفي كلِّ زمان يحمل مبادئ المشروع اليزيدي ويدافع عنه أو يتمادى معه فهو مطلوب كثأر، يُحارَب هو ويُحارَب مشروعُه، وبالقضاء على المشروع اليزيدي بشكلٍ كامل يكون قد تمَّ الثَّأر الإلهي في الدُّنيا، وهذا إنَّما يتحقَّق في زمن الإمامl.
وورد نظير ذلك بالنِّسبة إلى اليهود الذين كانوا في زمن النَّبيe حيث نسب إليهم قتل الأنبياء، مع أنَّ الذين قتلهم هم أجدادُهم: {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}(آل عمران:183).
فالرَّاضين اليوم بالمشروع اليزيدي، والمطبِّقين له بشكلٍ عملي، والمدافعين عنه هم لا زالوا يواصلون الإفساد اليزيدي ويصدُّون عن الحقِّ، ومحاربتهم والقضاء عليهم وعلى مشاريعهم سيكون من أولوَّيات ما سيقوم به الإمامl.
ولهذا ورد في إحدى الزِّيارات في وصف الإمامl: >السَّلام على الإمام العالم، الغائب عن الأبصار، والحاضر في الأمصار، والغائب عن العيون، الحاضر في الأفكار، بقية الأخيار، الوارث ذا الفقار، الذي يظهر في بيت الله ذي الأستار، وينادي بشعار يا لثارات الحسين، أنا الطَّالب بالأوتار، أنا قاصم كلِّ جبار، أنا حجة الله على كلِّ كفور ختَّار، القائم المنتظر بن الحسن عليه وآله أفضل السَّلام<([22]).
وقد أشير إلى هذا الجواب في بعض الروايات كما ورد في تفسير العياشي عن سلام بن المستنير عن أبي جعفرg في قوله: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا}(الإسراء:33) قال: >هو الحسين بن عليg قُتل مظلوماً ونحن أولياؤه، والقائم منا إذا قام منا طلب بثأر الحسين، فيقتل حتى يقال: قد أسرف في القتل، وقال: المقتول الحسينg ووليه القائم، والإسراف في القتل أن يقتل غير قاتله {إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} فإنه لا يذهب من الدُّنيا حتى ينتصر برجل من آل رسول اللهe، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً<([23]).
وعن أبي عبد اللهg قال: في تفسير قول الله!: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ}، قال: >نزلت في الحسينg، لو قتل أهل الأرض به ما كان سرفاً<([24]).
وقد يفهم من بعض الرِّوايات أنَّ هؤلاء القتلة يرجعون إلى الدُّنيا زمن الظَّهور ويقتصّ منهم، فقد ورد عن ثابت بن دينار عن أبي جعفرg قال:
>قال الحسين بن علي بن أبي طالبh لأصحابه قبل أن يُقتل بليلة واحدة: إنَّ رسول اللهe قال لي: يا بني إنَّك ستُساق إلى العراق، وتنزل في أرض يقال لها (عمورا) و(كربلاء)، وإنَّك تستشهد بها، ويستشهد معك جماعة. وقد قرب ما عهد إليَّ رسول اللهe، وإنِّي راحلٌ إليه غداً، فمن أحبَّ منكم الانصراف فلينصرف في هذه الليلة، فإنِّي قد أذنت له، وهو منِّي في حلٍّ، وأكَّد فيما قاله تأكيداً بليغاً، وقالوا: والله ما نفارقك أبداً حتى نرد موردك. فلمَّا رأى ذلك، قال: فأبشروا بالجنَّة، فوالله إنَّما نمكث ما شاء الله تعالى بعدما يجري علينا، ثمَّ يُخرجنا الله وإيَّاكم حين يظهر قائمنا فينتقم من الظَّالمين، وإنّا وأنتم نشاهدهم في السَّلاسل والأغلال وأنواع العذاب والنّكال. فقيل له: مَنْ قائمكم يا ابن رسول الله؟ قال: السَّابع من ولد ابني محمَّد بن علي الباقر، وهو الحجة بن الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي ابني، وهو الذي يغيب مدَّة طويلة، ثمَّ يظهرُ ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً<([25]).
وأمَّا لماذا خصوص الإمام الحسينg والحال أنَّ حركة الأنبياء والأئمة واحدة ومشروعهم واحد وثأرهم واحد؟ فربَّما يكون من باب أنَّ ما كان يتميَّز به زمانُه وحركتُه وثورتُه هو وضوح الحقِّ فيه بأبهى الصِّور ووضوح الباطل كذلك، ومع ذلك خُذل الإمام الحسينg من قبل المسلمين، ورضوا بالذلِّ في حكم يزيد حتى رأوا منه الأهاويل، بل ومع مرور هذه الحادثة لا زال المشروع اليزيدي متحكِّماً في أذهان كثير من النَّاس، وراضون أو مستسلمون له كواقع يطبَّق في الحياة.
ثمَّ إنَّ الانتقام للإمام الحسينg هو في الحقيقة انتقام لجميع الأنبياء والأوصياءi.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الطَّالبين بثأره مع وليِّه، والحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله عليه وآله الطَّيبين الطَّاهرين.
([1]) أمالي الصدوق، ص192.
([2]) المستدرك (ج11، ص114).
([3]) الإرشاد للشيخ المفيد ج2 ص30
([4]) من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ج4ص179
([5]) كامل الزيارات، ابن قولويه، ص52
([6]) بصائر الدَّرجات، الصَّفار، ص68-69، الإمامة والتبصرة، علي ابن بابويه القمي، ص43، والكافي، الكليني، ج1، ص209.
([7]) اللهوف في قتلى الطُّفوف، ابن طاووس، ص40.
([8]) سن أبي داوود، ج2، ص310.
([9]) المعجم الأوسط، ج2، ص55.
([10]) كنز العمال، المتقي الهندي، ج14، ص466.
([11]) الفتن، نعيم بن حماد المروزي(م288)، ص221.
([12]) بحار الأنوار، المجلسي، ج44، ص329.
([13]) دور أهل البيتi في بناء الجماعة الصالحة، السيد محمد باقر الحكيم، ج1، ص204-205.
([14]) المزار الكبير ،ابن المشهدي ص 422
([15]) كامل الزيارات، ابن قولويه، ص553.
([16]) الكافي، الكليني، ج1، ص465.
([17]) بحار الأنوار، المجلسي، ج45، ص299، وانظر:مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب، ج3، ص238.
([18]) المستدرك على الصحيحين، الحاكم النيسابوري، ج3، ص178.
([19]) تهذيب الأحكام، الطوسي، ج4، ص333.
([20]) الإرشاد، الشيخ المفيد، ج2، ص379.
([21]) الغيبة، الطوسي، ص453.
([22]) المزار، المشهدي، ص107، (مختصر زيارة جامعة لأئمة أهل البيتi).
([23]) تفسير العياشي، ج2، ص290.
([24]) الكافي، الكليني، ج8، ص55.
([25]) النجم الثاقب، المحدث النوري، ج1، ص511.
0 التعليق
ارسال التعليق